Skip to main content

Full text of "حروب وأساطير من معركة مجدو الى سقوط روما .. دور صناع الاساطير في تغيير العالم القديم .. إيريك دروتشميد .. ترجمة أحمد الزبيدي"

See other formats




الي سقفوط روما 


دة[ صتاع الأساطير في تفيير العالم القديم 


/ يم 
9 
: ااا 





2 1 E : 
۳ ا‎ ١ 





1 | ایا 


20 


حروب وأساطير 
من معركة مجدو 
إلى سقوط روما 


دراسةً 


اسم المؤلف: إيريك دورتشميد 





عنوان الكتاب: حروب وأساطير - 
من معركة مجدو إلى سقوط روما 
ترجمة: أحمد الزبيدي 

تصميم الغلاف: ماجد الماجدي 
الناشر: دار المدى 


الطبعة الأولى: 2021 


Author: Erik Durschmied 


Title: From Armageddon To The 
Fall Of Rome 


Translated by: Ahamed Al-Zubaydi 
Cover Designed by: Majed AI-Majedy 
P.C.: AI1-Mada 


First Edition: 2021 


جميع الحقوق محفوظة: دار المدى 
Copyright © Erik Durschmied 2‏ 


5 


9 


0 


للإعلام والثقافة والفنون 


Al-mada for media, culture and arts 





بغداد: حي أبو نؤاس - محلة 102 - شارع 13 - بناية 141 


Iraq’ Bıghdad- Abu Nawas-ncigh, 102 - 13 Street - Building 141 


بيروت: بشامون - شارع المدارس 
Hoirut: BHehamoun - Schools Streot‏ 
dE 1 961 175 7 fk ! O61 706 15017‏ 


JK 1 ا06‎ 175 20106 


لامج وز نشر أي جزء من هدا الكتاب أو تحزين أية مادة 
بطريقة الاستر جاعء أو نقله» عل أي نحوء أو باية طريقة 
سواء كانت إلكترونية أو ميكانيكية:؛ أو بالتصويرء أو 
بالتسجيل أو حلاف ذلك» إلا بموافقة كتابية من الناشر 
مقدما. 

هذا الكتاب مسؤولية الكاتب» والأراء الواردة فيه لا تعر 
بالضر ورة عن راي الناشر , 


dd +964 (0) 770 2799990 FF +964 (0) 780 808 0 


4 + 964 (0) 790 1919 0 


دمشق: شارع كرجية صدائ- متضرع من شارع 9 أيار 
Damascus. Karjieh Haddad Strect - from 29 Ayar Strect‏ 
2322206 96311 + 8 
BE + 963 11 232 229‏ 


& 1 90311 232565 


ص.ب: 4272 





All rights reserved. No part of this publication 
may be reproduced or stored in a retrieval Sy#- 
tern, or transmitted in any form or by any means; 
electronic, mechanical, photocopying, recording 
or otherwise, wilhou {he prior permission in 
writing of the publisher. 

This book is the writers responsibility, and the 
opinions contained therein do not necessarily re- 
flect the opinion of the publisher, 











إيريك دورتشميد 


حروب واساطير 
من معركة مجدو 
إلى سقوط روما 


دور صناع الأساطير في تغيير العالم القديم 


ترجمة: أحمد الزبيدي 


9 


إهداء المؤلف: 


إلى آن ماري 


إلى ذكرى أولئك الذين حفظوا لنا وثائق 
تاريخية عن أكثر من 3445 سنة من الحروب 
التي لم تنقطع تقريباً وتركوا لنا مؤلفاتهم 
المهمة كمصدر ثري لبحوثنا. 


وعندما يكتظ العالم كله بالبشر 
تكون الحرب هي العلاج الأخير. 
من ينتصر فيها سيعيش 
ومن يخسرها يموت 
« من كتاب اللفياثان 
للفيلسوف توماس هوبز 
صدر عام 1651 


هه 


لمهيد 
بحثاً عن الحقيقة التاريخية 


«اعتادت آذاننا منذ فجر التاريخ الإصغاء إلى الأكاذيب» وتشبعت 
عقولنا على مز العصور بخزين من الافتراضات. جعلنا الحقائق تبدو 
غريبة وحولنا القصص المزيفة إلى حقائق». 

هذه الكلمات كتبها قبل أربعة آلاف سنة المؤرخ الفينيقي سانشونياثون» 

كانت الحري عاملاً ثابنا فى الحضارة البشرية..حدقتنا الكت عن 
الاضطرابات العنيفة التي هرّت العالم منذ آلاف السنين» والتي ساهمت في 
تغيير مجرى التاريخ» والتي كان معظمها يلمّع صورة المنتصر. لم تشر إلا قلة 
نادرة من الكتب إلى الارتدادات المرعبة لذلك القتال الذي لا يرحم» وإراقة 
الدماء والدمار اللذين تخلفهما الحروب. نحن ننظر إلى الكتب التاريخية 
على أنها مقاربة وثيقة مع الأحداث كما حدثت بالفعل. وإن بعض الئوابت» 
التي تظهر في أعمال جميع المؤرخين الذين عاشوا خلال فترة محددة» 
والذين تمّ نشر رواياتهم بمختلف الترجمات والكتب على مرّ العصورء 
ليست سوى الحقيقة. نحن لا نسأل عمّن روى قصتهم. كانت السلطة 
الحاكمة دائماً هي المؤرخ» لأننا لا نستطيع أن نخترق العالم الذي اختار أن 
يعرضه أمامنا إلّا عن طريقه. على مدى ثلاثة آلاف عام من السرد الملحمي» 
لم يكن دور المؤرخ إخبارنا كيف كان يتصرف ملكه» ولكن كان عليه إقناعنا 
أن نؤمن بما كتبه. اندلعت الحروب للدفاع عن «الخير» ضد «الشر»» ولكن 

9- 


عندما يتعلق الأمر بأسلوب خوض المعركة؛ كان من المثير للغرابة كم كان 
يتشابه «الخير مع «الشر». فكلا الجانبين كانا يستخدمان الوسائل نفسها 
تماماً لقتل بعضهما البعض. وفي النهاية» ينتصر «الخير»» لأن كل إله (وكل 
كتاب تاريخ) كان يقف دائماً إلى جانب «الخير» وهو الطرف المنتصر. 
لا يمكن أبداً الوصول إلى الحقيقة التاريخية بالكامل بسبب زيف 
الكت :الي تستند إليهاء خاصة إذا كانت تتعلق بالتواريخ والأعداد 
وأسباب اندلاع الصراعات المميتة. إنها ليست خاطئة عن قصد. على 
سبيل المثال» كان هيرودوتء أبو المؤرخين» شخصا يونانيا راى 
الأحداث وسجّلها كمؤرخ يوناني» في حين أن أعداء بلاده» داريوس 
وزيركسيس» لم يكونوا كذلك. في كتابات هيرودوت» أصبحت «الذريعة 
المناسية» عند اليونان «حيلة ماكرة» بالنسبة للفرس. 
نحن نعرف كل خطوة قام بها الإسكندر الأكبر وانتصاراته» لكن 
ماذا نعرف عن أعدائه؟ تركت لنا اليونان» أرض الفلاسفة والكتاب 
والمؤرخين» مؤلفات غزيرة تتحدث عن هذا الرجل العملاق» ولكنها 
جميعاً كانت تتحدث عنه من وجهة نظر اليونائيين. فى الوقت تفسه؛ 
ضاعف المؤرخ ديودور من عدم الدقة عندما كتب غ «الإسكندر 
السكير»؛ واستقى ملاحظاته من المؤرخ هيرونيموس الذي عاش في 
مدينة كارديا الإغريقية أيام الإسكندرء والذي اعتمد على بطليموس» 
وحاول تضخيم أهميته؛ كمصدر رئيس له. 
هل يمكن أن نتوقع أن هناك وصفاً عادلاً للحرب ضد بلاد الغال في 
كتاب تعليقات على الحرب الغالية؟*'' فبعد كل شيء» كان المؤلف أيضاً 
جنرالاء وقد عكست روايته للأاحداث وجهة نظره المتبجّحة. 
١‏ بمئل هذا الكناب مذكرات يولبوس فبصر الشخصية عن الحروب الغالية» وكتب 
بأساوب الر حل الثالث. وبصف فبه فيصر المعارك والمؤامرات التي وقعت في 


السنوات النسع الني فضاها في محاربة الجيوش المحلية في بلاد الغال التي عارضت 
الهيسة الرومائية. المثر جم. 


-10- 


كان المؤرخ يوسفوس فلافيوس مواطناً رومانياً؛ لكنه في الأصل 
شخص يهودي يدعى يوسف بن ماتيتياهو. فمن هي الشخصية التي ذكر 
فيها رواية شاهد عيان عن تدمير الجيوش الرومانية للمعبد الكبير في 
القدس» وهو رمز معتقده الديني هل كانت شخصيته كروماني أم كيهودي؟ 
لقد وصف قلق المدافعين اليهود قبل الحصار» ويأسهم» وتصميمهم على 
القتال» ونشوة الرومان بالنصر» ووصف شعورهم بالمرارة أيضا. 

لكن اللغز الأكبر الذي يراود الجميع سيكون دائماً معرفة من الذي 
كتب سفر التكوين» أول أسفار الكتاب المقدس. تفسير هذا اللغز قد 
يعطينا فكرة عن ماضينا. وقد قاد هذا إلى حدوث خلافات كبيرة» لا 
زالت مستمرة وربما ستظل لغز التاريخ العظيم. هل كان موسى هو الذي 
أملى وصايا الرب عندما نزل من الجبل؟ آم إنه مزيج لكتابات عدد من 
المؤلفين» بمن فيهم غير التوحيديين؟ «والله خالق السماء والأرض...» 
كانت الكلمة الثالثة في النص العبري الأصلي هي «إلوهيم»)؛ وتعني 
الآلهة. يبدو غريباً أن مثل هذه الوثيقة المقدسة» التى يُفترض أن يكتبها 
شخض توحيدي: تشير في العبارة الأفقتائحية إلى الآلهة يصيغة اللجمع: 
بينماء في بقية أجزاء العهد القديم» تكون الكلمة الله ومعناها الرب؛ 
وتظهر بصيغة المفرد. هل استوحى الآباء القدامى ذلك من الوثائق 
اللاهوتية التي جمعها سانشونياثون©» أحد معاصري الملكة سميراميس 
وكان يؤمن بكثير من الآلهة» والذي كتب تحليله عن خلق العالم قبل ألف 
سنة من مجيء موسى؟ في البداية تم نقل الكتاب المقدس بشكل شفاهي 
إلى المخطوطات الماسورتية© في حوالي القرن الثامن ق.م؛ تم تدوينها 
من قبل علماء من مديئة الجليل بالعبرية القديمة؛ وفي القرن الثالث ق.» 
قام الملك بطليموس الثاني بحبس سبعين رجلاً حكيماً في زنازين فردية 
2- سانتشونياثون. التاريخ الفينيقي عن Fragmenta historicorum graccorum, by C.‏ 


„Miller 


-11- 


وأمرهم بترجمة الكتاب المقدس من العبرية إلى اللغة اليونانية. . في هذه 
الترجمةء التي أنجزت في سبعين يوماً فقط تمّ تغبير مصطلح (سبحوا 
يهوه)» أو إله الجيوش. إلى «الرب القوي». 

تم تحليل هذه النسخة من قبل فلاسفة مثل بورفيوسء الذي دخل في 
جدل عنيف مع القديس يوسبيو» أسقف مدينة قيسارية» الذي قام بتفسير 
الكتاب المقدس وفقاً للإيمان الذي نشأ بعبارة هلليلويا المسيحية”! بهذه 
الطريقة يقةء فإن النص الأصلي للكتاب المقدس الذي يعتبر أبا الكتب قد مر 
بمراحل عدة» فقد تمت ترجمته» وتصحيحه. وتعديله وتخفيف عباراته. 
لتناسب فترة معينة أو حاجة دينية. كيف يمكننا أن نميّز بين الحقيقة 
التاريخية والسرد الرمزي الذي يهدف إلى توصيل رسالة a‏ إن 
كتابنا المقدس لا يمثل فقط قصة خلاص الإنسان. بل هو المصدر الوحيد 
للأحداث التاريخية القديمة كما حدثت. لا يوجد عمل آخر كان له تأثير 
أكبر منه على تطور حضارتنا. 

هناك في الماضي شيئان أكيدان: الأول ما لا يتغير أبداًء والثاني؛ ما 
يجب اكتشافه. ما زال الناس ينشدون الأغاني التي تتحدث عن الأبطال 
العظماء الذين عاشوا في الماضي السحيق؛ وهم لم يديروا شؤونهم في 
الماضي بشكل أفضل من الإنسان الحديث في الوقت الحاضر. لذلك 
وكما هو الحال الآنء فإن المعارك كانت هي التي تحسم الأعمال الرهيبة 
للحرب. غالباً ما أضرّت الحماسة التي جرت بها الحملات الحربية 
بالقضايا التي كانت وراء تلك الحروب. تغيرت حماقة الإنسان في 
الحجم فقطء ولكن ليس بالتفاصيل. لفهم حاضرناء لا يوجد شيء أفضل 
من دراسة ماضيناء مع أساطيره» ومخاوفه» وانتصاراته» ومجده» وتجاربه 
وأخطائه. وأخيراء بما خلّفه من دماء. 

ربما كان فولتير على حق عندما كتب: كل تاريخنا القديم ليس أكثر 
من خيال معقول». فقصص البطولات القديمة هي في معظمها مجرد 
4- هللويا أو #هليلويا؛ عبارة عبرانية للتسبيح والحمد للرب. المترجم. 

-12- 





أساطير. لا أحد يعرف حقيقة ما حدث بعد ذلك. لا تزال هناك حقيقة 

و احدة راسخة: إن العصور القديمة كانت موجودة» وإن الأحداث الهامة 
التي قرأنا عنها قد وقعت حقاً. 

إيريك دورتشميد 

دومين دي فالينسول» صيف 2002 


21: 


الجزء الأول 


ترتيلة (داييس إيرا) 
1010-79 ق.م 


من الفرعون تحتمس إلى الملك داود 


-15- 


المقدمة 
العنف المتوحش 


رأن تدمر كل ما حولك أثناء الحرب لسن 
عملاً عنيفاً» بل هو عنف متوحش». 


« بوليبيوس مورخ يوئاني 


«سأخبرك بأشياء لا يعرفها المؤرخون» سواء 
كانوا من الإغريق أو البرابرة. إنه لأمر مخيف أن 
نتحدث عنها فلا يمكن لأحد أن يصدقها. لقد 
أسعدني أنني تجاوزت هذه الكارئة بصمت» حتى 
لا تلصق بي سمعة تدوين شيء سيظهر للأجيال 
القادمة ميا تماما 


ه من كتاب يو سيف وس فلافيوس» حروب اليهود 


كان يو جد على هذه الأرض عالم آخر قبلنا بفترة طويلة» عالم العصور 

القديمة. خرج الناس من الصحراء بحثاً عن أرض خصبة وساروا إلى 

أرض مليئة بالكوابيس» حيث لا يكون أمامهم إلا أن يقتلوا أو يُقتلوا. 

واجهتهم سلسلة ملعونة من الأحداث» وشبكة متداخلة من المذابح التي 

ارتكبها رجال طمو حونء تشابكت مع سلسلة من أعمال الخيانة والرعب 

والوحشية. إن العصر الذي نطلق عليه تسمية مهد الإنسانية» يعرض لنا 
17 


ا اام 
لقد حدثت صراعات فى الماضىء لكننا لا نعرف عنها شيئا. 
وعمليات الإبادة الجماعية لم تبدأ مع العصور القديمة؛ بل إنها موغلة في 
القدم إلى عصور ما قبل التاريخ . كان الجنس البشري لعصور لا تعد ولا 
تحصىء هو الوحيد من بين الكائنات الحية ميؤوسا بالحرت: وعندما 
تتقاتل قبيلتان من أجل قطعة من الأرض من أجل توسيع مواردها الغذائية 
المحدودة» كانت الأقوى هي التي تقهر الأضعف. بدأ الانسان معاركه 
باستحوام الختيجارة والعصي والرماح الحادة. . كان اختراع القوس تقدماً 
هائلاً - وأصبح بإمكانه قتل شقيقه من مسافة بعيدة. مع ظهور السكاكين 
المعدنية والسيوف ظهرت مرحلة متقدمة من شكل الحروب وبدات 
المعارك المنظمة. ومعها بدأت عمليات الذبح. 
اال رامد عاق كام مشكلة استراتيجية وتكتيكية» > مثلما فعل 
الإسكندر بقطع عقدة غوردية» لكنهم اخترقوا أيضاً كل الاعتبارات 
السياسية ولم توقفهم أبداً أي معضلة أخلاقية في تصميمهم على القضاء 
على مدن وقبائل وأمم بأسرها. وقدموا العديد من الأدلة على شهوتهم 
لذي كانت ا الى يدن بها ر 
الذبح. لكن هذا الارتياح لم يخفف أبدا من هذه الشهوة الرهيبة لمزيد من 
الدم. أصبح الجنود آلات متحجرة» منفذين محايدين لأهواء جنرالهم. 
1- هي أسطورة تعلق بالإسكندر الأكبر» » في فترة من الزمان كان أهل فريجيا بلا ملك 
شرعي. تنبأت عرافة في تلميسوس (عاصمة فريجيا القديمة) أن الرجل القادم الذي 
سيدخل المدينة راكباً عربة يجرها ثور سيصبح الملك القادم. كان هذا الرجل هو 
الفلاح الفقير غوردياس الذي دخل المدينة على عربة يجرها ثور فأعلنه الكهئة 
ملكا. . عرفاناً بذلك قام ابنه ميداس بتقديم العربة إلى الإله الفريجى سبازيوس (الذي 


يقابله عند الإغريق زيوس) وقام بربطها بعقدة لا يبرز منها أي طرف حبل . كانت هذه 
العربة لا تزال موجودة في قصر أحد ملوك فريجيا القدماء في غورديوم حين دخلها 


الإسكندر الأكبر الذي حاول حلها عندما لم يجد طرفاً للحبل ليحل العقدة قام بقطعه 
بضربة من سيفه. المترجم. 


-18- 


كانت هناك أيضاً مآثر بطولية لا تصدق» ولكن حتى هذه التضحيات 
الشخصية شؤهتها للأسف الوحشية والرعب التى رافقت سلسلة لا 
تنتهي من المعارك والغزوات. كانت المعارك تجري فى بعض الأحيان 
دون تخطيط مسبق» تجد فيها حشوداً من جنود المشاة يهجم بعضها 
على البعض الآخرء تتأرجح صفوفهم ذهاباً وإياباً وسط تزايد أعداد 
القتلى نتيجة للقتل العشوائي. كان المنتصرون يتقاسمون الغنائم؛ تُمنح 
الأرض للنبلاء وتدفع رواتب الجنود من الغنائم. عرفت العصور القديمة 
المنتصرين فقطء أولئك الذين أظهروا عناداً وتصميماً وجرأة ومهارة» 
أو قادوا قوة متفوقة إلى حدّ كبير. وكانت النتيجة النهائية هي إخضاع 
السكان بالقوة لشيء لا يستطيعون فهمه أو السيطرة عليه. صمد البعض 
منهم وقاتل بن أجل ر ينما جع روت يهدده إلى روات 
أعدائهم. كان كتير من الغزاة طائشين» ومتوحشين» وقد أوصلتهم 
القوة SN Ea‏ المخما دن لدو 
في المسائل الدنيوية. في التحليل النهائي» شعر الكثيرون بخيبة أمل 
ل ا 
لا يستحىّ ما فعله. 

كانت «فترة تأسيس» التاريخ قاسية. الظروف المناخية تغيرت؛ تدفقت 
القبائل الرّحل من مناطقها | الجافة بحثاً عن المراعي. ما كان كافياً للحياة 
القبلية البدائية لم يعد كافياً لحضارة تنقدم بسرعة. توقع أفلاطون» وهو 
واحد من عمالقة الفلسفة اليونانية» الذي أخذ على عاتقه أن يحل محل 
سقراط هذا الجانب المقلق في عمله الضخم الجمهورية©. 

سقراط: ستصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها صغيرة 
للغاية وأقل من أن كنيهي الاترى ذلك 

غولاكن: هذا صحيح تماماً. 


ك عن الترجمة التي قام بها ب. جوي والصادرة عام 1888. 





-19- 


سقراط: عندئذ ألا نضطر إلى أن نعتدي على أرض البلد المجاور من 
أجل أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك ألا يضطر 
جيراننا بدورهم إلى التعدي على بلدناء إذا تجاوزواء مثلناء الحد الأقصى 
للضرورة» وانقادوا لشهوة التملك الجامحة؟ 

غولاكن: وهذاء يا سقراطء أمر لا مفرٌ منه. 

سقراط: وهكذا سوف نذهب إلى الحرب. يا غولاكن أليس كذلك! 

غولاكن: بالتأكيد. 

سقراط: إذن» دون تحديد ما إذا كانت الحرب نافعة أم مضرة» ففي 
وسعنا أن نؤكدء أننا اكتشفنا الآن أصل الحرب في ذلك الدافع الذي هو 
أصل جميع مصائب الدول والأفراد. 

كانت الأمم التي تعيش في المناطق التي حبتها الطبيعة بالموارد مطالبة 
بالدفاع عما هو ضروري لهاء تسببت الدعوة إلى زيادة أعداد المقاتلين 
مع تحديث وسائل القتال في حدوث المزيد من المجازر البشرية. كانت 
الخسائر الفظيعة المروعة هي المعيار المقبول للنجاح في المعركة. وعلى. 
الرغم من أن خسائر المنتصر كانت متواضعة نسبياء إلا أن الخسائر التي 
عانى منها المهزومون وصلت إلى أرقام كارثية. في معركة غوغميلاك 
بلغ عدد ضحايا الإسكندر 500 قتيل» بينما خسر الملك الفارسي داريوش 
0 آلف قتيل. أما أولئك الذين تمكنوا من الفرار فقد سنحت لهم فرصة 
للبقاء على قيد الحياة للمعركة القادمة؛ كان الجرحى ذوو الإصابات 
البسيطة. ولكن لا يمكن علاجهم» «مرتاحين لمعاناتهم». تذكر لنا كتب 
التار ب يخ أن جميع المحاربين العظماء ء قضوا نحبهم بشجاعة بسبب قذفهم 
بالرمح أو إطلاق سهم عليهم. لم يسجل أحد الوفاة غير البطولية لآلاف لا 
تنتهي من المقاتلين والذين قضوا نحبهم بشكل رهيب بسبب الالتهابات 





3- هي معركة وقعت في سنة 331 ق.م» بين الإسكندر المقدونى وداريوش الثالث. 
انتهت المعركة بنصر المقدونيين وأدّت إلى سقوط دولة الأخمينيير: . المترجم. 


-20- 


أو الغرغرينا كنتيجة مباشرة لجروح المعركة©. وكان العلاج المفضل 
في تلك الأيام هو التعاويذ أو أعمال السحر التي يقوم بها العرافون. أما 
بالنسبة للأمراض المعدية» خاصة تلك التي تنتقل عن طريق الاتصال 
الجنسيء والتي كانت مستوطنة في أي قوة قتالية» فلم يكن لها أي علاج. 
وكانت جرعات من شراب مستخرج من نباتات مثل قفار الثعلب» أو 
الحماض» أو المردقوش أو الخربق هي العلاج لأي شيء من آلام المعدة 
حتى نزلات البرد. كان نبات الفطر يجلب الفحولة والشجاعة. كان ترك 
المقاتل ينزف حتى يصبح لون جلده أبيض هو العلاج الوحيد ضد لدغات 
الأفاعي. واتخذ مرض الإسهالء الذي كان الأكثر شيوعاً بين جميع 
الإصابات في ميادين القتال» أبعاداً وبائية» وکا ما أدى إلى الموت. 
كانت إصابات المعركة التي يمكن علاجها بشكل عام تجعل المقاتل 
مقعدا بشكل دائم. كانت الجروح التي تسببها السيوف تضمد بالراتنج 
الساخن المستخلص من الصنوبر المظلي. وكانت تتم خياطة الجروح 
العميقة بالخيوط المصنوعة من أمعاء القطط. أما الأرجل المبتورة فكانت 
تُعالج بالكي بواسطة قطعة من معدن حار يوضع فوق اللحم ويصدر 
أزيزا. كان المخدر الوحيد هو قطعة من الخشب الصلب توضع بين 
الأسنان» وكانت تحفظ بشكل خاص لعدد قليل من المحظوظين بتلقي 
بعض الرعاية الطبية؛ وهم المنتصرون. أما المهزومون فيتركون للنزف 
والتعفن. في العصور القديمة كان من المؤكد أن «لا شيء يمكن أن يبعث 
على الحزن مثل خسارة المعركة سوى الانتصار بها». 

كان مسلخ الموت منتشراً في كل مكان في أرض المعركة. ولكن ما 
الذي تسبب في هذه الأرقام المروعة للخسائر البشرية التي تصل إلى 200 
ألف» و300 ألف» و400 ألف؟ من المؤكد أن تلك الخسائر لم تكن ناجمة 
بشكل مباشر عن القتال. ربما تمّ تضخيم بعضها بشكل مصطنع لزيادة 
4- لم يكن أعظم تحسن شهدته التقئيات العسكرية في القرن العشرين هو اختراع القنبلة 

الذرية بل اكتشاف المضادات الحيوية. 


-21- 


مجد الملك المنتصر. لكن أعداد القتلى أثناء المعارك وبعدها كان ضخماً 
بالتأكيد. لم يأخذ أحد في الحسبان المجازر التي يتعرض لها الأسرى 
بعد انتهاء المعركة» أو أولئك الذين ذبحوا بالسيف أو تمّ رميهم من قمم 
ع مح ع وو ا اده 
فيلةبأكملها. هذا هو البلاء الذي os‏ 
كان الموت المفاجئ يمثل دائماً احتمالاً مخيفاً. وكان أي حدث 
لا يمكن تفسيره يسبب الذعر. كانت الظواهر الطبيعية تجعل السكان 
مسكونين بالرعب؛ فالعواصف تجعلهم يتلون الأدعية طلباً للرحمة من 
آلهتهم» وكان سماع صوت الرعد معناه اقتراب يوم الحسابء وكان 
e 0 e‏ السذاجة 
يشكل فرقاً آنذاك لاي e E‏ 
تقول إن الكارثة على وشك الحدوث وإن العالم يقترب من نهايته. وكان 
لذلك تأثير ضار على عقول العامة والمؤمنين بالقدر. كانت الشعوب 
تؤمن بنبوءات المتعصبين المجانين» وأذكى الكهنة المسعورون نيران 
الإرهاب» بينما تلاعب الحكام القساة المتطلعون للفتوحات بمشاعر 
يمكن السيطرة عليه تجاه «قوى الشر الموجودة في جيرانهم». تمّ تشييد 
قصور الحكام وتشكيل الإمبراطوريات وتداخلت الحضارات فيما بينها: 
المصرية والعبرية والآشورية والبابلية والفارسية واليونانية والرومائية 
والبربرية. وعلى أنقاض سقوط كل واحدة من تلك الإمبراطوريات القوية 
E‏ 
حد كبير الأنظمة الاستبدادية ا بحيث ا ميو کک 


-22- 


التاريخية على أفكار وقرارات قلة قليلة من الرجال. ولكنهم كانوا 
مجرد بشر» وكانت الأمور تسير على هذا النحو: كلهم يولدون عظماء 
وكلهم يرتكبون أخطاء فظيعة . لم تكن الدروس المستخلصة من تجارب 
الآخرين ذات أهمية كبيرة فى الفترة التالية لأي من المشاركين المعنيين 
باتخاذ القرارات. وكون المرء ملكاً أو جنرالاً لا يجعله متفوقاً بأي حال 
من الأحوال على غيره من البشر. ولكن أخطاءه تكون أكثر تكلفة. إنها 
تؤدي إلى عواقب ار لد إلى سد اك فل ون اننا الإنسان 
العادي . نود أن نفكر في هؤلاء الناس كرجال عاديين لبوا النداء في وقت 
الحاجة لهم؛ منهم الشجاع» والطيب والقبيح» والمفكر. ومن يمتلك 
شعوراً بالإنسانية والجزار» كل واحد من هؤلاء نتاج عصره ويعتقد أنه 
كان يلبي نداء القدر الذي اختير من أجله. سيطر البعض بوضوح على 
المشهد العام؛ ومثل هؤلاء كانت سيطرتهم في العصور ر القديمة أكثر مما 
كانت عليه في أي فترة تاريخية أخرى. وكما هو الحال في أي فترة أخرى؛ 
تمّ الاستيلاء على إنجازاتهم بالقوة. كان لدى البعض رؤية ولم يخططوا 
لكي تسير جحافلهم لتدمير الأراضي المجاورة؛ لم يفعلوا ذلك ولم 
برا ودهع لم ا على العالم» أو تاس اميراطؤوية الاق الس 
لأنهم اعتقدوا أن الجميع كانوا محترمين وسوف يسيرون في المسار 
الصحيح إذا أمكن توجيههم | إلى المسارات الصحيحة. كان بعض الرجال 
فطاحل زمانهم مثل الأنبياء والفلاسفة والعاملين في المجالات الخيرية 
والإنسانية والملوك. لقد أثروا في التاريخ بدرجة أكبر من أي وقت مضى؛ 
لقد ألهموا شعوبهم بمثالهم وجابوا لأممهم الشهرة ة الأبدية. 

«كان هدفي أن أكتب سيرة حياة الإسكندر الأكبر وقيصرء اللذين دمرا 
مدينة بومباي» ولكن تعدد | إنجازاتهم العظيمة يوفر مجالاً كبيراً للكتابة 
عنها لدرجة أنني سأتعرض إلى اللوم إذا لم يكن ينبغي علي الاعتذار 
مسبقاً للقراء لأنني قمت باختيار عينة بسيطة منها بدلاً من ذكرها جميعاً 
وقمت بتلخيص الأجزاء الأكثر شهرة في قصتهم» بدلاً من التركيز بشكل 

-23- 


عام على كل ظرف معين من قصتهم. يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن غايني 
ليس سرد الأحداث التاريخية» بل سرد حياة الأفراد". 

كان يتعين على الرجال المؤهلين ليكونوا زعماءً كباراً أن يتمتعر 
ن الخصائمن الي جل امتهم قادة في أي مجال: 0 
الجذابة التي تأسر الأتباع الموالين لهم وتحافظ على ولانهم؛ والمهارات 
التنظيمية لإدارة وتوفير احتياجات الجيش في ميدان المعركة؛ والتصميم 
على تطبيق الانضباط والحفاظ عليه. كانوا غزاة وحكام وإداريين وقضاة 
في آن واحد وجمعوا كل تلك الصفات في شخصية واحدة. وعندما كان 
القائد يريد أن يغزو منطقة معينة كان عليه أن يعرف السمات الجغرافية 
والقضايا الدينية والعرقية» والمحرمات والخرافات التي يؤمن بها رجاله 
فضلاً عن السكان الأصليين. لق كان فا بحسب حطر راغات 
يقوم بتنفيذها بكل هدوء. 

وقد أثبت بعض الرجال العظماء حقاً أن المشاعر النفسية للمقاتلين في 
الحروب أكثر تأثيراً من قدراتهم البدنية. في معظم الانتصارات الخالدة 
في العصور القديمةء اكتسب القتال الفعلي أهمية ثانوية تقريباً. إن الحقيقة 
العميقة للحرب هي أن المعارك عادة ما يتمّ حسمها في أذهان القادة 
المتصارعين» وليس بأجساد مقاتليهم. سيكون أفضل كتاب تاريخي هو 
الذي يسجل أفكارهم ومشاعرهم؛ مع مجرد خلفية من الأحداث لإضفاء 
نوع من الإثارة» لكن كتب تاريخ الحروب النموذجية» عززت أوهاماً 
تناقض هذه الحقيقة حيث حددت سبب الانتصار في المعا رك من خلال 
احتساب أعداد المقاتلين المشار كين فيها“. 

ليست الحزنت علما فقط: بل يمكن أن تكون فناً. وكان من ب بين أبرز 
الذين برعوا في فن الحرب: تحتمسء وداود. وثيميست و كليس» ير 
ويوليوس قيصر؛ لکن هولاء كانوا عظماء عاديين. وكان هناك من كان 
6- الراك كابر المسكزي اودري امار SNES‏ 

-24- 


أعلى مكانة منهم وتربع على عرش القمة. الذي جلس فيه الإسكندر 
المقدوني وهنيبعل القرطاجي ونابليون. لم يكن من قبيل الصدفة أن اثنين 
منهما عاشا في العصور القديمة. 

إذا كان التاريخ قد كشف لنا شيئاً ماء فهو التأكيد على أهمية وصعوبة 
الاستعداد لما هو غير متوقع. لقد نشأت الحرب دائماً من خلال تجمع 
مخيف لعدد من الظروف» وكان قانون الصدفة لاعباً رئيساً في كل حرب؛ 
ونعني بها الأشياء غير المرئية وغير المتوقعة . لعب الحظ:والقدرء أو الغياء 
من جانب الخصم» دوراً كبيراً جداً في نتيجة أي معركة وهو ما لم يرغب 
القادة المنتصرون الاعتراف به. يقال إنه لا ينبغي الحكم على بلد من 
قبل جنرالاته. هناك جنرالات جيدون مثلما يوجد جنرالات سيئون. ثم 
هناك جنرالات محظوظون. يعرف كل قائد عسكري قوة الحظ والفرصة؛ 
والقائد العظيم يعترف بوجودها. معظم عواقب الحرب يمكن التنبؤ بها. 
لقد ترك لنا التاريخ مجموعة من الأمثلة لنتعلم منها الدروس. ولكن هل 
تعلمنا فعلاً؟ 

«الشيء الوحيد الذي يعلمنا إياه التاريخ هو أن البشرية لا تستقي العبر 


أبداً من دروس التاريخ»”. 





7- هايئريش فون سيبيل» مؤسس المجلة التاريخية(ا[أعطنععاام/ (Historische‏ في عام 
609 وهذه العبارة مأخوذة من فريدر يك هيغل. 


-25- 


الفصل الأول 
عند مكان يسمى أرمحدون 
معركة مجدو 
5 أيار 1479 ق.م 


يبدأ التاريخ الحديث بشكل محدد مع عام 
9 ق.م وإذا ما تناولنا تلك الفترة بمفاهيم 
عصرنا يمكن أن نسميها الحقبة الاستعمارية 
الإقليمية. على مدار أربعة وثلاثين قرناء كان كل 
الطموح السياسي» سواء للفرد أو للمجموعات 
البشرية» يهدف إلى الامتداد الجغرافي» وإخضاع 
القبائل والشعوب المجاورة». 


1945 يودور ه. روبتسون» تاریخ إسرائيل»‎ e 


بدأت الليلة الطويلة لأول مذبحة دوّنها البشر مع الوقائع الأولى لأول 
معركة في التاريخ» وهي محفورة بالخط الهيروغليفي على الشاهدة 
الجنائزية للفرعون المحارب» قبل قرنين من خروج موسى". وهي 


تقدم سرداً لما جرى من سفك للدماء في أرمجدون (هرمجدون)» أي 





زوجة له ولوط ابن أخيه» مع كل ما جمعوه من مقتنيات والأرواح التي حصلوا عليها 
في حران؛ وخر جوا متو جهين إلى أرض كنعان سفر التكوين (212 5). 


27 


جبل مجدو©. أما الإنجيل! فقد أطلق على الموقع اسما آخر - وهر 
الاسم الذي أصبح مرادفاً لكلمة الجحيم» المكان الذي تنطلق فيه النيران 
من السماء» حيث التقت قوى الخير والشر و«اجتمع فيه جميع الملوك 
لخوض المعركة النهائية» في يوم الحساب الإلهي؛ تاركاً وراءه خارطة 
للموت: هذا الاسم هو أرمجدون©. 

بدأ ذلك اليوم مثل بداية يوم آخر منذ بدء الخليقة» مع شروق الشمس 
بأشعتها الذهبية. ولكن بعد ذلك حدث شيء آخر» كان صادماً ورهیاً 
لأولئك الذين شاركوا فيه وتركوا لنا رواياتهم عنه على جدران معبد آمون 
في مدينة طيبة المصرية. كانوا شهوداً في ذلك اليوم الحافل بالأحداث 
على أول معركة عرفها التاريخ» وهو اليوم الذي واجه فيه ملك قادش؛ 
حاكم سوريا وجميع قبائل أرض كنعان» الفرعون تحتمس الثالث. 

قبل عدة قرون من ذلك اليوم» غزت الجيوش المصرية أراضي 
كنعان وجلبت معها آلهتها وكذلك ذيرها القمعي. أجريت أغبال تمن 
اوري على العمل ف عور ا تحت سياط القراعنة القساة. كان 
ملك قادش واثقاً أن كل هذا سوف يتوقف الآن... مع وجود آلاف من 
رجال القبائل ومئات من العربات الحربية على استعداد للقتال» سوف 
يجلد الفرعون الشاب ويرسله وهو يئن عائداً إلى مصر. أغلق طريقي 
الوصول المحتملين إلى بلاد كنعان» وبالتالي سيقطع الطريق على 
الجيش المصري. إنها الخطة المثالية. لكن كما كان ينبغي لملك قادش 
أن يكتشف ذلك» في الحرب لا يوجد شيء اسمه «الخطة المثالية». 

إن أثمن موهبة يمكن أن يطمح إليها الإنسان هي المعرفة الإلهية. 


2- موقعه الفعلي غير مؤكد؛ وذُكرت مواقع أخرى له» مثل جبل الكرمل وجبل صهيون. 

3- العهد القديم» كتاب الوحي (16» 16). 

4- وفقاً لكتاب الوحي» هو موقع تجمع الجيوش للمعركة حيث سيحين وقت النهاية 
ل ككل رودي لمكيل جنا ا عا لاو اوه إلى أي سيناريو 
يشير إلى نهاية العالم. المترجم. 





-28- 


جميع الصفات الإنسانية الأخرى تتضاءل أمامها. كانت هذه هي الفلسفة 
العرى عد ندماء المصريين كانف الولية إيزيس» تملك أعظم القوى 
ا رع قن حلق الجميع دو المسيطرة على الط فنا ان 
وكان أبو الهول» الرابض بغعضب أمام المعبد» هو الحارس الأبدي لها . 
لجعل القبائل الوثنية في البحر الأبيض المتوسط تؤمن بآلهتهم فعلآء كان 

من المفترض أن يعبر الفراعنة البحر الأحمر. لكن الحقيقة التاريخية 
تكمن بالتأكيد في مكان آخر. كانت الأراضي الواقعة خارج مصر تسيطر 
على طرق التجارة الحيوية شرقاء وحتى وادي الهلال الخصيب وما 
ا كانت السيطرة على الطرق تعني السيطرة على الجزء الأكبر من 
آسيا الصغرى. تمّت المحافظة على هذه الهيمنة بمساعدة جيش قوي. 
ا أ حمس الأول» مؤسس الأسرة الثامنة عشرة للفراعنة (حوالي سنة 
0 ق.م)» E E‏ 
المشاة مسلحين بمجموعة متنوعة من الدروع والرماح ومدعومين 
من الرماة. يكمن السلاح الرئيس للجيش الفرعوني في مرونة حركته؛ 
تقدمت مركباته الحربية الهجوم مثلما تخترق فرقة الدبابات في عصرنا 
قلب دفاعات العدو. قبل ثلاثة آلاف عام من مجيء رومل وياتون. 
أدرك فرعون مصري قيمة خطة الهجوم هذه وطوّر قواته التكتيكية على 
أساسها. قام ثلاثة ثة ملوك محاربين هم أحمس وأمنحتب الأول وتحتمس 
الأول بتوسيع إمبراطوريتهم إلى سوريا ومن هناك إلى الفرات. لم تكن 
حملاتهم سوى غارات عملاقة تم فيها تجريف مناطق عدة» وحرق 
المدن» وذبح السجناء واستعباد القبائل. 

عندما جرت هذه الأحداث - يار سنة 1479 ق.م- كان يحكم مصر 
الفرعون تحتمس الثالث . کان شخصاً مميزاً منذ ولادته . وامتلك في سن 
مبكرة الحكمة وكذلك النضج الروحي والعسكري مما أثار إعجاب 
الفرعون الحاكم» وهي عمته» الملكة حتشسوت» التي عرنته قائداً 





,Apulce, Jes Metamorphoses, and Plutarch, Isis and Osiris عن‎ -5 


-29- 


لجيوشها. على الرغم من أنها برهنت أنها تدير إمبراطوريتها في النيل 
بكفاءة كبيرة» فقد ظلت غير نشطة عسكرياً في مقاطعاتها النائية. وقد 
تحن لاماي اذل ترج مكدرو ني a‏ 
بعد وفاة الملكة» ارتقى ابن أخيها سلم العرش باسم تحتمس الثالث. 

كانت حركة الاستقلال عن مصر تحظى بدعم سريع في أرض 
كنعان». وكان ملك قادشء» حاكم سوريا الذي يمثل مصر هو قوتها 
الدافعة» والذي سعى من أجل السيطرة الشخصية على الأراضي 
المقدسة» وهي منطقة مضطربة منذ 3500 عام وحتى يومنا هذا. وقد 
دعا ملك قادش 330 من ملوك المدينة المحليين» إلى تكوين جيش» 
وكان جميعهم متحمسين للانضمام إلى تمرده. كان الكنعانيون الذين 
معه قساة للغاية» ومسلحين بشكل جيد إلى حد ما بالسيوف البرونزية» 
والرماح ذات الرؤوس المعدنية وعدد كبير من العربات الحربية. الأهم 
من ذلك» أنهم احتفظوا بميزة التضاريس» حيث تمركزوا في مدينة 
مجدوء وهي مفترق الطرق الحيوي في الطرف الشمالي من سلسلة 
جبال الكرمل» الواقع عبر طرق التجارة الممتدة من مصر إلى الفرات. 
تسيطر القلعة المحصنة فيها على ثلاثة طرق: الطريق الشمالي من قرية 
دورا إلى مجدو ومدينة يوكنعام» والطريق الجنوبي من قرية تعنك إلى 
مجدوء وطريق عارة الممتد من عارونا إلى وادي عارة. وهذا الطريق 
-وهو في الواقع ممر- هو الوحيد الموجود على طول مضيق النهر 
الضيق» وبالتالي كان يعتبر محفوفا بالمخاطر بالنسبة لتحركات القوات 
الرئيسية» لأن أي قوة تمر به ستصبح منهكة للغاية ويمكن أن تكون 
فريسة سهلة لأي كمين يصادفها. 

كان من الممكن أن تصبح مدينة مجدو مكاناً لأكثر المعارك قسوة 





6~ وتضم أجزاء كبيرة من فلسطين وسوريا اليوم» كانت أرض كئعان ھی الرابط 
الاستر اتيجي بين مصر وآسيا وأهم طريق تجار ي يستخدمه التجار وتداهمه الجيوش؛ 
وقد غزاها الفرعون سنوسرت الأول قبل حوالي حمس مائة عام» في عام 1971 ق.م. 


-30- 


التي شهدها تاريخ البشرية. كان مكانها المقدس (تل المتسلم)» الذي 
7 

أعِيد اكتشافه في عام 71903» قد تم بناؤه على جبل مسطح القمة يبرز من 
سهل خصب يمتد إلى وادي يزرعيل (سفر يشوع 17-16) من هذا الجبل 
المسطح يرتفع بشكل حاد جبل الكرمل» ليحرس شاطئ البحر الأبيض 
المتوسط. وتوجد إلى شماله تلال الجليل ومدينة الناصرة» وإلى اليمين 
يربض جبل طابور الضخم. في الوقت الحاضر يبدو تل مجدو مقسماً مثل 
كعكة الزفاف لأن الكثير من البعثات الأثرية قامت بأخذ قطع منه. تظهر 
الطبقات الأرضية المختلفة وجوداً بشرياً مستمراً دام لثلاثة آلاف عام. لا 
شيء يشير إلى أن هذا التل كان يوما ما موقعا لسلسلة من المعارك الحاسمة. 
بعد تحتمس الثالث جاء جيش الفرعون رمسيس الثاني» وبعده جاءت 
النبية دبوره «وقعت معركة كبيرة عند مياه مجدو». فاجأ جدعون قوم مدين 
هناك» وخسر الملك شاؤول المعركة أمام الفلستيين» وتوفي يوشيا ملك 
يهوذا هناك... توجه الفرعون نخاو ملك مصر لمقاتلة ملك الأشوريين عند 
نهر الفرات: وتوجه الملك يوشيا لملاقاته» فقتله في مجدوء عندما رأه». 
(سفر الملوك الثاني 23ء 29). هذا المقطع من الكتاب المقدس عانيت في 
ترجمته. في الواقع» كان الفرعون نخاو يساعد الآشوريين المكروهين» 
بمعنى آخر إنه كان «متوجها» لمساعدتهم وليس «لمقاتلتهم»» عندما 
حاول يوشيا منعه©. تم العثور على سلسلة من الإسطبلات في مجدو 
التي تضم 450 حصاناً على الأقل و150 عربة. وهذا هو سبب قيام الملك 
سليمان برفع الضريبة؛ لبناء... سور القدس» ومديئة حاصور»ء ومجدو؛ 
(سفر الملوك الأول 9ء 15). وفي هذه الإسطبلات ذاتهاء قام الصليبيون 


7- على يد عالم للآثار فى الجمعية الشرقية الألمانية. 
8- عن: (Assyrologist C.J. Gadd, translating from a parchment in the British‏ 
Museum 1923).‏ 


داقن 


الأوائل بربط خيولهم بعد ألفي عام» وبنى فرسان الهيكل© قلعة فابا في 
بداية المدينة المقدسة. غزا صلاح الدين الأيوبي وادي مجدوء واستولى 
على القلعة وقتل الصليبيين في مذبحة شرسة. 

تغيرت القلعة عدة مرات. فقد حدث هناك في 16 نیسان عام 1799 
أن الجنرال الفرنسي كليبر قاد 1500 فرنسي لمحاربة 25 ألف تركي بقيادة 
«أحمد باشا الجزار». عندما كان الجنرال كليبر محاصراً» شن 600 مقاتل 
من سلاح الفرسان الفرنسي» شاد الشات تابون رارت هجوم 
وقاموا بمطاردة الأتراك عبر الأردن. وفي 21 أيلول 1918» قام اللورد 
اللنبي» بصحبة قوة المشاة البريطانية» بسحق جيشين تركيين» هما السابع 
والثامن» وأجبرهما على الاستسلام في آخر معركة شهدتها منطقة مجدو. 
وقد اندلعت تلك المعركة بعد مرور 3939 سنة على أول معركة معروفة 
في مجدوء جرت وقائعها في عام 1479 ق.م. 

وهكذاء على مدى آلاف السنين» أصبحت مجدو بؤرة اشتعال 
الاضطرابات الدينية والسياسية. لكن المعركة الأأولى حدثت لأسياب 
اقتصادية بحتة. كانت مصر الفرعونية غنية للغاية» وكانت تعتمد على 
التجارة بدلاً من أعمال الغزو. وكان شركاؤها التجاريون التقليديون هم 
مملكة الحثيين» وعاصمتها حتوساس الواقعة على نهر هاليس» ومملكة 
ميتاني» ومملكة نينوى على نهر دجلة» وجميع الشعوب الأخرى التي 
تعيش في منطقة الهلال الخصيب حول مديئة بابل الواقعة على نهر 
الفرات. كانت الطرق الرئيسة تبدأ من مدينة ممفيس ومنها إلى ممالك 
تدمر وماري وبابل التي تقع على نهر الفرات» ومملكة آشور على نهر 
دجلة» ومن هناك تنحدر إلى مدينتي سوسة وأوروك. أو إلى الشمال عبر 
مدينتي غزة وجبيل ومن ثم إلى مدن أوغاريت وطرطوس على البحر 
9- هم أحد أقوى التنظيمات العسكرية التي تعتنق الفكر المسيحي الغربي» وأكثرها ثرا 


الصو ا عدر ود 





-32- 


المتوسط وإلى مدينة أفسس أو سميرنا. كان من يسيطر على هذه الطرق 
هو الذي يسيطر على التجارة. والسفر على طول هذه الطرق كان تسيطر 
عليه قلعة واحدة هي مجدو. 

ما إن علم الفرعون تحتمس الثالث» الموجود في مدينة طيبة الواقعة 
على نهر النيلء بالاضطرابات المتزايدة في رض کنعان» حتى قام برد فعل 
سريع وجمع جيشاً من عشرين ألف مقاتل. . كانت هذه هي المرة الأولى 
في التاريخ التي يُستدعى فيها تشكيل يتكون بالكامل من وحدات مهنية 
E‏ أ. قام بتقسيم قوته إلى أربع فرق مكونة من خمسة الاف 
فرد نظامي للفرقة الواحدة» تحت إمرة (قائد فرقة)» يمكن تمييزه بواسطة 
درعه الملون . كان مفتاح قوة الفرعون في قوته الضاربة المتنقلة .تم تعزيز 
فرق المشاة بواسطة سلاحه الذي كان فائقاً في أيامه» وهو العربة الحربية» 
التي يجرها حصانان ويقودهما سائس مع اثنين إلى ثلاثة من الرماة يمثلون 
مدفعية متنقلة. كانت وحدات ع السريع هذه مدرية ويا عالياً 
وجيدة الإدارة» كانت العربات حتى ظهور عبقرية المحارب تحتمس» 
تُعتبر مجرد وسيلة نقل تمكن النبلاء من الدخول إلى المعركة بأناقة؛ 
بدون خطة هجوم متماسكة» لم يسبق استخدامها من قبل كقوة هجوم 
قوية وموحدة لإحداث تأثير قاتل: علاوة على ذلك» كان ڌ تحن اول فن 
أدرك تماماً أهمية ما تقدمه تلك العربات من دعم: فقد سمحت له وسائل 
النقل والإمدادات وبناة الجسور بأن يقطع المسافة من مصر إلى غزة في 
غضون عشرة أيام فقط. بعد فترة راحة قصيرة» انتقل إلى مدينة ياحامء 
الواقعة على المنحدر الجنوبي لسلسلة جبال الكرمل. 

نب القرويون حاكم سورياء ملك قادش» إلى ظهور سحابة كبيرة من 
الغبار ترتقع من وط الصحراء. . وهذا ليس له سوى معنى واحد وهو أن 
هناك جيشاً يتحرك نحوهم. أرسل ملك قادش دوريات استطلاع على 
الطريقين الرئيسين؛ أبلغته بوجود تحركات للقوات المصرية على كلا 
الطريقين. بناءً على هذه المعلومات» أنشأ موقعين دفاعيين على الطريقين 

-33- 


الشمالي والجنوبي المؤديان إلى مجدو ووضع جميع عرباته الحربية التى 
يملكهاء وكانت في حدود ستمائة إلى سبعمائة عربة» في موقع خلف التل. 
ومن هناك ستكون قادرة على التقدم إلى الأمام والهجوم على أي من 
الطريقين. لكنه فشل في تغطية الطريق الثالث» ذلك الذي يخترق وادي عارة 
الضيق. قام تحتمس بحيلة ماكرة. فقد أمر كتيبتين صغيرتين بالتقدم على 
طول الطريق الرئيس وإحداث كمية كبيرة من الغبار عن طريق سحب حزم 
من الأغصان المقطوعة خلف مركباتهم من أجل خداع وحدات استطلاع 
العدو. وعلى عكس مشورة مستشاريه العسكريين» اختار بعد ذلك سلوك 
الطريق المحفوف بالمخاطر الذي يمر عبر وادي عارة الضيق. وانطلق مع 
معظم قوات جيشه؛ من ياحام واندفع من دون مراقبة أحد إلى سهل أرونا. 
يؤدي ذلك السهل المتدني والمنخفض إلى سلسلة من التلال التي تغطيها 
غابة كثيفة من الصنوبر دائمة الخضرة. عندما انتقل الجيش إلى منطقة الممر 
الضيق» منحته المظلة التي كونتها الأشجار إغاثة مباركة من تعرضه للحرارة 
في السهل المفتوح. أسرع الضباط المصريون في المسير على طول أرتال 
ممتدة» وحثوا رجالهم على زيادة السرعة. دى صوت صدى حوافر الخيول 
التي تجرها العربات مثل صوت الرعد ما بين الأسوار الصخرية. بعد سبع 
ساعات من المسيرة القسرية» دفع تحتمس جيشه بالكامل عبر الممرات 
الخطرة. . ربما كان قد فوجئ بان قواته لم تواجه أي مقاومة» ذلك أن العدو 
لم يضع حراساً على المنحدرات التي تصطف على جانبي النهر. لقد 
نجحت حيلته. . انكشف الغطاء الذي كانت توفره الغابة الصنوبرية بمجرد 
أن بدأت أشعة يوم جديد تتسلل عبر الجبال البعيدة. وصل تحتمس إلى قمة 
التلال. كان يمتد أمامه المسار الذي كان ينحدر بشدة إلى سهل عريض ممتد 
لمسافة كبيرة» كان المرج الذهبي يعكس السماء الصافية التي فوقه» وتحده 
ل . وكان هناك غدير ماءء تغذيه المياه المتدفقة من سفوح 
الجبال» قد قام بتقسيم السهل. لم يهتم الفرعون كثيراً بجمال الطبيعة؛ فكل 
ما كان يشغل باله هو ميدان الأرض الشديدة الجفاف» فقد كان مثالياً لشرٌ 


-34- 


هجوم بواسطة عربات الحرب ذات العجلات البرونزية. من وسط السهل 
الواسعء كان يتلألاً المخروط البركاني الذي كان يرتفع بثبات وسط ما يوعد 
بأنه سيكون يوماً حارا آخر. وفي القمة» انتصبت قلعة مسوّرة كانت حدودها 
واضحة في وسط السماء الزرقاء. 

حدّق ملك قادش بدهشة في جيش فرعون الذي انتشر من مضيق آراه 
نزولا إلى مرج ابن عامر (ويسمى أيضاً عيمق يزراعيل) ليفصل بين فرقتي 
جيشه الكنعاني. بعث الرسلء وأمر بالانسحاب الفوري. وقد تحقق 
هذا في الوقت المناسب؛ الآن يمكنه نشر قواته على المنحدر السفلي 
المتريط راي SS‏ ومرة أخرى كان قد خذ موقع 
المتفوق في المعركة. وضع تحتمس تحتمس» الذي كان يواجه اغا شاق 
فرقة مشاته في الوسط مدعومة من قبل مائة عربة حربية» وهو جزء صغير 

من العربات التي كانت بحوزته. والباقي كان ينوي استخدامه في مناورة 
منسقة على جناحيه. لقد وضع هذه العربات في مدى يمكن منه توجيه 
ضرباتها بسهولة» وقد أخفاها بشكل جيد عن العدو وراء أوراق الشجر 
الكثيفة التي كانت حافاتها تطل على غدير ماء يُدعى كوينا. 

بذاك الع تتا ا اير في عور لقا E‏ 
المعتادة والتي تت تتضمن ذبح الأضحية. . أخذ ملك قادش ١‏ فأساً دات رامن 
مزدوج وذهب إلى المذبح؛ وهو عبارة عن منصة خشبية أقيمت في وسط 
ميدان القتال. تج ربط كبش هناك. رفع الملك الفأس عالياً حتى يتمكن كل 
واحد من آلاف المحاربين الذين كانوا هناك من رؤية الشفرة المتلألئة قبل 
أن ينزلها بشكل دائري مقوس. . قطع رأس حيوان الأضحية بضربة واحدة 
وقام بغمس الفأس في الدم المتدفق. . ثم بدأ يلوّح بالفأس ويهتف. . أطلق 
رجاله هتافاً ودا امتد من بداية ميدان القتال إلى نهايته. أصبح بإمكانهم 
تبادل الأنخاب فرحاً. لم يعتقد الكثير من مقاتلي الملك أنهم قادرون على 
هزيمة جيش الفرعون وأن يكونوا على قدم المساواة معه. ثم خيم الصمت 
على الجميع. اننهى وقت الغناء والصلاة. وحان الآن وقت القتال. 


-35- 


لم يحدث شيء لفترة طويلة؛ واجه الجيشان بعضهما البعض دون 
أن يتحركا من مواضعهم. وحلقت النسور والطيور الجارحة فوقهم 
ببطء ثم اندفعت عالياً وبسرعة نحو السماء» وأصبحت غير مرئية تقريباً. 
مع ارتفاع الشمس في وسط السماء» استنزفت أشعتها المنصهرة طاقة 
الجيوش» تمٌّ اختبار صبر المقاتلين بشدة وأصبحت الأعصاب متوترة. 
اعتمد ملك قادش على خصمه لبدء الهجوم. ليهاجم المرتفع» حيث 
اصطف أفضل المحاربين السوريين والكنعانيين على سفوح جبل 
مجدوء بينما كان مقاتلو جيش الفرعون في السهل المفتوح» والشمس 
مشجهة اليم اة كانت العمسن ر ت في الا بوسر غات ما بدا 
المصريون يعانون من الحرارة. لم يزل تحتمس يرفض إعطاء الأمر 
للهجوم؛ لقد سمح بمرور الوقت حتى يتطور الأمر إلى حرب أعصاب 
يمكنه فيها الاعتماد على انضباط قواته وكفاءة ناقلات المياه التي لديه 
وهو يرافق صفوف قواته التي تحمل المياه بالقرب المصنوعة من جلود 
الماعز من وادي كوينا. في الواقع» كان على المصريين أن يثبتوا أنهم 
القوات الأكثر انضباطاً. 
كان مقاتلو ملك قادش المتسلحون بدروع ثقيلة من طبقة النبلاء الذين 
اعتبروا واجباً عليهم أن يثبتوا شجاعتهم» ويتقدموا الصفوف» وأن يباشروا 
بعمليات القتل قبل الشروع بعملية الصدام الرئيسية. أراد ملك قادش 
التأكد من أن هذا لن يحدث. لكنه تصرف بعد فوات الأوان. قام عدد 
قليل من النبلاء الكنعانيين الأصغر سنا الذين نفد صبرهم بشأن التأخير 
الطويل الذي اختبر شجاعتهم بشدة؛ بترك صفوف مقاتليهم ومضوا قدماً 
في الدخول في قتال شخصي. توجب على حراسهم الشخصيين والرماة 
وجميع المقاتلين الذين تحت إمرتهم اللحاق بأسيادهم دون أن تكون 
لديهم قناعة كبيرة بما يفعلوه. لقد جعلوهم يبدون مثل الغوغاء. اندلعت 
معارك متقطعة حيث حذا عدد من النبلاء الكنعانيين حذوهم. أدى ذلك 
إلى حدوث فوضى خطيرة في الخطوط القتالية الثابتة. لم يترك ذلك الأمر 
-36- 


لملك قادش خياراًآخر سوى التصرف قبل تفكك جبهته بالكامل. ارتفعت 
أصوات أبواق الحرب إشارة لبدء الهجوم العام. تخلى الكنعانيون عن 
موقعهم المتفوق في الحقلء وبدؤوا يتقدمون تحت وهج أشعة الشمس 
حيث كانت تتلألأ دروع الرجال والأسلحة والعربات الضخمة والخيول 
من خلفها وسط الحرارة اما كان يتبغي أن يكون مجوما پیر بشكل خط 
مستقيم بدأ يتلوى مثل الثعبان. كان الفرعون ت تحتمس يراقب تقدم العدو 
من عربته» ورصد الأخطاء المتزايدة في تشكيلات جيش الكنعانيين 
واستغلها على الفور. اكتسح صوت يشبه أنينا ضخما السهل والجبل» 
وبدأت الأرض تهتز بينما بدأ آلاف المحاربين المصريين بالتحرك إلى 
الأمام. وبدأ صوت الرعد يتعالى بينما كانت صفوف الرجال الهائجين 
تتقدم نحو بعضها البعض. ومثل النهر الذي يتدفق بسرعة؛ اجتاح 
الحشدان الضخمان ميدان المعركة» لم يكونا يتباعدان عن بعضهما إلا 
لكي يلتقيا مرة أخرى. كانت النهايات البرونزية للرماح تلمع بشكل باهت 
في وسط ضوء الشمس الأصفر. تحرك الحشدان بسرعة؛ وهما يحطمان 
ويمزقان كل ما يقع في طريقهما. ثم يشتبكان مع بعضهما البعض. كان 
الميدان بأكمله يغلي في بحر يتلوى من الجنون» كان أحدهما يهتاج وهو 
يتقدم بينما يتراجع الآخر. أما الجثث فقد اكتسحها الفيضان البشري. 
اجتاحت موجة بشرية لقوات ملك قادش خطوط الفرعون القتالية» كانت 
تدوس على الجثث. امتزجت أصوات مقاتليها مئل جوقة تطلق عويلاً 
غير إنساني. اشتعلت النيران في شجيرة شوك جافة. وامتدت النيران إلى 

الغابة» وقد أضافت الحرارة والدخان إلى الأجواء الملتهبة التي كانت 
طاق أضلا. استمر الموت يحصد الأرواح بلا هوادة؛ سقط الرجال 
متأثرين بجراحهم العميقة» بينما راح آخرون يترنحون والدم يتدفق 
منهم» بينما سقط آخرون بسبب الإرهاق الهائل» أو لأن عيونهم بدأت 
تلسعهم بسبب العرق والحرارة والدخان الكثيف. سقط الرجال لأنهم 
لم يتمكنوا من ضح ما يكفي من الهواء في رئاتهم المحترقة؛ وأولئك 


37 


الذين سقطوا كانوا يترنحون أو ضربهم رمح أو سحقواء وكانوا يتساقطون 
أحدهم فوق الآخر مثل تساقط الثلج على جبل الشيخ الذي تتوهح قمنه 
عند غروب الشمس. كانت فوضى المعركة في كل مكان. كان الرجال 
يئنون ويقسمون ويصلون إلى أي إله يؤمنون به. وقف ملك قادش في 
وسطهم» وکل من حوله مرتبكاء وهو يوبخ رجاله لشنهم الهجوم. بقوا 
غير منضبطين بشكل يائس» وهذا جعلهم عرضة للخطر. كان يعلم أن 
الأمر إذا استمر هكذاء فإن جنود الفرعون سيتدفقون من حول جناحي 
جيشه؛ ثم قد ينهزم محاربوه أمام التهديد ويهربون. وإذا حدث ذلك» 
يكون قد فقد تل مجدو ومعه كل أرض كنعان. في تلك اللحظة» بدا أن كل 
شيء يسير على ما يرام» حيث إن المزيد من محاربي الملك قادش كانوا 
يتقدمون بقوة وسرعة» وهم يصدرون عواء مثل الشياطين» وعلى استعداد 
للانغماس في الفوضى. لم يطلب أحد منهم أي رحمة ولم يكن هناك من 
يمنحها. كانت الرماح تخترق البطون والسيوف تقطع الرؤوس. لم يكن 
رجال ملك قادش سوى على بعد بضع خطوات من اختراق خطوط قتال 
جيش الفرعون» وكان يعتقد أنه سيكسب المعركة. 
كان أول مؤشر على حدوث متاعب لملك قادش هو سرب من 
الطيور» كان يحوم في السماء منطلقاً من الشجيرات الموجودة على طول 
غدير كويناء قبل أن تندفع مجموعة ضخمة من العربات الحربية لقوات 
الفرعون بشكل مفاجئ وتسبق رجاله من كلا الجانبين. اندفعت العربات 
مباشرة باتتجاه الكتلة المشتبكة من المحاربين المقاتلين» مما جعل سحابة 
كبيرة من الغبار ترتفع وسط الميدان. لم يكن مقاتلو ملك قادش يعرفون 
علد الغربات التي عاجنتهم دغل كانت ان أو مات ووا 
كانت أكثرء فأسرعوا بجنون ليجتازوا المنطقة الحرام. وعندما أصبحت 
العربات في مرمى السهام؛ انقسمت وتدفقت نحو جناحيه. أطلق الرماة 
الراكبون على العزبات مو جة تة ن السهام المصتوعة من “القضية 
توجهت مباشرة إلى ظهور الكنعانيين. لكن المصريين عانوا أيضاً بشكل 
-38- 


كبير؛ فخيول عرباتهم التي أصابتها الرماح جثت على ركبها وهي تنخر 
مما جعل العربات تتطاير فى الهواء» ووقعت على الرماة وكسرت رقابهم. 
وهناك مركبات أخرى تقطعت محاورها وتوقفت فجأة؛ سُحبّت طواقم 


العربات منها على الفور وتكرر ذلك عدة مرات بشكل يثير الملل. 


15 Mey 1479 عه‎ 








-39- 


وبسبب انعطافهم إلى الجوانب لتجنب العربات الحربية للجيش 
المصري» ترك الكنعانيون مركزهم مكشوفا بلا حماية. وعندما حدثت 
موجة جديدة من هجوم العربات المصرية» سقطت مجموعة من السهام 
على مقاتلي قادش قبل أن يتم سحقهم تحت العجلات البرونزية. حدق 
ملكهم عبر ميدان المعركة» نحو مرتفع صغير» حيث كان يوجد الفرعون 
اللعزة والشمس تىك أشعتها على خوذته الذهبية» كان تحتمس هذاء 
جالساً في عربته المتلألئة والمصنوعة من الإلكتروم”" على قمة التل» مثل 
ملاك الموت» وهو يشاهد أعداءه يموتول. كانت دماؤهم تغذي الأارض 
حتى نما العشب وأصبح أكثر خضرة وسمكاً وغطى سهل زرعين”". 
أصبحت المعركة مشهدا من الأشكال والألوان المتغيرة. ارتفع الضجيج 
ليصبح شبيها بصراخ جوقة من الغجر؛ وكان وسط السهل يمثل بطن 
الوحش. انطلق المزيد من العربات الحربية المصرية من مخابئهاء يتبعها 
الآلاف ممن يرتدون الخوذ المعدنية. وكانت تتألق الرايات التى ترفرف 
فوقها. كانت هناك مجموعات منفردة من الكنعانيين تحاول الصمود. 
كان ملك قادش يرفع سيفه ليحشد مجموعة من رجاله عندما هجم عليهم 
المصريون بالرماح والسيوف البمرونزية. اندفع المصريون إلى الأمام؛ 
وجعلوا الكنعانيين يلوذون بالهزيمة. 
: 0 الفرعون قواته الاحتياطية في هجوم أخير بالعربات الذي برهن 
ا تدميرا. تقدم تحتمس» على رأس ثلاثمائة عربة مع شفراتها 
۱ د لمنحلءة الماتفة .ط وو ell)‏ 5 . 

0 ا وقطع بذلك الفجوة التي تفصل بين قوات قادش 
9 لتل. ومع خمسين. أو ستين عربة تسير جنباً إلى جنب» تقدمت آلة 
الحرب المصرية للاندفاع عبر الميدان. لاء ا 
المعاده ا شيء يمكن ل یو فمف اندفاع 
حك ا كي تساي امام العريات حرفت 
1١‏ هو سبيكة طببعية المنشأ من الذهب والفضة؛ مم ٠‏ . 0 

والمعادن الأخرى. المترحم. و مع بعض كميات صغيرة من الرصاص 


-40- 


عجلاتها البرونزية نحو عدوها الأعزل مثلما تكتسح الموجة الشاطئ. نزل 
الكنعانيون في جميع أنحاء الهضبة. تمّ فتح ممرات واسعة في صفوف 
الكنعانيين. تحت تأثير المناجل الملتفة المجنونة» بات خط سير مقاتلي 
ملك قادش متعرجاًء وهم یبکون» وينزفون» ويترنحون ويسقطون. انهار 
الآلاف من الكنعانيين بالجملة. في هذه اللحظات الأخيرة» دفع الآلاف 
أرواحهم لأنهم تجرؤوا على الوقوف أمام قوة مصر والعبقرية العسكرية 
للفرعون. لقد ترك وراءه مجموعة من الجثث» مستلقية مثل الدمى الرثة 
في المنطقة التي تحولت من لون الذهب الناضج لصباح خريفي إلى اللون 
الأحمره بسبب المخلفات القبيحة لساحة القتال الدموية. إنها أرمجدون! 

أولئك الذين تمكنوا من الفرار من المجزرة تركوا خيولهم ومركباتهم 
وأسلحتهم. وسارعوا للصعود وتسلق أسوار قلعة مجدو. وكان من بين 
الناجين ملك قادش السوري الذي كان ينظر إلى المذبحة الرهيبة والجثث 
المنتفخة والنسور التي كانت تتغذى عليها . شعر بألم نابض خلف عينيه. 
ت السابقء كان هذا الألم يختفي دائماً بعد أن يقتل الرجال الذين خطط 
لقتلهم. ولكن هذه المرة لم يكن كذلك. . وقد لعن نفسه لأنه -وقد أعمت 
بصيرته سخونة المعركة- قد غفل عن وجود المزيد من العربات الحربية 
المصرية الاحقاطة. بعد لحظات» صرب الفرعون تتحتمسن ,بسوطه 
فحول الخيل البيضاء الثلاثة -وكأنه الإله حورس متسلحاً بمخالبه- 
وكان يتراكض أمام عربته» ما تبقى من أفضل المحاربين الى رين الذي 
كانوا يفرون كما لو كانوا مرعوبين من أرواح شريرة. 

لقد فوجئ المصريون بسهولة انتصارهم» فبدلاً من اقتحام قلعة غير 
محصنة؛ توقفوا عن المضي في مسيرتهم الظافرة ليقوموا بقتل الجرحى 
وتجريدهم من الدروع والمجوهرات. وكان هذا الاندفاع للحصول على 
الغنائم هو الذي أنقذ بعض السوريين. ومنح ملك قادش الوقت لتنظيم 
دفاعات البلدة. لم تقدم الكتابات الهيروغليفية على الجدران في مدينة 
طيبة أي دليل إضافي على طول فترة الحصار. ربما نجا المدافعون لأن 

-41- 


الفرعون سئم من تطويق القلعة. والنقش التذكاري لا يذكر سوى عدد 
الغنائم المستردة: 2000 حصان و900 عربة. 
بعد انتصاره في مجدوء خمد تحتمس بالقوة الممالك المتمردة؛ قام 
بإعدام ملوكها واستبدلهم بالنبلاء الأوفياء. اقتحم الفرعون معقل مملكة 
قادش» الواقع على الضفة اليسرى من نهر العاصي (بالقرب من مدينة 
حمص». ثم انتقل إلى الآريين» الذين قاموا بغزو الأراضي الخصبة على 
طول منحنى الفرات العظيم» ودمّر مدينة حلب» قبل أن يعود إلى دياره 
في طيبة. ولغرض السيطرة على مياه البحر الأبيض المتوسط والأراضي 
المجاورة لهاء مر تحتمس ببناء أسطول حربي. وبذلك» بات يسيطر على 
تجارة البحر الأبيض المتوسط» وأصبح الحاكم لإمبراطورية واسعة بلا 
منازع. حتى إن البابليين والحيثيين البعيدين عنه أرسلوا له سفراء يحملون 
هدايا ثمينة. عندما توفي تحتمس الثالث عام 1447 ق.م» أصبح عهذه 
يمثل قمة الحكم الفرعوني. 
كان تحتمس أول من بنى إمبراطورية بالمعنى الحقيقى؛ وكان أول بطل 
عالمي. لم يصنع فقط انطباعاً عالمياً في عصره» بل منح انطباعاً بوجود 
نظام جديد... ويوجد اليوم اثنان من أعظم آثار هذا الملك» وهما مسسللات 
هيليوبوليس» على الشواطئ المقابلة للمحيط الأطلسي كتذكارات لباني 
أول إمبراطورية في العالم02. 
في عام 1288 ق.م» انطلق فرعون آخرء هو رمسيس الثاني» على 

الطريق إلى مجدوء وكان الغرض هذه المرة تلقين الحيثيين درساً. فقد 

قام ملك الحيثيين مواتالي بتجميع قواته وغزا سوريا. واجهه جيش 

الفرعون رمسيس» وكان نسخة باهتة من جيش سلفه اللامع الفرعون 

تحتمس الثالث. قسم رمسيس جيشه إلى أربعة فيالق:ري وآمون ونارون 

i Wu -2‏ ونيويورك. والاقتباس من كتاب تاريخ العالم القديم 


-42- 


وبتاح2"» وبقيادته فيلق آمون» عبر نهر العاصى شمال بلدة شبتونة» على 
بعد حوالي ثمانية أميال جنوب قادش. أوقع الملك مواتالي الفرعون 
رمسيس في الفخ. لقد أرسل مجموعة من «الفارين من الجيش» لإبلاغ 
الفرعون بموقف الجيش الحيثي» ووضعه شمال مدينة قادش. انتظره 
الحيثيون في كمين أعدوه عبر نهر العاصيء وما إن حاول فيلق ري 
العائه عيؤوة جى تفر الا هن قبل فة كيرة من العريات الخربية 
واقتيدوا في رحلة عشوائية. قام 7 ألفاً من جنود المشاة بقيادة الملك 
مواتالي بمطاردة المصريين في داخل معسكر الفراعنة واستولوا على كل 
ما يحتويه؛ ليس فقط الذهب والمجوهرات» ولكن أيضاً النساءء اللائي 
تركهن محاربوهن بدناءة ليواجهن مصيرهن. أصبح جيش مواتالي 
مشتتاً تماما بسبب انغماسه في أعمال النهب والتمتع بالملذات الجنسية. 
اخترقت إحدى وحدات النخبة من مرتزقة رمسيس صفوف الحيثيين من 
الخلف» وأطلق الفرعون عرباته الحربية المتبقية» في الوقت الذي قام فيه 
فيلق آمون بالتحول إلى الاتجاه المعاكس وهاجم الحيثيين من الشمال. 
لقد أملى القدر سطوته وتمكن فيلق بتاح» الذي كان متخلفا عن الركب» 
من الانضمام إلى المعركة. وبالتحام الفيلقين أجبرا الحيثيين على الفرار. 
تمكن ستة آلاف منهم» مع ملكهم» مواتالي» من الفرار خلف الجدران 
المحصنة في قادش. في المرة الأخيرة» ابتسم إله الحظ للمصريين كا 

معركة مجدو الثانية هي المعركة الأخيرة التي انتصرت بها إمبراطورية 
مصرية على الإطلاق. ومن إشارة وحيدة في سفر رؤيا يوحنا في الكتاب 
المقدس (الجزء 16 من 14 -16) جاء مفهوم المحرقة الكارثية والتدمير 
النهائي» الذي ساد في البشرية منذ ذلك الحين. (فَإنَهُمْ أَرْوَاحُ 00 
صانِعة یات تَخْرج عَلَى ملوك الْعَلم وَكُلْ اسوق لعَجْمََهُم نال 

ذلك ايوم لظيو بوم اللو لقا على كل شئو... فَجَمَءَ تو ل ادر ضع 


سو سمس سس 


الذي ب بالبرانية امَرْمَجَدُونَ). 





3- أسماء الآلهة الأربعة. المترجم. 
-43- 


و 


حسمت معركة مجدو الأولى بهجوم مفاجئ للدروع المتنقلة. 
وأصبحت في الواقع» أول معركة دبابات في التاريخ. 

من خلال انتصاره في معركة مجدوء أنهى تحتمس الثالث لمئات 
النكين: اى د لحكم مر على افلنطين: وسوريا ووادي الأردن 
والفرات. وعلى مدى القرون الثلاثة التالية» حكمت إمبراطورية الفراعنة 
بلا منازع. 


الفصل الثاني 
سر النفق 
القدس 

8 آب 1010 ق.م 


من يستطيع أن يصل النفق 
سيتمكن من دحر اليب وس 


)8 :5( سفر صموئيل الثاني‎ ٠. 


حدث ذلك منذ زمن بعيد موغل في القدم» عندما سار البطاركة" 
على هذه الأرضء أمر الرب موسى بأن يخلص بني إسرائيل من عبودية 
اروت فى مصوووعد بان يتودهم انا أرض الميعاد. ألم أْصعِرٌ 
ِسْرَائِيلٌ مِنْ اض مص وَالفلِسْطِينيينَ منْ كَفْتُورَ؟» (سفر عاموس 9 7). 

غزت قبيلة محاربة من كفتور أرض الميعاد وهددت وجود إسرائيل 
ذاته: : إنهم الفلسطينيون©. جلبوا معهم آلهتهم وثقافتهم. 3 أين أتواء لم 
يكن أحد يعلم. لكن كانوا أينما ذهبوا يتركون وراءهم أثراً من الموت 
والدمار. تدفقوا عبر البلدان مثل سيل بشري» وعرباتهم التي تجرها الثيران 
1- وهم بطاركة الكتاب المقدس» المقصود بهم إبراهيم وابنه إسحاق ويعقوب بن 

إسحاق. المترجم. 


ل . المترجم. 





-45- 


محملة بكل ما نهبوه. وقد قاموا وهم مسلحون بالدروع الدائرية والسيوف 
البرونزيةء بمحو الإمبراطورية الحيثية تمامً؛ والآن جاء دور إسرائيل. 
لقد خاضوا معركةء قتلوا فيها القادة الإسرائيليين» وقاموا بالعمل الأكثر 
كفراً وسرقوا الصندوق المقدس©» وقد التزم الكتاب المقدس الصمت 
ور ل o‏ 
قصة شمشون» وهو رجل إسرائيلي لم يبتعد أ : : 
وعندما رفض تقديم فروض الطاعة والولاء لآلهتهم الوثنية؛ تعرض 
للخيانة من قبل أغلى معشوقاته» دليلة. تمّ القبض عليه وتقييده في 
المعبد الوثني» ثم استخدم قوته الخارقة لكسر أعمدته وأسقط السقف 
على رؤوس قادة الفلسطينيين. قدم النبي العبري صموئيل قرباناً للرب» 
مما أدى إلى انتشار وباء الطاعون بين الفلسطينيين؛ الذين بسبب خوفهم 
من سوء حظهم؛ ولإرضاء الشخص الذي أطلق عليه الإسرائيليون اسم 
ربهم» أعادوا الصندوق المقدس» وعلى الرغم من ويلات الطاعون» 
كان الفلسطينيون بعيدون كل البعد عن أن يكونوا مثل الآخرين واستمروا 
بإالحاق ضرر كبير بأطفال الرب. أدى ظلم الفلسطينيين هذا إلى دفع 
الإسرائيليين للاتحاد فيما بينهم ليختاروا ملكاً لهم. كان نبيهم صموئيل 
قد وعد بأن يظهر ملك" قريباً لقيادتهم وتخليصهم من عبوديتهم. 
أول من ادعی بحقه في هذا التاج كان شخصاً من سبط بنيامين''' اسمه 
شاؤول. استخدم لقب ملك" لكنه كان مستبداً. كان لدى الملك حارس 
شاب. «وكان اسمه داود...» وكان داود هذا متحمساً لإيجاد وسائل ترفع 
"روح المنوية لني إسرايل تؤدي بهم إلى التصر في نهاية المطاف. 
١‏ عرف في الكنبس يوضع فيه سفر التوراة. المتر جم. 
3 ملح ا كل اتروع ارين مل اتنيز 
7 بالعبر نة في الأصل. المتر حم. 
0 هو الشفبق الأو حد لني يوسف. المتررجم. 

مسليخ بالعربه في الأاصل. التو 


الحصبة أو نزلات 


-40- 


عندما تحطمت قوة شعبه وتملكه اليأس» شرع داود في مهمة لتوحيد 
مملكة يهوذا وإسرائيل في جبهة موحدة ضد مضطهديهم الفلسطينيين. 
في البداية» دفع الطموح والغيرة العديد من زعماء القبائل إلى رفض 
ماسكة لك ع الم بر موقن لياف زلم يكيل دهي إلى بخدى 
القبائل» التي كانت خانعة ويائسة» وخاضعة لنير رهيب» وحولها إلى 
أمة من الأبطال الشجعان يث تهر الملك داود (1010 -973ق:م) بقكله 
لجالوت بطل الفلسطينيين. افَخْرَج' رَجُلٌ مُبَارِرٌ مِنْ جوش الفِلِسْطِينِيِينَ 
اش لات ِن ج طول يت دوع وَشِبْرُوََذَ ايده إلى الكنفٍ 
وَأَحَلَّ مه حجر وَرَمَاه بالمقلاع» وَضَرَب الْفِلِسْطينِيّ في جَبْهَتِه' (سفر 
صموئيل الأول» الإصحاح 17 السطر 4 و49). 

ل ا ل ا 

في العصور التوراتية» وأول عبري يو خد بين اثنتي عشرة من قبائل يهوذا 

وإسرائيل في أمة واحدة عظيمة. قتله لجالوت العملاق (بواسطة مقلاع) 
جل ل E BN N‏ . ومن أجل 
استعادة سطو ته على داود» تحدث شاؤول مع ابنه یوناثان وبعض القبائل 
الإسرائيلية لأجل خوض معركة مع الفلسطينيين «في قرية تعنك بجوار 
مياه تل مجدو» (سفر القضاة 00 ارك شازول ان ال اكات 
تعتبر معركتهما النهائية. تدفق الفلسطينيون من أسفل جبل جلبوع» وقبا 
أن يكون لدى شاؤول الوقت لإصدار الأوامر لرجاله كانت تحيط به قوة 
ساحقة . طاردت أفراد جيش شاؤول الصغير عبر السهل وذبحتهم. يعد أن 
شاهد ابنه وهو يقتل» ألقى شاؤول بنفسه على سيفه ليتجنب الأسر”. تم 
تعليق جثني شاؤول ويوناثان في جدران بيت شان في قلعة الفلسطينيين. 
مع وفاة شاؤولء انتهت أول مملكة لبني إسرائيل» وسقط شعبها في وهدة 
اليأس» دون أمل في تعويض ما خسره. 





8- توجد لوحة شهيرة حول هذا الموضوع للرسام بيتر برو غيل معلقة في متحف الفن في 


-47- 


سمع داود» الذي كان يعيش في ذلك الوقت في مدينة الخليلء 
بالكارثة التي واجهت شاؤول وقال حينها: الرب يساعد فقط من يساعد 
نفسه. ومن يظل يضع كل شيء خلفه سيبقى ضائعاً. . لقد أخذ الأمر على 
عاتقه وأسس قوة حرب عصابات صغيرة. كان يخطط بعناية لعملياته حتى 
لا يخاطر أبداً بهزيمة كبيرة» فقد أجبر هو وفرقته الفلسطينيين تدريجيا 
على الدفاع» بينما كان» من ناحية أخرىء يعزز قواته باستمرار» وزاد من 
حجمها من وحدات صغيرة من الرجال إلى أفواج قادرة على مهاجمة 
مواقع أكبر للعدو. وتمكن في سلسلة من الكمائن التي أقامها في تلال 
ووديان مملكة يهوذاء من ضرب الفلسطينيين في الأماكن التي لا يمكن 
لهم أن يتوقعوها وألحق إصابات عديدة بهم. مع كل ضربة ناجحة» كان 
يرفع من معنويات رجال القبائل» حتى جاءت اللحظة التي تمكن فيها 
المتمردون من السيطرة على منطقة واسعة من مملكة يهوذا وحمايتها من 
أي هجوم وأعاد تنظيم قواته في جيش نظامي. حدث ذلك عندما أعلنت 
حت اال بها تارذ مركا على e‏ . حينها شرع في توحيد جميع 
القبائل الاثنتي عشر 2 . وفي خطوة سياسية ذكية 0 
زوجة له» ثم تخلص بسرعة من معظم منافسيه. تطلب ذلك الأمر من 
ا د ار E‏ 
عليهاء ثم توجه على رأس جيشه إلى سورياء حيث هزم هدد عزر ملك 
صوبة. ومن هناك سافر عبر الصحراء إلى الفرات وحطم ملك الآراميين» 
الذي كان على استعداد لغزو أراضي الآشوريين. بهذه الطريقة» أنقذ داود 
الآشوريين من الانقراض» وأصبح بعنق الآشوريين دين له قاموا بسداده 
بعد قرنين من الزمان من خلال القضاء على إسرائيل. ثم عاقب داود 
الفلسطينيين الموجودين في مديئة بيت شانء قتلة يونائان وشاول. 

قبل أن يو جه داود انتباهه إلى اليبوسيين» خاض معركة أخرى مع يوآب 


0 وأسماء هذه القبائل هى هي: آشور وبنيامين ودان وإفرايم وجاد ويساكر ويهوذا ومنسى 
ونفتالي وروبن وشمعون وزبولون. 





-48- 


قائد جيشه وأبنير» اللذين ساندا ابن شاؤول الوحيد الباقي على قيد الحياة 
في تحديه لادعاء داود بالتاج. كان كل من یوآب اله من المحاربين 
الشجعان» وفي الساعة المحددة» أحضروا اثني عشر من رجالهم إلى 
بر كة جبعون» (شمال القدس). لقد كان تبادل إطلاق نار بين رعاة بقر 
أكثر منه معركة حربية» خلفت وراءها الجميع موتى» باستثناء يوآب. 

لأجل حكم مملكة يهوذا المتحدة مع مملكة إسرائيل كان الأمر 
يستدعي إقامة عاصمة رمزية. لم يكن هناك سوى مكان واحد مناسب لهذا 
الشرف» قلعة يبوس"» المبنية.على صخرة إبراهيم التوراتية. سيوفر هذا 
المكان المقدس رمزاً موحداً لبنى إسرائيل. لقد وهب الرب داود القوة 
وعظمة الروح» وها هو قد كرّس نفسه الآن لهذه القضية المقدسة وتعهد 
بشرف أن يضع الصندوق المقدس الذي يحوي التوراة في معبد قرر أن 
يبنيه على الصخرة. ولكن كان عليه أو لا الاستيلاء على المدينة من الأعداء 
اليبوسيين. وهذه لم تكن مهمة سهلة. فالمدينة تقع على منحدر صخري 
وتحيط بها أسوار ضخمة. حاول رجال يوآب طوال أسابيع التغلب على 
تلك الأسوار الصلبة» ولم تنجح محاولاتهم لعدة أسابيع. حاولوا ارتقاء 
السلالم لكن واجهتهم السهام والحجارة حتى أصبح الطريق المؤدي إلى 
المنحدر الحاد مليئاً بجثث القتلى والجرحى. أبلغ يوآب ملكه بأن المدينة 
تدافع عن نفسها بقوة لدرجة أن الوسيلة الوحيدة لفتح بوابتها كانت عن 
طريق فرض حصار عليها وتجويع سكانها. لم يكن داود يريد المزيد 
من إراقة الدماء» لكن لم يكن لديه الوقت لانتظار الاستسلام من خلال 
تجويعها. كانت بعض قوات القبائل المتحالفة مستعدة لترك المعسكر. 
فبدأ يبحث عن طريقة لإنهاء الحصار بسرعة. 

فجأة وعلى حين غرة» حققت معجزة الكتاب المقدس ما فشل 
المسلحون في فعله. قيل إن الرب نزل من السماء في إحدى الليالي وفتح 
البوابة إلى المدينة. ودخل الملك داود وأتباعه دون الحاجة إلى القتال 





0- أحد أسماء مديئة القدس. المترجم. 


-49- 


من أجل ذلك. انتتشرت أخبار سقوط يبوس» التي نتجت عن فعل الرب» 
ولي لم يكن بطر لالا على أنه ليست سرى أ خارق الي 
نتشر الخبر إلى أقصى أجزاء مملكتي يهوذا وإسرائيل. كانت تلك 
a‏ ليا ال ل لي سن رج السك بساور 
كيف تحققت المعجزة. 
على الرغم من حالات الحصار الكثيرة التي ستتبع تلك الحادثة في 
القرون القادمة» بما في ذلك هدم الأسوار والأعمال الوحشية التي ولدتهاء 
فقد مر ثلاثة آلاف عام قبل أن يكتشف ضابط في الجيش البريطاني كان فد 
قرأ الكتاب المقدس سر داود. في السر في الكتب القديمة التي كان لا 
بد أن تكون لدى داود معرفة بهاء وكانت تحتوي إشارة موجزة إلى شيء 
يسم (DO)‏ وهذه الكلمة تعني بالعبرية ثلماً أو صدعاً ولكنها يمكن 
أن تعني أيضاً ممراً ضيقاً أو نفقا قاً. وكان ذلك صدعاً طبيعياًء اتسع على يد 
السكان القدامى في يبوس ليصبح نفقاًء يؤدي من قلب القلعة إلى مصدر 
للمياه موجود في الصخرة التي شيّد عليها المعبد. على مر القرون أصاب 
العلا ا رق با 
في عام 1867 أمضى النقيب وارن» وكان قارئاً متتحمساً للكتاب 
المقدس» إجازته السنوية في القدس. كان قد اطّلع على الإشارة التي 
وردت في الكتاب المقدس إلى («تهنتنة]/! 514 «ن4) وتعني ينبوع ماء 
السيدة مريم» حيث كانت تغسل السيدة العذراء ملابسها فيه. كان رجلاً 
متديناً للغاية» وأراد أن يرضي فضوله» فزار ينبوع الماء» وشاهد فقاعات 
المياه وهي تخرج من ثقب في صخور الأساس كما كان حالها منذ 
آلاف من السنين. لم تكن تسمى دائماً نافورة مريم. قبل وقت طويل من 
مجيء النبي المسيح كانت تعرف باسم جيهون 1807 ومعناها بالعبرية 
المبقبق». وبينما كان وارن يضم الماء بكفيهء نظر إلى أعلى و لاحظ ما 
بدا وكأنه ثقب من صنع الإنسان. استرجع بشكل غامض الإشارة التي 
وردت في الكتاب المقدس والتي لم ينتبه إليها جيوش من علماء الآثار: 
-50- 


«كل من يصل إلى النفق سيهزم اليهود» (سفر صموئيل الثاني 5» 8). هل 


أن يهدأء وقرأ ذلك المقطع من سفر صموثيل الثاني مراراً وتكراراً. لقد 
اكتشفب النفق:.: «التفق ..: اليفق... 


Israel United under David and Solomon 
1000 sC 


Modterranogn Baa 


1 1010 92: The ‘sinnor cf Jotus azman? 
١ 7O! BC The أن أجمسأ؟‎ SEOSIM سه‎ 


After 650 BC, David's united empire fell 
apart and split Inlo: 

1. Kingdom of Israel (capital: Samaria) 

2. Kingdorn of Judah (capital: Jêerusalern) 





551 


عند شروق الشمس عاد النقيب وارن إلى نافورة السيدة العذراى 
وبالاتكاء على كتف قوي لحاج آلماني» صعد إلى الحفرة. لقد كان 
يخاطر وكان يعلم أنه لا يجب أن يفعل ذلك لکن فضوله كان قويا. 
بدأ يزحف على يديه وركبتيه وهو يحمل مشعلاً للإضاءة. لقد راكمت 
الحيوانات البرية نفاياتها الطبيعية على مدى آلاف السئين. سرعان ما 
ا الثفق ناك فقا وكان الضوء قرنا جدا 
من وجهه لدرجة أنه كان خائفاً من أن يحرق شعر ذقنه. كل ما فعله 
اللهب هو إزالة الستار الكثيف الذي نسجته خيوط العنكبوت. كان 
السكان الوحيدون في هذا العالم السفلي هم العناكب المكسوة بالشعر 
وبأرجل مخططة والعقارب الصغيرة التي تزحف على الجدران. وكلما 
كان يزحف أكثرء كلما كان الهواء يصبح أكثر عفونة. في تلك الأثناى 
كان سقف النفق منخفضاً إلى درجة أنه أجبره على أن يتحرك زحفاً على 
بطنه. لقد أراد أن يغادر هذا المكان المروع» لكن القيام بذلك يعني بقاء 
الغموض الذي يكتنف الموضوع» وبقاء الأمر محيراً كما كان من قبل 
وبدون أن يكتشف أي شيء وهو ما منعه من فعل ذلك. وصل النفق إلى 
نهاية مفاجئة. لم يتبق أمامه سوى القليل والثمين جداً الذي يمكن أن 
يفعله؛ كان محشوراً مثل قطعة فلين في زجاجة. نظراً لضيق النفق» لم 
يستطع حتى أن يعكس اتجاهه! كان الهواء متعفناً لدرجة أن التنفس أصبح 
صعباً. لقد أثار قدرأ كبيراً من الغبار الجاف الذي جعله يسعل» لدرجة 
ای لمناطن اله سوق يموت وآن ا لے يحور عن د اد 
الحللة ثم يعد يتم لم استطلامت ركبته غيم مدب وأعاد الام الا 
التركيز الى حواسه. حاول إعادة إيقاد شعلة الإضاءة لكن ذلك أت أنه 
من المستحيلء بالنظر إلى المساحة المغلقة 
“كن في انار بتع من العم وروک ويدوا ن و 
ي 
ان تمكن من دفع الحجر إلى احد الجوانب» شعر بدخول نفحة هواء 
-52- 


وحركة ذراعيه المحدودة. 


جديد؛ كان الثقب يؤدي | E‏ 
جسده» دخل فى الممرء > مما أدى إلى أن يقف بشكل مستقيم. دفع ذراعيه 
إلى الأمافة ومز يديه على الراب ابا د 
وملسي سورع ل مدن الما ونا 
أذيقف يشكل مستقيم. بعد مسافة قصيرة» انسع النفق وانعطف مما ججعله 
يتمكن من تسلقه على أطرافه الأربع» فبدأ يتجه أعلى ثم أعلى. ولأول 
مرة أصبحت هناك من حوله فسحة واسعة؛ فأوقد الشعلة. ثم وصل إلى 
كهف من الصخر المتكسرء ربما كان ملجأ تحت الأرض. كانت هناك 
خيبة أمل أخرى تنتظره؛ فقد سات المخرج كومة من الصخور المتكسرة. 
بدأ يزيح الصخورء وينظف الأرض الرخوة فيما بينها. ومرة آخرى» تغلب 
عليه شعور باليأس. كان يصلى من أجل أن يحصل على ومضة من ضوء 
طا الأ لحر اة شت E ES‏ کر 
محشور. ثم حدث التالي: وقع الحجر الكبيرء وتدفق الهواء عبر الفتحة. 
حجب الغبار الرؤية عنه قبل أن تدخل حزمة من الضوء. احيرج حسذدهة 
عنوة من الحفرة» وزحف على يديه وركبتيه نحو النور ووجد نفسه في 
وضح النهار داخل فناء مزدحم بالركام - في وسط مدينة القدس! بعد 
ثلاثة آلاف سنة تمّ حل لغز غزو داود للقدس. وتكريما له تمّ تسمية النفق 
بممر وارنئ!". 
تم الكشف عن بقية المكان بعد إجراء المزيد من التنقيبات التي قام بها 
عدد من علماء الآثار والعلماء المختصين بالكتاب المقدس والمؤرخين 
١‏ - قدم اكتشاف وارن مادة لنقاش ساخن بين علماء الآثار» الذين جادلوا بأن مخرج 
الممر لم يكن من الممكن أن يكون نفق الملك داود كونه ينتهي خارج أسوار المدينة 
التي كانت تحمي اليبوسيين أيام الملك داود» إلى أن تمّ حفر جدار آخر يعود إلى 
عصر ما قبل داود والذي أظهر أن المخرج كان بالفعل داخل المدينة. 


-53- 


المقدس القديم على ذكر للممر؛ أو ربما أخبره أحد أصدقائه الببوسيين 
عنه. أمر الملك داود الجنرال يوآب الذي كان محل ثقته باستكشاف 
هذا المسار المحتمل. فقاموا بالبحث في قاعدة المنحدرات بحثا عن 
المدخل إلى الممر» حتى وجدها أحد رجال يوآب خلف «موضع خروج 
الفقاعات». أرسلوا فتى إلى الممرء وقد حمل شعلة تضيء له المكان. في 
غضون ساعة» عاد الشاب وأخبرهم أن الممر يقودهم بالفعل صعوداً نحو 

جدران مدينة يبوس. 
انتظر مجموعة من أفراد الجنرال يوآبء الذين تم اختيارهم خصيصاً 
وأقسموا على كتمان السر» حلول الظلام قبل صعودهم على طول أنبوب 
المياه. لم يكن بمقدورهم أن يحملوا رماحهم الثقيلة» ولا حتى سيوفهم. 
كان سلاحهم الوحيد هو التخفي والمفاجأة. ما إن أصبحوا داخل الممر 
الضيق» حتى تقدموا بحذر شديد. لم يجرؤوا على استخدام الضوء خوفا 
من اكتشافهم» ولم يكونوا يعرفون أي من الوحوش الغريبة أو المفاجآت 
الأخرى التي يمكن أن يتوقعوا أنها تختبئ في ذلك النفق المظلم. بدؤوا 
يصعدون رويداً رويداً إلى الأعلى - ثم خرجوا إلى مدينة يبوس المظلمة. 
ومن خلال عدد من الممرات السرية» نجحوا في الوصول إلى بوابة 
المدينة: وما جعلهم يطمئنون أكثر أنهم لم يجدوا سوى عدد قليل من 
الحراس وهم يقومون بعملهم» وكانوا جميعهم قد ركّزوا انتباههم في 
ما فوق السور وليس خلفهم. لا بد أن أصوات أقدامهم قد نبّه اليبوسيين 
الموجودين عند البوابة إلى الخطر الذي داهمهم» لأن بعضهم استدار. 
ما إن اصبح لديهم ما يكفي من الوقت ليجفلوا مندهشين حتى انقض 
عليهم أفراد مجموعة الجنرال يوآب» و 
7 أغلق الموت شفاههم. وضع الإسرائيليون جذع بلوط 
أيغلقوا البوابة الثقيلة. عندما سمع الملك داود إشارة يوآب» التى أصدرها 
ارك شايع دن فود الكبش - والتي کات راد مل مروت افير 
وي حتى لجيشه - تدفق الملك وجنوده نحو المدينة دون الحاجة 


-54- 


إلى العا وفي محاولة منه للتضليل وجعل الناس ينسون اسم المدينة 
(يبوس)» أطلق الملك داود تسمية أورشليم على المدينة وقد ذُفِنَ سر 
النفق مع موت الملك داود والجنرال يوآب02. 

مع سقو ط القدس» وسلسلة من الانتصارات المذهلة» جعل داود 
إمبراطوريته تمتد من بحيرة حمص (لبنان) إلى مدينة عصيون جابر على 
البحر الأحمر. فجاء جميع زعماء القبائل إلى الملك في الخليل. وعقد 
ا e‏ ا 
امع ردیل ألقاف ملك مرا وار ارد رر ی وات 
شعب عموق» وحاكماً على الآراميين اد مشق) ومملكة إدوم» وملكاً على 
مؤاب وصوية. 

وهكذا سكن الملك داود فى الحصن وأطلق عليه اسم مدينة داود. 
وشيد بنايات من حولها. وأمر ببناء معبد لإيواء قدس الأقداس» تابوت 
العهد"» لكنه توفي قبل بدء البناء. ولحماية مملكته المتحدة» دعا داود 
إلى تأسيس جيش قوي» وهو الأداة التي يمكن أن يملي عليها إرادته؛ 
كانت التغييرات الكبيرة التي حدئت في القوات الإسرائيلية بمثابة مقياس 
للتغييرات التي حدثت في البلاد خلال هذه الفترة 5. بينما كان داود متشغلة 
بإدارة مملكته ذات المساحات الشاسعة من خلال إنشاء نظام سياسي 
يوحد تجمعاً فضفاضاً من القبائل في دولة متماسكةء يديرها بكفاءة من 
ول نظام EN‏ لفلسطينيير" لم يستكينوا وجمّعوا جيشاً 
ا . وحين سمع الملك داود بذلك قال: تقض غلرهم متلما فد 
ندى الصباح على الأرض الجافة ولن ينجو منهم أحد. . بمجرد رحيلهم» 
2- - في كتاب الحوليات الثاني الجزء ء 32 هناك إشارة إلى قئاة مائية» دافع بها الملك حزقيا 

عن القدس ضد الملك الآشوري سنحاريب» تبدأ من نبع جيحون وتؤدي إلى مديئة 


داود. 


3- المحفوظة فيه ألواح العهد. المترجم. 
-55- 





يمكنني أن أعيد بني إسرائيل إلى السلام. لقد فعل ما وعد به وانقض على 
طليعة قوات عدوه في وادي ريفايم» التي وفعت في كمين في غابة من 
أشجار التوث. قام بإبادة طليعة قوات العدو واشتبك مع القوة الرئيسة 
للفلسطينيين في مدينة ميثيجاما9" فى السهل الساحلي» حيث هزمهم. 
بعد ذلك غزا السهول الساحلية حول يوبا (يافا) وقلّل من معاقل الكنعانية 
المتبقية. ثم تحرك مع الجنرال يوآب لمواجهة الموآبيين» الإدوميين 
والعمونيية. قم 97 وَالشَّعْتُ الذي مَعَهُ لِمُحَارَيَة بة ارام وَلَمًا خي 
داو مع كل إِسْرَايلَ وَعَبَرَ بر الأَزونَ و جیا اضف وام 
للقاءِ داود وحاربوه. وََتلَ دَاوْدُ مِنْ أَرَامَ سَبْعَ مِئَةَ مَرْكَبَةِ وَأَربَعِينَ الف 
ارس (سفر صموئيل الثاني الإصحاح 10 الآيات 13 -18). وبينما کان 
ديك ممصي ماديا ANT GS‏ 

ضده. فكمن لها داود في وادي اليرموك. وبقضائه عليها قضى على آخر 
تهديد واجهه. وبذلك سيطر داود» ملك إسرائيل الموحدة» على جميع 
الطرق الرئيسة المؤدية من بلاد الغرب ومصر إلى آسيا الصغرى. من 
عمق اليأسء أنقذ داود إسرائيل» من نير الفلسطينيين ومنحها العظمة. 
وباعتباره ملكهاء كان عليه حماية شعبه» وصدٌ الاعتداءات الخارجية 
وكذلك التحديات من الداخل. وما تبقى تبقى من حكمه لم يكن سهلا 
وات لطع اليل ار وارد ا ب فقد قام أولاً 
ا الل ا وأخذ له زوجة ثانية» 
أخينوعم» والتي أنجبت له ابنه أمنون. عندما اغتصب أمنون أخته غير 
الشقيقة ثامار (من زوجة داود بيتشبع)ء انتقم شقيقها أبشالوم لها وقتل 
أمنون. تسبّب ذلك بنشوب نزاع دموي بين العائلتين الملكيتين. وأخيرأ» 


ثار أبشالوم ضد والده. ا وراص فد جار فور 
الطويل في أغصان شجرة صبار وانتحر 





14- 2 الاصل مدينة زمام القصبة وجاءت و في التر جمة العبرية «لجام الأمة». 


-56- 


كان خليفة داود (تولى السلطة 1006 ق.م) هو ابنه الثاني من زوجته 
بيتشبع» سليمان (ولد في 965 ق.م)» الذي أعاد تنظيم الجيش» وأخذ 
ما هو مذكور في كتاب الموتى المصريين7"» وجعل من العربة الحربية 
سلاحه الرئيس في الهجوم... وبات يعرف منذ ذلك الحين بسليمان 
الحكيم. أنجبت اثنتان من البغايا في اليوم نفسه. في الليل» خنقت 
إحداهن طفلها بطريق الخطأ أثناء نومها. واستبدلت طفلها الميت بطفل 
جارتها. في الصباح» عرفت أمه الحقيقية» بحادثة التبديل» فاقتادت المرأة 
الأخرى لتقف أمام الملك. وبدا اتخاذ قرار عادل أمراً مستحيلاً. لذلك» 
أمر الملك بأن يقسم الرضيع إلى نصفين مع إعطاء نصف لكل واحدة. 
قبلت إحداهما الحكم» لكن الأخرى جثت على ركبتيها وصاحت بألم: 
«لاء توقف! أتوسل إليك» دع الطفل يعيش. سلمه إلى هذه المرأة قطعة 
واحدة». عرف سليمان أن هذه الصرخة قد صدرت من الأم الحقيقية 
فأعطاها الرضيع 

كان الملك سليمان هو باني إسرائيل العظيم. أنهى بناء الأسوار 
المحيطة بالقدس. والأهم من ذلك» ركز على العمل الذي وعد به والده؛ 
وهو بناء المعبد اليهودي أو ما يعرف بهيكل سليمان. كان هذا الأثر يحوي 
في الأصل على تابوت من خشب الأرز الصرف» منحوتاً من قبل أفضل 
الفنانين وتم طلاؤه بالذهب الخالص. قام اثنان من الكاروبيم©" بنشر 
أجنحتهم على التابوت» رمزاً لوجود الله وليمثل موقعاً لحشد جيوش 
للقبائل. استغرق الأمر من أفضل فناني صور مدة سبع سنوات حتى تم 
تكريس المعبد مكاناً مقدساً يعبر عن الدين الإسرائيلي التوحيدي المميز. 
ارتفعت أساساته المتكونة من كتل رباعية الزوايا على طول جانب الجبل. 
وأصبح جزءاً منه يشكّل حائط المبكى. 
5- كتاب الموتى هو مجموعة من الوثائق الديئية والنصوص الجنائزية التي كانت 

نُستخدم في مصر القديمة» لتكون دليلاً للميت في رحلته إلى العالم الآخر. . المترجم. 


16 - جوقة من الملائكة مذكورة في عدة مواضع من الكتاب المقدس» وتعتبر أحد أقسام 
الملائكة فى اليهودية والمسيحية. المترجم. 





-57- 


ما كان يبدو وقت راحة وسلام طويل الأمدء لم يكن سوى الهدر, 
الذي يسبق العاصفة التي ستؤثر على مصير بني إسرائيل. رحل سليمان 
عام 926 ق.م. ورحل معه حلم إقامة إمبراطورية إسرائيلية موحدة. وخلف 
ابنه رحبعام (تولى السلطة عام 926 ق.م)ء الذي لم يستطع إيقاف التنافس 
الذي تجدّد بين القبائل الشمالية والجنوبية. انشطرت إمبراطورية داود 
وسليمان الموحدة إلى مملكتين منفصلتين» هما يهوذا وإسرائيل» ودخلا 
في قتال بينهما على مدى المائتي سنة التالية» مما أدخل الفرحة في قلوب 
جيرانهم. هوجمت البلاد من ثلاث جهات: من المصربين في ميناك 
والموآبيين من مرتفعات الجولان» والفلسطينيين على طول نهر الأردن. 
اندلعت المعارك في إسرائيل ويهوذاء حول من ينبغي أن يكون الملك. في 
النهاية» تولى أحاب» ابن عومري» القيادة وقاتل الآراميين إلى أن أوقفهم 
عند مرتفعات الجولان. ولكن أحاب هوجم من قبل رامي سهام آرامي؛ 
أطلق سهماً نحو صدره. وعلى الرغم من جرحه المميت» فقد ظل أحاب 
يقاتل حتى حقق النصر ببسالة. 

كيف لنا أن نعرف كل هذا؟ في عام 1868» كان فرانسوا كلاين» أحد 
المبشرين من منطقة الألزاس» يمتطي حماره عبر صحراء سيناء عندما لفت 
انتباهه لوح من البازلت الأسود يبرز من وسط الرمال. قفز الأخ كلاين 
عن دابته واكتشف أن الحجر كان مسلة منقوشاً عليها كتابة قديمة. قبل أن 
يتمكن من فك بعض رموزهاء كان عدد من العرب المبادي ا 
به ويهددون حياته إن لم يدفع لهم فدية ضخمة. ولكونه راهباً فقيرا تم 
إطلاق سراحه أخيراً بدون أن يحمل الحجر معه. . وفي القدس» كشف 
حكايته المرعبة لفرنسي 8 هو كليرمون جانوء الذي جعل الراهب 
يرسم له خريطة الموقع قبل أن يهرع لتفحصه. بالكاد صدّق الفرنسي 
عينيه: في النصف المدفون في الرمال كان هناك جرح 1 الكنان ادس 
الأصلي. بعد النظرة الأولى؛ أدرك أ نه مكتوب بلهجة أقوام الموآبيينء 
والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعبرية القديمة. بدأ الحفر بحماسء وكما 

-58- 


حدث مع الأخ فرانسوا من قبل» وجد نفسه محاطاً بمجموعة من العرب 
وهم يصرخون. لقد اتهموه بالسرقة؛ وكانت العقوبة هي قطع يد السارق. 
لم يكن كليرمون جانو عالم آثار فحسب» بل خدم في السلك الدبلوماسي 
الفرنسي» وكان دبلوماسياً بارغا تد اللعة العربية. وباستخدام الهدايا 
والكثير من المداهنة تمكن من تهدئتهم. بمجرد أن وعدهم بشكل جاد 
أنه سيعود ومعه مبلغ كبير من المال لشراء الحجرء سمح له العرب بفرك 
الحجر باستخدام الفحم والورق. وقد ثبت فيما بعد أنها كانت بداية جيدة. 

وقد ورد في الحجر ما يلي: «آنا ميشع» ابن كاموش» ملك موآب)... 
لقد بنيت هذا المكان المقدس لذكرى كاموش» إله أقوام الموآب» كملاذ 
وملجاأً؛ لأنه أنقذني من كل الظالمين ومنحني السيادة على كل أعدائي. 
كان عمري ملك إسرائيل واضطهد شعب موآب عدة أيام» لأن الإله 
كاموش كان غاضباً على أرضه. وخلفه ابنه وقال أيضاً: سأضطهد شعب 

ب... لكنني انتصرت على عمري واستوليت على منزله: وأهلكت 
إسرائيل إلى الأبد... حدث ذلك سنة 840 ق.م» وأعلن كاموش ملك 
شعب مؤاب النصر العظيم على بني إسرائيل: «لقد هلكت إسرائيل إلى 
الأبد...». كان ذلك هو السطر المهم في المسلةء لأنه يشير إلى الملك 
المكروه جيحورام. كان هذا هو الدليل الأخير على وجود جيحوراءء 
مما يشت قصة سقوط إسرائيل عندما نقض أبناؤها عهدهم مع ألرب: 
وانصرفوا عن آلههم يهوه وعبدوا آلهة وثنية. قدم جيحورام القرابين لنبعل 
(أي الإله) الوثني ولم يصل إلى الرب. sS‏ 
لِعَمَلٍ السَّرّ في عَبْني الرَبّء الذي أغوَنَه إيزابيل اعرأثة اد سير 0 
الأول 21. 25). وهكذا فإن مسلة الباز زلت - أقدم وثيقة كتابية - أكذت 
هذا الأمر! لقد أخبرتنا كيف تم تحطيم جيش أحاب العظيم؛ ولم تنخ 
سوى عشر من عرباته الحربية التي كان يبلغ عددها آلف عربةء لأن ملك 
سوريا قد دمرها وجعلها مثل الغبار الذي يتناثر من حول درّاسة الحبوب. 
كان ذلك مصير أولئك الذين ابتعدوا عن الرب. 


50 


أخذ كليرمون- جانو الحجر إلى باريس» حيث قام أعضاء الأكادبي 
بتكريمه وقدموا له المبلغ المطلوب لشراء اكتشافه المثير. لكن ما وجل 
عند عودته لم يكن حجرأ بل مادة لزجة سوداء قبيحة المنظر وسط 
الرمال! لقد اختفت أقدم وثيقة مكتوبة للكتاب المقدس. كان الجشع هر 
الدافع وراء ذلك. استخدم العرب البارود لتحطيمه؛ على أمل الحصول 
على سعر أفضل عن طريق بيعه بتكسيره إلى آلاف القطع”"... 

ودر مرة أخرىء لنفق المياه أن يلعب دوراً حاسماً في تاريخ القدس. 
في السّنَة الرّابعَة عشَّرَةَ للملك حَرْقِيًا صَعِد سَنْحَارِيبٌ مَلِك أشورٌ على 
جوِيع مدن يَهُودًا السَصِيئَة وأحَدّها...؟ (سفر الملوك الجزء الثاني 18: 
3). بعد الاستيلاء على مدينة لخيش المحصنة29» وتهديد سكانها 
بالكامل» كان الحاكم الآشوري في طريقه لاقتحام القدس (سنة701 ق.م). 
«وَأرْسَلَ مَلِكُ اور ران وَرَبْسَارِيسَ وَرَابْمَاقَى من لَخِیش إِلَى المَلِكِ 
حَرقِيا بِجَيْشٍ عَظِيم إِلَى از (سفر الملوك الجزء الثاني 18 17). 
مع التهديد بحصار طويل الأمدء أدرك الملك حزقيا أن الخطر الوحيد 
على مدينته المزودة بالغذاء ومستلزمات العيش بشكل جيد والمحصنة 
بشدة يكمن في قلة المياه. لذلك» أمر بشق قناة مجوفة من الصخرء بطول 
0 مترء توجه المياه من نبع جيحون» «الموضع الذي تخرج منه فقاعات 
الهواء»» إلى بركة سلوان» داخل أسوار الدفاع الثانوية في القدس. «وهكذا 
قام حزقيا نفسه أيضا بوقف مجرى مياه نبع جيحون العلوي» وتوجيهه 
مباشرة إلى الأسفل نحو الجانب الغربي من مدينة داود»١٠.‏ 

تمّ اكتشاف النفق في عام 


0 عندما سقط صبي عربي في حوض 
للسباحة» ووسط حالة من الذ 


عر أصابته ليحافظ على رأسه فوق الماءء قام 


لام مح ادر لتر ل 
7- تم استرداد مسلة ميشع جزئياً. فقد تم تجميع 


کک ر قطعتين كبيرتين منها وثمائي عشرة 
شظية صعر وهي معروضة في متحف اللوفر 
8]- زر 


ا 0 1 : بعد القيام به حها و تنظره . 
توجد ره سحت عن معركة لخيش في المتحف البريطانى فى لندن. 
9- كتاب الحوليات الجزء الثاني 32 30. لاه 


-60- 


بالتجديف إلى الطرف الآخر. وهناك؛ عند قطعة من الصخر» وجد ممراً تحت 
الأرض. . كان نبوباء عرضه حوالي 80 سم وارتفاعه 1.5 مترء وقد تعرج مثل 
ثعبان أسفل وادي الكدرون. هذه الحقيقة حيرت علماء الآثار: لماذا لا يحفر 
النفق في أقصر الطرق الممكنةء وهو الخط المستقيم؟ ثم خطر في بالهم 
الاعتقاد القديم بأن المقابر الملكية لداود وسليمان كانت موجودة في مكان 
ما هناك» وكان الملك حزقيا يرغب في حماية هدوء أجداده العظماء وهم ش 
موتى. لم يتم العثور على مثل هذه المقابر أبداً. وما هو على الأرجح» أنه مع 
وصول الجيش الآشوري خلال أسابيع إلى القدس» وقيام العمال بحفر النفق 
بشدة من كلا الطرفين» فشل الفريقان في التلاقي بعضهم ببعض. على الرغم 
من وجود كتابة على جدار النفق* تمنع ذلك» انتهت عملية الحفر وأثناء 
قيامهم بإزالة الحاجزء كل منهم باتجاه زميله» ومع أنه تبقت هناك مسافة 
ثلاث أذرع يجب أن يتم حفرهاء أصبح بإمكان أحدهم أن يسمع صوت 
الآخر. ثم تدفق الماء من المصدر إلى البركة بطول آلف ومائتي ذراع... 
تمكنت القدس من الصمود بسبب توفر إمدادات المياه لديهاء واضطر 
سنحاريب ملك الآشوريين إلى رفع حصاره عندما تمٌ إبلاغه أن قوة مصرية 
و e‏ ا 


2 
ا‎ EE 


رابگر اذام بجويعً جك م yy‏ 
وَذهَبَ بَ رَاجعاً) (سفر الملوك الثانى الجزء 9 36-35). لقد تسبب النفق 
١غ‏ كلف د اوها عرعرت او ا مات 
عن النفق. لقد تج الاقتحام خلسة. 0 بذكاء لامعجزة أرشلتها 
السماء» مع نصر نفسي مذهل ووحد | سرائيل ويهوذا حول عاصمة 
واحدة» هي القدس. كانت المدينة هي حجر الزاوية الذي أرسى قاتل 
العمالقة بواسطته الأساس الذي حوّل مملكته المتحدة | ة إلى قوة عظمى. 





0- قطعها الأتراك في نهاية القرن التاسع عشر ووضعت في متحف في اسطنبول. 
-61- 


الجرء الثاني 
الأبطال 


479-491 ق.م 
(من ملتيادس إلى ثيميستوكليس) 


«لذلك أهلك كل من فعل ذلك مرة أخرى...» 


-63- 


الفصل الثالث 
صرخة ولادة أوروبا 
معركة ماراثون 
1 أيلول 490 ق.م 


لقد انتصرنا! 


۰ فيديبيدس» جندى يونانى» 490 ق.م. 
يديبيدس» جندي يوناني م 


دخل العالم القديم في دوامة من الاضطرابات. ومثل سحابة من 
الرعد انطلقت قبيلة من المحاربين المخيفين من الشرق. اجتاحوا آسيا 
الصغرى وقاموا بتصفية أسرها الحاكمة. قام زعيمهم» الذي أطلق على 
نفسه اسم أمير آنشان-کورش» بتغيير اسمه إلى کورش» وبذلك امتدت 
هيمنته إلى بلاد فارس. تحت حكم کورش» أصبحت بلاد فارس قوة 
عسكرية. لقد جمع جيشاً لغزو مملكة ليدياء حيث أقام ملكها كرويسوس 
تحالفاً متسرعاً مع مصر وبابل ودولة محاربة ناشئة حديثا: هي أسبرطة. 
في 546 ق.م» غزا قمبيز -نجل كورش ملك بلاد فارس- مملكة ليديا 
وهزم كرويسوس بينما أخذ كورش جيشه لمهاجمة بابل. مع وفاة الملك 
بلشاصر في معركة طيسفون (30 تشرين الأول سنة 539 ق.م)» سقطت 
بابل بيد كورش. نال كورش لقب «ملك بابل وسومر وأكد وجهات 
العالم الأربع». تقدم مع جيشه على طول طريق مجدو نحو مصر. 
اشتبك مع المصريين ثم هزمهم بالقرب من منطقة رمانة شمال سيناء. 

-65- 


في عام 528 ق.م» ل ملك الجهات الأربع في العالم خلال مناوشات 

مع السكيثيين. 

في عام 521 ق.م؛ عيّن داريوش حفيد كورش عدداً من الساترابات". 

تبنى داريوش مخطط الملك كرويسوس الفخم عندما فر اء اطول 
yT‏ وطرقه التجارية. ونظراً لأن 
السفر البري من مقاطعاته الغربية إلى مقاطعاته الشرقية كان يستغرق بعض 
الوقت» وكانت القوافل لا تحمل سوى كمية محدودة من البضائع» فقد 
أمر خف قناة الم الأول 

كان حكم الملك داريوش الأول بداية تطلعات بلاد فارس نحو 
أورويا. . في اللحظة التي قاد فيها داريوش جيشه العملاق عبن وصق 
هيليسبونت©» دخل في نزاع ليس فقط مع رماح هیلاس* ولكن أيضاً 

مع ثقافة الغرب التي دافع عنها الإغريق. . وعلى مدى الما تي عام التالية) 
و و ا 
مثيلاً لها في نطاقها ودمارهاء - ولم يتم تجاوز مدياتها أبداً إلى أن تم تدمير 
جيوش الإمبراطورية الأوروبية على يد نابليون» بعد خمسة وعشرين قرنا. 

في سنة 520 ق.م» بدأ داريوش بالتخطيط لغزو العالم المعروف 
آنذاك. بدأ ببناء مدينة برسبوليس» وهي مدينة رمزية تليق بالملك الإله» 
حيث كانت التجارة ممنوعة فيها ولا تتم فيها أية أعمال إدارية. كان يسمح 
للشامان (الكهنة) فقط دخول المجمع المقدس. كان الفرس يبجلون 
نار زرادشت ويعبدون ميثرا الإله الزرادشتي. وكان ملكهم يشيد بالإله 
أهورامزدا باعتباره «الشخص العظيم الذي خلق الماء والأرض» ورجاله 
وخلقني أنا داريوش!» وعلى شرف إلهه. أمر دا ريوس بذبح الخيول 
خلال الاحتفالات التي كانت تنتهي بهلوسات نشوات وثنية» سببها تناول 





1- اللقب الرسمي لحاكم المقاطعة في الدولة الميدية ثم الفارسية القديمة. المترجم. 
2- في تركيا 


-66- 





الكثير من المشروبات المُسكرة. أصبحت مديئة برسبوليس تمثل رمزاً 
للإمبراطورية الفارسية. وتم تصميمها للاحتفال بيوم الانقلاب الصيفي. 
يوم انتصار الشمس على القمر. عند كل يوم 21 حزيران» وفي تمام الساعة 
السادسة وعشر دقائق» عندما يكون أول شعاع من كرة حمراء ملتهبة قد 
ارتفع فوق أفق الصحراء واخترق قاعة التاج الرائعة» كان صاحب الجلالة 
المهيب الملك داريوش يواجه الشمس ليقول: «أناء داريوش» الملك 
العظيم» ملك الملوك» ملك الكون وجميع من ينطق بكلمة في الأراضي 
القريبة والبعيدة» أقدم لك التحية أيتها الشمس». 
كانت طموحات الملك داریوش» لا يوازيها شیء سوى نمط حياته 
القاخرء لذأ ود اشاهه إلى الغرب. لد كان كاف أن يشاهد المزء قواثه 
تمر في موكب احتفالي ليعرف أنه لا يوجد شيء على هذه الأرض يمكن أن 
يقف أمام رغبته في الهيمنة العالمية. قرر داريوش أن تكون بلاد فارس هي 
مركز الکون» وأن أي شخص آخر لن يكون سوى حاكم صغير لمقاطعته. 
ومايقرره داريوش كان يُنَفُذْء لأنه كان يمثل صوت الإله. في سنة 512 ق.م؛ 
3 جيش قوامه مئة ألف فرد» تم م تحريكه وتزويده ب 300 سفينة» عبر 
مضيق البوسفور توجه لملاقاة السكيثيين للانتقام لمقتل جده. وبدلاً من 
الصمود والقتال» قام السكيثيون بتخريب الأرض. تورط جيش داريوش 
في الدخول إلى مستنقعات كثيفة في دلتا نهر الدانوب» وتحول الملكء 
الذي سكم من مطاردة الأشباح؛ | إلى الشمال» وقام بغزو أوكرانياء والانتقال 
عبر نهري الدنيبر ودونتس» والوصول | إلى أقصى الشرق حيث نهر الفولغاء 
قبل أن يأمر بالتحول والتوجه جنوباً نحو مقدونيا. خشي الإغريق من رغبته 
في تنفيذ المشروع الذي بدأه جده كورش الكبير وهو دمج سكان بلاد 
فارس وبلاد الغرب في | إمبراطورية واحدة شاسعة» وإخضاع مجموعاتها 
الإثنية عن طريق الانضباط القاسي المطبق في إيران. ولكن بعد ذلك بدّل 
داريوش رأيه وعاد إلى وطنه. لتغطة اتسحابف ترك وراءه حيشا تخت قيادة 
الجنرال ميغابازوس» الذي نجح في تقليص رقعة إقليم تراقيا. 
-07- 


بعد وقت قصير من وفاة الملك كورش والصراع الدموي على خلات, 
وقع حدث فى أثينا كان له عواقب وخيمة على مستقبلها. أقامت أثينا 
مركز التجارة والمال والثروة الهائلة» أول ديمقراطية في العالم تحن 
حكم کلیس اصح ذلك ممكنا عندما أطاح ملك أسبرطة بطافية 
أثيناء هيبياس» الذي هرب إلى بلاط الملك داريوش لطلب المساعدة ضد 
بلدته» التى طردته. استقبله داريوش بترحاب وأصبح خطر الغزو الفارسي 
فخا و کان راا هو الدعوة إلى انبثاق الجيش الوطني» تم تقسيعه 
إلى (أفواج) يقودها (جنرالات). سمت القيادة العسكرية الشاملة إلى 
قائد عسكري كبير» ظل تحت الإشراف السياسي لمجلس أثيناء شكلت 
أثينا مع أسبرطة والمدن الأخرى الرابطة البيلوبونيزية. عندما أثيرت مسألا 
من يجب أن يكون زعيماً للرابطة» كانت أسبرطة متفوقة على أثينا في أعداد 
القوات وأصبحت بالتالي قائدها بحكم الأمر الواقع. 

كان المثال الذي ضربته أثينا والمتمثل في الإطاحة بطاغوتها قد 
لفت إليه الانتباه بشدة في مدن آسيا الصغرى المضطهدة» وخاصة بين 
أقوام الإغريق الأيونيين في مدينة أفسس. قبل نصف قرن من الزمان» في 
عام 546 ق.م» هزمت جيوش الجنرال الفارسى هارباغوس الأيونيين 
واحتلت أراضيهم. عندما انتشرت الشائعات بأن داريوش قد هُزْم من قبل 
السكيثيين» هبّ الأيونيون في مدينة ميليتوس للتخلص من ظلم حكامهم 
الفرس (499 ق.م) وطلبوا المساعدة من إخوانهم اليونانيين الساكنين عبر 
بحر إيجه. رفضت أسبرطة الانخراط في قتال لا يهمهاء لكن مدينتي أثينا 
واريتريا تجرأتا على تحدي داريوش باعتباره «ملك الجهات الأر 


العالم» وأ قو 0 
لمث وارسلتا قوة صغيرة. فشلت الثورة الأيونية لأن المدن تنازعت 
حول مسألة القيادة وقد استغل الفرس بذكاء خلافهم الداخلى هذا لإخماد 


ال ف ا" 5 وأ و 1 / ا 
لتمرد (494 ق م): لقد تركت الوحشية التي شحق بها التمرد مذاقاً مريرأ 


١ 8 2 1 |‏ : و 
يستطع ي حاكم فارسي أن يثق بهم تماماً مرة أخرى. 


-68- 


وفي الوقت نفسه» واصل هيبياس» الطاغية الأثيني المخلوع» مؤامراته 
في البلاط الفارسي. وأشار إلى الخطر الذي يواجه الحكم الملكي عندما 
تمّ استبداله بشيء سماه الأثينيون بالديمقراطية. حرضت أثينا على قيام 
التمرد الأيوني» وقد أغضب داريوش كثيراً تدخلها في «حديقته الخاصة» 
لارحة أنه قر ر ادف ماف ولخد مسق ال الا قا 
بتجميع عدد كبير من السفن الحربية بالإضافة إلى قوة برية تزيد عن 
خمسين ألف فرد. لم تكن بلاد فارس تعاني من نقص في القوى البشريةء 
وكان يجب على حكام المقاطعات دعوة كل من لديه القدرة على القتال 
لأداء الخدمة العسكرية. .وتم م إرسال هذه الدعوة إلى المواقع العسكرية في 
TS‏ 
من احتمال قيام ثورة أخرى في وطنهم» مثل تلك التي قام بها الأيونيو 
استولى على الملك داريوش مايسمى بهوس البلينوكسيا يي 
وهي التي وصفها أرسطو في كتابه «السياسة» باعتبارها الوضع الذي 
تستولي فيه على السلطة الرغبة بالمزيد من الهيمنة والنفوذ إلى أن ينتهي 
نبا المطاف و دور ل ي عا 491 قل كان ريرش 
مستعداً لغزو اليونان. من خلال هذه الخطوة الفردية» انطلق أول صراع 
كبير بين الغرب والشرق» والذي سيدوم مائتي عام» وفي النهاية دمر كل 
من بلاد فارس واليونان. 
ا وين الحربي القوي لبلاد فارس تحت قيادة الجنرال 
تيش أن ينزل في خليج ماراثون ليغري الجيش الوطني الأثيني للخروج 
0 . فيما كان على الأسطول الثاني تحت قيادة أرتافيرئيس حاكم 
ليدياء أن يبحر من حول منطقة أتيكا ويهاجم أثينا. كانت خطة داريوش 
الاستراتيجية ذكية» لكن تتخطيطه التكتيكي كان غير كاف واستند إلى الثقة 
المفرطة بالتفوق العددي. عندما وصل داريوش إلى مضيق البوسفور 
وأعجب بما شاهده وهو في غرفة قيادة يخته الملكي» أمر بوضع حجر من 
الرخام الأبيض بجانب شاطئ البحرء يحمل أسماء - جميع الأمم والقبائل 
-69- 


التى كان يقودها». وسرعان ما أضاف حجراً آخرٌ يحمل أسماء أكثر - 
مثل طيبة وأثينا وإريتريا وكورنئوس. تلك كانت خطته© في الأشهر الأولى 
من عام 490 ق.م» أبحر اثنان من الأساطيل البحرية للملك داريوش 
من جزيرة ساموس. ذات نهار وقد كانا في عرض البحرء تم رصدهما 
بواسطة سفينة تجارية يونانية» وتمكنا من الفرار من متتبعيهما وهرعا 
بالأخبار إلى أثينا. لم تكن الدولة المدينة") في وضع يسمح لها بمواجهة 
قوة بلاد فارس بمفردهاء فدعت شركاءها في الرابطة البيلوبونيزية لتقديم 
المساعدة الفورية... وبأقصى سرعة تم إرسال ما يشبه البرقية العسكرية 
(كانت مطوية ومكتوبة على ورق البرشمان تنضمن دعوة جميع الدول 
0 
أعضاء الكونغرس الهيليني. لقد عهد الآثينيون بهذه يقه | 

أفضل عدّاء لديهم» الذي فاز بالألعاب الأولمبية. کان چ فيديبيدس) 
وقيل إنه قطع بشكل لا يصدق مسافة 250 كيلومترا في أقل من يومين. 
وعد سكان قرية بلاتايا بتقديم مساعدة فورية» وكذلك فعل الأسبرطيون» 
ولكن فقط بعد مهرجان كارنيا الديني» الذي يقام في 20 أيلول. عندما عاد 
فيديبيدس حاملاً ردهم إلى أثيناء غضب مواطنوها وعبروا عن سخطهم 
بأقسى العبارات بحق أسبرطة بسبب رفضها الاندفاع لدعمهمء معتبرين 
ذلك بحق» بمثابة خيانة لاتفاقهم. أصبح الموقف أكثر خطورة حيث 
كانت التقارير ترد عن هجوم وشيك لجيوش الفرس. جرت مراسم توديع 
قوة الدفاع الو حيدة الموجودة والتي كانت مستعدة للقتال ومن دول 
جامد من ا ولعي ای الوطني:الدى بن ب صل ندا قن 
أثبناء والذي يبلغ قوامه عشرة آلاف فرد» وكان بإمرة القائد كاليماخوس» 
وديعا مهما تملك دمو الامهات ررر چا توو شاو أيدئ الارن 


(Herodot, Hiolorcs 1۷( عى‎ 4 


5 الم هما ر السايق هه 


6 دوله ص هره مؤلفة من 


J 


a AS 


مده واحدة ويشمل هدا الاصطلاح مدن أثينا وروما وغيرها. 


-70- 


ودعوتهم إلى إيقاف الخطر الفارسي. وفي وسط عجلتهم للوصول إلى 
منطقة ماراثون قبل الفرس» ترك الأثينيون وراءهم دوابهم وعرباتهم التي 
تحمل المؤن وطلبوا من السائقين اللحاق بالركب قدر المستطاع. زادت 
القوات من طول خطوات مسيرها. كانت العقبة الرئيسة هى تدفق الآلاف 
من اللاجثين مثل تيار لانهاية له باتجاههاء وهم يمسكون بأطفالهم وحزم 
ممتلكاتهم. لكنهم تمكنوا من تحاشيهم بطريقة أو بأخرى وقد أثبتت 
هذه المسيرة القسرية التي قام بها القائد كاليماخوس ومقاتلوه الأثينيون 
أنها كانت حاسمة. فقد حالفهم الحظ في اللحظة التي خرجوا فيها من 
الجبل إلى شواطى ماراثون» حيث التقوا مع ألف مقاتل إضافي من سكان 
بلاتياء ظهر الأسطول الفارسي عند رأس خليج ماراثون وألقت سفنه 
مراسيها عند الخليج. لقد أصبح قريباً. أحدثت بضع ساعات كل ذلك 
الفرق. لقد عرقلوا خطة جيوش الفرس عن طريق تقدمهم بسرعة. 
انطلق الجنرال الفارسي داتيش بجيشه بشكل جيدء لكن لم يعد 
بإمكانه الانتشار على طريق أثيناء حيث كان يعسكر الأثينيون وحلفاؤهم 
على طول ذلك الطريق» بالقرب من ضريح هيراكليس. ترك هذا الأمر 
الجنرال الفارسي محاصراً ما بين الممر الجبلي الذي يسيطر عليه 
الإغريق أمامه والمحيط الذي من خلفه لعن فشاك لحني عفر الفا 
من رجاله وراء أحد الأهوار ليكون بمثابة حماية لها. . لم يحدث أي شيء 
لمدة أسبوع» باستثناء ء غارة يونانية عرضية» أرسلت ليلا لاعتراض قوارب 
محملة بالإمدادات. كان كلا الجانبين في حالة انتظار وهما يواجهان 
أحدهما الآخر, كان داتيش بانتظار لنتيجة الهجوم على إريتريا من قبل 
الجيش الفارسي الثاني تحت قيادة أرتافيرئيس» فيما كان الأثينيون يصلون 
من أجل الوصول المبكر للفرقة التي وعد الأسبر طيون بإرسالهاء فر عدد 
من الإغريق الأيونيين» الذين أجبروا على مساعدة الجيش الفارسي» من 
معسكر داريوش وانضموا إلى قوات كاليماخوس؛ تم إرسال بعضهم سراً 
إلى معسكر العدو من أجل تحريض إخوانهم نهم الأيو نيين: «إذا كان يجب 
71 


نصيحةستكررعدةمرات خلال لرن الین 

حصاراً طويلاً على إريترياء بدأت استراتيجية الفرس تنصدع. بعد فشلهم 
في الاستحواذ على الممرات» اضطر الفرس إلى تغيير خطتهم. كان الحل 
الواضح هو إعادة تحريك قوات داتيش والانتقال إلى أثينا عن طريق البحر. 
لذلك» كان من الأهمية بمكان بالنسبة لليونانيين إبقاء الجيش الفارسي 
محتجزاً في خليج الماراثون على عكس ما كان يزمع الفرس في البداية من 
أن يسحبوا الأثينيين بعيداً عن مدينتهم. وبعبارة أخرى» كانت أثينا في مأمن 
من الهجوم طالما كانت بلدة إريتريا قادرة على الصمود أمام أرتافيرنيس؛ 
وأصبح داتيش عالقاً في مستنقعه. ولكن بعد ذلك جاءت الأخبار السيئة: 
تعرضت إريتريا للخيانة واستولى الفرس على المدينة. بات كل شيء 
الآن يتوقف على ماراثون. أصبح لزاماً على القائد كاليماخوس أن يعد 
العدة لمعركة ذات نتائج إيجابية» ثم يهرع بعدها لحماية أثينا من خطر 
أرتافيرنيس؛ أو على الأقل جعل الأمر باهظ التكلفة بالنسبة إلى داتيش 
لدرجة أنه يحتاج إلى وقت لإعادة تجهيز قواته. عرف كاليماخوس أنه لا 
يستطيع الاعتماد على وصول الفرقة العسكرية من أسبرطة إلا بعد انتهاء 
احتفالاتهم الدينية؛ وسيكون ذلك مساء يوم 21 أيلول على أقرب تقدير. 
عندما أصبحت الأمور عاجلة» وصل خبر جديد سيئ: جيش أرتافيرنيس 
يستعد للتوجه إلى أثينا. .كان من المتوقع أن يصل إلى المدينة خلال أسبوع. 
بالنسبة للرجال الموجودين في ماراثون» أصبح الموضوع الآن مسآلة أيام؛ 
إن لم يكن ساعات. . عقد كاليماخوس مجلساً حربياً . ولكونه لا يزال دون 
فعالية كافية» فقد التمس الحذو- لم تكن تشكيلات الهويليك” إلى همه 

| 5 ا . 

من فوات المشاة النخبة قوية بدرجة كافية لإنجاز المهمة. لکن الوقت 


7 ي الهوبليت» هو الجندي المدني في المديئة الدولة و 


0 في اليونان القديمة. 


72- 


نفسه» هل يتمكن الأسبرطيون من تجميع قواتهم ولعب دور حاسم؟ كان 
الوقت يضغط عليه» ولم يكن الأسبرطيون قريبين. لقد كانت هذه هي 
الديناميكية التي كان على كاليماخوس التعامل معها. لقد أدى ذلك إلى 
نقاش عنيف» كانت خطة القائد للمماطلة تواجه تحدياً شديداً من قائده 


الأعلى الجنرال ملتيادس المسؤول عن كل الوحدات. 


Marathon 
21 September 490 BC 


Bay of Maraihon 





كان ملتيادس المولود فى أثينا قد استولى على السلطة في شبه جزيرة 

خيرسون بالقوة وأصبح طاغية عليها. وعندما اندلع تمرد محلي» تم طرده 

من عاصمته كارديا وهرب عائداً إلى أثيناء حيث تم الترحيب بوصوله 
-73- 


OTT‏ إلى المجهود الحربي. لكنه أثار أيضاً أزمة سياسية. 
كان ملتيادس معادياً للفرس بشدة وانضم إلى مجموعة الأرستقراطيين 
في حزب الديمقراطيين في سعيهم لمحاربة داريوش. . كان قد عبر بقوة 
عن رأيه بأنه يجب إيقاف داريوش قبل أن تتاح له فرصة السير نحو أثينا. 
كان مشروع الملك الغازي الفارسي واضحا: : قهر أثيناء وعزل أسبرطة 
وبعدها ستسقط بقية اليونان بين يديه من خلال استخدام أساليب الإرهاب 
المطلق؛ وبعد ذلك يقوم بتثبيت بتشبيت الطاغية المخلوع لأثيناء هيبياس» كملك 
ينوب عنه. عندما رفض ا الجمعية الاستماع إلى ملتيادس» صرخ 
غاضباً: إن نبوءة القدر هي التي حتمت قدومي إلى أثينا. لأن هناك أشياء 
رهيبة على وشك الحدوث وستكون هناك حاجة لرجل مثلي. توصل 
مجلس الحكماء إلى حل سياسي ديموقراطي نموذجي: تم اختيار 
الديموقراطي كاليماخوس كقائد عسكري وملتيادس المحافظ كمستشار 
عسكري له. 

كان ملتيادس» الذي حمل كراهية لها ما يبررها منذ اليوم الذي توجب 
عليه أن يشهد الغارة التي قام بها الفرس وتسببت بمقتل والده» يعرف 
طرقهم أفضل من أي شخص آخر في المعسكر اليوناني. وبات يدعو 
الآن إلى تنقيا ضرت غاتعلة. كان قلقه وما فر د اجى الاش 
وفرسانه بالنزول | إلى البحر المفتوح» لم تعد هناك طريقة لمنعهم. وما 
دام أنه قام بالفعل بالتحضيرات» فهذا يعني ضمناً أن الأثينيين لا يمكنهم 
انتظار الأسبرطبين. كانت حجة ملتيادس قوية» لكن المجلس الحربي 
المؤلف من عشرة جنرالات كان ما زال متردداً؛ ثم طلب ملتيادس طرح 
اقتراحه للتصويت. وكان أربعة لصالحه» ضد خمسة. التفت حينها إلى 
كاليماخوس» الذي حصل على التصويت الحاسم. أعطى القائد العسكري 
موافقته على الخطة. باتت المسألة الآن تتعلق بالتوقيت. لم يتمكنوا من 
الاتفاق على ذلك. ٠‏ ومن أجل الإسراع في المعركة في صباح اليوم التاليء 
ذهب ملتيادس صباحاً لزيارة المقاتلين» وإ وإثارة حماسهم بشعارات وطنية: 


-74- 


«إنها أثينا العظيمة» أثينا التي لا يمكن أن تتنازل» كل واحد منكم ومنذ 
ولادته قد رضع هذه المبادئ مع حليب أمه). ولكونه ماكر أكثر منه 
شرساء فقد ناشد شرفهم وشجاعتهم. أقنعهم أن الفرس يريدون كل شيء؛ 
الاستيلاء على الأرض وشعبها مثل وحش ينتزع الطفل من رحم أمه. 
أجابه الأثينيون بالهتافات الهادرة ولم يعد هناك مجال للتراجع. 

هذه الخطوة أنذرت كاليماخوس باحتمال حدوث تمرد في صفوف 
جيشه»ء فقرر المضي في المواجهة في صباح اليوم التالي. وأوكل ھت 
تنفيذ العمليات العسكرية إلى ملتيادس» وهو عجوز ماكر ضليع جدا 
في أمور القتال ولا ينزعج بسهولة من احتمال مواجهته قوة تفوقه عدة 
وعددا. لقد كان يعتمد على الشجاعة والروح القتالية لجنوده المدججين 
بالسلاح. وكان يعرف قدراتهم وحدودهاء وكان العائق الرئيس لهم هو 
خوفهم المبرر من التقدم المنتظم لصفوف العدو. لذلك كان عليه أن يعيق 
هذا التقدم قبل أن يتخذ تشكيله النهائي. وقرر أن يش الهجوم الأولي 
بتشكيل قتالي مشهور في وقته» يدعى (׫ه1هطم) الفالانكس©. وكان 
جنود المشاة يتشكلون بنقطة مدببة عند رأس التشكيل» تشبه رأس الرمح» 
تخترق خطوط العدو. يوجه أفراد الصف الأول رماحهم إلى العدو في 
حين يسند أفراد الصف الخلفي رماحهم على أكتاف الذين في المقدمة 
لتشكيل كتلة من الرماح. وبعمق يتراوح ما بين ثمانية إلى ستة عشر ر جلاء 
مسلحين بحراب طولها ثلاثة عشر قدماء كانت تلك التشكيلات قادرة 
على القيام بالمناورات الجيدة التوجيه في تشكيلات القتال. وكان الصف 
القتالي الواحد نفسه يسمح بحدوث فجوات ضيقة لتمكين وحدات 
مسلحة أخف وزناً ولكن أسرع مثل حملة الأسهم والرماح بالمرور. 

وقع العبء الرئيس للمعركة على المقاتلين (الهوبليت). كانت 
دروعهم الثقيلة -التروس والدروع والخوذ والرماح- باهظة الثمن» 
ولم يكن يستطيع اقتنائها سوى الأغنياء جداء أصبح حلم كل شاب 


8- هي تشكيلة تكتيكية عسكرية» متألفة بالعادة من المشاة الثقيلة بالكامل. المترجم. 





75 


منذ سن مبكرة أن يتم اختياره في صفوف (الهوبليت). كان تدريبهم 
صارماً وكان الأفضل فيهم يحصل على شرف تمثيل مدنه في المسابقة 
الأولمبية السنوية. كانت أسماؤهم معروفة وكان يتم تقدير أفعالهم . كان 
(الهوبليت) يفضلون القتال في المناطق السهلية» نظراً لتقدمهم بخطوة 
متزامنة» مع الحفاظ على جعل القدم «الضارية» أمام القدم «الثابتة» (الثابتة 
بقوة على الأرض من أجل رمي الرمح). مباشرة خلف تشكيلات مقاتلي 
(الهوبليت) كان يأتى جنود المشاة حاملو الأسلحة الخفيفة» أو ما يعرف 
بمقاتلي (البيسيلو)» الذين يتم تجنيدهم من أبناء الطبقات الدنيا من سكان 
المدن؛ وكان يتم دفع رواتب لهم» ولكن عندما يتعلق الأمر بالقتال من 
أجل وطنهم» فقد كانوا يتقدمون أمام نبلاء الإغريق . كان تسليح (البيسيلو) 
بسيطاً للغاية وكانوا يعتمدون بشكل رئيس على, سرعتهم» وکانوا يندفعون 
إلى الأمام لإطلاق سهامهم أو الرماح. وأخيرا اشركت كل مدينة عدداً 
من كتائب المرتزقة» مثل قاذفي الحجارة الشهيرين من جزيرتي رودس 
وكريت. كانوا يطلقون الحجارة من المنجنيقات» كما فعل داود في 
العصور التوراتية عندما قام بقتل جالوت. لقد قاتلواء وحاربوا بشكل جيد 
من أجل أولئك الذين كانوا يدفعون رواتب لهم. 

ولكن كان هناك اختلاف واحد في قوى العدو. كان جيش الفرس 
يضم مجموعة كبيرة من قارعي الطبول» معظمهم من الميديين (أحد 
أقوام بلاد الفرس) وكذلك قوات مساندة يقودها حكام المقاطعات غير 
الموثوقين؛ فيما كان مقاتلو الهوبليت اليونانيون مواطنين أحراراً من أعلى 
مراتب النبلاء. وباتت تشكيلاتهم السلامية أو الفالانكس (صدلهام) 
تواجه الفرس الآن عبر أرض سهلية تمتد على طول الخط الساحلي؛ 
يحدها مستنقعان. 

عند شروق شمس يوم الحادي والعشرين من أيلول سنة 491 ق.م؛ 
بعد أن خبت نيران حراس المعسكرء باشر الكهنة أعمال سحرهم 
العظيم؛ واستدعاء أرواح الأسلاف لمعرفة ما سيأتي به اليوم التالي؛ 

16 


لقد ذبحوا القرابين للآلهة في جبل أوليمبوس لتمنحهم بركاتها. كانت 
البشائر جيدة. سار طابور مزدوج من الأثينيين إلى الأمام» كان مقاتلو 
الهوبليت في المقدمة» مدعومين بحاملي الرماح والرماة. توقفوا بين 
نهرين صغيرينءهما أفلونا وكارادراء ولم يعد يفصلهم عن مواجهة جيش 
بلاد فارس بقيادة الجنرال داتيش سوى حوالي 500 متر. تسببت صيحات 
الحرب للمقاتلين الفرس وضجيج الدروع في خلق ضوضاء مخيفة 
اجتاحت صفوف الخصم في جميع أنحاء الميدان. اصطف الفرس في 
تشكيل واحد وظهورهم نحو البحرء لم يكن ذلك وضعاً جيداً يمكن من 
خلاله بدء المعركة. لكنه من الناحية النفسية أجبرهم على الانتصار. كان 
البديل هو الغرق في مياه البحر". 

كالواناية المورك على a‏ لم يحدث 
ذلك من خلال التخطيط» ولكن بسبب نقص ذ في الموارد. كان ملتيادس 
يفتقر إلى القوة البشرية اللازمة لضمان تحقيق تقد حاسم في قلب 0 
المعركة» مما أدى إلى أن يقوم بإحداث تغيير جذري في تكتيكاته. قبل 
وقت قصير من بدء المعركة» وبعد دراسته تشكيلات العدوء بدأ يخشى 
من أن ينتقل الفرس إلى قلب قواته» ويقسموا جيشه إلى قسمين ثم 
يدفعون الأجزاء المنفصلة إلى المستنقعات الحدودية. لذلك» أمر رتله 
المتمركز في الوسط بخفض عدد التشكيلات السلامية العادية المكونة 
من ثمانية صفوف إلى أربعة صفوف. كان مدركاً المخاطر التي تنطوي 
عليها هذه العملية» ولكن هذا حرر عدداً كبيراً من القوات لتعزيز جناحيه. 
وأمر الأجنحة بالتحول إلى الداخل بزاوية 45 درجة» مكوناً تشكيلاً بسيطاً 
يشبه حدوة الحصان» وطلب منهم عدم التقدم من دون أوامر محددة 
منه. لم يكن من المحتمل أنه كان على علم بالطريقة التي يتمكن فيها من 
تحقيق انتصاره. 

عند حلول الفجرء خيّمت سحابة من الضباب فوق المنطقة؛ ولكن 





,)5, Rawlinson, History of Herodotus, london, 188O راجم‎ -9 


-77- 


مدنا كوف ال ت يقرنها وبدأت المزامير تصدر أصواتها الصاخية, 
بدأت أشعة الشمس» التي كانت قد توسطت كبد السماء» بالتوهج. كان 
قادة القوات الفارسية قد نظموا جنودهم في صفوف ثابتة» وباتوا يعانون من 
الملل إلى حد كبير ببذلاتهم ذات الجمال الباهت» التي تحوي مجموعة 
من الألوان المتنوعةء تعلوها الرماح اللامعة. تقدم الصف الطويل بيبط 
على الرغم من أن القيام بالهجوم الأمامي على حشود الرماة وقاذفي 
المنجنيق كان بمثابة عملية انتحارية. كان الرماة اليونانيون قد تقدموا أمام 
مقاتليهم الهوبليت. وقاموا بتجميع أنفسهم بطريقة مناسبة لإجراء تغييرات 
سريعة في مدى وزاوية رميهم. تقدم الفرس» كتفا إلى كتف. وعندما 
أصبحوا على مسافة 200 ياردة» عزّز جنود المشاة اليونانيون (البسيليو) 
صفوفهم برشقة من السهام والقذائف. في اللحظات القليلة التالية» كان 
الدمار الناجم عن كل واحد من الرماة الذي كان يطلق ما لا يقل عن عشرة 
حزم من الأسهم 00 كانت الرشقات من الأسهم ذات أجنحة الريش 
تقطع صفوف الفرس» وتكنس الميديين وحلفائهم مثل الأوراق. تعثرت 
الخيول» صرخ الرجال» وفقد داتيش العديد من خيرة مقاتليه فى هجومه 
الأولي. أصبحت صفوف قواته غير متناسقة عندما كان الجنود يتعثرون 
مثل العميان في مسيرهم إلى الأمام؛ ويواصلون المسير من خلال وابل من 
القذائف» يكافحون من أجل البقاء واقفين على أقدامهم طوال العشرين 
خطوة القادمة. أصبح رتل جيشه عبارة عن صف ضعيف وفاتر الهمةت 
حيث استطال إلى أبعد مما كان يرغب. ومع ذلك» بدلا من محاولة إعادة 
یل كولم أمر بمضاعفة الجهود. معتقداً أنه مع كتلة اللحم الهائلة 
هذه يمكنه أن يخترق تشكيلات اليونانيين ذات الرؤوس الحديدية. بالنسبة 
لاولئك الذين كانوا يتبعون الخط الأول الذي تمّت هزيمته» أصبح الأمر 
كابوسا وهم يتعثرون على الأرض التي أت طرية بسبب الجئث 
کک فيها. في النهاية نجحوا في الاختراق» وحدث الاصطدام 

جبهوي بين خط القتال اليوناني الصغير الحجم والكتلة البشرية من 


-78- 


الفرس التي كان يرتفع صراخها. فْتِحَت ثغرات في رتل الأثينيين» كانت 
في البداية بحجم اليد» ثم اتسعت لتصبح بعرض ياردة» ثم بعرض ثلاثة 
رجال. في كل موضع اختراق اندفعت موجة من الفرس المندفعين 
والمتحمسين والذين مضوا قدماً مدفوعين بقوة زخمهم. أما قلب صفوف 
ران ای وی لياق أمواج المتائلين الفرس الهادرة” 
وقد حافظ المدافعون الشجعان على بقاء دروعهم في المقدمة. باتك 
الثغرات بسرعة عن طريق القوات الاحتياطية. ولعدة مرات» كان قلب 
جيش الأثينيين يغلق صفوفه وسط اضطراره إلى التراجع البطيء. أثارت 
الآلاف من الأقدام التي ترتدي الصنادل التي تحاول الإمساك بموضع 
قدم سحباً كبيرة من الغبار؛ 7 ل وغطى 
التراب الموتى» وكانت رئات المقاتلين تمتص جرعات كبيرة من الخبار. 
اندفع الرجال إلى الأمام ثم تراجعوا مرة أخرى فوق الصدور والوجوه 
المتساقطة» وهم يدوسون الأحياء ليجعلوهم موتى. 

أمر داتيش باستكناف الهجوم مستفيداً من تراجع القوات اليونانية. قام 
الفرس بزج المزيد من القوات إلى أرض المعركة» وسرعان ما تمكنوا 
من إحداث ثغرة واسعة في قلب القوات اليونانية. لكن خط القتال 
اليوناني كان لا يزال صامدا أ. وبعد أن أصبح النصر في قبضته» حت داتيش 
رجاله على إحداث ا وهي 
قوات نخبة قليلة العدد ومتميزة. بعض أجزاء القوات اليونانية المتعددة 
الصفوف أصبحت الآن عبارة عن صف واحد. لكنها صمدت وقامت 
بتوجيه طعنات إلى الفرس من وراء حاجز الدروع المتصلة مع بعضها. 
كانوا غاضبين بشدة لدرجة لم يسبق للفرس أن شهدوا لها مثيلاً في كل 
حروبهم السابقة. رفض الإغريق الاستسلام. أينما كان هناك خط من 
خطوط القتال اليونانية على وشك التشتت» كان يقفز نحوه مقاتلون من 
أماكن أخرى» ويحملون دروع ورماح رفاقهم الذين سقطوا لسد الئغرة 
في جدار الصد والدروع؛ كانوا يتجمعون بسرعة معاء درعا بجانئب درع» 

-70- 


ثم يثبتون الرماح بقوة في الأرض. سمحوا لعدوهم بالخروج ليتلقى 
الموت على رؤوس حرابهم. ولكن لم يستطع أي قدر من البطولة الفردية 
أن يوقف الضغط المتزايد الذي كانت تعاني منه قواتهم التي في الوسط. 
فكانت أذرع مقاتليها المنهكة وأجسادهم المتثاقلة تستطيع بالكاد أن 
تمسك بالسيف أو الرمح» وباتت أنفاسهم متعبة» وعيونهم لا تبصر شيئا 
بسبب العرق الذي يسقط عليها. استمر القتال» بينما كانت الجثث تتراكم» 
من الإغريق والفرس. كان يستسلم المزيد والمزيد من الإغريق. لقد وضع 
ملشيادس؛ الذي أظهر شجاعة شخصية كبيرة» خطة جريئة وكان متمسكا 
بها. لم بع sS‏ فهم عاد 0 
الذي يواجه قلب قواته لا يمكن تجنبه وتعامل مع الموقف ببرو َ 
كانت المعركة على وشك أن تصل إلى ذروتهاء هرع كاليماخوس.ء الذي 
صمد بشكل بطولي في الوسطء لتولي قيادة الجناح الأيمن» بينما تولى 
ملتيادس الجناح الأيسر؛ وهو خيار جريء إذا علمنا أن قواتهم في الوسط 
كانت على وشك الانهيار. وقد صنعا بذلك فخاً فريداً من نوعه. في حين 
كان خط القتال الأثيني في الوسط يتوسع ويجذب تراجعه المزيد والمزيد 
من قوات العدو نحو الثغرة» فإنه كان يجذب المزيد من الدعم من قوات 
الأجنحة اليونانية التي توجهت نحوه» نتج عن هذه الاستدارة الداخلية 
حدوث تطويق مزدوج لجيوب قتال القوات الفارسية. 
أما الرجال الذين كانوا يقاتلون من أجل البقاء على قيد الحياة ملتحمين 
بعضهم ببعض فلم يلاحظوا أبداً ما كان يجري على جانبهم ولا خلفهم؛ 
كان تركيزهم موجها بالكامل على العدو الذي أمامهم. كان هذا هو الحال 
مع الفرس. الذي لم يكونوا أبداً من قبل أقرب إلى النصر مما هم عليه 
حينهاء حينما تحركت وبشكل مفاجئ أجنحة الجيش اليوناني الداعمة في 
ما تحول خلال ثوان إلى هجوم قاتل؛ انقضوا عليهم وهم يصر خون بهتافات 
التحدي «زيوس»"". واندفعوا لاقتحام الجناح المفتوح لتجمع الميديين 
0 إله القوة لدى الإغريق. المترجم. 


-80- 


داخل جيوب الجيش الفارسي. وبمجرد أن تقدم أول تشكيل سلامي 
(فلانكس) من موضعه في الأجنحة» حذت جميع التشكيلات الأخرى 
حذوه؛ لم يكن غضبهم المكبوت يحتاج إلى أوامر لكي يطلقوا العنان له. 
هذا الهجوم المفاجئ من الأجنحة الذي قام به المقاتلون اليونانيون أدهمش 
الفرس تماماً وأوقف تقدمهم. وسط الغضب الشديدء اخترقت تشكيلات 
الجناح اليوناني صفوف الفرس وشقت طريقها عبرها وهي تكيل الطعنات 
لهم» ولم ترحم أحداً منهم. تناثرت جثث موتى الفرس في أرجاء ساحة 
المعركة على شكل أكوام بين تشكيلات الأجنحة التي كانت تقترب من 
بعضها بسرعة. ومع اقتراب إغلاق فكي الأسدء اندفع فيلق من سلاح 
الفرسان الفارسي في محاولة لمنع تطويق جيشه. تعرضت خيولهم إلى 
طعنات برؤوس رماح التشكيلات اليونانية المهاجمة. اتكسر الفرسان 
وولوا هاربين. إن محاولة داتيش اليائسة لإنقاذ قوات مشاته من الإيادة لم 
تسفر عن شيء. في غضون دقائق» كان جيشه محاطاً من ثلاثة جوانب ودُفن 
تحت وابل من القذائف؛ كان لا يزال هناك طريق هروب واحد مفتوح لهم» 
نحو الشاطى؟ وبعده تأتي المياه العميقة الغادرة. وسط تعرضهم للهجوم 
واضطرابهم انسحبوا إلى الخلف» في حين كان هناك المزيد من مقاتلي 
(الهوبليت) المدرعين والمخيفين يطوقونهم من الخلف ويقطعونهم إلى 
أجزاء. سرعان ما امتزجت رمال الشاطئ بدماء الآلاف من الفرس. كان 
ملتيادس وكاليماخوس في غمرة شجاعتهم وسرورهم» وكانوا يقودون 
أمامهم بقية أعدائهم نحو الموت غرقاً. أثناء الهجوم النهائي على حافة 
المياه» وقع كاليماخوس ميتاً ولم يعش ليرى انتصار جيشه الساحق. وكان 
ذلك حال الكثير من الفرس أيضاً. لقد ألقوا أسلحتهم وهربوا إلى سفنهم 
التي سبق أن اختبأت في البحرء تاركين رفاقهم إلى الأسر أو الموت. فقد 
داتيش عدداً من الرجال في تلك الهزيمة الأخيرة أكثر مما فقده في المعركة: 
فقد ترك 6400 قتيل على الشاطئ. وعلى مدار عدة أيام تلت ذلك الحدث» 
ظل ماء البحر يقوم بغسل العديد من الجثث المنتفخة الملقاة على الشاطى. 
-81- 


ھا الست أسطول داتيش من خليج ماراثون بدون أن يتعرض 
لهجوم» خرج وميض إشارة إلى سفينته من مكان ما على جبل بينديلي. 
أولئك الذين رأوا تلك الإشارة افترضوا لاحقا أنها يجب أن تكون مدر 
من منشقين يونانيين» وحثوا داتيش على الانضمام إلى انتفاضة خطط لها 
المعارضون لحكم أثينا الديمقراطي. ولكن مع الأخبار التي تفيد بأن 
النصر قد تحققء فإن التمرد لم ينطلق أبداًء خاصة عندما علم المتآمرون 
أن جيشاً أسبرطياً قوياً كان فى طريقه لحماية المدينة. كان من الممكن 
أن يتسببوا في ذبح للمتمردين بلا رحمة. وكان أمراً جيداً أيضاً أن ا 
اكتشف من أرسل الإشارات. فقد كان يمكن أن يؤدي ذلك إلى اندلاع 
حرب أهلية. 

في الليلة نفسهاء خرجت فرقة قوية من جيش أسبرطة إلى ميدان 
المعركة في سهل ماراثون» لتجده مليئاً بالجثث» والطيور المفترسة 
تتغذى على بقايا الجيش الفارسي. لم يكن هناك أحد حياً؛ فالفرس قد 
ماتواء وهرع أبناء أثينا للدفاع عن مدينتهم» بعد أن قاموا بمراسم دفن لائقة 
لرفاقهم الذين سقطو ودفنوهم في قبر مشترك. لم يهدر ملتيادس ورقاقه 
من أبناء أثينا وقتاً في تهنئة أنفسهم - وهذا سيأتى لاحقاً. فستنشد لهم 
أجيال من أبناء وطنهم وتتغنى بتلك اللحظة الرائعة:1". 

ان جيش داريوش قد نزل إلى الشاطئ ليقوم بتدميرالينانيين» ولكن 
بدلا من ذلك صله اليونانيون وألحقوا به هزيمة منكرة. من خلال طوق 
مزدوج؛ من المحتمل أن تكون عملية فكي الكماشة هذه قد حدئت عن 
حرق الفدلة من ا ديناميكيات المعركة» ولكن سيتم اعتبارها خطة 
حبك نارفا ها جملت ای القارسي انر ار ری ا 
على البر رغم أنه كان بارعا في القتال فيه. 
سكا كد "للدت اكلا .ارد 


ا1 استناداً على هذه الروايات. ال م 5 
2 ت بعك سيلو ار ل 4 
| 5 59 ر e‏ ر سئوات عديدة من المعركة» وضم 


-82- 


كانت معركة ماراثون مقدمة رائعة لدراما كبيرة2) فى عصر مؤسسى 
علم التاريخ؛ هيرودوتس وثوسيديديس؛ تمثل معركة مارائون علامة 
فارقة في التاريخ العسكري. وللمرة الأولى» أفسحت الأساطير وقصص 
التوراة عن الماضي الطريق أمام الحقائق التاريخية الجادة. ومع ذلك» كان 
من المحتمل أن تصبح معركة ماراثون مجرد معركة أخرى في سلسلة من 
المعارك المنسية لو لم يكن ذلك الإنجاز المذهل الذي حققه رجل واحد 
بمفرده» فقد ركض المقاتل النبيل فيديبيديس وهو لا يزال يرتدي بذلته 
القتالية الملطخة بالدماء مسافة 42.5 كيلومتراً من ماراثون إلى ثد“ 
ليصرخ صائحا Nenikika men!‏ لقد انتصرنا! 

وبعدها سقط ميتاً بسبب فقدانه لدمه وما عاناه من إرهاق. 

كان هذا هو دور التاريخ في تخليد معركة ماراثون. 

تقدم معركة ماراثون لغزاً تاريخياً. هل كانت عملية الطوق المزدوج أو 
(فكي الكماشة)» هي التي أدّت إلى إبادة الجيش الفارسي» وهل حدثت 
عن سابق تصميم أم عن طريق الصدفة؟ أصبحت هذه النقطة موضع جدل 
بين المؤرخين. 

لايمكن أن يكون هناك شك في أن ملتيادس كان يمتلك صفات القائد 
العظيم. فبفضل ثباته الأخلاقي و تكيّف مع الموقف المحدد. 
كانت سماته الأخلاقية بمثابة نموذج يُحتذى به وأجبر مقاتليه على 
الحفاظ على المجهود البدني المطلوب. لقد أوقف الفرس عند بوابات 
غرب أوروبا ولم يسمح لهم بالتقدم. 

كانت معركة ماراثون صرخة ولادة أوروبا. 





The Cambridge Ancient History and J.F.C. Fuller, Baltles of the عن:‎ -2 
Western World. 

3 وقتنا الحاضر يتدرب أبطال سباق الماراثون» لعدة سنوات باستخدام معدات 
خفيفة وينهون السباق فى ساعتين و10 دقائق» لكنه في ذلك الحين كان يستغرق ريما 
خمس أو ست ساعات.. 


-83- 


الفصل الرابع 
بوابات الجحيم 


ثيرموبيلاي 
9 آب 480 ق.م 


وأخبرهم» أننا مدفونون هناء وقد أطعنا الأوامر». 


ثيرموبيلاي» القرن الخامس ق.م 


«مرة أخرى» في سردنا للشخصيات اليونانية» نقدم شهدا فزيدا من 
الجرأة والتبصرء ارتفع كل منهما إلى أعلى درجاته» وكلاهما اتحدا 
في الشخص ذاته...)2 إذا كان مثل هذا الشخص موجوداء فهو ليس 
غير ليونيداس» ملك أسبرطة. لم يتطلب الأمر فقط الشجاعة الجسدية 
لمواجهة عدو قوي» ولكن الشجاعة الأخلاقية لتحمل المسؤولية عن 
حياة - أو موت - رجاله. وكان بمجرد أن يتخذ قراره» يتمسك به» مهما 
كان الثمن. يظل صمود أبناء أسبرطة الثلاثمائة على بوابات ثيرموبيلاي 
قصة ملحمية تسرد ما يفعله المدافعون عن أوطانهم في كل العصور» وهو 
مثال بارز للشجاعة الجسدية والمثابرة. 





Thucydides in his History of the Peloponnesian War, translated by ر اجع‎ <1 
Richard Crawley in 1874. 


-85- 


بعد وفاة الملك داريوش الأول» استولى ابنه أحشويرش؛ أو كما كان 
0007 فا باسم» خشايار شا (465-485 ق.م)» على السلطة من خلال القضاء 
على جميع إخوته الذين ادعوا بحقهم في عرش بلاد فارس. بعد أن تسلق 
سلم العرش الدامي» تابع مخططه الرئيس: تدمير اليونان والسيطرة بلا 
منازع على طرق التتجارة في بحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط. تم دفع 
الملك الفارسى من قبل الآلهة لارتكاب خطأ فادح وهو الدخول في حرب 
اليا . سواء كانت الآلهة من دفعته أم لاء فإن خشايارشا 
أرسل مبعوثين إلى دول المذن اليونانية (باستثناء أسبرطة وأثينا)» مطالبا 
إياهم بوعاء من الطين وجرة ماء كعلامة على ولائهم. عندما رفضوا ذلك؛ 
دعا خشايارشا حكام مقاطعاته لتزويده بالرجال والأسلحة. وفقاً ل «أبي 
التاريخ»؛ هیرودوتس» تجاوز تعداد جيش خشايارشا مليوني شخص؛ أما 
التقديرات الأخيرة فتقول إن العدد يقرب من 200 ألف» ومع ذلك فقد كان 
ذلك حشد هائل من المحاربين فى ذلك الوقت. كانت قواته البحرية مثيرة 
للاغجاب بالقدق 'نقلتهة ھی تتكون من 3000 سفينة نقل و1207 سفينة 
قتالية. استدعت خطة خشايارشا غزو اليونان عبور الشاطى الأوروبي عن 
طريق مضيق هيليسبونت©. وأمر ببناء جسرين عملاقين من القوارب» 
الأول مؤلف من 314 سفينة» والثاني من 360 سفينة» مثبتين بواسطة ستة 
خبال كتان بسمك الذراع تغطيهما ألواح خشبية للسماح بمرور العديد من 
الالاف من المركبات الحربية وجنود الخيالة. في شتاء عام 481 ق.م؛ نقل 
خشايارشا بلاطه إلى مدينة ثيرمي (سالونيكا). كانت آلة الحرب الضخمة 
الخاصة به جاهزة للعمل. 

نزلت الأخبار كالصاعقة دون سابق إنذار: قام جيش فارسي جرّار 
بعبور مضيق هيليسبونت» بعد أن كان قد تجاوز بالفعل منطقتي تراقيا 





وت راجع كتاب هيرودوتس. 
3- الدردنيل. المترجم. 


-86- 


ومقدونيا وبات يقترب بسرعة من حدود هيلاس. وفي موقف نموذجي 
لما يشبه المثل القائل آنا ومن بعدي الطوفان»» غيّر ثيساليا من ولاءاته 
وانضم إلى صفوف الغزاة. كان رد فعل الإغريق -الذين كانوا منشغلين 
بنزاعاتهم الداخلية المعتادة وفي اختلافات آرائهم حول من يجب أن 
يقاتل ومن يجب أن يقود- خجولاً عن طريق إرسال قوة جُمعت على 
عجل مؤلفة من عشرة آلاف مقاتل إلى حدودهم الشمالية لوقف زحف 
الجيش الفارسي عند مدينة تيمبي. عندما بدا أن جزءاً من قوات خشايارشا 
ستتجاوزهم» استدار الإغريق وفروا مذعورين. «يا له من عمل مشين»» 
هكذا صرخ أبناء الجيل الأقدم من المقاتلين الذين وقفوا ببسالة في وجه 
جحافل الفرس في معركة ماراثون. كان من الأفضل المجازفة بالهزيمة 
وعدم ارتكاب مثل هذا العمل الجبان» والهرب من أمام وجه العدو! أما 
الزوجات» اللواتي ودّعن أزواجهن المحاربين بأكاليل الغار والدعوات 
والأمنيات ومشاعر حب جارفة من أجل حماية منازلهن وأسرّة أطفالهن» 
أصبحن الآن يبصقن في وجوههم ويرفضن معاشرتهم. ما وخد اليونانيون 
لم يكن الخطر الذي بات يحدق بهم جراء الهزيمة العسكرية في تيمبي؛ 
على الرغم من أنها كانت أمراً مشیناً» ولكن رد فعل زوجاتهم وأمهاتهم 
على سلوكهم. لقد كانوا يستمعون من اللاجئين قصص الفظائع التي 
ارتكبها الفرس. فكانت النساء تتحدث عن اغتصابهن» وكيف تم تجميع 
بناتهن المراهقات ليتم بيعهن في بيوت الدعارة التي يرتادها الجنود» 
وكيف يتم تحويل أبنائهن إلى مخصيين. كانت نساء اليونان قد حسمن 
أمرهن؛ ما دام رجالهن يفتقرون إلى الشجاعة للدفاع عنهن ضد هذا العارء 
فسوف يقمن بتشكيل كتائب الأمازون. واجه وفد منهن القائد العسكري 
للبلاد (طءعوميءاهمم) وهذا ما كان.. شعر رجال هيلاس بالعار. كان 
شرفهم ومعه شرف اليونان على المحك. 

توجه المبعوثون إلى دول المدن بدعوة لعقد اجتماع للقبائل» تمكنت 





4- الاسم القديم لليونان. المترجم. 


-87- 


خلاله النساء من الحصول على وعد من مختلف ممثلي الدول بجمع 
خمسة من (الموراي) على الفور - وهذا يعني خمسة الاف من جنرد 
الهوبليت بالإضافة إلى حملة الدروع. لم يكن ذاك بالجيش الكبير الذي 
يستطيع أن يواجه مئات الآلاف من مقاتلي بلاد فارس - لكن كان عليهم 
القيام به ريثما يتمّ تجميع المزيد من القوات وتسليحها. طلب مجلس 
الحكماء المشورة من كاهنة دلفي: «اصمدوا حتى نهاية الأرض». وبالنسبة 
لقي يزنائي» كانت انهاية ارفا عي الأرضل التي جاوز الع الال 
بعد الاستماع إلى الحكماء والمحاربين الذين ابيّض شعرهم» استقر رأي 
الحكماء على مكان واحد حيث يمكن أن تتاح فرصة عادلة لقوة صغيرة 
نسبياً وقفء أو على الأقل إبطاء» تقدم جيش متفوق عليهم إلى حدّ كبير: 
وهو البوابات الثلاث لثيرموبيلاي. سيتعين على خشايارشا أن يسلك 
الطريق الساحلي الوحيد المؤدي إلى أثيناء وكانت فرصتهم لتأخير تقدمه 
في الممر الضيق بين الجبل والبحرء ممر ثيرموبيلاي» الذي سمي على 
اسم ينبوع مياه كبريتية حارة يفترض أن تحتوي على سر شفاء الجروح. 
تم إيكال مهمة إيقاف زحف الفرس إلى أعظم محارب في ذلك العصرء 
ليونيداس ملك إسبرطة. 

وضعَت خطة شاملة للدفاع. ودُعِيت جميع القوى المتاحة كي تكون 
على أهبة الاستعداد. كان الأسطول الحربى المشترك بين الأثينيين 
والأسبرطيين يتكون من 324 سفيئة ثلاثية المجاذيف لإغلاق مضيق 
أر تيميسيوم وأندروس لمنع الأسطول الفارسي من شن هجوم من 
الأجنحة على القوات التي تسيطر على ثيرموبيلاى. مقارنة بالقوات 
الفارسية؛ كانت القوات البرية اليو نانية صغيرة بشكل رى له. أسفر مؤتمر 
القوى الهيلينية عن تشكيل سبعة أفواج (موراي)» وهي قوة مختلطة من 
أبناء نيسبيا وفوشيا وأسبرطةء كوّنوا بمجموعهم ما بين سبعة إلى ثمائية 
آلاف من جنود الهوبليت. وفي ما كان ليصبح ملحمة أبدية من الشجاعة؛ 
يتقدمهم ثلاثمائة من مقاتلي أسبرطة (المتمائلين في الشكل) من 

-88- 


المحاربين المواطنين المخلصين لشعارهم اننتصر أو نموت!»» صدرت 
الأوامر إلى هؤلاء الرجال لوقف تقدم مئتي ألف من جنود المشاة» وسلاح 


Persian Invasion of Greece 


Asgean 2 





-89- 


كان ممر ثيرموبيلاي في الواقع عبارة عن سلسلة من ثلاثة ممرات 
ضيقة) أطلقت عليها تسمية بوابة الغرب والوسط والشرق. لم يكن 
العدو قادراً على بسط تفوقه العددي» لأن المنحدرات كانت تطوقه 
عند الحدود. ام ليونيداس بتجميع قواته المتحالفة في مكان لا برقع 
إل قليلاً على واد يقع أمام ما يعرف بجدار (الفوكيانيين) في البوابة 
ا درا آم رار ر کا جداراً حجرياً 
كان الهدف منه جمع الضرائب على الطرق أكثر منه جداراً دفاعياً. . كان 
ارتفاع هذا الحاجز البدائي يصل إلى صدر الإنسان فقطء ولكن دافم 
عنه الرجال المستعدون للموت من أجله» مما جعل الحاجز منيعا 
0 لكن كل قلعة لها ضعفها الكامن فيهاء وهو المفتاح الذي 
يفتح البوابة. لم يكن الأمر مختلفاً في ثيرموبيلاي: لقد كان يجتازها 
ا أنوباي؛ ويتسلل إلى أعلى النهر على طول 
مضيق نهر أسوبوس عن طريق الالتفاف على قلعتي تراخيس وأويتا؛ 
ثم يلتوي عبر المنحدرات الشمالية المليئة بالصخور لجبلي أويتا 
وكاليدروموس» قبل أن ينحدر متراجعاً نحو البحرء حيث يرتيط 
بالطريق الساحلي الواقع بين بوابة الشرق والبوابة الوسطى. لم يكن 
ملك أسبرطة يعلم بوجوده. لكن عدداً قليلاً من الرعاة المحليين كانوا 
يستخدمونه في فصل الربيع لرعي قطعانهم. 
لضمان حماية المنطقة المحيطة بالبوابة الوسطى» نشر ليونيداس 
وحدة تضم ألفاً من الهيلوتس الفوشيان يحملون أسلحة خفيفة بالقرب 
من قلعة تراخيس. كانت هناك فرصة ضئيلة لشن هجوم من هذا المربع؛ 
وكانت مهمة تواجدهم هناك هو رصد كشافة العدو وصدٌ الغزوات 
البسيطة» ولكن لم يكن القصد منها منع قوة كبيرة من اختراقهم. 
دخل خشايارشا إلى سهول ماليا (المعروفة أيضاً باسم سهول 
تراخيس)؛ وهي مراع خضراء تنتشر فيها قطعان الأغنام. وكان الطريق 


-90- 


۱ 


يصعد من هناك» نحو مرتفعات ثيرموبيلاي» حيث كان الإغريق يعترضون 
تقدمه. أقام مخيمات لجيشه على مرأى من اليونانيين» على آمل أن مجرد 
مشاهدة هذا الجيش الهائل من شأنه أن يثير الذعر داخلهم كما فعل في 
مسيرته نحو مدينة تيمبي. ولكن الأمر لم ينجح هذه المرة. 
بات الناظر إلى السهل من مرتفعات ثيرموبيلاي» يراه مغطى من البداية 
إلى النهاية بالخيام ودخان نيران من يقيم فيهاء كان کا فيا 
مقسم إلى قطاعات» كل منها مخصص لمجموعة عرقية: الآشوريون» 
د والميدانيون» والكاريانيون» والأرمن» والشوشانيون» 
والكبادوكيون» والعرب» والإيليريون» الليديون» والبختاريون» 
والمصريون - «هل بقيت دولة واحدة في آسيا لم يجلبها خشايارشا معه 
لتقاتل ضد اليونان؟92 كان ليونيداس مندهشاًء حتى الجبابرة” لم يكن 
بإمكانهم تجهيز جيش بحجم وضخامة قاطرة الحرب الفارسية. كان 
الفرس على الأرض يشبهون الألعاب الميكانيكية» لكن من نوع الألعاب 
التي خرجت مباشرة من جوف الأرض وحررها هيدز©. كانت كل قبيلةء 
وكل فيلق حاكم مدينة» وكل فرقة ترتدي لونها المميز؛ تقدم الجنود في 
صفوف بألوان الأخمو والأزرق والأصفر والأرجوانى ني. كان ضباطهم 
متميزين بسبب دروعهم اللامعة المصقولة. لم يرتدٍ المقاتلون أي دروع 
واقية غير دراعات مصنوعة من الجلد. والاستثناء كان عشرة آلاف من 
المشهورين من فيلق النخبة الخاص بالملك كانوا يرتدون دروعاً متلألعة 
تة حراشف السمافة 
يرى الناظرمن فوق سهل ماليان» المسار المضيء بشكل رائع والذي 


6- راجع كتاب هيرودوتس. 

7- أو عرق التيتان وبحسب أساطير الإغريق» هم عرق من الآلهة الأقوياء الذين حكموا 
الأرض قديما. المترجم. 

8- هو ملك العالم السفلي عالم الموتى وسمي هيدز أي «مانح الثروة» كناية عما تحمله 
ارو واي لاخر كر اليو ين 
الأنظار. 


9[- 


يشود إلى خيمة فخمة. وينتصب خارج الخيمة عرش مثير للوعجاب, 
يعود لجلالة الملك خشايارشاء ابن داريوشء ملك الملوك وسيد كل 
الأراضي. كانت فخامة العرش نتاج سئوات من نهب بلدان أسيا. والأن 
حاء فور اليونان: 

كان لبوئيداس يعلم جيداً أن الفرق الرئيس بين القوات لم يكن 
الأسلحة بل الروح المعنوية. فما كان يمير جنوده الهوبليتس اليونانيون. 
هو أنهم يقفون بثبات» متسلحين بدروع ثقيلة تحمي كل أجسادهم من 
الدروع الواقية للبدن وصولاً إلى تلك الدروع المصنوعة من البرونز 
المصهور التي تغطي أرجلهم" كانت تروسهم (ويشار لها بمصطلح 
أسبس) مصنوعة من نحشب البلوط الصلب ومزينة بمعدن مصقول. كان 
سلاحهم ارز رفا يبلغ طوله 13 قدماًء وهو الساريساء الذي كان قد 
أثبت بالفعل قيمته في معركة ماراثون. كان كل مواطن محارب يرافقه 
حامل درع حاص به من طبقة العبيد (الهيلوئس)؛ الأمر الذي يعفي النبلاء 
(كان يطلق عليهم الهوموي) من عمليات الذبح أو الطعن. وكانت هناك 
حاجة لأحد العبيد ايعثني بجروح سيده؛ وبعد تحقيق النصرء يأخذ هراوته 
ويقتل جرحى العدو. خلف هذا الجدار الهائل من حاملي الدروع؛ كان 
يأتي الرماة» حاملي العشرات من عصي الخيزران ذات الرؤوس البرونزية 
ومثبنة في الأرض ليسهل الوصول إليهاء وخلفهم تنتظر قوات المشاة 
الاحتياطية لسد الثغرات. 

كانت مواجهة سبعة آلاف من جئود ملك أسبرطة لمئات الآلاف 
من جنود الفرس تبدو قضية خاسرة. لكن الأمر لم يكن كذلك. كانت 
الطريق المؤدية إلى الممر تشبه القمع إلى حدّ كبير» واسعة عند المدخل 
وضيقة عند الممر الحرج. لم تكن المساحة تكفي سوى لوضع أكثر 
من عشرة محاربين في تشكيل الهجوم الأمامي؛ وبالتأكيد لم يكن هناك 
مجال لدفع عشرات الآلاف في الوقت نفسه. تمنى ليونيداس لو كان 





58 , 0 
١‏ تشبه إلى حد ما واقيات قصبة الساق التي يستخدمها لاعبو كرة القدم حالياً. 


-02- 


لديه بضعة آلاف أخرى من الجنود. من المؤكد أنه لو حصل على قوة 
إضافية مكونة من خمسة آلاف جندي (هوبليت) فقط» كما وعده البعض» 
لما استطاع الفرس اجتياز ثيرموبيلاي أبدأء لأنهم لم يكونوا يستطيعون 
مواجهة الهوبليت اليونانيين وجهاً لوجه. قرّر ليونيداس استخدام مقاتلي 
مدن يساليا وأركادينيا في استيعاب موجة الهجوم الأول مع إبقاء مقاتلي 
أسبرطة قوة مساندة تقوم بس الثغرات. ونشر قواته الاحتياطية من مدن 
موكناي وفولوس أبعد إلى الوراء. 

عسكرت كلا القوتين المتقاتلتين لمدة ثلاثة أيام وباتت تراقب كل 
منهما الأخرى. لم يكن هناك سوى القليل من الحديث بين المدافعين. 
كانت عيون المحاربين تنظر بعيداً لا تركز على ما حولهاء وعقولهم 
منشغلة بترقب القتال الواثقين من أنه لا بد قادم. في اليوم الرابع» أرسل 
شاخايارشا مبعوثاً يحمل أمراً إلى الملك ليونيداس بأن يلقي سلاحه. 
«اتعال وخذه إن استطعت»» كان ذلك هو الرد الفظ من ملك أسبرطة» الذي 
أغضب جلالة الملك الفارسي لدرجة أنه أمر بشن هجوم فوري. تجمعت 
حشود الفرس وجيوش مقاطعاتهم عبر قطاع من الأراضي المحرمة» في 
انتظار إشارة من إمبراطورهم. حيث انطلقت بوضوح من أحد الأبواق. 

سمع الرجال الموجودون عند الممر صوت بوق بعيد؛ تلاه دوي هز 

0 قبل أن تبلغ حشود الفرس ذروة صعودهاء قام ليونيداس بعمل 
طقس السباغيا (12ع503): وهو ذبح القربان المعتاد للإلهة أرتميس» عن 
طريق إعمال نصله في عنزة كان يحصرها بين ركبتيه. انتشر الدم المنبعث 
من عنق الحيوان على رداء الملك. كانت هذه أول نقطة دم تسيل في 
المعركة من أجل ممر ثيرموبيلاي. كان الجميع يدرك أن هناك المزيد من 
الدماء القادمة. 

سار الجيش الفارسيء الذي كان يبلغ عرض رتله ألف جندي بعمق 
عشرة جنود» على المنحدر الطويل. وكان كلما تضيق المنحدرات» يتم 
ضغط صفوف الرتل الأمامية» مما أدى إلى تكون كتلة كبيرة غير متناسقة 

03 


من الرجال المتزاحمين والمتدافعين دون وجود أي فرصة للحركة 
الجانبية. انطلق الاشتباك الأول من قبل الرماة الميديين وهم يتقدمون 
أمام الحشود المزدحمة ويمطرون بالسهام جدار الدرع اليوناني؛ ومع 
وجود شقوق فقط لعيونهم في الخوذ التي تحمل خصلاً من شعور الخيل 
ينظرون بها إلى الدروع الحمراء والبرونزية» فإن تلك السهام لم تلحق أي 
أضرار بالإغريق. كان «مقاتلو جدار الصد اليوناني ذوو الدروع المجدولة 
والمصنوعة من البرونز» يشكلون ا فنا أما الصف الثاني من 
المقاتلين فقد وضعوا دروعاً فوق رؤوسهم كانت تميل إلى الأمام» مثل 
السقف» لتدرأ عنهم عيدان الخيزران التي كانت تتكسر بتأثير البرونز. ظهر 
الثيسيبيون» برماحهم الطويلة المثبتة بقوة في الأرضء وكأنهم غابة من 
أشجار ذات رؤوس حديدية قوية وهم يندفعون إلى الأمام. في مواجهة 
هذا الجدار من الدروع والأجساد المدرعة لجنود الهوبليت من ثيسبيان» 
الذي كان بعرض ثمانية عشر درعاً» تکوم الآلاف من المهاجمين» وهم 
يتدافعون ويزاحم بعضهم البعض في الحدود الضيقة. وكانوا يصيحون 
«النصر لخشارياشا!» وكان يرد عليهم على الفور بصرخة واحدة تحمل 
التحدي «زيوس منقذنا!») 
حصل الاحتكاك الأول في حادث تصادم كبير رددت صداه جدران 
المنحدر» حينما اصطدمت دروع الميديين الصغيرة المغطاة بالجلد 
بدروع مقاتلي يسيبان الصلبة المصنوعة من خشب البلوط والبرونز. 
ثم غطت سحابة من الغبار كل شيء» ولم يعد يُرى سوى وميض الرماح 
وهو يرتفع فوقها. أما الميديون الذين كانت وظيفتهم الرئيسة هي توجيه 
ضربات خاطفة تحت حماية من طوفان من السهام» كانت غايتها الضرب 
الخاطف وليس من أجل إحداث تأثير. فقد جاؤوا في كتلة كبيرة وقاموا 
بتوجيه رماح رمي قصيرة من مسافة حمس عشرة إلى عشرين ياردة كانت 
عادة كافية لدفع أي عدو إلى الهروب. هذه المرة لم يكن لديهم أي أمل؛ 
فك جاتر انديع أن اختر قتهم رماع بای جیا | رسنال الوكين 
-94- 


الفرس للدخول في المعركة» فقدموا وكان عرض صفوفهم ما بين مئة 
ومائتي جندي وبعمق أربعين جندياً. كان الضغط من الصفوف الخلفية 
قوياً للغاية إلى حد أنه دفع الجنود في خط المواجهة ليحتكوا بأطراف 
رماح مقاتلي ثيسبيان وأركاديا. بدأت جبال من الموتى تتراكم أمام جدار 
الدروع. كانت الجثث ذات البطون الممزقة والأطراف المخترقة في 
كل مكان. أولئك الذين حاولوا التراجع تعرضوا للذبح بواسطة بلطات 
مراقبي العبيد الذين «يتخلصون من الجبناء» لمنع الآخرين من الهرب. 
عندما يتم صد أي هجوم» لم تكن ثبذل أي محاولة لمساعدة الجرحى أو 
تنظيف الميدان من الجثث استعدادا لموجة الهجوم التالية. 

أدى التدريب والانضباط الذي يتميز به اليونانيون إلى تمكينهم من أن 
يقلبوا الوضع لصالحهم. وبشجاعة وتضحيات كبيرة» صمدوا عند الجدار 
وتصدوا لكل هجوم جديد. كان جنود الهوبليت يسحبون جرحاهم خلف 
ملجأ التشكيلات» بينما يأخذ محاربون جدد مكانهم لتعزيز الصفوف 
وجعل الدروع متصلة مع بعضها. على هذا الجدار البرونزي تحطمت 
أمواج الهجمات الفارسية المتتالية ليتمٌّ مواجهتها من خلال عمليات كر 
وفر بالرماح والسيوف . كانت كل محاولة تتحول إلى مسلخ للذبح. ارتفع 
أمام (البرومشوي) الإغريق (خط القتال الأول) جدار جديد؛ تكومت فيه 
جذوع أعدائهم. كان على الأمواج التالية من المهاجمين أن تتسلق جثث 
مئات القتلى لتقترب من العدو. تملكت الإغريق وهم صامدون عند بوابة 
الجحيم» روح شيطانية؛ تحولت كراهيتهم للدخلاء إلى أعمال وحشية 
وبربرية لا يمكن تصورها من قبل. في هذا القتال القريب» أصبحت 
الأجساد نفسها هي السلاح. كانت قوة الضغط ووزن الجسم هي التي 
تحسم الأمور في كثير من الأحيان تعتى لاان ات مخالب فتاكة. 
أصبحت الممرات الضيقة مسرحاً لأحداث دراما يونانية» حيث كانت 
المسرحية هى «الموت» وكان الارتباك هو السائد فقط. بعد كل مذبحة 
جديدة كان جنر الهويليت اليونائيون يتقدمون وسط مئات الجرحى 


-95- 


الذين كانوا يصرخون طلباً للمساعدة أو الشفقة. لم يكن شيء مضمون 
سوى الموت. استمر انهيار المزيد من الفرس عند حائط الصد البرونزي 
للجنود اليونانيين حاملي الدروع الثقيلة (أسبس). أما وحدات الميديين 
التي تعرضت للإبادة فقد قفلت راجعة» لتتداخل بشكل لا ينفصم مع 
أمواج المهاجمين القادمة. اصطف الرماة اليونانيون في مأوى الجدار 
الحجري في فوتشيان؛ وسهامهم ذات الريش تسير بشكل مقوس فوق 
جبهة القتال لتحطم بسرعة مميتة الحشود المتقدمة. بسبب الضغط الهائل 
من الخلف كانت اعرد كلو لخر لات السهام وتسقط صريعة. 
وإذا تمكنت إحدى الوحدات من د تحقيق انفراجة» كانت مجموعات من 
الميسينيين تقفز فوق حائط الفوشيان وتلتقط رؤوس الأعداف وسدد 
ضربات لها تخترق الخوذ والعظام. خلال فترات الراحة القصيرة في 
القتال» كان يسارع الأولاد بقراب مصنوعة من جلد الماعز لحمل النبيذ 
أو الماء الذي جلبوه من نبع سيليان الواقع خلف الجدار الحجريء بينما 
يهرع جنود الهوبليت لجمع السهام من بين من سقط من الجنود. عندما 
يصبح المحاربون المسؤولون عن جدار الدرع متعبين للغاية أو يعانون 
من الكثير من الإصابات» يتم الاستعاضة عنهم بقوات كانت قد أخذت 
فترات راحة؛ ثم يمتح المحاربون المنهكون بضع لحظات من الراحة لهم 
ولسلاحهم. في اللحظات المناسبة» تتقدم كتيبة من الأسبرطيين بثقة» في 
خطوة مثالية متناسقة مع صوت الفلوت» وهي تحمل رماحاً من الفولاذ 

الحاد. يتدفق مزيد من الدم من الجروح. وتتتحول الأرض الجافة في 

ثيرموبيلدي | إلى وحل أحمر. ١‏ 

شن اثنا عشر هجوماً منفصلاً في ذلك اليوم» وحتى حلول الليل» كان 
جزء من قوات خشايا رشا الهجومية مفقوداً. 


أخيرا» اكتشف الفرس» أن كل جهودهم للمرور لم لعل 
مججدية )» وأنهم» سواء هاجموا بالفرق أو باي طريقة أن . » لن 
يحققوا غرضهم؛ فانسحبوا إلى أماكنهم الخاصة. خلال هذا 


-96- 


الهجوم» قيل إن حشارياشاء الذي كان يشاهد المعركةء قف ز ثلاث 
مرات متتالية من عرشه ليبث الرعب في جيشه 

وفي اليوم التالي قام باستئناف القتال دون نحقيق نجاح يذكر. 
كان الإغريق قليلين لدرجة أن الفرس كانوا يأملون في العثور 
عليهم معاقين» بسبب جروحهم. لكن اليونانيين وقفوا بقوة» 
وتوزعوا كل في مفرزة وفقاً لمدينته» وتحملوا العبء الأكبر في 
المنعطفات. رش الد م أذرعهم وصدورهم؛ وسقطت قطرات منه 
على دروعهم؛ وأصبحت شفراتها اللامعة معتمة بسيبه. عندما لم 
يجد الفرس فرقاً بين ذلك اليوم واليوم السابق» انسحبوا مر ة أخرى 
إلى مواضعهم 00 


على الرغم من التفوق العددي الذي يصل أحياناً إلى نسبة ثلاثين 
وأربعين» وأحياناً خمسين إلى واحدء والشجاعة العمياء التي أبدتها 
بعض أفواج الميديينء توقف الهجوم الفارسي عند ميدان القتال أمام 
ا القديم» ولم ير الكثير من القادة الفرس أي بديل سوى 
سحب فصائلهم من خط القتال. وهكذا وعلى مدار يومين حاول جيش 
خاشايا رشا الضخم اختراق خطوط اليونانبين» وقد تم تفادي الخطر لمدة 
يومين» وعانى من خسائر كبيرة. وَغَائن الأغريق أيضا من خسائر كبيرة. 
ضحى ليونيداس بأحسن رجال هيلاس”'» لکن كان عليه أن يكسب 
بعض الوقت لحشد بقية بقية مقاتلي اليونان» وقد فعل ذلك. 
فى الوقت نفسه الذي جرت فيه هذه المعركة التي غيرت مجرى 
تاريخ على الأرض» كانت هناك أحداث معركة أخرى تجري في البحر 
قبالة رأس أرتيميسيوم بين أسطول خاشايارشا والأسطول الإغريقي. 
حاولت السفن الحربية الفارسية فتح ممر لتمكين ناقلات الجنود من 
أجل الالتفاف على جناح قوات ليونيداس» وفعل البحارة اليونانيون كل 





0 - عن هيرودوتس. 
|!- اليونان. المترجم. 


-97- 


ما في وسعهم لمنع حدوث ذلك. كان لدى الفرس عدد كبير جد من 
السفن تجعل النتيجة النهائية للمعركة محل شك» وابتسم الحظ للإغريق 
الذين تعرضوا لضغوط شديدة. فقد هبت عاصفة شديدة عطلت حدوث 
الاشتباك. نجح الأسطول الهيليني في الفرار على طول قناة وابية وإلى 
خليج اليوسيس» ووصل إلى المرسى الواقع على جانب جزيرة سلاميس. 
اعتبرت المعركة البحرية في أرتيميسيوم نصراً للفرس» لكنها علّمت 
أحد القباطنة درساً أكثر قيمة: بالنسبة إلى الأدميرال الأثينى القائد 
ثيموست وكليس» فقد كشفت له مدى هشاشة التكتيكات البحرية لخصمه. 
دخل الفرس في المعركة دون أن تكون لديهم استراتيجية شاملة؛ 
واعتمدوا كلياً على دفعة منسقة من قبل آلاف المجاذيف التى دفعت مئات 
السفن الحربية إلى الأمام. إذا كان من الممكن تحويل مثل هذا الهجوم 
إلى الخصر الضيق بين إحدى جزر بحر إيجه العديدة» حيث كانت القدرة 
على المناورة هي كل شيء وأعداد المتحاربين لا تؤثر إلا بشكل قليل؛ 
فإن الإغريق لديهم فرصة جيدة لإيقاف تقدم العدوء بل وحتى دحره. 
عند ثيرموبيلاي» بدأ اليوم التالي بقسوة على المدافعين على البوابة 
الوسطى. في هذا اليوم» كان جدار الصدٌ يتكون من مقاتلي أسبرطة. في 
البدلية؛ قاموا بصدّ هجوم قام به سلاح الفرسان الباختيري. ركع الصف 
الأول من مقاتلي الهوبليت الأسبرطيون وثبتوا أعقاب رماحهم الطويلة 
(الساريسا) في الأرضء» وجعلوها موجهة نحو عيون الخيول. رفع 
مقاتلو الصفوف الثلاثة التالية رماحهم عالياًء وهي تتوجه إلى الخارج 
فوق رؤوس المقاتلين الراكعين في الصف الأول. لقد أقاموا جداراً من 
الفولاذ المدبب» ولن تستطيع خيول الباختريين اجتيازه. تمكن عدد قليل 
من الاقتراب وذبح عدد من المقاتلين في الصف الأول من خطوط قتال 
اليونانييين» لكن الصف الثاني تمكن من الصمود وهاجم الفرسان وأوقعهم 
عن ظهر خيولهم. صرخ الإغريق احتفالاً بانتصارهم» وتعالت الهتافات 
في صفوفهم. تبع الباختريون قوات المشاة التابعة للملك خشايارشا. وقع 
-98- 


الكثير من القتال في اشتباك واحد. جاء اثنان من الميديين مسرعين من 
جانب ليونيداس المظلم» رافعين الفؤوس. لكن الرماة الأسبرطيين كانوا 
مستعدين. مات واحد من حاملي الفؤوس في الحال. تمكن الآخر من 
الاختباء ومزق السهم كتفه . ثم تعثر» حتى ثقب سهم آخر درعه الذي يشبه 
حراشف السمك وكان كما لو كان مصنوعاً من القماش بدلا من المعدن. 
قام الميديون في ذلك اليوم بشن هجمات متعددة» وسقطوا على الدروع 
والرماح مثل الأمواج التي تتكسرعلى شاطئ صخري. 

كان شاخايارشا غاضباً من نكسات جنرالاته المهينة. لم تحقق 
الهجمات المتتالية سوى نتائج ضئيلة أو معدومة. . ما بدأء في اليوم الأول» 
جوا غاضياً تحول إلى الهيجان؛ وهذا أدى إلى انخفاض ذ في الروح 
المعنوية. فقد عدد من الجنرالات رؤوسهم على يد جلاد الملك» وشمل 
ذلك جميع من اعتبرهم جلالة الملك لا يستحقون مناصبهم أو لم يقاتلوا 
بالشجاعة اللازمة. 

بينما كان خاشايارشا يفكر في ما يجب عمله بعد ذلك» ظهر أمام 
مجلسه المهيب شخص ذو مظهر خشن. ادعى أن اسمه إيفياليتس من 
مالياء وهى القرية التى أعطت اسمها لسهل ماليا. لا يعرف الكثير عن هذا 
الرجل. تجنب المؤرخون اليونانيون المعاصرون اسمه بسبب ما جلبه 
من عار» فقط لتجاوز حقيقة أن هذا الشخص ارتكب فعلاً من الخيانة 
لا يمكن وصف وضاعته: من أجل حقيبة صغيرة من الذهب» عرض أن 
يكشف لفرقة من الجيش الفارسي عن مسار سري» يجعلهم يلتفون حول 
المدافعين اليونانيين. لم يكن لدى شاخايارشا ما يخسره. وأمر مقاتليه 
الأشداء تحت إمرة القائدين أورونتس وهيدارنس بالقيام بمسيرة عبر 
الجبال ويفاجئوا ليونيداس من مواضعه الخلفيه غير المحمية. بسبب 
هذه المسيرة التاريخية» أصبح مسار أنوبية هو طريق الخالدين. انطلق 
عدة آلاف من الرجال المدججين بالسلاح بعد حلول الظلام» لايرشدهم 
سوى ضوء القمر الفضي. تضخمت أصغر الأصوات. كانوا يتلمسون 

-99- 


طريقهم باتباع صوت خطى أولئك الذين يسيرون في الأمام؛ تعثر 
الكثيرون بجذور النباتات البارزة» وصبوا اللعنات و صمتهم الذي 
فرضوه على أنفسهم» والذي أصبح بعد ذلك ضروريا لأن ذلك اليوناني 
أخبرهم بوجود قوة من الفوشيان تمنع المرور وتوجد عند أعلى المضيق. 
لقد عبروا نهر أسوبس دون حوادث. قبل شروق الشمس شاهدوا مفرزة 
من الفوشيان» تقوم بمنع الدخول إلى الفجوة الضيقة التي هي وراءهم. 
بعد اشتباك قصير» قتل فيه عدد قليل من الفوشيين» هرب الباقون في حالة 
من الذعر الأعمى؛ وكان هناك اثنان يمتلكان ما يكفي من سرعة البديهة 
ليتوجهان نحو ليونيداس. . 

كان درب الماعز الذي يمر بوادي أسوبوس يقود بشكل حاد إلى 
المنحدرات الوعرة لجبل كاليدروموس» عبر الوديان والمضائق» وصولاً 
إلى مقسم المياه وأسفل الجانب الآخر. بعد أخذهم فترة راحة قصيرة 
بسبب حرارة ذلك اليوم» وصل المقاتلون إلى أعلى قمة. وفي الأسفل؛ 
كان يمكنهم رؤية الطريق الساحلي المؤدي من الشرق إلى البوابة 
الوسطى. تهلّل وجه إيفاليتس الجشع وطالب بحقيبته من الذهب. كان 
القائد أورونتس» الذي جاء من صلب الشجرة النبيلة نفسها التي جاء منها 
الأبطال اليونانيون» غاضباً جداً من هذا الفعل الغادر» حيث قام e‏ 
رأس الخائن من على كتفيه بومضة براقة لسيف فولاذي. تدحرج رأس 
الرجل 8 المفصول عن جسده والذي باع ملكه بكيس من الذهب 
مثل كرة ثقيلة وسط الغبار. 

في المساء» سو المقاتلون صوت الرعد من اتجاه الممر»ء مع 
ومضات من البرق تشق السماء. إنه نذير بشيء ما؛ لكن هل يكون 7 
حسناً؟ في الواقع» ضرب البرق جدار الفوشيان في اللحظة التي وصلت 
فيها طلائع مقاتلي الفرس | إلى الجدار الأخير وبدأت في هدمه. لقد قال 
زيوس كلمته! 


منذ بداية ذلك اليوم» لم يتو قف صوت المعركة ا في البحر» 
-100- 


اندفعت البحرية الفارسية أخيراً عبر مضيق أرتميسيوم» حيث ترك الإغريق 
قوة لتعطيلهم مؤلفة من عشرين قارباً ثلاثية المجاذيف. كان البحر مغطى 
بحطام أخشاب السفن التي تحطمت. على ارتفاعات ثيرموبيلاي» كانت 
المذبحة أكثر فظاعة من أي وقت مضى. تكبد الجانبان خسائر» رغم أن 
الفرس عانوا أكثر من الأسبرطيين الأبطال وحلفائهم. كان خشايارشا 
قد ألقى بكل شخص بلا تخطيط في أتون المعركة لكسر شوكة مقاومة 
الأسبرطيون: الخيالة البختاريين والرماة المصريين وقوات المشاة من 
الأرمن والكيشيين والكبادوكيين والعرب. امتدت حشود المهاجمين . 
على طول المنحدر الطويل وإلى المعسكر الفارسي. وجدت كل موجة 
مقاتلين متتالية أنه من الصعب عليها التوقف عن التراجع عند الأرض 
المليئة بالدم. كان الآلاف من الفرس الشاحبي الوجوه والموتى متناثرين 
أمام الجدار. لم تعد هناك رحمة أو شفقة. وسرعان ما بدأ اليونانيون 
يهتفون لبعضهم البعض. لقد ذبحوا وطعنوا بالرماح وأطلقوا سهامهم 
وماتوا. عندما كان يوناني يتلقى إصابة قاتلة» كان يتراجع ويقفز آخر لسد 
الثغرة ويربط درعه بدرع جاره. وإذا لم يكن هناك الكثير من (الهوميوي) 
وهم الطبقة العليا من المحاربين» يتخذ حاملو دروعهم مكانهم ويقاتلوا 
حتى الموت. كان هناك الكثير من الفرس القتلى حتى إن الملك ليونيداس 
أصبح لديه جدار آخر مشيد من جثثهم. خلال فترة توقف القتال» عمل 
المحاربون الذين تعبوا من القتال بهمة على تكديس المئات من القتلى 
في جدار يرتفع إلى ما يوازي صدر الإنسان العادي. وقد أثبت أنه كاف 
لوقف موجات الهجوم الثلاث التي جاءت فيما بعد ولكن لم يتمكن من 
صد الموجة الرابعة. جاء خمسة آلاف من الميديين المدججين بالسلاح 
عبر الأرض المزدحمة» ودفعوا أمامهم قطيعاً من العبيد لحمايتهم من 
السهام حتى وصلوا إلى جدار الجثث. بأيديها العارية» سحبت حشود 
العبيد الجئث مقطوعة الرأس قبل أن يجتاح الجنود الفارسيون الئغرات. 
كان الفرس يشعرون بالحيوية فيما كان الإغريق منهكين. عادوا إلى القتال 
-101- 


من جديد. ولأول مرة» كان الفرس على وشك عبور جدار فوشيان عندما 
حدث ما هو غير متوقع. ضرب البرق الجدار ربما على الأرجح بسبب 
امتزاج الهواء عالي الحرارة وكتل المعادن على مرتفعات الممر. ا 
لليونانيين كانت تلك علامة من السماء» وبمعونة ازيوس المنقذ الجبار, 
قاموا بصدٌ المهاجمين. ثم حوّلت الأمطار التي سقطت مدراراً الأرض 
الملطخة بالدم إلى وحل يصل ارتفاعه إلى الكاحل. 

من أمام جدار فوشيان» كانت المذبحة مستمرة حينها لمدة ثلاثة أيام, 
إذا تمكن ليونيداس من الصمود لفترة أطول» فسوف يجبر خاشايارشا على 
التخلي عن الطريق البري والبحث عن حل عن طريق البحر» حيث كان 
لدى اليونانيين فرصة لاقتناصهم . لكي يحدث هذاء كانوا بحاجة إلى وقت 
للتحضير» وكان عليه هذه المرة أن يكسب الوقت بتأخيره. كان هناك حذ 
للمعاناة التي يمكن أن يتحملها. على الرغم من أن الفرس تعرضوا لخسائر 
فادحة -نظراً لأعدادهم الكبيرة التي تمكنوا من زجُها في المعركة- فقد 
وصل حلفاء الإغريق إلى نهاية قدرتهم على التحمل؛ لقد تم القضاء على 
فصائل قواتهم» ولم تعد أجسادهم قادرة على القتال» وشلدت أدمغتهم 
بسبب الجهد والضوضاء ورائحة اللحم المتعفن. واجه العديد من قادتهم 
ليونيداس بطلب الانسحاب والعودة إلى ديارهم والاستعداد للدفاع عن 
مدنهم. «احفظ لنا رجالناء يا رب» لأنهم أثبتوا شجاعتهم)» وجادلوا بأن 
هؤلاء ليسوا جبناء. المحاربون الذين ما زالوا صامدين هم زهرة هيلاس؛ 
وهم على استعداد للقتال في يوم آخر. لكن ليس هنا وليس الآن. 

لا يوجد شيء قاتل أبداً مثل الشعور بالوحدة الذي ينتاب الرجل الذي 
يجب عليه اتخاذ قرارات بشأن الحياة والموت فيما يتعلق برجاله. كان 
ليونيداس يتوقع طلبهم؛ كان يعلم أنهم لا يستطيعون الصمود لفترة أطول. 

لقد أدوا حصتهم من القتال . بدلا من إهدارهم لوقتهم بلااهدف» فقد رضح 
لمطلبهم بقيامه بذلك» قبل الملك ليونيداس» ملك أسبرطة» بالتضحية 
المطلقة: وقرر أن يقوم مع حراسه الشخصيين» الذين كانوا مجرد ثلاثماثة 

-102- 


رجل» بأعمال قتال في المؤخرة لصد تدفق الفرس ليوم واحد على الأقل. 
وهذا من شأنه أن يعطي حلفاءه فرصة ليكون هروبهم على أكمل وجه. لقد 
أدرك» مثلما أدرك رجاله؛ أن من المؤكد أنه ما إن تشرق شمس الصباح» 
حتى يهاجم الفرس مقاتليه الأسبرطيين. كان كل شيء في أيدي الآلهةء 
وقد أطلق ليونيداس في أيديهم روحه. طلب منها المساعدة» لأنه فقط 
مع تعاطفها يمكن أن يتغلب خط قتاله القليل العدد على الاختبار التالي. 
وصل المحاربون إلى ضفاف نهر ستيكس؛ وعلى الشاطيئ الآخر كان 
ينتظرهم الموت. تحت جنح الظلام» استعد اليونانيون والمتحالفون معهم 
للتراجع من الكورينثيانيين» والفليسيين» والميوكيانيين والأركاديين» وقد 
غطاهم التراب والدم من أثر معارك الأيام الثلاثة الماضية. بالنسبة لهم» 
انتهى القتال» ونظروا E‏ علدت ماهم الكثير من التعب 
والإرهاق من المعارك» وخوذاتهم تم إبعادها إلى الوراء عن وجوههم 
القاتمة» وعيونهم فاترة الهمة؛ وأكنافه) مترهلة. بالكاد كان هناك شخص 
امن رع م . في حين تقدموا خلف الأسبرطيين ا 
لأولئك الذين تكسرت سيوفهم في المعركة ورماحهم لأولئك الذين 
علقت رماحهم في أجساد بعض الفرس. لم يخجلوا. كانت هيلاس فخورة 
بهم» لقد قاتلوا بأقصى درجات الشجاعة» لكن معركتهم انتهت نتهت الآن. كانت 
هناك معركة أخرى تنتظرهم» أمام جدران أركاديا أو كورنيئوس. . وكان مما 
يحسب من مجد اليونان العظيم أن جميع وحدات دول المدن لم تستسلم 
إلى خشايارشا ما عدا وحدات مدينة ثيما. 

كان الأسبرطيون لوحدهم. فبعد أن انسحب معظم حلفائه» خلع 
ليونيداس خوذته ومسح بيده على وجهه المتعرق. هز كتفيه» ورفع يده 
ذات القبضة الحديدية» مشيراً إلى العدوء وكان على استعداد لضربة مرة 
تلو الأخرىء ثم قال وقد أمسك بيده الأخرى خوذته المنبعجة: : يجب أن 
نصمد». صك الرجال الذين من حوله أسنانهم وقرروا عدم اتخاذ قرار 
يمكنهم أن يتنبؤوا بعواقبه» حتى بدون وجود عرّاف. 

-103- 


أثناء الليل» تلقى ليونيداس أخباراً عن الكارثة التي حلت بقوته من 
الفوشيان التي تدافع عن. وادي أسوبوس. إذا كانت الآلهة قد اختارت 
تقديم المساعدة لقضيتهم خلال الأيام الثلاثة الأولى» فلا بد أنها قررت 
إنهاء دعمها. لقد فعل الشيء الوحيد المتبقي له؛ أرسل الحلفاء الذين 
أرجؤوا الانسحاب للاستيلاء على مخرج ممر الوادي قبل أن يكون لدى 
الفرس الوقت ليتسللوا منه. هذه القوة» التي ربما يصل حجمها إلى أربعة 
آلاف فرد» بما في ذلك عدد من الهوبليت» والتي كان يمكن أن تمنع 
المقاتلين» لولا أنها وصلت متأخرة أو تغلب عليها الذعر عندما رأت 
حجم الوحدة الفارسية. أياً كان السبب» فقد وصل عدد كبير من الجنود 
اليونانيين وهم مرهقون إلى أسفل الساحل في إيلاتياء وهم يتحدثون عن 
«حشود الفرس القادمة من الجبل». 

صلى الملك ليونيداس للآلهة زيوس من أجل جميع الفرسان الشجعان 
الذين سيموتون في هذا اليوم» وللأطفال والزوجات الذين سيحزنون 
عليهم. نظر إلى السماء ودعا الآلهة أن تحمي أطفاله أثناء دفاعه عن هيلاس. 
وعندما انقضى فجر اليوم الرابع» وأرسل خاشايارشا رجاله» وجدوا ثلاثمائة 
مقاتل واقفين أمام الجدار وليونيداس فوق رؤوسهم. قام هولاء الثلاثماثة 
مقاتل بتثبيت دروعهم» وخفضوا رؤوس رماحهم ووقفوا صامدين. أرسل 
خاشايارشا لعشرات المرات رماحه وسهامه التي كانت تتساقط مثل المطرء 
لكن الأسبرطيين رفعوا دروعهم فوق رؤوسهم إلى أن مرّت العاصفة. 

وفي الوقت نفسه»ء تسلم خشايارشا رسالة من أورونتس يسرد فيها 
تفاصيل المراوغة الناجحة التي قام بها للسيطرة على البوابة الوسطى. أمر 
الإمبراطور بشن هجوم أمامي واسع من أجل تحويل انتباه الأسبرطيين» 
بينما جاءهم المقاتلون من الاتجاه المعاكس. وكان على جندي مؤخرة 
الأسبرطيين أن يكون أول من يموت. تلقى السهم في صدره وهو يوط 
أسفل المنحدر. قبل أن يعرف بقية الأسبرطيين ما الذي أصابهم» حطمت 
رشقة من السهام الجزء الخلفي غير المحمي من جدار الدرع. أسقط 

-104- 


جندي من الهوبليت رمحه ودار به بقدم واحدة ببطء قبل أن ينهار» وكانت 
رجلاه ترفسان بشكل متشنج. عندما استدار الأسبرطيون» رأوا حشداً من 
المقاتلين يتسابقون للنزول من الأرض المرتفعة. بعض الأسبرطيين» 
المسلحين فقط بسيوفهم القصيرة» انغمسوا في الصفوف المتقدمة» 
وضربوها واخترقوها. ولكن لا شيء من شأنه أن يوقف الآلاف من 
المقاتلين. ونظراً لأن الأسبرطيين قد حوّلوا انتباههم الكامل إلى الهجوم 
من خلفهم» فان الونعدات العمشكرية القارشية اندفعت اعرا بالآلاق 
نحو حائط الفوشيان» الذي كان يصطادهم ويقتلهم مثل كلاب الصيد. 
كان الأسبرطيون يقتلون بكفاءة شرسة. كان العدو يسقط في جميع أنحاء 
سلسلة التلال» ورغم تفوقه العددي فإن كثيرين من محاربي الملك 
ليونيداس يمتازون بالوزن الضخم وقوة العضلات. كان الأسبرطيون 
يرمون الفرس جانباً كما لو كانوا يرمون نبات الفطر. وسرعان ما أصبح 
طوق الميديين القتلى حول التل عالياً. وهم جاهلون بالخطر» وغير 
مهتمين على ما يبدو بالخسائر» صعد الكثيرون على الحائط واندفعوا نحو 
المنحدر الطويل. على الرغم من مقتل العديد من الأسبرطيين» كان هناك 
دائماً مزيرٌ ممن يتقدمون فوق الجدارء وهم يغمرون الهضبة مثل النمل 
ويمهدون الطريق عبر الأرض التي كانوا يجتاحونها. 

قبل أن يمنح الكبادوكيون أو البختاريون أو المصريون فرصة المطالبة 
بتقليدهم أكاليل النصرء انق محاربو النخبة من حرس ملك الفرس على 
الأسبرطبين» لأنهم كانوا محاربين شرفاء ويحترمون الشجاعة في الآخرين. 
اصطدمت الدروع الفولاذية مع بعضهاء ثم حدث قتال بالأيدي» وكل سيف 
كان يقابل سيفاً آحر» وكل قبضة تواجه قبضة أخرى. ارتفعت ومضات من 
الدروع المصقولةء وحلقت شعاعات من رؤوس سهام معتمة في الجوء 
ممزوجة بريشات تتموج على خوذات المحاربين. وبقي أولئك الذين 
انزلقواء وداستهم الأقدام. كانت هناك جنث مكدسة منتشرة مثل أكوام 
مهجورة من الخرق المليئة بالدم. لم يسيطر الثلائمائة مقاتل ولا (حرس 


-105- 


الملك) على شبر واحد. قاتلوا وتمسك بعضهم ببعض حتى الموت» 
اخترقتهم سيوف بعضهم البعض» لتوحدهم في رحلتهم الأخيرة. ثقبت 
الرماح الأجساد وجعلت الدروع البرونزية تلتحم مع التروس المصقولة 
التي تشبه حراشف السمك. تساءل خاشايارشاء الذي كان يراقب المعركة 
من ارتفاع قريب» لأول مرة عن تكلفة النصر على اليونان. 
تساقط الأسبرطيون واحداً تلو الآخر. تعثر الباقون في مسيرهم نحو 
الهضبة استعداداً لموقفهم الأخير. أولئك الهيلينيون الذين كانوا لا يزالون 
قادرين على القتال استمروا في القتال على الرغم من جراحهم الرهيبة» 
حتى تمّت إبادتهم عن بكرة أبيهم من قبل عدد هائل من حاملي الفؤوس. 
«خذوا أسرى فقط من النبلاء»» كان ذلك أمر إمبراطورهم. لكن مساعديه 
من الفرس كانوا مهووسين بالدم وحمى القتل. في حمام الدم النهائي 
هذاء أهلك الفرس واليونانيون بعضهم البعض بأكثر الطرق وحشية. بدا 
المنحدر المحيط بالرابية وكأنه قبو لحفظ رفات الموتى. قام رجل يوناني 
ضخم الجسم بتشديد قبضته حول عن أحد الباختريين» وقام بخنق الرجل 
بينما تمزق ظهره بالرماح. سقط كلا الرجلين ميتين على الأرض. كانت 
تلك هي اللحظة التي أصبح فيها كل أسبرطي بطلاً مثل هكتور أمير طروادة. 
تقلص عدد المقاتلين الثلاثمائة إلى بضع عشرات. ومع عدم وجود 
حماية سوى الدروع الواقية للبدن» شكلوا جداراً بشرياً حول ملكهم» وهم 
يقاتلون المئات من المهاجمين. تولى أورونتيس المسؤولية وأمر قوات حكام 
المقاطعات المهتاجة المسعورة بالانسحاب. أراد أن تكون المعركة النهائية 
حكراً على مقاتليه (حرس الملك). ثم لاحظ هيئة ليونيداس» المحاط بأشعة 
الشمس مثل أبولوء وهو يرفع رمحه بذراع ملطخة بالدماء في لفتة أخيرة من 
التحدي. كانت أوامر خاشايارشا المحددة هي القبض على الملك حياً.أراده 
أن يكون عبرة للأسبرطيين. ولكنه كان رجلاً شجاعاً» فخوراً بالهزيمة» ولم 
يكن أورونتس يسمح برؤية هذا الملك النبيل وهو مقيد بالسلاسل. لقد وضع 
سهما في قوسه» وحدد هدفه بدقة وترك أداة الموت المجنحة تطير. وجه ضربة 
-106- 


إلى ليونيداس فوق درعه الواقي. عبر رأس السهم البرونزي حلقه وخرج من 
الرقبة. وأصيب الملك النبيل» بضربة قاتلة» وتخلى عن رمحه وجرجر نفسه 
إلى مأوى مدعم بكومة من الجثث» في محاولة لوقف الدم الغامق الذي 
يصب من الجرح المروع. وسط صراخ من الألم» سقط حامل الدرع على 
ركبتيه ليمسك ملكه بذراعيه. «يا إلهي العظيم» أنزل سطوتك على جميع 
الفرس الذين في ميدان المعركة هذا... ولتجعل الانتقام الإنساني يمضي 
قدماً لتبرر هزيمتنا... فأنت الآن من سيجعل في رقابهم أنشوطة الموت...» 
هكذا همس الملك» قبل أن ينسكب الدم من فمه ويغيب صوته. غامت عيناه» 
ثم صعدت روحه إلى جبل الأوليمبوس حيث يرقد جميع الأبطال الهيلانيين 
العظماء. قاتل العشرات من الأسبرطيين» الذين ما زالوا قادرين على الصمود. 
مثل الأسود المحاصرة. في هجمة أخيرة» شدوا من قبضتهم على سيو سيوفهم ثم 
اندفعوا ليشتبكوا مع الفرس بنوع من اليأس المتهور. . كان مقدراً له أن يكون 
آعر هجوم باسل. كانت تتقدم الصفوف تلك الهيثة العملاقة للمحارب الذي 
يحمل بيديه سيفاً تسقط منه الدماء. ويشق طريقه وسط صفوف الفرس» ويرفع 
بذراعه سيفاً ليسدد ضربة قاتلة» ثم يترك سيفهء لينغرز في أجساد الآخرين» قام 
بذلك عدة مرات» قبل أن يحطم أحد الفؤوس جمجمته ليسقط على الأرض. 
رقد آخر فرد من الثلاثمائة الأبطال في نومة أبدية ووجهه على الأرض ض التي 
كانت غارقة بالدم. كان قد أسلم روحه. 


عندما تجدون جبل المعركة 
أرسلوا أحدكم ليتسلقه» وانظروا إلى أسفل قمته» 
ستجدونه مسجى هناك 
ووجهه مرفوعاً إلى السماء في ذلك النصب الأحمر 
الذي حفره بسيفه العظيم.. 02 
كان هناك ناج واحد. قبل بدء المعركة بفترة وجيزة» أرسل الملك 





2- وردت هذه الأبيات في قصيدة رثاء الفارس الشهم للشاعر درايدن. 


-107- 


ليونيديس شخصاً يدعى أريستودموس07» مع صديقه يوريتوسء إلى 
بلدة ألبيني القريبة لتلقي العلاج من التهاب في العين. ما إن وصلوا إلى 
المكان حتى وصل جندي هوبليت ليخبرهم أن الفرس هاجموهم» وأن 
المقاتلين الثلاثمائة دخلوا في قتال حياة أو موت وأن هناك حاجة لكل 
فرد. عاد يوريتوس الشجاع ومات مع البقية. . كتب هيرودوتس عن هذه 
الحادثة يقول: «وحينها لو شارك أريستودموس فقط» أو إذا كان قد عاد 
مريضاً ا إلى أسبرطةء أو إذا عاد كلاهماء فلا أعتقد أن الأسبرطيين كانوا 
سيغضبون لكن أحدهم تمّ قتله واستغل الآخر العذر الذي كان يشملهما 
كليهما للافلات بجلده» وكان من الصعب عليهم أن لا يشعرا بغضب 
شديد تجاهه.. لم يقتلوه» لكنهم عاملوه مثلما نت قوانين أفلاطون على 
كيفية معاملة الجبان» المتشبث بالبحياة بشكل حقير حتى يتسنى له تحمل 
عاره لأطول فترة ممكنة)09. تم نبذ أريستوديموس. OR‏ أسبرطة 
فكن يشرن إليه بأصابعهن واصفاته ب (الرعديد) علاوة على ذلك» و 
أن أريستوديموس نفسه حاول أن يعيد الاعتبار إلى نفسه خلال معركة 
بلاتاياء حيث «حارب بشكل رائع لاستعادة شرفه المفقود». 

TT 
معاناة كبيرة دون شكوى. لا صرخة» ولا صلاة توسل مارا جمنعاوفقا‎ 
لمبدأ «النصر أو الموت»! ذهب أشجع الشجعان في أسبرطة إلى نهايتهم‎ 
مثل أبطال هوميروس» وقرروا التضحية بحياتهم في سبيل قضية نبيلة. قبل‎ 
فترة طويلة من انتهاء الحرب البيلوبونيسية» أنشد الشعراء قصائد المديح‎ 
لأولئك الثلاثمائة شخص وموقفهم البطولي في ثيرموبيلاي. لقد وفرت‎ 
تضحياتهم لليونان الأسابيع الثمينة اللازمة للتحضير للمعركة الوحيدة‎ 
التي كانت ستقرر مستقبل الغرب. كان ذلك فقط كل ما خلفه الثلاثمائة‎ 
مقاتل من أسبرطة من ميراث.‎ 


3- تظهر قصة أريستودموس بشكل بارز في كتاب هیر ودوتس. 
4“ راجم 2 Solincourt, London,‏ مل Herodotus, The Histories, transl, A‏ 


-108- 


بدا الفصل الأخير للمأساة اليونانية وشيكاً. مع سقوط ممر 
تيرموبيلاي» تم فتح الطريق المؤدي إلى أثينا. لكن بالنسبة لليونان كانت 
ثيرموبيلاي أكثر من نصر أخلاقي. لقد وحدت أخيراً بلدان مدنها خلف 
مثال شخصية ليونيداس الشهيرة» حيث رقد في جبل الأوليمبوس بجانب 
أخيل وهيكتور. بتأخيرهم جيش خاشايارشاء حقق المقاتلون الثلاثمائة 
البواسل الغاية من تضحيتهم البطولية. لقد أثبتوا أنه حتى أقوى الجيوش 
كانت عرضة للخطر بمجرد أن تُسرق منها ورقتها الرابحة - القدرة على 
تفعيل قدراتها الكلية. هذا الدرس لم يفوته رجل على وشك أن يصبح 
منقذ اليونان والغرب. 

أثبت ما حدث فى ثيرموبيلاي مرة واحدة وإلى الأبد أن هناك 
تضاريس جغرافية معينة تحدٌ من حجم الجيش. يمثل الموقف الملحمي 
للأسبرطيين عند بوابات الجحيم قمة الجرأة والتضحية. نجحت الخيانة 
فى تحقيق ما بذلت من أجله الشجاعة جهودا كبيرة دون جدوى. 

سجل التاريخ ملحمة الصمود الأخير هذه من خلال تذكره اسمين: 
الثالث فى هذه الدراما الملحمية - إيفيالتيس من مالياء الخائن. قبل 
خمسمائة عام من قيام يهوذا ببيع المسيح مقابل ثلاثين شيكلاء رتت 
وغد آخر مثل هذا الفعل الشائن. كان المنتصرون على وشك أن يكتشفوا: 
أن ثمن الحرية لا يقاس بالذهب» بل بالسلاح. 

Deus ex machina‏ وكما يحدث في الدراما اليونانية» حين تظهر 
الآلهة على خشبة المسرح في نهاية المسرحية لتحسم نتيجتهاء ستحسم 
الآلهة نتيجة هذا الصراع بين الغرب والشرق. 

لم تكن معركة ثير موبيلاي هي النهاية» لقد كانت البداية فقط. 
5- من محاورة أفلاطون مع كراتيلوس. ومعنى العبارة حرفياً «تدخل الإله في المسرح»» 

أي التحكم بأحداث المسرحية من خلف الكواليس ويقال له المدد الغيبي. 

-109- 





الجدار الخشبى لأثينا 


معركة سالاميس 
9 أيلول 480 ق.م 


«حافظوا على الجدار الخشبي ليحميكم أنتم 
وأطفالكم؟. 


٠.‏ من أقوال كاهنة دلفی» 480 قم 


لايا سالاميس المقدس» أنت تدمر ذرية النساء» 
عندما ينثر الرجال اليذورء أو حين يجمعون 
الحصاد..). 


e‏ من أقوال كاهنة دلفي» ومذكورة في كتاب هيرودوتس 


يظهر الرجال العظماء في لحظات الحاجة الماسة لهم. وهكذا كان 
الحال مع ثيميستوكليس الرجل النبيل من أثينا... «فقد أظهر أكثر علامات 
العبقرية التي لا يمكن أن يختلف عليها اثنان. في هذا الات فيو سعد 
إعجابنا به بشكل استثنائي تماماً وغير مسبوق)» هكذا كتب ثيوسيديديس 
من أثينا. لقدرته الفطريةء التي لم تصقلها الدراسة ولم تدعمها على حد 
سواء» كان أفضل حاكم في تلك الأزمات المفاجئة التي تسمح بالقليل 
من التروي أو لا تسمح به إطلاقاًء وأفضل من يتنبأ بالمستقبل» بما في 

THE 


ذلك احتمالاته البعيدة للغاية... هذا الرجل الاستثنائي» يجب السماح 
له بتجاوز كل الآخرين في مقدرته بشكل حدسي على مواجهة كل حالة 
طارئة»» وها هى تحدث الآن؛ كانوا يشاركون في معركة للحفاظ على 
حرية هيلاس من نير الغزاة. 

بمجرد فتح أبواب ثيرموبيلاي بالقوة» لم تعد هناك عقبة أخرى أمام 
خشايارشا وجحافله للنهب. فبدؤوا يجوبون منطقة أتيكا©» يدمرون 
ما يجدونه في طريقهم من معابد الآلهة الهيلينية» وينهبون كنوز اليونان 
ويحرقون مدنها. أصبحت أثينا مهجورة» وفرٌ مواطنوها؛ وتم اقتحام 
الأكروبوليس وذبح المدافعون عنه بالسيوف. واصل الفرس هياجهم» 
وحوّلوا اليونان إلى مقبرة. ٠‏ 

في حين كان الجيش الفارسي البري يتقدم دون مقاومة» أين كان 
أسطولهم البحري القوي الذي اعتمد عليه خاشايارشا في استراتيجيته؟ 
منذ البداية» كان الأسطول الفارسي يعاني من فأل شرير. قام الإمبراطور 
بتقسيم أسطوله الكبير إلى قسمين؛ كان على الأول الدخول إلى خليج 
مالياء والاشتباك مع الأسطول اليوناني أثناء انتظاره قبالة الرأس البري 
أرتيميسيوم» ثم الإبحار جنوباً على طول قناة وابية لدعم عملياته البرية 
في ثيرموبيلاي؛ فيما أمر الأسطول الثاني بالإبحار على طول ساحل بحر 
إيجه والدخول إلى القناة نفسها من الجنوب لحجز ما تبقى من الأسطول 
اليوناني. في تخطيطه لهذا الأمرى لم يأخذ الإمبراطور الفارسي في الاعتبار 
ما يمكن أن يفعله إله الطقس. 

كانت القوات المخصصة لبحر إيجه قد انسابت على طول شبه جزيرة 
ماغنيسيا على مسار جنوبي» وكانت على وشك الاقتراب من الطرف 
الجنوبي لجزيرة وابية عندما تغير الطقس بشكل مفاجئ نحو الأسوأ؛ 





Thucydides, The History of the Peloponnesinn War, transl. Crawley, راجع:‎ -1 
London, 4 


2- التي تضم أثينا والمدن اليوئائية الأخرى. المترجم. 


-112- 


بدأت الغيوم تتجمع عبر السماء» متجهة نحو اليابسة في الجنوب الشرقي» 
عند مضيق الدردنيل؛ وكان البحارة اليونانيون يخشون العاصفة أكثر 7 
أي شيء آخر. أطلقت العاصفة غضبها. تسابقت الأمواج الوضحقلية تبجو 
الأسطول الفارسي. بأمر من الأدميرال» أريامنيس النبيل» كان على السفن 
E E‏ 
تكون قريبة جداً من الشاطئ حتى تتمكن من المناورة كلما أرادت» كانت 
السفن (وتسمى بيتيكوتوروس باليونانية) في اليابسة الأقرب قد حاصرتها 
الأمواج المرتدة من الشاطئ الصخري. كان سطح السفينة مائلاً وقد 
انزلق طاقمها باتجاه الكسارات التي غطاها الزبد والتي طوّقت السفينة 
المنكوبة وقذفتها رغوة البحر باتجاه المنحدرات. ضربت الأمواج العديد 

من السفن وجعلتها ترسو جانباًء قذفتها عالياً في الهواء لتتحطم بعيداً في 
قعر المحيط. كانت السفن تقذف جانا نحو البحار المتدحرجة» ترتقع 
صعودا وتتمايل من البداية إلى النهاية» وترمي بطاقمها الذي ليس لديه 
حول له ولا قوة إلى البحر وسط فوضى من المجاذيف والدمار الخانق. 
أما السفن التي لم تنقلب فقد تابعت مسيرها فوق قمة الأمواج العملاقة 
ليتم تحطيمها على المنحدرات أو تتهشم عند الشعاب المرجانية. على 
أثر تلك المحنةء تحطمت مائتا سفينة حربية على الأقل©. لم يكن هناك 
ناجون على استعداد لتقديم الأخبار إلى ملكهم؛ أولئك الذين فروا 
بأعجوبة كانوا خائفين للغاية من مواجهة غضب ملكهم. في غضون 
ساعات قليلة» اختفى نصف أسطول خاشايارشا. تجرأ الفرس على 
الإساءة إلى بوسيدون» سيد البحار» وكان غضبه شديداً لدرجة أنه أطلق 
عليهم ساحراته من أعماق البحار. وأدى غضبه إلى أن يودي بالرجل 
وسفنه إلى هاويتهم. 

«حافظوا على الجدار الخشبي ليحميكم القع وأطفالكم...““. كان 


راجع كتاب هیر ودوتس. 
راجع كتاب هيرودوتس. 





-3 
-4 


-113- 


هذا ما وعد به كاهن دلفي الأنشية - وكان يعني «بالجدار الخشبي) 
سفنهم» تلك السفن الحربية القوية والسريعة مع أطقمها الشجاعة 
والمدربة جيداً. عندما أراد مجلس الحكماء ا 
تقسيم ثروات المنجم الفضي بينهم» كانت بلاغة ثيميستوكايس هي أنني 
أقنعتهم باستثمارها في بناء مائة سفينة ثلاثية المجاذيف» وكانت ذات 
تصميم جديد بشكل جذري. 

في حوالي عام 0 ق.م» . صنع أمينوكليس صانع السفن من 
مدينة كورنيثيوس سفينة حرب ثورية جديدة. كان كل شيء في ذلك 
التصميم الضيق والأنيق» موجهاً من أجل زيادة السرعة. كان يتم دفع 
تلك السفينة ثلاثية المجاذيف من قبل ثلاثة صفوف من المجاذيف 
(ومن هنا جاء الاسم)» يحركها 150 مجذفاً. استبدلت مقدمة السفينة 
التقليدية المستديرة بأخرى بوضعية القرفصاء (دسلوعة)» وفوقها 
عنبر البحارة العالي يحوي مسند مدفع بارتفاع صدر الإنسان العادي 
لحماية القوات المهاجمة من الأسهم أثناء مرحلة التصادم الأولية. 
كان السلاح الرئيس للسفينة عبارة عن قطعة من البرونز طولها 10 
أقدام بيد مهماز أو (605م6)» بارزة من المقدمة تحت مستوى 
الماء. أثبت هذا المهمازء أن تأثيره مدمر عندما يصطدم بسرعة في أحد 
جوانب سفن العدوء يقطع ظهر السفينة» ويقسمها إلى قسمين. هناك 
طريقة أخرى لجعل العدو بلا حول ولا قوة تكمن في قابلية المناورة 
لتلك السفن ثلاثية المجاذيف: الوصول السريع» ثم تنحرف في 
اللحظة الأخيرة» ثم تنقل المجاذيف أثناء استخدامها الشفرة البرونزية 
عند مقدمتها المربعة (8]0105) لقص مجاذيف العدوء التي أصبحت 
هدفاً سهلاً للبحارة من مقاتلي الهوبليت. وعلى الرغم من أنها كانت 
E‏ إِلّا أن الفرس 
لم يستطعوا أبداً أن يجاروا سرعة السفن ثلاثية المجاذيف» وقدرتها 
على الإفلات والخروج من أي موقف» كما لم يكن البحارة الفرس 

-114- 


بمهارة البحارة اليونانيين. لم يدرك أهل كورنثيس فوائد هذه السفينة؛ 
ومع ذلك» قام الأثينيون» بناءٌ على طلب ثيرميستوكليس» بإعادة 
تشكيل أسطولهم على غرار التصميم الذي ابتكره أمينوكليس©» 
ومع ذلك» كان في تلك السفن عيب واحد: بحكم شكلها النحيف 
كانت عرضة لتأثير الرياح الشديدة» وبالتالي فإن الأسطول اليوناني 
كان في الأساس أسطولاً يرسو عند الشواطئ» مصمماً لحماية 
الوطن وليس للهجوم في عرض المحيط. هذه الحقيقة كان يجب 
أن تكون واضحة للقادة الفرس؛ كان ينبغي أن تكون خطتهم هي 
إغراء الأسطول اليوناني لمغادرة أرخبيله البحري ليكون في العراء 
حيث سيكون عرضة للخطر. لكن الفرس كانوا واثقين من أنفسهم. 
كانت استراتيجيتهم بأكملها مبنية على تفوقهم العددي. وقد اعتبروا 
بحر إيجه بحيرة فارسيّة» وقد أصدر إمبراطورهم الأوامر للاحتفاظ 
بها ملكاً فارسياً. لم يأخذوا بالاعتبار ولا لمرة واحدة ما كان يتمتع به 
الإغريق من إصرار وعناد. 

«سنهزم الميديين المتعجرفين». كان قائد الأسطول اليوناني الذي 
قال هذه الكلمات الفخمة النارية ذا بنية ممتلئة» ورأس مستدير ولحية 
رمادية منسدلة. لقد تعلم القادة تجنبه في حال حدوث مشكلة» لآنه 
أثبت دائماً أنه أكثر فطنة في المجادلة ولم يكن محاربا بطبيعته. لقد كان 
يعتبر نفسه فيلسوفاًء وفي أفضل الأحوال ملاحاء وكان يذهب إلى أبعد 
الحدود لتجنب خوض معركة بحرية. ومع ذلك» كان خطابه هو الذي 
جعل زملاءه الأثينيين يتغلبون على الخوف الذي اعتراهم في مواجهة 
بحر غريب عليهم. أقنعهم برفع أبراجهم المحصنة المتكونة من 
الصخور الجبلية ورميها في الماء لتصبح لهم مثل قلاع في المحيط. 
5- يمكن مقارنة أهمية اختراعه باختراع «المدرعة البحرية»» حيث كانت أيضاً تصميماً 

جديداً ثورياًء باحتوائها على عشرة مدافع من طراز اثني عشر بوصة مثبتة على خمسة 

أبراج دوّارة. والتي تجّ إطلاقها من قبل البحرية البريطائية في عام 1905. 

-115- 





لقد أدرك ثيميستوكليسء أكثر من أي شخص آخر قبله» أن البحر 
بفضل قوته العازلة الهائلة» قد وفر لهم خط الدفاع الأكثر أماناً. 

الأخبار الواردة من منطقة أتيكا سيئة... «لا أحد يعرف ما هو السيئ 
فعلاً. يجب أن نوقف خشايارشا. يجب ألا نسمح لجحافله بالتجول في 
بلادنا». وكرر قوله: ليجب أن نوقفهم». 

و«لکن يا ثيمستوكليس» هذا مستحیل؟. 

١لا‏ شىء مستحيل). 

مع حدوث حالة طوارئ ووجود جيش فارسي ضخم متجه إلى أثيناء 
بنى ثيمستوكليس استراتيجيته على عاملين: أن القوات البرية الفارسية 
تعتمد بالكامل على قواتها البحرية القوية للحصول على الإمدادات؛ 
وبالتالي فإن تدمير القوات البحرية الفارسية يعني تدمير قواتها البرية؛ 
وأن السفن اليونانية كانت أسرع ويمكن لها أن تتفوق على الفرس في 
بحر مغلق» حيث ستجد مجموعات سفنهم نفسها محشورة بالكامل. 
تضمنت استراتيجية يمستوكليس إغراء الأسطول الفارسي بين اثنتين 
من الجزر اليونانية العديدة. وكان قد اختار بالفعل موقع المواجهة: 
مضيق سلاميس» الواقع قبالة الشاطئ الجنوبي لمدينة إليوسيس. 
كانت تقود إلى هذا المضيق» قناتان» ولم يكن لدى ثيمستوكليس 
الوسائل لغلقهما. كان لديه ما يكفي من السفن لغلق واحدة فقطء 
واختار الممر الواقع بين نتوءي سينوسورا وبيرايوس» والذي انقسم 
مرة أخرى بواسطة جزيرة سيتالايا الصغيرة إلى قناتين ضيقتين يبلغ 
عرضهما من نصف إلى ثلاثة أرباع الميل. كان لا يمكن حتى مجرد 
التفكير بالفشل؛ كان مفتاح النجاح هو البرزخ الموجود بتياراته الخطرة 
وصخوره المغمورة في المياه. حينما يتوجه العدو نحو بيرايوس أو 
ای وكلتا هاتين العدينتين كانتا واقعتين داخل الخليج» سيجد 
أن طريق الوصول يبدو سهلاء لأنه وراء الممر الضيق ينتظره خليج 
واسع من المياه الهادئة. لكن هذا الطريق المغري كان خادعاًء لأن 

-116- 


المداخل كانت ضحلة»ء بوجود الشعاب المرجانية ذات الرؤوس 
الشائكة المغمورة بالمياه بالقرب من الشاطى. إذا نجح أريامنيس 
بعزيمته على تجاوز هذه العقبات الأولية» فسوف يجد أن ميزته العددية 
قد تقلصت فجأةء بالنظر إلى ضيق الممر. جادل ثيمستوكليس بقوة أن 
هذا الموقع سوف يوفر للأسطول اليوناني ميزة الحسم. لكن القضية 
تحوّلت إلى مسألة سياسية. فقد كانت مصالح كورنيث وأسبرطة على 
المحك» منذ أن تسببب خطته الجريئة في منع دفاعاتهم من الوصول 
إلى برزخ كورنث. وكما كان متوقعاء اندلعت أزمة مع حلفائه قبل عدة 
أيام من المعركة الحاسمة. ولجعل الأمور تسير في صالحه» وجعل 
الفرس يسقطون في فخه» فكر في القيام بخدعة. 

كانت السرعة ضرورية. عندما وصل خبر سقوط أثيناء أرعب الكثير 
من القباطنة في البحرء الذين كانوا متمددين على متن سفنهم داخل 
خليج سلاميس. كانوا يخشون أن يقطع الأسطول الفارسي عليهم 
طريق العودة إلى برزخ كورنثيان؛ أبحرت العديد من الرافعات» وكانت 
على استعداد للذهاب إلى البحر المفتوح. في لحظة الأزمة هذه 
كان يمكن أن تأتى الإغاثة لئيميستوكليس من الأدميرال الأسبرطي 
يوريبيادس؛ إذا كان بإمكانه إقناع حليفه الأسبرطي» والذي كان شكلياً 
القائد العام بسبب منصبه في الرابطة الهيلينية» بالصمود والقتال في 
سالاميس» فإن ذلك يمثل فرصة جيدة. إذا لم يتمكن من ذلك فقد 
ضاعت اليونان. فقال له ثيميستوكليس: «عليك يعتمد الأمرء يا 
يوريبيادس» لإنقاذ اليونان». اسمعني الآن وأحكم على المسارين. 
في برزخ كورنئوس ستقاتل في بحر مفتوح» الأمر الذي لا يصب في 
صالحنا تماماً. هناك ستتقدم الجيوش البرية والقوات البحرية للفرس 
سويةٌ؛ ولكن هنا سنقاتل في بحر ضيق مع بضع سفن ضد سفن كثيرة» 
وإذا اتبع القتال مساراً مشت ركأء فستحقق فا كبيراً. لأن القتال في 
مساحة ضيقة يناسبناء أما القتال في بحر مفتوح» فهو مناسب لهم. 


-117- 


Battle of Salamis 
480 6c 


Xena: 
„j e emire Perslan, ايها‎ 


and 
Capen balte oot ا‎ ee 
(taking inio account the 200 ios in the storm) 
3210 1,500 supply vessels 


نيللا 

160 Athenian trirermes rid 7 ponteconers 
16 Spartan tiromes under Eurybladas 
168 tirermes أن‎ Peloponnesian ies 





تردد يوريبيادس. صوّت أديمانتوس من کورنثیان ضد اقتراح 
ثيميستوكليس» ولأجل إنقاذ بلده الحبيب» كان على ثيميستوكليس 
حث زملائه من القادة للدخول في المعركة» ولتحقيق غايته» لم يكن 
الأثيني يكره استخدام الابتزاز. لقد بذل قصارى جهده لثني حلفائه عن 
التخلي عن القتال من خلال نظرات الغضب والعبوس كما لو كان يُطلب 
منه الإبحار إلى حافة العالم والسفر مع الشيطان وأخيه. لقد كان لديه 
خطته في شكل تهديد بسحب أسطوله: «... إذا كنت تريد أن تتصرف 
كرجل شجاع» فكل شيء سيكون على ما يرام» إن لم يكن الأمر كذلك» 


-118- 


فسنأخل عائلاتنا على متن السفينة ونذهب إلى إيطالياء وهو بلدنا من 
قديم الزمان وستكون قد خسرتنا كحلفاء». لقد اعتمد على حقيقة أنه 
بدون دعم الأسطول الأثيني القوي الذي يحتوي على السفن الثلاثية 
المجاذيف» سوف يفقد دعم الأسبرطيين والكورثثيانيين. وهكذا 
جعل ئيميستوكليس الحليفان يغيّران رأيهما ويقرران القتال فى مضيق 
007 لا تزال هناك مشكلة القباطنة الآخرين في بحر بيلوبونيزء 
الذين أرادوا التخلي عن مواضعهم . عقد مجلس للحرب وكانت نتيجة 
التصويت ضله. هز ثيميستوكليس رأسه وظهرت على وجهه علامات 
الازدراء وغادر خيمة المجلس. 

وقعت حينها حادثة أظهرت مدى دهاء القائد الأثينى. قال 
بمستوكليس: داي أي حيلة لمي الميتيينةد عند عودته إلى 
سفينته» أصدر تعليماته إلى أحد رجاله» وكان يدعى مايلون» وهو شخص 
ماكر يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً من جزيرة رودس» لنقل رسالة 
سرية. تخفى مايلون على هيئة تاجر ذي شخصية منفتحة من جزيرة صقلية 
أمره ثيميست وكليس بما ينبغي أن يقوله» وأرسله على متن سفينة تجارية إلى 
أسطول الميديين (الفرس) للتحدث إلى الأدميرال. «لقد أرسلني القائد 
الأثي: ثيني إليكم على انفراد» دون علم القادة الإغريق الآخرين. إنه يتمنى 
ا ملكت وتتفيل أن تحرز النجاح أكثر من مواطنيه؛ لذلك 
أمرني أن أخبرك بأن الخوف قد استولى على الإغريق وأنهم يفكرون 
في القيام بعملية هروب سريعة. لذلك أصبح متاحاً لك الآن» أن تقوم 
بأفضل عمل لك على الإطلاق» ليس عليك سوى أن تتمكن من أن تعيق 
هروبهم...1). اعترض الفرس سبيل التاجر الصقلي ومع ذلك استطاع 
مايلون ابن جزيرة رودس إيصال رسالة ثيميستوكليسء والتي تم نقلها 
فوراً إلى خاشايارشا. للوهلة الأولى» لم يتمكن الإمبراطور الماكر من 
اكتشاف الفخ» خاصة بعد أن أبلغه جواسيسه عن حدوث نزاعات علنية 





6- عن هيرودوتس. 
-119- 


بين قباطنة البحر اليونانيين. كانت الفرصة تبدو ممتازة ولا ينبغي تفويتها. 
قرر التوجه فوراً نحو الأسطول اليوناني المحاصر. كانت السرعة التي 
تطورت بها هذه الأحداث مذهلة. فقد استغرق الوقت من تلقي رسالة 
مايلون إلى اندلاع المعركة يوماً واحداً فقط. . وبينما كان خاشايارشا في 
بداية تحركه وكان لا يزال القباطنة اليونانيون يتجادلون» و صل أريستيدس 
النبيل -وهو قبطان ا وأنفاسه متقطعة إلى خيمة المجلس. أخذ 
يميستوكليس جانباً ليخبره» مهما كانت رغبة الكورنثيين والأسبرطيين 
قوية» فلا يمكنهم التراجع الآن؛ وذلك لأننا جميعاً محاطون بالعدو من 
كل جانب». لقد نجحت حيلة ثيميست وكليس تمّت محاصرة البيلوبونيزيين 
ولم يعد هناك من خيار ار سوق الاستعداد للمعركة©. هذه الأحداث 
وقعت عند حلول ظلام يوم 22 أيلول سنة 480 ق.م. 

كان الفرس قد أبحروا في بحر إيجه بصحبة 1207 سفينة حربية من 
أنواع مختلفة. في مواجهة هذا الأسطول الضخم» استطاع ثيميستوكليس 
تجهيز 366 من سفنه ثلاثية المجاذيف السريعة مثل البرق وسبع سفن من 
نوع آخر كانت أبطأ ولكن أكثر ضخامة. يكمن تفوق أثينا بضباطها وقباطنة 
سفنها الذين قادوها والرجال الذين خاضوا المعركة. كانت مجموعة 
القباطنة اليونانيين مثيرة للإعجاب؛ وجميعهم كانوا بحارة محترفين. وكان 
نصفهم من التجار» والنصف الآخر من القراصنة. وعلى الرغم من صغر 
سنهم نسبياء فقد كان لديهم قدر كبير من التجارب في الملاحة البحرية. 
لقد جاؤوا للدفاع عن بلادهم من كل مناطق ساج البحر المتوسط. 
وكان من بينهم أريستوس البالغ من العمر ثلائين عاماً من مدينة بيرايوس» 
الذي كان يبحر في مياه بلاده؛ وكان هناك كيلينوس وهو ة فى العمر نفسه 
تقريباً من جزيرة رودس. وأوثيمينوس من ماساليا (فرسيلا) وكان في 
منتصف الثلاثينيات من عمره. وكاروس من مدينة هيراكليا ذو الثمانية 
والعشرين عاماًء لكنه كان يمخر عباب البحر منذ أن كان في سن الثانية 


7- نفس المصدر السابق. 


-120- 


عشرة؛ وكان هناك أيضاً كيبريانوس من مدين مليلة (في جزيرة كورسيكا) 
وأديمانتيس من كورنيثيا. ثم برز بعد ذلك موضوع تحفيز الطاقم وروحه 
المعنوية: بينما كانت بلاد فارس تعتمد على قوات من البلدان التابعة لها 
والعبيد الذين يقومون بالتجذيف لخوض معاركها في أرض أجنبية» كان 
المواطنون الأحرار في اليونان يدافعون عن عائلاتهم ومنازلهم. في الليلة 
التي سبقت المعركة» استقل الرجال السفن؛ كانت رائحة البعض مفعمة 
بالعطر» والبعض الآخر كانت رائحتهم مليئة برائحة النبيذ. لم يتخلف 
أحدٌّ منهم. كان كل واحد يعرف إلى أين هو ذاهب. تمّ استدعاء القباطنة 
بأسمائهم وخصصت لهم مواقعهم. 

قال القبطان كاروس وهو يضحك: «تناول رجالي بعض النبيذ 
المصفى. كان لدي ثلاثة أمفورات من النبيذ الحلو على متنها؛ طلب 
منى هذا المحتال فى ماساليا خمسة عشر دراخما لكل واحدة» ليس من 
اا تفلت منا)» من دون إضافة عبارة «في حالة غرقنا»» لأن 
ذلك لم يكن في وارد الاحتمال. كانوا یونانیین» وكانوا هم الأفضل! 9 
يمكن أن يغرقوا! 

رڌ عليه ثيميستوكليس مبتسماً: «أنا مسرور برجالك» يا كاروس. بهذه 
الطريقة سوف يجذفون بقوة أكبر». كان مسروراً؛ وكان طاقمه يتمتع بروح 

في صباح يوم 23 أيلول 480 ق.م» كانت الأساطيل الفارسية والفينيقية 
مجتمعة» مع الوحدات التي يقودها حكام المقاطعات (الساتراب) من 
ايوس والمضرييق قد بدأت بالتوجه إلى المواقع الخلفية» ورست 
في ثلاثة صفوف أمام خليج إليوسيس. كانت تلوح في الأفق جزيرة 
صخرية صغيرة (بسيتالابا)» حيث كان جرفها ينحدر بشدة في البحر. 
على يسارها كان يكمن الشاطئ الصخري لجزيرة سالاميس» إلى جانب 
الصخرة الشاطئية (سينوسورا) وهي تمد أصابعها الشريرة في الممر 


س مإ 





-121- 


الضيق. تحدثت الأساطير القديمة عن التنانين البحرية التي كانت تحوم 
حول هذه الجزرء والوحوش التي كان يقودها بوسيدون إله البحر عند 
الإغريق». تساءل عدد لا بأس به من الفينيقيين» وهم يخشون غضب 
الآلهة اليونانية» والذين شاهدوا سربا من الطيور السوداء وهي تعبر سفنهم 
بشكل منخفضء عما إذا كانوا وسط مظاهر أسطورية للشر. لم يكن لدى 
قائدهم الأدميرال» أريامين» متسع من الوقت للتفكير في التنانين بينما كان 
يستمع إلى الدوي الممل لصوت تلاطم الأمواج على كلا جانبي السفينة؛ 
ما زال الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تيارات المد الشريرة حول النتوءات 
الصخرية التي بانتظارهم. بالنسبة له» كان هذا الاحتمال مخيفاً أكثر من 
أي حديث عن الأساطير. الخطر يكمن هناء في هذه الممرات الضيقة. 
سيتقدم قباطنته في تشكيل حربي مزدحم نحو ممر ضحل وغادر» مما 
سيؤدي إلى تقييد حرية المناورة إلى حد كبير. كان لا يزال غير مدرك أن 
الأسطول اليوناني كان يكمن منتظراً عند الصخرة الشاطئية. 
أصبح وقت البدء بالمعركة قريبا؛ جلس خاشايارشا على المنحدرات 
العالية لمراقبة وقائع انتصاره الكبير. أرسل إشارة البدء إلى الأدميرال 
أريامنيس» قائد جيو شه» الذي رفع راية المعركة . رفعت ألف سفينة أشرعتها 
وأبحر الأسطول نحو الفخ. اجتمعت ثلاثة أشياء وأدّت إلى حدوث 
الهزيمة 2068616: الازدحام الناتج عن تواجد عدد كبير من السقن الذي 
أغلق الممر الغادر؛ وسوء الملاحة وعدم كفاءة الطاقم؛ وأخيرآء تلاطم 
أمواج البحار التي سيّبتها التيارات المائية العاصفة والشعاب المرجانية 
المغمورة التي تسببت في خلق ظروف توجيه غير مستقرة للسفن. ربما 
يكون الفرس قادرين على حل هذه المشاكل واحدة تلو الأخرى» ولكن 
لا يستطيعون حلها مجتمعة. قام أربامنيس بتقسيم صفوف سفنه الثلاثية 
من أجل الدخول إلى الخليج بواسطة قناتين تقودان إليه من حول جزيرة 
بسيتالاياء وهي القناة الغربية التي يبلغ عرضها نصف ميل والشرقية التي 
9- بالفرنسية في الأصل. المترجم. 





-122- 


يبلغ عرضها ميل واحد. . تألفت تشكيلته الهجومية من الجناح الأيسر من 
الأسطول الأيوني» ومن الجناح الأيمن من أسطول الفينيقيين» مع وجود 
مائتي سفينة من الأسطول المصري محتجزة لوقوعها في الكمين» مما 
استوجب على الإغريق الخروج نحو البحر المفتوح. 

لم يكن هناك شيء بعيد عن تفكير الإغريق؛ فبمجرد أن اضطروا إلى 
خوض المعركة» قرروا خوضها بالطريقة التي يرغبونها. تضمنت خطة 
ثيميستوكليس أن يقوم سرب المقاتلين الكورئثيين بقيادة أديمانتوس 
بالسيطرة على القناة الغربية قبالة ميناء بيرايوس والاختباء في جزيرة بسيتالايا 
حتى يت إعطاء الإشارة لشنّ هجوم شامل. أما أسطول أسبرطة المكوّن من 
ست عشرة سفينة ثلاثية المجاذيف وتحت قيادة الأدميرال يوريبياديس فقد 
كمن متربصاً خلف شبه جزيرة سينوسورا حيث يمكنه من هناك مهاجمة 
الأيونيين عند دخولهم عبر المضيق الشرقي. أما البيلوبونيزيون» الذين 
كانوا مترددين في البداية وأصبحوا الآن متحمسين لملاقاة العدوء فقد 
سيطروا على الوسط. أما ثيميستوكليس» مع مقاتليه من أثينا وأجانيطس» 
الذين تمكنوا من زيادة تعزيزات أسطول الإغريق» فقد سيطر على الجناح 
الأيسر. وكما حكم القدر» تموضع ثيميستوكليس على طول شاطئ 
البر الرئيس لمدينة هرقليون» أسفل منحدرات جبل إيغالوس مباشرة 

حيث شغل الإمبراطور خاشايارشا مقعده في المدرج لمشاهدة «عملية 

غرق الأسطول اليونانى». کان الشاطۍ من حوله أسود لاكتظاظه برجال 
وخيول قوات خاشايارشا البرية» كانوا مهتاجين مثل النمل المتحمس وهم 
يختطفون نظرة من أسطولهم مبعث فخرهم وهو يقترب. 

كان قد تم إجراء الاستعدادات النهائية للمعركة على متن السفن 
اليونانية» وتم توزيع سهام ملفوفة بالقماش المنقوع بالزيت على الرماة 
بالإضافة إلى المجامر لإشعالها قام العبيد (الهيلوتس) بشغل أماكنهم في 
نقدمة السفن »وقد تم ايهو بمخطافات القتال» مدعو مين يثمالية عر قرداً 
من جنود الهوبليت على متن كل سفينة ثلاثية المجاذيف» وكانوا على 


-123- 


استعداد للقفز فوق سطح سفن العدو وارتكاب المجازر. للمرة العاشرة, 
تمشى ثيميستوكليس إلى الأمام إلى مقدمة سفينته ثلاثية المجاذيف.وهو 
يتطلع إلى البحر. عندما اكتشف أن الريح القادمة من اليابسة تهب مباشرة 
في وجه العدوء شعر بالغبطة. لقد نجح في إغراء الفرس بالوقوع في 
الفخ» والآن أصبحت الريح ضدهم» وكان من الصعب عليه أن يصدق كم 
هو سعيد الحظ. فقد وقفت الآلهة بجانب الإغريق. 

في غضون دقائق دخل الأسطول الفارسي إلى المضيق. في البداية 
كانت الظروف قد خدمتهم بشكل جید» ولكن بعد ذلك خانتهم الرياح 
المتقلبة. اعتمد قباطنتهم على التغلب على تلك الصعوبة باستخدام 
خمسين مجذافا لكل سفينة وأطقم من الرجال المسلحين الأقوياء 
لتجذيفها. كانت المشكلة تكمن فى تمايلها - فبعض السفن كانت لها 
عوارض ثقيلة وواسعة مغروسة في عنابر هائلة وأشرعة ضخمة: الأمر 
الذي جعلها عاجزة عن عبور التيارات القوية. 

كان ثيميستوكليس» واقفاً فى مقدمة السفينة عند التمثال البرونزي 
الرائع (3881[08) الدي يمثل ا الإلهة أرتميس» حين جثا على ركبتيه؛ 
ليصلي الصلاة الأخيرة: يدعو فيها الإله زيوس أن ينقذ» بحلول هذاالمساء 
ن (اليونان) من الخطر الفارسي. أو يرتاح هو ورجاله الشجعان إلى 
الأبد في قبر وسط المياه. صار دوي الطبل المتناغم وحفيف المجاذيف 
أقرب الآن؛ ثم ناداه أحد المساعدين وهو يشير إلى ما يجري بجانبهم. 
استدار ثيميستوكليس» شاحب الوجه وهو يلعن. كان الأسبرطيون بقيادة 
يوريبيادس» متلهفين لتسوية حساباتهم الشخصية مع الفرس بسبب موت 
ليونيداس وحرسه الثلاثمائة الشجعان» فشرعوا بالعمل وبدؤوا يجذفون 
بكل ما لديهم من قوة. تقدموا إلى الأمام» واخترقوا القناة المفتوحة 
-وأصبحوا أمام الأيونيين القريبين تماماً- واصطدموا بهم على الفور 
من الجانب. ترنح الأسبرطيون في ارتباك لوهلة. توجه البعض منهم 
مباشرة إلى القاع وتراجع البعض الآخر. بالنسبة لئيميست كليس يبدو أن 

-124- 


عنصر المفاجأة قد تلاشى. . لسبب غير مفهوم تماما لم يلاحظ الأسطول 
الفينيقي» الذي يشكّل الجزء الأكبر من قوة دعم خاشايارشا الفعالة» هذا 
الاشتباك القصير ولكن الشرس. كان يمكن رؤيته من جزيرة بسيتالاياء 
واستمروا متوجهين مباشرة إلى الفخ الذي نصبه الكورنثيون. 

تمّ تقديم الشكر للإلهة زيوس» فخطوة الأسبرطيين المتعجلة لم 
تفش سر مفاجأة ثيميستوكليس الأخرى. وكونه بحاراً من ذوي الخبرة» 
عرف أنه لا يوجد شيء فظيع مثل إطلاق النار في البحر. وهكذا سوف 
يطلق العنان لقوته» ولهذا أمر بالقيام باستعدادات محددة. أولآء أنزلت 
جميع سفنه الأشرعة الكبيرة والأمامية فسوف يهاجمون بدون أشرعة 
ويفعلون بالضبط ما لم يتوقعه العدو من قبل؛ المضي قدماً باستخدام 
المجاذيف فقط. وذلك من شأنه أن يجعل تحركاتهم سهلة السيطرة . قام 
بتجريد العديد من سفن الدعم الخاصة به من صواريها واستبدلها بمقاليع 
لإطلاق سلال منسوجة ومحشوة بالراتنج والقار. كانت «طواقمه النارية» 
قد ملأت الجرار الطينية أيضاً بزيت الزيتون التي كانت مهيئة للتحطم عند 
الاصطدام والاشتعال مثل قنابل النابالم. وأخيراء جلس العشرات من 
الرماة القرفصاء خلف مساند إطلاق النار في السفينة» استعداداً لإطلاق 
وابل من السهام المشتعلة. وكان ذلك كافياً لاشتعال الجحيم. 

في سرب ثيميستوكليس القتالي» كان جنود الهوبليت والبحارة 
والرماة يحدقون بالمنظر الذي أمامهم. كان الماء يتنائر بشكل متململ من 
حول أسفل هيكل السفينة. فجأة» من وراء منحنى شبه جزيرة سينوسوراء 
ظهرت مقدمات الصف الأول من سفن الأسطول الفارسي. ثم خرجت 
المزيد من السفن. وأبحرت مئات من سفن الأسطول الفينيقي بقدر ما 
يمكن أن ترى العين. 

أمر ثيميستوكليس وهو على متن قمرة قيادة السفينة (هيفيستوس) 
رئيس المجذفين أن يُجدّفوا بأقصى سرعة إلى الأمام. بدأت المئات 
من الأكتاف والأذرع المشدودة تمسك بالمجاذيف» كانت أجسادهم 


-125- 


تتحرك في انسجام غريب» وكانت ألواح التجذيف تغطس في الماء 
وتخرج بإيقاع واحد. كانت المقدمات الأنيقة للسفن ثلاثية المجاذيف 
تخترق قمم الأمواج» وكان من الصعب رؤية مهمازها القاتل. بدا 
المجذفون يلهثون بسبب ما بذلوه من جهد والعرق يغمر عيونهم ويسيل 
فوق أذرعهم العارية؛ كانوا يعلمون أن مصير اليونان متوقف على 
جهودهم. تشبث الجنود على سطح السفينة بمساند إطلاق النيران» 
كانت أجسادهم متوترة» في انتظار لحظة التصادم. و لويس چن 
والأثينيون الذين معه إلى الجناح الذي يتمركز فيه الفينيقيون» من أجل 
دفعهم للتوجه نحو الأيونيين وخلق حالة من الارتباك. كانت سفنهم 
ثلاثية المجاذيف الأنيقة والسريعة مناسبة بشكل لا حد له للاستجابة 
للتغيرات المفاجئة في الاتجاهات» وبالتالي اختار ثيميستوكليس 
المضيق كموقع للمواجهة الحاسمة حيث إن المناورة هنا ستكون هي 
الحاسمة وليس التفوق العددي. 

كان الأدميرال الفارسي لا يزال عاجزاً عن رؤية الفخ. وقد حجبت 
جزيرة بسيتالايا زاوية نظره جزئيء وقد فاته خطر اقتراب عدو كان سريع 
الحركة من الجناحين. لم ير سوى أسطولٍ كبير من الفينيقيين والأيونيين 
والمصريين وهم في صفوفهم المرتبة» يمتد إلى الأفق المائي. ثم اشتعلت 
فيه النيران. طار عدد كبير من الطيور المرتجفة ذات اللون الأصفر الفاتح 
من السفن اليونانية المختبئة وراء الجزيرة» تدحرجت كرات كبيرة من 
القار المحترق» فوق المياه المفتوحة» مخلفة لهباً ودخاناً. أطفأ الماء 
بعض الكرات المنجنيقية» لكن عدداً كبيراً منها سقط على سطح السفن 
الموجودة في خط القتال الأول» مما أدى إلى اشتعال التيران عندما 
انفجرت. بدأ الدخان في الارتفاع» ثم كانت هناك وجبة ثانية من القذائف 
في طريقها إلى السفن. 

عند رأس الجزيرة 


ظهر جسم ضخم مصنوع من البرونز. بالنسبة 
للأدميرال أر 


يامنيس» بدا وكأنه صولجان. كانت سفيئة أشرعتها ممزقة 
-126- 


وقد مالت بحدّة كما لو أنها على وشك الاصطدام برأس الجزيرة. فسح 
ذلك الجسم البرونزي الطريق إلى هيكل خشبي أسود كان يخرق المياه 
في دفقات مع كل غطسة للمجاذيف في الماء. تكومت غابة من الرماح 
على سطح السفينة. من الجزء العلوي من الصاري رفرفت راية كبيرة 
من الحرير» كانت علامة مؤكدة على قيادة الأدميرال الأيوني. توجهت 
مباشرة إلى المكان الذي كانت تنتظر فيه الكثير من السفن اليونائية. تفجر 
صوت ارتطام مكتوم» بدا وكأنه صوت قذيفة واحدة ولكنه في الواقع 
كان صوت عدة قذائف صادرة من عدة مقاليع» اخترق وابل من الكرات 
المتوهجة فجوة المياه المفتوحة. سقط البعض منها في البحر وهو يصدر 
أزيزأً» ولكن غالبيتها ضربت السفينة. تمزقت أشرعة سفن الفرس مع 
حدوث انفجار برتقالى اللون» أحرق بسرعة الصواري بأكملها. غمرت 
الدموع عيون اليونانيين حينما ضاقت المسافة بين الأساطيل بسبب تطاير 
الدخان المتعفن عبر المياه. من أسفل سطح السفينة الأيونية الكبيرة» 
تصاعدت سحابة سوداء من دخان الزيت المحترق» ثم اختفت السفينة. 
كل ما تبقى منها هو قطع من الأشرعة المشتعلة تطفو على الماء ومجموعة 
من الحطام المتهشم. 

انتظر الرماة اليونانيون وهم متحصنون في عنابر البحارة. وبينما كان 
يعلق المزيد من الفرس في الخليج» كانوا يغمرون سهامهم المغطاة 
بالقماش المنقوع بالنفط في المحارق» ويجعلون السهام الملتهبة تتطاير 
عبر المياه؛ حيث كانت رؤوسها المتصلبة تنغرز في خشب السفن الفارسية. 
ضربت نصف دزينة من السهام السريعة أسطول العدو. نظراً للعدد الكبير 
من السهام المشتعلة والمتطايرة التي تمطرهم بلا توقف» لم يتمكن الفرس 
من إبعاد العديد من الأسهم قبل أن تشتعل النيران في سفنهم. 

على الرغم من حدوث هذا الاشتباك على مسافة بعيدة» بدأ الأسطولان 
يتسابقان نحو بعضهما البعض بسرعة هائلة. استخدم ثيميستوكليس اثقل 
سفنه» وهي الثلاثية المجاذيف» مثل المدكات لتحطيم بوابة القلعة. 


-127- 


صُنعت ألواح سفنه الضخمة بشكل مباشر من أجل الأسطولين الفينيقي 
والأيونى» المحشورة في المضيق. وتكمن الميزة في السفن الحربية 
اليونانية أنها أثقل» وشّيّدت بطريقة أكثر صلابة. قام الرجال الذين يديرون 
دفة السفن اليونانية بتغيير اتجاهها وصدموا برماحهم البرونزية سفن 
العدوء وقاموا بتقطيع الأخشاب في وسط السفينة عله ع لكين 
الزبدة. أصاب الذهول الكثيرين وغرقوا بسرعة دون أن يتركوا أثرا. فيما 
قذف آخرون بأنفسهم جانبأء وغمرهم الماء قبل أن يبدؤوا في الاستقرار 
تحت الأمواج. وقع مئات الجنود الفرس في البحر بسبب التأثير الأولي 
للضربة؛ وتشبثوا بالأخشاب المحطمة؛ لكنهم غاصوا في القعر وسط 
دوامة سفنهم الغارقة. 

تعالى فوق أصوات الخشب المنفلق الدوي المستمر لإطلاق النار 
بالمنجنيق. ارتفعت الحجارة وكرات كبيرة من النار في الهواء. نشر 
البعض منها بقعاً كبيرة من المياه عند سقوطهاء لكن لم تسقط جميعها 
في البحر؛ تحطم عدد كبير منها فوق الألواح الخشبية وسحقت الرجال 
الموجودين. ساد الموضع الذي يمثل مركز المعركة هرح ومرجٌ شديدان» 
حيث كانت السفن اليونانية ثلاثية المجاذيف تحوم حوله. استخدم 
اليونانيون أقواسهم المعقوفة لتقطيع مجاذيف الفرس وجعل سفن العدو 
غير قابلة للتوجيه» ثم انحرفوا لدك السفن التى كانت تنجرف بلا حول ولا 
قوة. كان على أولئك الذين كانوا ما زالوا يطفون على الماء أن يكافحوا 
النيران ويتصدوا للمهاجمين أيضاً. حاولت طواقم السفن الفارسية إبعاد 
اليونانيين بواسطة أعمدة طويلة» بينما قفزت قوات الهجوم اليونانية على 
متنهاء مسلحة بالسبوف والهراوات وفؤوس المعركة. في جميع أنحاء 
خايج سالاميس كانت الصورة السائدة هي لرجال مسلحين يقفزون 
من سطح سفينة إلى سطح أخرى. ثم يسارعون مثل النمل وهم يقومون 
بالتجمع حول الجثث المتحللة. وقعت مائة معركة برية مصغرة معظمها 
على سطح السفن الفارسية. سقط الرجال في البحر. غطى العرق والدم 


-128- 


المقاتلين. لم يستطع البحارة الفرس مجاراة الجنود الهوبليت اليونانيين 
المدججين بالسلاح والذين أخذ قتالهم مظهرا طقوسياء مثل قتل قطيع من 
الارتطامات الثقيلة واحتكاك معادن الأسلحة والدروع» وكان يتداخل مع 

كان ذلك أسوأ دمار يمكن أن تتسبب به النيران. وإذا كانت هناك 
حاجة على الإطلاق لإثبات أن أكبر خطر على البحر تمثله النارء فقد 
قدمت معركة سالاميس الدليل على ذلك. من أعلى طوابق السفن اليونانية 
استمرت الطواقم في رمي القذائف المحترقة» وصبٌ الفحم المتوهج 
وإطلاق النيران من السفن اليونانية على سفن الفرس التعساء. اشتعلت 
النيران فى السفن. أثارت حرارة النار ريحاً شديدة» وسرعان ما اشتعلت 
النيران على طول الأخشاب القاتمة والمليئة بالملح فيما كان يتم إحراق 
المزيد من السفن. وتصاعدت من هياكل السفن دوامات دخان زيتية كثيفة. 

كانت هناك سفينة يونانية ثلاثية المجاذيف تتحرك بالقرب من سفينة 
فارسية محترقة. سرعان ما انفجرت وتشظت إلى أشلاء محدثة رذاذاً 
من الشرر ثم تكومت وسط الرماد والأخشاب المحترقة قبل أن تختفي 
وهي تصدر أزيزاً من تحت المياه الزرقاء. لكن مقابل كل سفينة يونانية 
فقد سقط عشرات الفرس. سرعان ما انغمر قلب الأسطول الفارسي 
في دوامة من لهيب مستعر. كانت الرائحة النتنة التي نتجت عن الجحيم 
شديدة وتبعث على الغثيان. أسفل سطح السفينة» تمّ شوي العبيد الذين 
كانوا مقيدين بالسلاسل إلى المجاذيف وهم أحياء. كانت السفن تختفي 
بمعدل ينذر بالخطر في أعماق المياه البشعة. تشبث الأفراد الناجون 
وما تبقى من أشياء سليمة بحطام السفر: الفا الحو كان الأسطول 
| 
لفارسي العظيم في وضع مخز. 

لم يشهد خاشايارشا من المنحدر الذي كان يجلس عنده بشائر نصره 
النهائي بل نهاية التفوق البحري لبلاد فارس الذي امتد على مدار القرن 

-129- 


الماضي؛ وتم تحقيق ذلك الأمر من خلال عمل رائع قام به اليونانيون 
اا الملاحة البحرية» حيث تمكن الأثينيون بقيادة 
يموستوكليس وبأسرع وقت من تحويل مسار الأسطول الفينيقي البطيء 
الحركة وتوجيهه ليحترق مع زميله الأسطول الأيوني. . لم يبق أمام قباطنته 
سوى خيار الابتعاد عن السفن المحترقة. كانت الكثير من السفن تناور 
وتنحرف من حول الأيونيين المنسحبين الذين أصبحوا مشتبكين وهم 
بلا حول ولا قوة مع بقية الأسطول الحربي الفارسي. وحينما اقترب 
قباطنة السفن المصرية من الخلف من المشهد الرهيب» أصابهم الذعر. 
لم يطيعوا شيئاً سوى غريزتهم المحمومة للفرار. ظلوا يصرخون في 
المجدّفين لإعادة سفنهم إلى البحر المفتوح. في النهاية وصلوا إلى بر 
الأمان» لكن أفكارهم أزعجها اليقين من أن حياتهم قد أصبحت تحت 
رخ عضري ا انار 

لم يكن كيلينوس ابن جزيرة رودس سوى قرصانٍ ولا يعرف عمل أي 
شيء آخر؛ يفكر مثل القراصنة ويتصرف مثل واحد منهم. عندما رصد 
سفينة كبيرة» مزينة بشكل رائع ويرفرف عليها علم الآدميرال» ومجاذيفها 
ترتفع وتنزل على الجانبين بشكل متناسق» قرر أن تكون من نصيبه. لم 
تنزل السفينة الفارسية أشرعتها أبداً» وكان ذلك سبب مصيبتها. بينما كان 
كيلينوس ورجاله على وشك الصعود إلى سفينة العدو» تحطمت حمولة 
من الكبريت المشتعل عند أشرعتها. عانى الجنود الذين كانوا على سطح 
السفينة من إصابات» لكن المجذفين لم يصابوا بأذى حيث كانوا يجلسون 
في أسفل منتصف سطح السفينةء وكانوا محميين من المقذوفات وكرات 
اللهب. . في الأعلى عند سطح السفينة حيث نشب القتال» أصبح الوضع 
حرجا؛ انتشرت النيران بسرعة حيث سقطت المزيد من أواني الزفت حول 
السفينة. كان الدخان يتصاعد بشكل كبير لدرجة أن الأدميرال أريامئيس؛ 
الذي كان هو قائد السفينة» لم يعد بإمكانه تحديد الاتجاه الذي يجب أن 
يتجهوا إليه. كان الرجال من حوله يحترقون وهم أحياء؛ ويتدحرجون 

-130- 


على سطح السفينة ويصرخون من آلام احتضارهم. حينما يتوقف كان 
النخان يصب أكثر كاف ول كنافته عندها يسير بيطت لكن اشير قوق 
جو متهي كان مرا فعا . وسط الدخان والموت الذي في كل مكان 
من حوله» تمكن من القفز إلى سفينة أخرى. . لم يشاهد حتى سفينته وهي 
تنجرف وسط بحر من النار. لكنه لم يبتعد كثيراً. بعد أن طاردته سفينة 
ثلاثية المجاذيف يقودها أمينياس ابن مدينة ديسيليا وسوسيكليس من 
جزيرة بيديان» استعد أريامنيس للإبحار والهروب بسرعة نحو البحر 
المفتوح. وبالنظر إلى هبوب نسيم منعش» كان يمكن أن تهرب سفينة 
قيادة الأدميرال الجديدة بكل سهولة؛ لولا أن حادثاً حصل. . في خضم 
هذه الفوضى» ومشاهدة الرجال وهم يحترقون ويموتون» كان الجنود 
المكلفون بحراسة العبيد الذين يقومون بالتجذيف قد تركوا مواقعهم. 
قام المجذفون بتقطيع المجاذيف» وكسروا السلاسل واتدقعوا من 
الطابق الأسفل الذي يحوي مجاذيفهم للاستفادة من هذه الفرصة الفريدة 
لاستعادة حريتهم... أصبح الفرس بين نارين» الطعن بالرماح أو السيوف 
من الأمام» أو يتعرضون للضرب بالمجاذيف المكسورة» أو تلتف على 
رقابهم السلاسل في الخلف. أما أولئك الذين نجوا من الهجوم فقد جثوا 
على ركبهم وتجمعوا حول صاري السفينة» يتوسلون الرأفة بهم. فقد 
نلوا جميعاًء بمن فيهم أريامئيس. 
مع الضربات المتوالية والمتناسقة شقت السفن التي يقودها 
ا ا 
زكازوس وما المنتضرين ارين طريقها ونسط الل الخارقة غرورا 
بالصواري المحطمة» والأجساد المتفحمة والأشرعة الممزقة. تحول 
خليج سلاميس إلى فم للجحيم. عند حلول المساء كان هناك ضباب ير تمع 
ببطء فوق الماءء يغطي بردائه بقايا أسطول كان يعد قبل ساعة مفخرة بحرية. 
لم يكن بالإمكان سوى سماع صيحات النوارس التي ترفرف والأصوات 
المكتومة للأمواج التي تصطدم بالشاطئ الصخري. لقد فقد الإغريق 


-131- 


أربعين من سفنهم» وفقد الفرس أكثر من خمسمائة. كانت هزيمتهم كاملة. 
اجرف حطام الأسطول الإمبراطوري الفارسي إلى شواطى البلاد التي 
جاؤوا لغزوها . ولم يعد هناك سوى الصمت. 

ي أعقاب النصرء اقترح متو كليس الا باز شمالاً وتدمير 
الجسرين المقامين عبر مضيق الدردنيل (يسمى قديماً هلسبونت)» ولكن 
تم إيقافه بواسطة يوريبيادس» الذي كان يخشى بحق أن تمنع مثل هذه 
الخطوة الجيش البري الفارسي من الانسحاب إلى آسيا الصغرى ويتسبب 
بدلاً من ذلك في دمار أكبر لليونان. «التدمير ليس من مصلحتناء بل ربما 
تشييد جسر آخر يجعل هروبهم يتم بسرعة أكبر». 

في غضون عام واحدء لقي مشروع الإمبراطور خاشايارشا لاحتلال 
اليونان حتفه على الأأرض فى معركة بلاتيا (479 ق.م). عندما قرر خاشايارشا 
العودة إلى آسياء أثبت تطوران آخران أن الفال السييع يلااحق نجيشه. لقد 
ترك وراءه حملة غير منسقة ومخزوناً من عدم الثقة. قرر باوسانياس ملك 
أسبرطة» الذي انتقم لموت ليونيداس كما وعد مطاردة الجيش الفارسي. 
كان غناقائارشًا قلعا خرل امین ر اجه الان غير مضق هيلسوتت 
(الدردنيل) أكثر من قلقه حول نتيجة المعركة» وترك لجنراله» ماردونيوس» 
مهمة خوض معركة في المواقع الخلفية على طول نهر أسوبوس. عندما 
أصبح الجناح الأيمن الذي كان يشغله الأسبرطيون منفصلاً خلال اليل 
عن الجناح الأسر الذي كان يشعله لاوت شر مارد زم جرا 
مفاجتاً بواسطة سلاح الفرسان. عنتما اريت لات قو اة ن تشكيلات 
الخيالة اليونانية» انحرفت خيولهم بعيداً لتتجنب الضربات المتواصلة» 
متجهة إلى اليمين حتى تجمعت أمام الرماة والقاذفات اليونائية. عندما تم 
القضاء على فرسانه برشقة من الحجارة والسهام» أمر ماردونيوس مساعديه 
الأيونييين ليهبوا لنجدته؛ لكنهم تركوه؛ فقد تلقوا خلال الليل» رسالة من 
اليونانيين إخوتهم في الدم» مكتوبة على ألواح طيئية. كانت تكراراً للرسالة 
التي شرت في معركة ثيرموبيلاي: «إلى» معاوني خاشايارشاء إذا كان 

-132- 


يجبركم على قتالناء نحن إخوتكم» فقاتلوا بشكل سيئ». وقد فعلوا ذلك. 
أما الجنرال ماردونيوس» وهو بالتأكيد قائد عسكري أفضل من الملك 
بوسانياس» فقد لقي مصرعه وهو يقود هجوماً لسلاح فرسانه. حسم موته 
نتيجة المعركة. خسر الفرس 50 ألف قتيل» وخسر الإغريق 1360 فرداً0) 

يتحقق النصر اليوناني عن طريق القيادة المتفوقة؛ لم يكن بوسانياس 
ملك أسبرطة يشبه ليونيداس؛ لم يشارك حتى في هذا العمل. كان نجاحهم 
يرجع إلى الانضباط الفردي والتدريب» بالإضافة إلى تفوقهم التقني 
الواضح وهذا يحدث للمرة الأولى. 

لم يسمح ثيميستوكليس» المخطط الاستراتيجي للنصر والقوة 
المحركة لتحقيقه» أن يظهر عليه الخوف؛ كما أنه لم يظهر أبدا ارتياحه 
لحقيقة أن العدوء الذي كان يبدو أن لا أحد قادر على قهره» بات يذوق 
مرارة الهزيمة أخيراً. لقد خاطر بكل شيء في لحظة خطر كبير» ليس بنفسه 
فقط» ولكن بكل من يمثلهم. كان ثيميستوكليس بطلاً وأسطورة يونانية. 
لا يمكن أن يكون هناك تعريف آخر له؛ صفاته القيادية كانت مطابقة مع 
بلاغته الخطابية. ومع ذلك» فقد اتهمه معاصروه بالقيام بمقامرة طائشة في 
معركة سالاميس. ولكن بعد ذلك» كان عليه أن يكون مقامرا ليواجه قوة 
خاشايارشا. رغم کل ما قيل وما حصل» كان إنجاز ثيميستوكليس هالا 
والامتنان الذي حصل عليه من اليونان» وكذلك العالم الغربي» لم يكن 
أقل من عظمة الإنجاز الذي حقّقه. كان مصير اليونان معلقاً على معركة 
واحدة. وانبثقت منها وازدهرت جمهورية جديدة ضمنت حق مواطنيها 
في العيش بحرية والتعبير عن أفكارهم بحرية في مجتمع مفتوح. كانت 
حضارة الغرب بأكملها على المحك. 

لم ينل ثيميست وكليس ما يستحقه. فقد كافأه مواطنو أثينا بتو جیه اتهامات 
شريرة له تركته ملطخاً بالعار. تجّ نفيه لرفضه التعاون مع باوسانياس ملك 
أسبرطة» حيث كان يخشى أن يغتصب هذا الملك السلطة المطلقة. قام 





0- أرقام الخسائر هذه ذكرها المؤرخ فلوطر خس. 


-133- 


عضن الا البارزين» الذين يشعرون بالغيرة من شعبيته» بالحكم عليه 
بالإعدام بتهمة سخيفة تتمثل في إيواء «متعاطفين مع المؤيدين للفرس». 
وبمساعدة عدد من الأصدقاء» تمكن من الفرار إلى آسيا الصغرى, 
حيث استقبله خاشايارشا في واحدة من كبرى المفارقات التي شهدها 
التاریخ» بترحاب كبير» وقام بإغداق الهدايا عليه ومنحه قصرا رائعا في 
منطقة ماغنيسيا. بعد أن ابتعد عن البلاد التي أحبها. قضى ثيميستوكليس 
السنوات الأخيرة من حياته في مرارة. لم يُسمح له مرة أخرى بالعودة إلى 
المدينة التى أنقذها من دمار محقق بحكمته وشجاعته وعبقریته"'. عندما 
طلب منه ملك بلاد فارس قيادة جيش ضد الأثينيين» رفض ثيميستوكليس 
ذلك بكل إباء على الرغم مما سيّبه له مواطنوه من عار» فقد كان يخاف 
أن تتلطخ إنجازاته السابقة. في ذلك المساء قدم قربانا للآلهة» وبرفقة 
أصدقائه» تجرع السم. ومثل سقراط» الذي ذهب إلى حتفه يسبب اعتقاده 
الراسخ بخلود الروح» أصبح ثيميستوكليس بطلا لإحدى تراجيديات 
سوفوكليس. لقد تعرض للتشهير واتهم بالعمالة» في حين أن كل ما حاول 
القيام به هو استعادة النظام بعد حرب شرسة. كانت تلك هي مأساة هذا 
الرجل العظيم. 

بعد ألفي وخمسمائة عام قال نابليون بونابرت» الذي كان يحب أن 
يقارن نفسه بئيميستوكليس: «لا يوجد سوى قوتين في العالم؛ هما السيف 
والروح. وكان السيف هو الذي يهزم الروح في النهاية». 

في معركة سالاميس» كان التفوق العددي هو السبب المباشر للكارثة. 
وكانت هناك عوامل أخرى مثل اكتظاط الأسطول البحري بشكل غير 
عملي في المساحة المتاحة له. والتطور التقني في صناعة السفن البحرية» 
واستخدام «القوة النارية الجماعية). ومع ذلك» 3 يكن بالإمكان إنجاز 
أي شيء بدون شجاعة قائد عظيم وحماس طاقمه. 

دمرت معركة سالاميس معنويات الفرس كدولة بحرية. فقد كانت 


.Plularch, Lives راجع:‎ -11 


-134- 


انتصاراً استراتيجياً تجاوز القوى الفعلية للأطراف المشاركة فيها؛ 
شجعت الشعوب التي استعبدتها بلاد فارس على السعي لنيل استقلالها. 
من الناحية التكتيكية» لم تكن معركة سالاميس في فئة المعارك البحرية 
نفسها مثل ليبانت أو الطرف الأغرء ولكنها كانت من الناحية الاستراتيجية 
أكثر أهمية كونها أوقفت الغزو الآسيوي لأوروبا. وعلى مدى آلف عام 
وحتى وصول أقوام الهون» حافظت معركة سلاميس على انتشار الثقافة 
الغربية في القارة الأوروبية. 

مع الانتصار في معركة سالاميس» ولد العصر الذهبي للفلاسفة 
اونا 


-135- 


الجرء الثالت 
العمالقة 
202-36 ق.م 
من الإسكندر إلى سكيبي و الإفريقي 


(«الغضب والحماسة سلاحنا».) 
في رجيل» الإنيادة (70 ق.م) 


-137- 


الفصل السادس 
«لن أسرق النصر!» 
معركة غوغميلا 

1 تشرين الأول سنة 331 ق.م 


امن تحبه الآلهة يموت وهو فى سن الشباب». 
ه من مسرحية الشقيقتين باشيدس 
للكاتب بلاوتوس (254-184 ق.م) 


في إحدى الأماسي الصيفية من شهر حزيران سنة 336 ق.م ذهب 
فيليب ملك مقدونيا ليحضر عرضاً مسرحياً في أحد مسارح منطقة إيجه» 
كان برفقة ابنه الإسكندر والذي اختاره ليكون وريثه على العرش. كان 
تبلاء المملكة وسفراء الدول المتحالفة ضمن الرابطة الكورنئية التى 
ساعد في تأسيسها قد ملؤوا المسرح منذ ساعات. لكن فيليب ملك 
مقدونيا لم يكن ينوي إقامة إمبراطورية كبيرة؛ ففكرة تأسيس حكم 
ثيوقراطي كانت غريبة عليه تماماً . كان همه ببساطة أن يرعى أمته» 
وكان محبوباً للغاية من قبل شعبه. وبسبب مواهبه العسكرية البارزة» 
اختارته الرابطة الكورنثية زعيماً لها. الآن وبعد أن أصبح الهدوء يسود 





-١‏ من المحتمل أن يكون الأمر ينطبق كذلك على الإسكندرء فهو لم يقصد أبداً إنشاء 
[مبراطورية الإسكندر الأكبر. لكنها نشأت نتيجة فتوحاته. 


-139- 


المنطقة فى نهاية المطاف» أصبح بإمكانه الاسترخاء والتمتع بمشاهدة 
مسرحية لأحد الشعراء اليونانيين. 
توقف الموكب الملكي لفترة وجيزة أمام تمثال أحد الآلهة للسماح 
لملكهم -الذي كان مرتدياً عباءة بيضاء- بالتقدم بمفرده إلى منصة 
المسرح لتحية شعبه. . في هذه اللحظةء قفز غلام كان يحظى برعاية الملك 
إلى الأمام وزرع خنجراً في قلبه. .تعثر الملك فيليب على بعد خطوات قليلة 
بينما تناثر الدم على ردائه الطويل» ثم وقع منهاراً. . حاول القاتل الفرارء 
ولكن تمّ القبض عليه وتقطيعه إرباً حتى الموت على أيدي حراس نالك 
الشخصيين. كان ما حدث مأساة يونانية خالصة. ما جعل من المشهد يصل 
إلى ذروة الإثارة هي الخاتمة. بينما كان يتمّ حمل جثة الملك المقتول من 
المسرح» تمٌ الإعلان عن اسم الملك الجديد: الإسكندرء ملك مقدونيا. 
كان العام من ذلك الفعل الشائن فورياً رهشا تم صلب جثة 
0 ثم أحرقت ال 
e‏ ومن بينهم أميئتاس شقيق الملك فيليب» الذي كان من 
المحتمل أن يتولى العرش؛ و ناکرا ف ا 
تشكيله تهديداً لخلافة الإسكندر. كان على الإسكندرء البالغ من العمر 
0 عاماًء أولاً وقبل كل شىء أن يؤكد سلطته فى مواجهة التحدي الكبير 
الذي تكله كول المدك التارعة للرابظة الكورتقة .ون ترف بر عة فقد 
استولى على إقليم ثيساليا وألحق الهزيمة بجيشهاء ثم تصرف بلطف مع 
الأسرى لضمان مساعدتهم له في خططه المستقبلية. في الواقع» تسبيت 
هذه الخطوة ذات الآثار النفسية في انضمام ثيساليا إليه كحليف» وقد أثبت 
سلاح الفرسان فيها أن له دوراً حاسماً في معاركه. كانت خطوة الإسكندر 
التالية هي استعادة لقب زعيم قوات الرابطة اليونانية. في البداية» لم 
يأخذ حلفاء والده السابقون الأمر على محمل الجد؛ لقد كانوا يعتبرونه 
شاباً مغروراً و١متهوراً»2.‏ لم بسيو اا لحماس وإرادة هذا الملك 





- من أقوال ديموستيني وكان رجل دولة إغريقياً وخطيباً بارزاً. 


-140- 


لكايه رغم أنه كان قد قاد هجوم سلاح الفرسان المقدوني في معركة 
خيرونياء ضد مدينتي أثينا وطيبة وطرد مشاة العدو من أرض المعركة. 

تمّ تشويه الصفات الإنسانية لرجل عظيم بسبب حدث مؤسف جرى 
في مدينة طيبة (335 ق.م). قام الإسكندر على رأس اتحاد كونفدرالي جمع 
المقدونيين» والفينيقيين» وسكان قرية بالاتايا ومقاطعة بيوتيان» بالتوجه 
لمهاجمة مدينة طيبة. قبل أن يصل سور المدينة» هاجمه أبناء طيبة وقتلوا 
عدداً كبيراً من رماته من أبناء جزيرة کریت» بمن فيهم قائدهم» يوريبوتاس. 
منحهم نجاحهم المبدئي هذا انطباعاً بأنهم ربحوا المعركة؛ اندفعوا إلى 
الأمام» ولكنهم وقعوا بعد ذلك في كمين نصبه لهم الإسكندر» مما عكس 
مجريات الأمور وجعله يقتحم المدينة. «(وسط سخونة الحدث» قام عدد 
ليس بالقليل من المقدونيين باعتبارهم حلفاءه بذبح أبناء طيبة عندما لم 
يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بطريقة منظمة©. خلال مذبحة طيبة» أظهر 
الإسكندر لأول مرة القدرة على تطبيق طرق وحشية بدم بارد كلما دعا الآمر 
إلى ذلك واستمر في فعل ذلك طوال غزواته العسكرية» على الرغم من أن 
ما حدث في طيبة كان هو المرة الوحيدة التي استخدم فيها هذه القسوة بحق 
أناس من عرقه نفسه وموطئه نفسه. 

مع سقوط طببة» خضعت أثينا له وانتخبه الكورنثيون القائد العام 
عليهم . بمجرد قبول دول المدن الكبرى لحكمه» واجه مهمة إدارة البلاد. 
كان يساعده إلى حدّ كبير كل من بارمينيو وأنتيباتر. وكلاهما كانا أكبر سنا 
منه بكثير وقد اكتسبا خبرة كبيرة في فنون الحرب والدبلوماسية كخادمين 
مخلصين لوالده فيليب. عهد إلى أنتيباتر مسؤولية حكم مقدونيا» ورعى 
بارمينيو ممتلكاته في آسيا الصغرى. 

لقد ترك فيليب والد الإسكندر لابنه آلة عسكرية ضخمة من المقاتلين 
ا N‏ 
بإمكانه أن يقف بو جه أية قوة إلى أن تمّ ثم اح ختراع البارود» بعد حوالي ثمانية 
نوو E E‏ 


9 عن المؤرخين أريانوس وبطليموس. 


-141- 


عشر قرنا أ. قام الملك فيليب بتحويل مجموعة من المواطنين والفلاحين 
من القادرين على حمل السلاح إلى أفراد قوات مسلحة تسليحا جيل 
ومدرية RE‏ عالياً یا عرفت بتشكيلات البيزيتايروي» أمعتماعط2عم» والتي 
قامت على أسس إنشاء التشكيلات اليونانية نفسها. كان البيزيتايروي 
يمثلون المرتبة الأولى من جنود الهوبليت وكانوا يحملون درعاً مستديراً 
لغرض حمايتهم» أما للأغراض الهجومية فقد كانوا يتسلحون بما يعرف 
بساريسا وهو رمح يبلغ طوله 13 قدماً. أما من كانوا يعرفون بمقاتلي 
الهايباسبستس 15]5م177035 وهم النخبة من جنود الهوبليت» فقد كانوا 
يحملون رماحاً أقصر قليلاً من ساريسا ليتمكنوا من القيام بالمزيد من 
حركات المناورة. كانت أجنحتهم مؤمنة بمقاتلين من سلاح الفرسان 
من أبناء ثيسالياء وكانوا نشيطي الحركة وبسرعة البرق. بين سلاح 
الفرسان والتشكيلات الثابتة بطيئة الحركة» أدخل الملك فيليب كتائب 
من مقاتلي الهايباسبستس 358155م83» كانت ذات تسليح عقيف اکر 
وبالتالي قادرة على التحرك بشكل أسرع بكثير» كان ذلك «جناحه 
المرن» القادر على التكيف مع سرعة الحركة الجانبية لمقاتلي سلاح 
الفرسان. وسيصبح هذا الوضع هو السمة البارزة للمعارك المستقبلية؛ 
التي تسمح للقائد اليوناني بتغيير تشكيلاته الهجوميه حسب الرغبة 
والضرب من الأجنحة دون أن يفقد التماسك العام لصفوف قواته. اا 
الإسكندر أول وحدة مدفعية ميدانية متنقلة تتكون من المقاليع الخفيمة» 
والتي يمكن حملها على ظهور البغال؛ حدث تحسن كبير من خلال 
وحدة القيادة الجديدة» والسرعة التي يمكن بها إرسال أوامره. وسمح له 
استخدام فرسان ممتازين على ظهور الخيول السريعة كسعاة شخصيين 
له بشنّ عدة هجمات في وقت واحد أو استغلال خطأ العدو على الفور. 
كان الساعي الملكي يرتدي زياً مميزاً وكان يجب إطاعته طاعة عمياء 
كما لو كان «الملك شخصيا». 
كانت القوة الضاربة الأساسية للإسكندر لشن هجماته القاتلة هو 
-142- 


سلاح الفرسان المقدوني. ورغم أنه كان يستخدم تشكيلات المشاة 
لاختراق صفوف العدوء ولكن سلاح الفرسان كان وسيلته لتحقيق النصر. 
ولكونه فارسا خبيرأء فقد كان يعرف كل شيء عن هجمات الفرسان. 
في سن الثانية عشرة» عرض عليه حصان لا يستطيع أحد ترويضه» وهو 
بوسيفالوس. فقام بتوجيه رأس الحصان نحو الشمس بحيث لا يجعله 
يجفل من ظله» ثم قفز بسرعة على ظهره» وأصبح الحصان طوع أمره. 
وكانت أغيما (386108) من أشهر وحدات سلاح الفرسان التابعة له وتعني 
كلمة (2صرععة) فصيل مرافقى الملك. وقد أطلقت عليه هذه التسمية 
لأنه كان يسير برفقة الملك دائماً أثناء سير المعركة. كان يتم اختيار أفراد 
الفصيل جميعاً بعناية وكانوا على استعداد لأن يفدوا سيدهم بحياتهم. 
كانت عناصر وحدة الفرسان المرافقين هذه محصورة بالنبلاء اليونانيين 
من فئة الخيّالة. وكان من الشرف لأي شاب وعائلته أن يتجٌّ اختياره فارساً 
her‏ في تلك الوحدة. وكان يميزهم دروعهم الفولاذية التي تشبه 
حراشف السمك» وقد توفرت حماية مماثلة لخيولهم. كانت هذه الوحدة 
هي طليعة ابتكارات الإسكندر المتطورة» والاحتياطي القوي للملك 
ليستخدمه في الوقت المناسب لتحقيق ثتيجة حاسمة. كاتوا جميعاً 
بأعمار صغيرة وذوي عقل نبيل» غارقين في تعاليم الفلاسفة العظماء. كان 
هيفاستيون في العشرين من عمره» ويوتيفرون وأغاثيوكليس وكليتوتون 
وأرتيميدوروس وبروتيس فكانوا بالكاد قد أنهوا سن المراهقة. كان عليهم 
من البداية إثبات بسالتهم. في يوم الاقتراع الحاسم في المجلس الحاكم 
للرابطة الكورنثية حول مسألة الخلافة» وقفوا إلى جانبه في الاجتماع» فلم 
تعد هناك حاجة لتذكير حلفائه اليونانيين بأنهم أقسموا على الإخلاص 
لفيليب وذريته. وبهذه الحجة» المدعومة من فرسان وحدته الذين كانوا 
ينتظرون خارج أسوار المدينة» تمّ التصويت له باعتباره القائد العام. 
كانت طموحات الإسكندر لا حدود لهاء ولهذا كان يحتاج إلى دعم 


4- عن المؤرخ فلوطرخحس. 





-143- 


الجميع. كانت مشكلته التالية هي إيجاد عامل مشترك يمكنه من دمج 
قوات مختلف دول المدن في أداة حربية واحدة. لم يقدم له المبدأ الذي 
كان يلتزم به اليونانيون «كل يعمل من أجل نفسه» أي وحدة سياسية ولا 
روح يونانية وطنية لكي يستطيع البناء عليها. ولتحقيق ذلك» يجب إيجاد 
عدو يستطيع الجميع التركيز على كراهيته. تمكن الإسكندر من تحقيق 
ذلك بشكل ممتاز بمجرد الترويج لفكرة القيام بحملة صليبية ضد العدو 
الدائم لليونان» وهو بلاد فارس. كان اليونانيون وگو تهات أن خطر 
لك اده لم يفا ءل منذ أيام خاشایارشا. لقد حدثت توغلات فارسية 
عدة على مدار المائة وخمسين غاا الماضية» فقد قامت القوات الفارسية 
بعبور البحر والقيام بعدة هجمات» وذبحت الفلاحين اليونانيين ورّمت 
بنسائهم في أحضان العبودية. عندما تردد شركاؤه في الرابطة في دعمه؛ 
قام بابتزازهم بالتهديد بسحب قوات مقدونيا القوية وجعلها تتخلى عن 
مهام الدفاع عن الأمة. . مع هذه الحجة أقنع شركاءه اليونانيين بالانضمام 
إليه. وللتأكد من ولائهمء جعلهم يؤ دوق القت باهم زيوس والأرض 
والشمس وبوسيدون وأثينا وآريزء سألتزم باتفاقي مع الإسكندر المقدوني 
ولن أتراجع عنه...) 
نادراً ما كان هناك رجل كتب عنه الكثير مثل الإسكندر. 


كان الإسكندر يمتلك كثيراً من الدهاء وكان الأكثر شجاعة 
وحماسة للدفاع عن الشرف ودرء الأخطار والأكثر حرصاً على 
الدين. والأكثر براعة في اننهاج المسار الصحيح للعمل» حتى 
عندما كان كل شيء غامضاً؛ وحين يكون كل شيء واضحاء كان 
ا ا و ی عن ابتاك الماح فى يعس الأمورة 
كان بارعا في تنظيم الجيش وتسليحه وتجهيزه وفي رفع الروح 
المعنوية للجنود وشحن قلوبهم بال مال العظيمة» وقدرته على أن 
يزيل عنهم أي خشية من الأحطار» ويتحمل لوحده رزايا الشعور 
بالخوف؟ وفي هذا كله كان من أنبل الأشخاص. وكل ما كان 


-144- 


يجب فعله في حالة من عدم اليقين كان يفعله بأقصى مدى من 
الجرأة؛ كان الأكثر مهارة في الترقب السريع للأحداث واصطياد 
عدوه قب لأن يكون لديه الوقت للتحسب للأمراا. 


كانت تفصل مقدونيا عن بلاد فارس ثلاثة مسطحات مائية واسعة: 
البحر الأسود وبحر مرمرة وبحر إيجه. كان من الواضح أن السلام الهش 
الذي حققه النصران اليونانيان في معركتي سالاميس (480 ق.م) وبلاتايا 
(479 ق.م) لن يستمر إلى الأبد. حافظت بلاد فارس لبعض الوقت على 
السلام» تمزق بلاطها الملكي بسبب نزاع دموي أعقب وفاة الملك 
أرتحقشنا دون أن ترك وزرا له :ظير التعصر بيد أخدات سمكت 
فيها دماء كثيرة وكان شخصا من نسل الأخمينيين» يدعوه اليونانيون 
کودامانس» والذي حمل لقب جده اللامعء داريوش. لكن دارا الثالث 
الذي يحمل هذا الاسم المقدس لم يكن سوى نسخة باهتة من داريوش 
العظيم» الذي جعل السماء ذات مرة تمرٌ من بين يديه. وهكذا اعتبر دارا 
الثالث نفسه قائدا عظيما. لم تجار مهاراته مهارات خصمه المقدوني» 
ولم يكن جيشه» رغم تفوقه الكبير في عدده» يمتلك أي شيء يواجه به 
الأدو ات العلمية التي يمتلكها الإسكندر. كان من الممكن أن يصبح دارا 
الثالث ملكا فاعلاً بدرجة معقولة» يعزز ازدهار مملكته الشاسعة» لو أنه 
لم يرتكب عملاً عدائياً وقحاً عندما أرسل عملاء يحرضون على إثارة 
الاضطرابات وخلق فتنة داخلية بين مختلف دول المدن اليونائية. تم 
القبض على المحرضين وأجبروا على الاعتراف. 

في عام 334 ق.م؛ قام الإسكندر بتجميع أسطول مكون من 182 سفينة 
ثلاثية المجاذيف في نهر سترومن» وعبر به من مدينة بيلا نحو مدينة 
5- ورد هذا الوصف في كتاب المؤرخ آريانوس انباسة «الإسكندر؛ (الجزء السابع) 

كما أورده المؤرخ ج. سي ف فولر. واستخدم كتاب آريانوس انباسة «الإسكندر» 

كمصدر رئيس لسجل أعمال الإسكندر العسكرية وأعمال قائده العسكري بطليموس 

الذي حكم مصر فيما بعد. 


-145- 


سيستوس الواقعة على الشاطى الآسيوي. واصطحب معه قوات عسكرية 
مؤلفة من 37 ألف فرد: 32 ألفاً من المشاة وخمسة آلاف من سلاح 
الفرسان. كانت قوات المشاة تتكون من جنود القوات المقدونية التابعة 
له» والقوات اليونانية المتحالفة معهاء ووحدة مرتزقة بسيطة من الرماة 
وقاذفي المنجنيق من البلقان. وكان سلاح الفرسان يمتلك قوة مسلحة 
هائلة: 1800 من فرسان وحدة حماية الإسكندر» و1800 من الخيالة من 
أبناء ثيسالياء بالإضافة إلى 1500 فرد من الفرسان العاديين. وكان هناك 60 
لف فرد مساعد للمقاتلين يقومون برعاية شؤون رتل الإمدادات. وكانت 
هذه في حدٌ ذاتها مهمة كبيرة. ومع ترك الإنجازات العسكرية جانباء ربما 
كان مستوى تنظيم حملة الإسكندر أكثر السمات المذهلة لها (لا تزال 
تدرّس كنموذج في الأكاديميات العسكرية). فالطريقة التي تمكن فيها من 
الإبقاء على رتل الإمدادات الخاص به بجانبه دون الحاجة إلى الاعتماد 
على البحث عن الطعام من الريف» والطريقة التي خطط بها لكل شيء 
حتى أدق التفاصيل» كانت شيئاً يقترب من المعجزة. لم يستطع حتى 
نابليون» رغم وجود وسائل نقل أكثر حداثة وطرق أفضل لديه» أن يضاهي 
المواهب التنظيمية للإسكندر. 
خلال عملية العبور» أوقف الملك الشاب أسطوله فى منتصف 
المحيط لتقديم القرابين إلى الإله بوسيدون. عندما وصلت السفن إلى 
الساحل الآسيوي» بالقرب من المكان الذي كانت فيه طروادة من قبل؛ 
كان 0 من قفز إلى الشاطى» وألقى برمحه على الأرض قائلاً: «لقد 
منحتنى الآلهة آسياء وسأفوز بها بهذا الرمح)0. وشرع ليصبح ملك آسيا. 
وعلى الرغم من أن اسا تشم يللد ارس لا أن الإسكندر لم يطالب 
أبداً بتاج بلاد فارس. 
فشل دارا الثالث في إيقاف هجمة الإسكندر الأولية؛ وأخذ بنصيحة 


6- عن المؤرخ ديودوردس الصقلي (الجزء 17 من کتابه تارر يخ العالم) وملاحظاته عن 
بطليموس. 


-146- 


جنرالاته بسحب الإغريق إلى أقصى المناطق الداخلية» حيث كان بإمكانه 
إيقاعهم في الفخ وتوجيه ضربة حاسمة لهم... كان داريوش قد أمر أحد 
أعوانه» وهو ممنون ملك جزيرة رودس» بتركيز قواته حول البوابات 
الآسيوية بالقرب من ديميتوكا» على طول نهر غرانيكوس (كوكباس 
كاي). كان ميثريداتيس هو قائد جيش ممنون» وهو من أقوام البارثيان 
ومن أصول ملكية» قد قام بوضع أفراد سلاح الفرسان البالغ عددهم 20 
ألفاً عند سد ترابي مرتفع وأوقف 30 ألفا من جنود المشاة خلفهم؛ عند 
مرتفع يقود إلى ضفة النهر الشرقية”. كانت وحدات المرتزقة اليونانية 
هي من أفضل قوات المشاة في الجيوش الفارسيةء وقد تم إغراء أفرادها 
للقتال ضد أبناء بلدهم بوعود حصولهم على الذهب. عرف الإسكندر 
جيداً أن الخطر الرئيس الذي يواجهه يكمن في هؤلاء المرتزقة اليونانيين. 

لم يكن الإسكندر شخصاً يترك المعارك للصدفة فقام بمهمة 
استكشافية شخصية واكتشف مجرى نهر جافء يقود بعيدا إلى نهر 
غرانيكوس. لقد كان بعيداً عن أنظار جيش ممنون وينحني مباشرة إلى 
الخلف منه. نظراً لأن الوقت كان في منتصف شهر حزيران» أصبح نهر 
غرانيكوس ضحلاً بدرجة كافية يجعل قوات المشاة تتمكن من العبور 
عليه. وبينما كان الجيشان يخيّمان بالقرب من بعضهما البعض عبر مجرى 
عرضه ثلاثون مترأ اندلع الجدل في خيمة الإسكندر بين الملك وبارمينيو 
قائد قوات المشاة في جيشه: 

«أيها الملك» لا يمكننا عبور النهر مع جنودنا المشاة في مجرى ممتد 
دون التعرض للهجوم» وعلى الأرجح سيجبرنا سلاح فرسان العدو على 
التراجع. ولن نستطيع تكوين تشكيلاات المشاة السلامية (الفلانكس)» 





7- كان الفرس بالتاكيد لديهم أكثر من 40 ألف مقاتل كان 20 ألفاً منهم ممن يمسكون 
بقلب الجيش الفارسي من المرتزقة اليونانبين استأجر هم ممنون وداريوش. 

8- هذه التفاصيل منقولة عن المؤرخ آريان وربما يكون ثقلها عن المؤر خين فلو ط رحس 
وكليتار خوس. 


-147- 


حينها ستضطر وحداتنا إلى العبور إلى الضفة المعاكسة بطريقة غير 
منظمة». لكن الإسكندر ظل مصمماًء معتمداً على عنصر المفاجأة. 
على ضوء الفجرء اصطف 13 ألفاً من المشاة المقدونيين في تشكيل 
سلامي على طول ألفي ياردة. على الجانب الآخرء كان ينتظر مقاتلو 
سلاح فرسان الجيش الفارسي ووحدات المشاة الخفيفة المختلفة وهي 
تملا حافة ضفة النهر. كانت القوات المشتركة من مقاتلي جزيرة رودس 
وبلاد فارس تتمتع بتفوق عددي كبير لكنه تسبّب فعلياً في إعاقة حركتها. 

«عند الصباح كان الإسكندر في حالة مزاجية ممتازة جعلته يجرؤ على 
القيام بعبور النهر مع جيشه؛ وكان السباق في تنظيم صفوف قواته في 
مجموعات استعداداً للمنازلة»)©. كانت هيئة الإسكندر لافتة للنظر بدرعه 
المذهب وخوذته البيضاء اللون» وقاد جواده باتجاه قلب قواته. تابع الفرس 
كل خطوة من خطواته وجمّعوا سلاح الفرسان في الجهة المقابلة له. 
وبالتالي فشلوا في ملاحظة نشره سلاح الفرسان الثيسالي الذي تم تجميعه 
في قاع النهر الجاف. استهل الإسكندر المقدوني تحركه إلى قلب قواته 
بقيامه بخدعة؛ قامت إحدى الوحدات» تحت القيادة الملهمة للجنرال 
سقراط» بالتحرك مثيرة الكثير من الضوضاء غير النهر العميق. وبيتماكان 
هذا العمل مستمراًء تداعى سلاح الفرسان الفارسي لإيقاف الهجوم» أمر 
الإسكندر الجنرال بارمينيو سحب الجزء الأكبر من الجيش اليوناني من 
خط القتال. سار بارمينيو معهم نحو الجناح الأيمن» وعبروا المياه حيث 
بدأ النهر يضيق ويمكن عبوره. على الرغم من أن قواته واجهت تياراً مائيا 
سريعاً إلى حد ماء إلا أنها تحركت بشكل منحرف عبر المياه» ويذلك 
حافظت على تشكيلاتها السلامية المثالية وقد فاجأ ذلك الأمر الفرس 
إلى حد كبير لدرجة أنهم فشلوا في الرد على الفور. لقد صرف انتباههم 
بالتأكيد ضجيج الهجوم الأولي الذي جرى أسفل خط القتال. فى لحظة 


9- هذه التفاصيل منقولة عن المؤرخ آريان وربما يكون نقلها عن المؤرخين فلوطر خس 
وكليتار خحوس. 


-148- 


عبور بارمينيو» ضيّع الفرس فرصتهم الفريدة للنصرء بمنعهم رجاله من 
الاندفاع سريعا نحو الشاطئ ونشر خط صد على طول ضفة النهر©0. 
حاولت قوات كبيرة من سلاح الفرسان الفارسي شنّ هجوم غير منظم 
على قوات المشاة الثقيلة المقدونية؛ لكن من دون تلقي الدعم من حشود 
جنود المشاة الفارسية الذين وقفوا جانباً يراقبون القتال الذي يجري أمامهم. 
اخترقت موجات من مقاتلي سلاح الفرسان الفارسي الطوق الهائل المؤلف 
من رماح الساريسا التي يبلغ طول الواحدة منها ثلاث عشرة قدما. بعد هذا 
الهجوم القصير على سلاح الفرسان» وقف كلا صفي المشاة في مواجهة 
بعضهما البعض وحدقا ببعضهما دون أن يتحركا. بدا ميثريداتيس في حيرة 
من أمره» وهو يشاهد الهزيمة وهي تحل بجزء من سلاح فرسانه» في حين 
كان اليونانيون المنضبطون فى انتظار الأوامر للدخول فى المعركة. كان 
هناك رجل واحد فقط يمكن أن يصدرها: الإسكندر, ملكهم وقائدهم العام. 
بينما أوقف بارمينيو سلاح الفرسان الفارسي» كانت المعركة لا تزال 
مشتعلة في وسط الميدان» وقد تحولت إلى موقف بطولي من جانب 
المقدونيين الذين كان يقودهم القائد سقراط فيما أصبح SET‏ 
انتحارية ممائلة لتلك التي حدثت في ثيرموبيلاي. مع بقاء رجال سقراط 
في الماء» وتحشّد جموع الفرس على ضفة النهر المنحدرة» سرعان ما 
استفاد الفرس من هذه الميزة. فقاموا برمي الرماح والصخور على أولئك 
الذين يحاولون تسلق الحاجز الترابى الذي يصل طوله إلى 15 قدماً 
وأوقعوا بهم خسائر فادحة. تدحرج الجرحى نحو أسفل المتحدر الشديد 
الانحدار فكان النهر يجرفهم ويغرقون. أما الناجون فقد دخلوا في قتال 
بالأيدي لتقييد حركة أكبر عدد ممكن من أفراد العدو» من أجل تحويل 
انتباههم عن قسم آخر من ساحة المعركة. 
0- لم يقدم المؤرخون اليونائيون أي تفسير لكيفية عبور قوة بهذا الحجم الصغير للغاية 
النهر دون التعرض لهجوم» أو لماذا لم يتدخل عشرة آلاف جندي في المعركة ولم 
يذكروا سوى بطولات الإسكندر وفرسائه. 


-149- 





مع سيطرته على الوضع الحرج» قاد الإسكندر هجوماً بسلاح الفرسان 
المرافق له عبر الميدان المنبسط. وعبروا نهر غرانيكوس وهجموا وهم 
يرعدون على الفرس عند جناحهم الضعيف. قضت سحابة الغبار التي 
تصاعدت من حركة عدة آلاف من الخيول على عنصر المفاجأة وأصبح 
لدى الفرس وقت للرد. اصطدم هجوم فرسان الإشكتدن وها لوج 
بحشد ضخم من الخيالة» حيث خرج الجنرال ميثريداتيس في المقدمة 
ممتطياً صهوة حصانه السريع. توجّه رجلان مباشرة نحو بعضهما البعض» 
عازمين على القتال» وهما ملك مقدوني وأمير من قبائل بارثيان» وكان 
كلاهما يدركان تمام الإدراك أن صدامهما سيحدد نتيجة القتال» كما 
في معظم المعارك عندما يفقد الجيش قائده. وعلى عكس ميثريداتيس 
الذي كان يستخدم ببراعة سيفاً معقوفاً حاداً بشكل مؤذِء كان الإسكندر 
مسلحاً برمح سلاح الفرسان المقدونيين؛ ولكونه يمتلك ميزة التفوق في 
الوصولء قام برمي رمح نحو ميثريداتيس اخترق درعه الشبيه بحراشف 
السمك وجعله يترنح عن صهوة حصانه. فحمله حصانه سرعة ووجد 
نفسه محاطاً بعدد كبير من الخيالة الفرس. كان من بينهم رويساسيس» 
الرجل الثاني في قيادة البارثيين» المصمم على الانتقام لمقتل أميره. 
وحتٌ جواده على أن يقترب من الإسكندر» وعندما وثب الحصان هوى 
بسيفه ليقوم بالطعنة القاتلة. تسببت الضربة القوية لسيف بارثيان المعقوف 
بنزع ريشة خوذة الملك اليوناني وجزء من حافتها المعدنية. 

بينما كان الإسكندر منخرطاً في القتال للحفاظ على حياته» جاءه 
من الخلف قائد وحدة فارسية آخر» وهو سبيثريداتيس» ليسدّد له ضربة 
خاطفة لكنه أصيب بجروح قاتلة عندما قام كليتوس» أحد حراس الملك 
الشخصيين» بقطع مقبض سيف ذلك البارثي. وبينما كانت عيون الفرس 
تركز على الاشتباك بالأيدي الذي يدور من حول ملك العدوء تمكن 
سلاح الفرسان من أبناء يساليا التابع للإسكندر من الاندفاع دون أن يثير 
الانتباه إلى مجرى النهر الجاف. في هذه الأثناء» اندفع مرافقو الملك 

-150- 


نحو الإسكندر وأنقذوا ملكهم من مأزقه الخطير. بسبب تركيز انتباههم 
على القتال حول الملك اليوناني» وصدمتهم بالهجوم المفاجئ الذي قام 
به سلاح الفرسان الثيسالي من الخلف» فشل الفرس في ملاحظة تقدم 
بارمينيو مع قواته ذات التشكيلاات السلامية واختراقهم عمق الجيش 
الفارسي. وفتحت قوات المشاة اليونانية» التي كانت تتقدم بخطى 
متزامنة نموذجية» وكانت رماحها ظاهرة بوضوح» ثغرات كبيرة يمكن 
من خلالها لسلاح الفرسان المقدونيين دفع الفرس وقوات المرتزقة 
اليونانيين المتحالفة معهم إلى التراجع. جاءت النهاية سريعة وقوية. 
قاتل المرتزقة اليونانيون بقيادة ممنون» وهم يعلمون أنهم لا يتوقعون أن 
يرأف بهم أحد» حتى الموت. تحققت هذه الرغبة بالنسبة لمعظمهم. بعد 
انتصاره في المعركة» قام الإسكندر بتجميع الناجين من الفرس» ووضع 
الأغلال في أيديهم وأرسلهم إلى مقدونيا لينهوا حياتهم كعبيد في مناجم 
الفضة. قل جميع الفرس الذين تمّ أسرهم. . وذفن القتلى اليونانيون مع 
دروعهم بجانب أسلحتهم . وكوفئت عوائلهم بمنحها الأراضي الزراعية 
الخصبة. ذفن الخمسة والعشرين بطلا للهجوم الأولي الذي قام به 
مقاتلو القائد سقراط في مقبرة جماعية مشتركة» وصدرت الأوامر ای 
ليسيبوس النحات الأكثر شهرة في اليونان» بنحت خمسة وعشرين 
تمثالاً برونزياً لهم. 

شارفت حياة الإسكندر العسكرية الرائعة على نهايتها تقريباً عند ضقة 
نهر في آسيا الصغرى .كم كان يمكن أن يتغير وجه التاريع» لو أن الحصان 
لم يقفزء أو كان الحارس الشجاع كليتوس لم يتصد للضربة التي كان من 
شأنها أن تنهي حياة ملكه. خلقت نجاته بأعجوبة أسطورة» أحاطت 
بشخصه منذ تلك اللحظة؛ ومن المحتمل أنه هو نفسه بدأ يؤمن بخلوده. 

كانت نتيجة انتصار الإسكندر في معركة غرانيكوس تحرير المدن 
الساحلية التي تسكنها أغلبية من اليونان من نير الاحتلال الفارسي. لكن 
ذلك الانتصار لم يحل مشكلة أخرى: فالبحرية الفارسية لا زالت تسيطر 


-151- 


على الطرق البحرية» وطالما كان هذا التهديد موجوداًء كان على اليونانيين 
لتأمين احتياجاتهم الاعتماد على الطريق البري الطويل والصعب الذي 
يمر عبر مضيق الدردنيل (الهيليسبونت). كان على الإسكبدر ان يضمن 
السيطرة على موانئ بلاد فارس على البحر المتوسطء متجاهلا إمكانيات 
الأسطول البحري الفارسي القوي. في عام (333 ق.م) قرر غزو منطقة 
قليقيا والاستيلاء على موانتها الساحلية. ولتحقيق هذا الهدف. كان 
هناك طريقان مفتوحان أمامه» أحدهما يؤدي داخل البلاد» عبر سورياء 
والآخر على طول الساحل. اختار ذاك الذي على طول الشريط الضيق 
من السهل الساحلي بين الجبال العالية والشواطئ الرملية. وهذا الأمر 
يمنحه مزايا متعددة - فقد كان المسير فيه أسهل من ذلك الذي يمر 
موازياً له عبر الجبال» ويبتعد كثيراً عن معاقل القوات الفارسية في سورياء 
حيث توقع أن يقوم داريوش بتجميع قوات جيشه الرئيسة. ارتل الان 
بارمينيو ليتحرك إلى الأمام لفتح الطريق مع مع الخيالة الثيساليين. لم تر 
هذه القوة أهمية لتواجد قوة معرقلة من الجيش الفارسي وأقاموا معسكرً 
لحماية الممر الحيوي عبر ممر يونس“. ومن هناك» يلتف الطريق أبعد 
نحو الجنوب» إلى ميناء ميرياندروس (بالقرب من الإسكندرونة) على 
خليج إسوس؛ في ذلك المكان أقام الإسكندر معسكراً لمنح جيشه فترة 
من الراحة. كان الرجال متعبين» حيث كانوا يسيرون بمعدل 20 ميلاً في 
اليوم؛ لكن مزاجهم كان لا يزال رائقاً بسبب النصر الذي حققوه. استغل 
الإسكندر ذلك الوقت لاستقبال السفراء من البلدات المجاورة» وهم 
يعلنون ولاءهم له ويقدمون الهدايا. وأرسل فرق استطلاع في اتجاه 
الجنوب لاستكشاف موقع الجيش الفارسي» الذي كان يتوقع أن يجده 
أمامه» حيث تفسح الجبال مجالاً لسهل ساحلي واسع. بناءً على أوامره» 
أرسل بارمينيو وحدة صغيرة شمالا باتتجاه a‏ اسو لای هن 


1- سرد الأحداث التالية مأخوذ 


0 من كاليسئيئيس مۇرخ بللاط الإسكندر؛ وتمت إعادة 
كتابتها لاحقاً بواسطة المؤ 


رخ بوليبيوس. 
-152- 


وصول رتل الإمدادات الذي كان ينتظره الإسكندر بفارغ الصبرء وكان 
يحتاج إلى قوات جديدة ليعوض خسائره في معركة غرانيكوس. 


Alexander's March through Asia and His Major Battles 
333-331 eC 







S%k‏ 5م0156 


Sia ah Tate ft aE ا‎ : 
#5 8 > DORS HRN Out 
am موت مولن‎ OVS 


بينما كان الإسكندر يتحرك بثبات جنوباء قأم داريوش بتجميع جيشه 

الذي كان متمركزاً في سوشوي» وهي قلعة تمتد على طول الطريق الذي 

يخترق جبال الأمانوس. والتقارير التي كانت تصل إلى الملك الفارسي من 

حكام المقاطعات أبقته على علم بتحركات عدوه. وهكذا علم أن الإسكندر 

لم يسلك الطريق الجبلي المركزي إلى سوشوي ولكنه كان يتقدم على 

طول الطريق الساحلي. لقد حان الوقت للوقوع في الفخ. سار داريوش 
-153- 


ا ا م ری وهي خطوة كانت مراقبة من جنود استطلاع 
الإسكندر المتمر كزين في سلسلة الجبال. بمجرد وصول الجيش الفارسي 
إلى الطرف الشمالى للجبال» توجه إلى أقصى الغرب» لغرض استخدام 
الطريق الساحلي لقطع خطوط اتصال الإسكندر بالقرب من مدينة إسوس. 

كان جنود الاستطلاع الذين أرسلهم بارمينيو لتحديد موقع 
تموضع الإمدادات والتجهيزات العسكرية يجولون بخيولهم سهل 
إسوس | لمفتوح عندما لاحظوا سحابة كبيرة من الغبار» صرخوا قائلين 
«الإمدادات»» ولوحوا بعضب نحو النقاط السوداء التي حاءت تندفع 
تجاههم بينما ظهر صف من سلاح الفرسان من وسط السحابة. «إنهم 
الفرس!). استداروا بجيادهم وتسابقوا مع الريح لتحذير ملكهم. كان 
معزولاً عن اليونان وإمداداته الحيوية. قام الإسكندر بجمع قادة قواته. 
سوبوليس وغلاوشياس وأرسطو وهيراكليديس وديمتريوسء وبارمينيو 
بطل معركة غرانيكوس» الذي كسر الصمت قائلاً: 

«أيها القائد العام» ما هو قرارك؟». 

"أن نتقدم» يا أصدقائي» أن نتقدم! هذه هي فرصتنا الوحيدة». 

«بعيداً إلى الجنوب؟). 

«كلا! بل مباشرة باتجاه الجيش الفارسي! يجب أن نهاجمهم 
ونضربهم» لأنه ليس أمامنا غير ذلك»! 

كان عليه أن يصل إلى ممر يونس قبل أن يخترق الفرس دفاعاته» كما 
فعلوا قبل 150 عاما في ثير موبيلاي. ومع ذلك فإن داريوش الثالث لم 
يكن مثل داريو شس الآول؟؛ كان متردداء و غير حاسم» ومتبلد العقل. وبدلا 
من الدفع بحزم نحو الإغريق والإجهاز عليهم وهم في وضع غير موات» 
أوقف جيشه على طول نهر بيناروس (إما عند بياس أو دیلیتشاس)» وهو 
موقع غير مناسب لحجم جيشه» فهو ضيق للغاية بالنسبة له ليكون قادراً 

-154- 


توجه الإسكندر مع مجموعة صغيرة من الخيالة لاستطلاع طبيعة 
الأرض. التي كانت تتألف في الغالب من أرض مستوية» تحتوي على 
أعشاب طويلة ولم تكن فيها نباتات شجرية قصيرة. كان نهر بيناروس 
يقسم السهل» وعلى الشاطئ الآخر كان يكمن داريوش مع جيشه الجرار. 
عثرت مجموعة الإسكندر على مخاضة نهر تبعد مسافة ثلاثة أميال إلى 
الشمال تسمح لهم بالعبور منها. كان خوفهم» أن داريوش قد توصل إلى 
الاستنتاج نفسه وحصّن الموضع» لا أساس له من الصحة. بل بالعكس» 
نيد أو داريوان ننه في الفت خيش الخال من جهة والمخيط أبن 
جهة أخرى. ورغم ضيق هذه التضاريس» كان المقاتلون المقدونيون 
والتوتاتيوك المصاخون [لاسكندر أكثر تكفا معها: 

وضع داريوش مرتزقته اليونانيين البالغ عددهم 0 ألفاً أمام نهر 
بيناروس» ثم استخدم 30 ألفاً آخرين من الاحتياطي؛ كما وضع وحدات 
على سفوح التلال» حيث كانت تشرف بشكل خطير على جناح جيش 
الإسكندر. لقد أقام القائد الفارسي لنفسه نقطة انطلاق قوية» لكنه بعد 
ذلك غير رأيه. فقام باستدعاء مقاتلي سلاح الفرسان وجمعهم بالقرب 
من الشاطوع؛ على قطعة الأرض المسطحة الوحيدة. وكان من الواضح 
أنه يعتزم أن يطلق هجومه من هناك. قام بسحب مرتزقته اليونانيين إلى 
الوسط واستبدلهم بقوات مشاة احتياطية. وبهذه الخطوة E‏ 
الراسخ في مواجهة الجبال. هذه الحركة الكبيرة للقوات» التي تقذت قبل 
المعركة بفترة وجيزة» نتج عنها ارتباك تام. . تم تجميع الوحدات معاً مما 
أغلق ممرات الوصول لسلاح الفرسان بواسطة وحدات بطيئة الحركة. 
سرعان ما فقد داريوش ميزة تفوقه العددي. بدلاً من تقديم خط أمامي 
بعمق ستة عشر رجلا أصبح لدی داريو ش الآ فان سين إلى تين 
رجلاً متكدسين خلف بعضهم البعض ولن يتمكنوا من مساعدة أحدهم 
الآخر ولن يستطيعوا التحرك إلا في أعقاب بعضهم البعض. 

تقدمت قوات الإسكندرء البالغ عمقها ستة عشر فردأء بوتيرة سريعة 

-155- 


نحو النهر. كان بارمينيو يقود الفرسان اليوثانيين على يسار قرات 
المشاة» بينما قاد الإسكندر حرسه والفرساك الليساليين على الجهة 
اليمنى. حدثت أولى المناوشات بين الأقرانيين وقوة تغطية فارسية في 
التلال. دخلت قرات المشاة إلى منخفض ضحل جعاها بعيدة عن أنظار 
داريوش» وهي حطلوة صممها الإسكندر براع للسماح لمشاته بالتمدد 
طولاً بينما يتقلصون في العمق إلى لمانية رجال. فيما تحرك مقاتلو 
سلاح الفرسان الثيسالي خخلف قرات المشاة المتقدمة ليكون متاحا لهم 
المناورة على أي من الجناحين. انتقلت قوات من سلاح الفرسان المرافق 
له إلى أقصى اليمين. تلقى قادة سلاح الفرسان تعليمات لقيادة خيالتهم 
من خلف المشاة حتى لا يتمكن العدو من مراقبة تحركاتهم. عندما 
انتشرت قوات المشاة المقدونية فوق الجزء العلوي من ساسلة التلال 
المنخفضة المواجهة للنهر» تم عكس تشكيلة الصفوف بأكملها. لقد فات 
الأوان على داريوش للقيام بأي تحر کات أخرى. على بعد ثمانين ياردة 
من النهرء توقف الإغريق لفترة وجيزة بينما كان الإسكندر يتقدم على 
حصانه» بشكل ملحوظ وبشكل مثير للريبة من قبل الأصدقاء والعدى 
على طول خط القتال الأمامي بأكمله. عندما أصبح الجيشان قريبين 
بالفعل من بعضهما البعضء كان الإسكندر يسير بجواده على طول خط 
القتال» داعياً رجاله إلى التحلي بالشجاعة وينادي بألقاب الشرف القادة 
والمساعدين والمرتزقة الذين كانوا معروفين على نطاق واسع بسمعتهم 
أو قيامهم ببعض أفعال الشجاعة. وكانت تأتيه الصيحات من كل جانب: 
«لا تؤجل الأمر بل هاجم العدو الآن!». كان هذا الإيقاف المؤقت لقوات 
المشاة اليونائية فرصة عظيمة لداريوش كي تشن قواته الضخمة من سلاح 
الفرسان هجوماً مفاجثا عبر النهر. لكن داريوش لم يكن مثل الإسكندر. 
كان واقفا متجمدا في عربته كأنه أرنب يتربص به ثعبان. 

على إيقاع المئات من الدفوف والمزامير» تقدم رجال الإسكندر 
البالغ عددهم 31 ألف رجل بثبات وهم يرفعون عالياً رماحهم الطويلة 

-156- 





(الساريسا)» كما هي عادتهم عند بدء أي هجوم. كانوا على بعد عشرين 
ياردة من النهر الضحل عندما ارتفعت أصوات الأبواق وظهر مقاتلو 
الصف الأيمن من قوات الإسكندر وهم يسيرون بخطى مضاعفة ثلاث 
مرات» بقيادة الملك نفسه» وقد سبقوا النخبة من أفراد حرس المشاة 
الملكي. تعالى الصراخ من الحشود عبر المياه الضحلة لنهر بيناروس» 
وقد أنزلوا رماحهم الطويلة (الساريسا) حينهاء ورؤوسها الفولاذية 
المميتة متوجهة إلى الأمام مباشرة. وقبل إعطاء مشاة مرتزقة الفرس 
الأجانب (كارديس) فرصة للردء قام المقدونيون» بقيادة هيفاستيون» 
نقيب الحرس الملكي» بتسلق ضفة النهر وقد 0 رؤوس رماحهم 
الطويلة في أجساد مشاة الكارديس. كان التأثير ع عنيفاً وكاملاً لنوحة أن 
جناح جيش داريوش الأيسر غرق في الفوضى؛ كر وحدات 
الخطوط الأمامية التي حاولت الفرار ولكن تم إيقافها بواسطة صفوف 
القوات المتكدسة خلفها. كان باستطاعة هؤلاء الرجال سماع الصراخ» 
لكنهم واصلوا التقدم» دون اهتمام بالمذبحة التي كانت تحدث أمامهم. 
أما قوات الفرسان المصاحبة للاسكندرء والتى كانت تختبى وراء قوات 
الان دعت ها عير ار وها نحيت الستوف الا 
(الكارديس) . كان هجومهم مفاجتاً وغير متوقع لدرجة أن الجناح الأيسر 
للش القارمى ي بأكمله قد ترنح متراجعاً. جوت ادات لوان 
تخو کان تواجددازيوقن» الذي كان محاطا بتحرس الفرسان الملك: 
بينما كان هذا الجزء من المعركة يسير كما كان الإسكندر يرغب» واجه 
جناحه الأيسر انتكاسة لأن سلاح الفرسان الفارسي وضع ثقله الكامل البالغ 
0 ألف فارس لشن هجوم عبر النهر. تعرض الثلائة آلاف فارس ثيسالي 
بقيادة بارمينيو إلى ضغوط شديدة» ولكن حينها حدث ما غير كل شيء. قام 
الإسكندرء الذي كان منخرطاً بشدة في القتال في جناحه الأيمن» بحركة 
مفاجئة باتجاه موضع داريوش. فقام أحد قادة الفرسان الفارسيين أو عدد 
منهم» ممن كانوا منخرطين في القتال ضد بارمينيو» بالاستدارة بخيولهم 
15 


وتسابقوا لمساعدة ملکهم» تبعهم عدد كبير من الرجال الذين اعتقدوا أنه 
من واجبهم البقاء مع ضباطهم. فتح هذا التحول ثغرة في هجوم الفرسان 
الفارسيين» سرعان ما قام الفرسان الثيساليين باستغلالها. وباستخدام 
مرونتهم الكبيرة في الحركة ووضعهم المحمي بشكل أفضل» تمكنوا 
من قتل الجنود الفرس وطاردوا الباقي عبر النهر وتحطيم الجناح الأيمن 
للجيش الفارسي. كل ما بقي صامداً هو قلب الجيش. وعندها تمكن مرترقة 
داريوش اليونانيين من صد كل محاولات المقدونيين لاختراقهم. احتدم 
القتال بشراسة على طول ضفة النهر» حيث كان اليوناني يقاتل أخاه اليوناني. 
لم يكن هناك من يحمل أي شفقة في قلبه ولم يكن هناك من يطلبها. استمرت 
الجشث تتراكم ودفع المرتزقة ثمناً باهظأ. (ستلعب خسارة مرتزقة داريوش 
اليونانيين دوراً حاسماً في معركة غوغاميلا). ذُفِم الجنود الفارسيين لملء 
الفجوات» ولكن لا شيء يمكن أن يوقف الأمر المحتوم. بعد أن تبخر 
جنود المشاة في الجناح الأيسر للجيش الفارسي بسبب هجوم الإسكندر 
الجريء؛ وهزيمة سلاح الفرسان التابع له بسبب الخطوة التي قام بها عدد 
قليل من الضباط المتحمسين لمحاولة إنقاذ ملكهم» والمذبحة التي تعرض 
لها المرتزقة اليونانيون في الوسطء فز داريوش من ميدان المعركة» وتبعه 
مقاتلو سلاح الفرسان» الذين كان يلاحقهم بحماس فرسان الإسكندر. 
اختنقت ضفة النهر والممرات الضيقة المؤدية من النهر مخترقة الجبال 
بالجثث والخيول» ومعظمها كانت لأفراد من الجيش الفارسي. وحدثت 
اشر اماي عنما اع اك امرقرقة دارير ع ال اتر ةم جر الأستكدر: 
وكانت الأهرامات التي صعدت من جثث القتلى تشهد على ضراوة القتال. 
ما إن حل الليل حتى تحقق نصر عظيم. لکن داريوش لم ينته بعد؛ سيتطلب 
الأمر معركة أخرى. فقد حدثت معركة إسوس كما توقع الإسكندر2"2. 





12- هذه العبارة مأخوذة من المؤرخ أريانوس. لكن معظم أحداث معركة إسوس مأخوذة 
من كتاب التاريخ العام للجمهورية الرومانية للمؤرخ بوليبيوس الذي كانت مصادره 
هي روايات شهود العيان التي ذكرها المؤرخ كاليسثينيس. 


-158- 


عندما دخل الإسكندر, مع هيفاستيون؛ الخيمة الملكية التي يقيم فيها 
الملك داريوش بعد الاستيلاء عليهاء وجد زوجة الملك. ستاتيراء وأطفالها 
وهم مفجوعون بموت الزوج والأب. لم تر ستاتيرا من فتحة الخيمة سوى 
ظل رجلين» وكان كلاهما يرتدي عباءة طويلة وخوذة.» وكيا يا 
ودرعاء ويبدوان جادين للغاية. جمعت المرأة الأطفال من حولها وانحنت 
احتراما لهيفاستيونء الذي كان أطول الاثنين» واعتقدت أنه الملك حتى 
قيل لها العكس. كان رد فعل الإسكندر على خطئها شجاعاً ومبرهناً عن 
تقديره لصديقه: «ليس هناك خطأء أيتها السيدة النبيلة» لأن هيفاستيون 
هو أيضا زعيم عظيم». ثم تابع الإسكندر حديثه ليطمئنها إلى أن زوجها 
داريوش على قيد الحياة وأصدر أوامر بأن لا تعامل الأسرة ذات النسب 
الرفيع مثل الأسرى بل كضيوف ملكيين”. عندما اكتشف داريوش مصير 
زوجته» فوجئ بأن الإسكندر لم يغتصبهاء كما كانت العادة الشائعة عند 
المنتصرين كإعلان لنصرهم وليجلبوا العار للمهزوم. 

استمرت مسيرة الا سكندر نحو النصر دون توقف. كان هدفه الرئيس 
التالي هو مكان المرسى الرئيس لأسطول بلاد فارس في البحر المتوسط 
في مدينة تاير (صور). كانت المدينة تقع على جزيرة» وكانت منيعة تماماء 
ومحصنة من جميء الجوانب بأسوار يبلغ ارتفاعها 50 مترا. كان الطريق 
الوحيد للوصول اليها هو عن طريق البحر. وبما أن الإسكندر لم يسبق 
له أن قاد أسطولاً من قبل» فقد اعتقد المدافعون عن صور أنهم بمنجى 
عن الخطر. وفي عملية نموذجية للقيام بفرض حصار على المدينةء تغلب 
الإسكندر بها على القوات العسكرية الموجودة في المدينة حين اقام 
معبراً خشبياً عبر بحيرة ساحلية. تمّ إحراق رصيف الميناء والعديد من 
الأضبار©0 بواسطة نيران مقاتلى صورء رفض الإسكندر الاستسلام» وبنى 





3- عن المؤرخ ديودوروس. 5200 5 
4- أحد أقدم آلات الحرب وهي تشبه الدبابة حيث يحتمي المقاتلون وراءها مع التقدم 


نحو الحصون لثقبها ومهاجمة الأعداء المتحصنين بالحصون. المترجم. 
-159- 


رصيفاً ثانياً ثم ثالثاً. ومن الموانئ الفينيقية التي تم احتلالهاء قام بتجميع 
أي نوع من السفن وقع تحت يديه وحشر أسطول أهل صور داخل مرفتها. 
أما بالنسبة للأسوار العالية» فقد تم بناؤها لمقاومة الزلازل ومنجنيقات 
المحاصرين» ولكن ليس السفن الثقيلة المجهزة بكبشات”" برونزية. 
سقطت الأسوار ودخل رجال الإسكندر إلى المدينة. لقد استغرق الامر 
سبعة أشهر. تم تدمير مدينة صور بالكامل وأرسل سكانها للعمل في مناجم 
الفضة. أثبتت استراتيجيته الشاملة» بحرمان الفرس من موانئهم البحرية» 
أنها كانت حكيمة. انعزل داريوش عن أسطوله» وبات الطريق إلى مصر 
مفتوحاً أمام الإسكندر. وقبل أن ينطلق» تم إدخال مبعوث من داريوش 
إلى المعسكر اليوناني. وخاطبه قائلاً: «أيها الملك العظيمء إمبراطوري 
يتمنى لك السلام. ويقدم لك 10 آلاف طالنط9" ذهبي [حوالي 400 مليون 
دولار] وجميع الأراضي الواقعة غرب الفرات. و- توقف مؤقتا- ثم قال 
«الإمبراطور يعرض عليك يد ابنته للزواج وليتم إبرام معاهدة صلح». 

أوضح الإسكندر نواياه عندما أجاب بسخرية: «أخبر إمبراطورك أنا لا 
أريد أمواله ولا أريد جزءاً من بلاد فارس فأنا أعتزم الاستيلاء عليها كلها. أما 
بالنسبة لابنته» فأخبره إذا كنت أرغب فسأتمكن من الحصول عليها وأتزوجها 
دون موافقته. لقد كان الإسكندر خارجاً لمسح بلاد فارس من الخريطة. في 
شهر تشرين الثاني حاصر غزة ثم دخلهاء وفي آذار من عام 331 ق.م غزا 
مصر. في معبد زيوس عمون في الصحراء الليبية غرب ممفيس» رحب به 
الكاهن باعتباره «ابن زيوس». مع سقوط الساحل الجنوبي للبحر الأبيض 
المتوسط» لم يعد لدى الفرس موانئ أخرى لترسو بها سفنهم. فإذا كان 
داريوش يخطط لمواجهة؛ فبات من الحتمي أن تكون في البر. 

ظل الإسكندر مطمئناً لمدة عام فسمح لقواته بأخذ فترة من الراحة 
5- الكبش هي آلة معدنية استخدمها القدماء لدك أسوار المدن المحاصرة. المترجم. 


6- وحدة قياس قديمة للوزن تساوي وزن الماء اللازم لملء أمفورة. كان الطالنط 
الأطيقي أو اليوناني يعادل 26 كغ. المترجم. 





` -160- 


في حين كان يخطط لبناء ميناء جديد وهو ميناء الإسكندرية. لكن تركيزه 
تحول عندما تلقى تقريراً يفيد بأن داريوش كان يجمع جيشاً ضخماً في بلاد 
ما بين النهرين. تصرف الإسكندر فوراً وهرع إلى هناك لينال من خصمه. 
ستختبر المعركة القادمة قدرته على التكيف. بالنسبة إلى الإسكندر» كان 
ذلك يعني سباقاً مروعاً مع الزمن» وكانت الاحتمالات غير مواتية. 

كانت الشكوك تكتنف داريوش بقدرته على التغلب على الإسكندر. 
في كل مرة التقيا بهاء كان اليوناني يتقدم خطوة كبيرة إلى الأمام. الوسيلة 
الوحيدة لوقف ذلك المقدوني هو أن يجمع قوة هائلة بحيث تسحق الجيش 
اليوناني بأقدامهاء بغض النظر عن عبقرية ملكهم التكتيكية. في السنتين 
اللتين انقضتا منذ الكارثة التى تعرض لها في معركة إسوسء أنفق داريوش 
ثروة إمبراطوريته لإعادة التسلح. لقد كان مستعداً لمواجهة خصمه» حيث 
جمع نصف مليون من الجنود ومقاتلي سلاح الفرسان والعربات ووحدات 
الدعم والنقل. كان جيشه يشبه مدينة عظيمة وهي تتحرك. 

«لكن المعركة العظيمة التي خاضها داريوش لم تكن» كما يخبرنا 
معظم الكتّاب» في أربيلاء ولكن في غوغاميلاء والتي تعني بلغتهم منزل 
الإبلء لأن أحد ملوكهم القدامى فر من المطاردة من أعدائه على جمل 
سريع» وتعبيراً عن امتنانه لذلك الحيوان» أطلق اسمه على هذا المكان”". 

ما تلا ذلك كان حرب أعصاب. كانت الاشتباكات الممهدة لمعركة 
غوغاميلاء التي جرت على رقعة الشطرنج العملاقة في شمال بلاد ما بين 
النهرين» بأهمية المعركة نفسها09. لم يأخذ داريوش في الاعتبار المشاكل 
التي ينطوي عليها تحريك مثل هذا الجيش الضخم. تحرك هذا الجيش 
7- عن المؤرخ فلوطرخس. 
8- كتب عن حملة غوغاميلاء أربعة مؤرخين مهمين: ديودوروس وكورتيوس 

وفلوطرخس وآريانوس. في حين كان الثلاثة الأوائل يعارضون الإسكندر بشكل 

أساس كان أريانوس مؤيداً» واعتمد على روايات شهود العيان التي ذكرها بطليموس 


واريستوبولوس. 





-161- 


الكبير وهو يصطحب معه زوجات المقاتلين والطهاة والخادمات والأطفال 
والكناسون والعاهرات. أينما كان داريوش يقيم معسکراً يكون كبيراً جدا 
بحيث لا يمكن إخفاؤی وصاخباً جداً لا يمكن تهدئته» ويفتقر تماما إلى 
الانضباط. عرف داريوش أنه سيكون من المستحيل اللحاق بالإسكندر 
عند التلال» حيث يتسلل المقدونيون من بين جنباته. كانت تحركات جيشه 
بطيئة - كانت هناك وحدات تضلٌ طريقهاء وأخرى تتركه من أجل السرقة. 
وسا كان باستطاعة الاسكتدن: وأريعين ألفاً من مقاتليه التحرك بسرعة 
وتغيير اتجاههم ذ فى أي لحظة» كان داريوش عالقاً مع نصف مليون رجل 
في أرتال متداخلة مع بعضها إلى ما لا نهاية. . لذلك اضطر إلى التمسك 
بالسير في منطقة سهلة. انتقل عن بابل إلى مدينة أربيلا*'» «مدينة الآلهة 
الأربعة» . ناقش داريوش هذا الأمر مع مازايوس أفضل جنرالاته. كان تقييم 
SL CI‏ هو آنه لم يکن هناك 

شيء صحيح في الجيش؛ كان مشروع داريوش الطموح محكوماً عليه 
بالفشل بسبب الغطرسة التي هيمنت عليه. ومع ذلك فقد نصح حاكمه بأن 
أفضل فرصة لهم هي أن يكمنوا للإسكندر عند أحد الأنهر العظيمة. 

قاد مازايوس طليعة من ستة آلاف مقاتل من سلاح الفرسان لضبط 
الكمين. «أمسكوا النهر»» كانت تلك أوامره المرتبكة. كان هناك نهران» 
هما دجلة والفرات. خطط مازايوس لكل شيء بناء على المعلومات 
الاستخباراتية التي تلقاها من جنود استطلاع سلاح فرسانه الذين قاموا 
بتضليل جيش الإسكندر. وقد كانوا مخطئين» وكذلك كان تخطيطه. لقد 
كان جنرالاً جيداً؛ لكنه ارتكب خطاً حاسماً: لقد فشل في إيقاف الإسكندر 
أثناء عبوره نهر الفرات عند مدينة ثابساكوس. 

في 13 أيلول سنة 331 ق.م» ألقى سلاح الفرسان التابع للإسكندر 
القبض على دورية كشافة فارسية واكتشف خطط عدوه. بعد مسيرة قسرية 
وصل الإسكندر نهر دجلة في 18 أيلول. ارتكب مازايوسء الذي كان 
9- أربيل. المترجم. 





-162- 


بات فى حالة انتظاں خطاً مماثلاً لما فعله عند نهر الفرات. لقد كان 
يمتقد أن نهر دجلة يتعذر اجتيازه - مع أنه كان سالكاً- ولن يسمح لجيش 
ذلك المقدونى بالعبور. لكن الإسكندر المحظوظ دائماً هو الذي فاز» 
ووصلت إليه كامل وحدات جيشه قبل مواجهة فرسان مازايوس» الذين 
انسحبوا فى مواجهة جيش الإاسكندر الرئيس. ألقت الروايات اللاحقة 
باللوم على عدم فعالية مازايوس في التسبب بالكارثة التي N‏ عدن 
الفارسي» فقط للتقليل من إنجازات الإسكندر. 


1 October 331 ac 





0- م“ كثان ا 
من كتاب أناباسيس للمؤرخ كسيئوفون. 


-163- 


عبر الإسكندر نهر دجلة في ليلة خسوف للقمر (20 أيلول)؛ وذبح 
القرابين لآلهة سيلين وغايا وهيليوس (آلهة القمر والأرض والشمس). 
من هناك» اندفع مع جيشه بالكامل جنوباً جاعلا نهر دجلة كمصد حماية 
لجناحه الغربى. لقد ترك رتل التجهيزات الخاصة به يخيّم على النهر 
وواضل سيره ول عه سوق راتات الحو لات واه جنوي 
على طول وادي دجلة» حيث يوجد الكثير من العشب لبغاله في السهل 
الخصب أسفل جبال جوردينيان. في 5 أيلول واجه قوات من ألف 
من الفرسان الفارسيين» وهزمهم وأخذ بعض الأسرى؛ الذين أكدوا له 
الوجهة التالية لداريوش» وهو سهل معشوشب جنوب أربيل» لقد تعلم 
الإسكندر الدرس منذ زمن معركة إسوس» عندما فوجئ بتحرك عدوه من 
حول جناحه. ولعدم رغبته في الوقوع في الخطأ نفسه مرة أخرى» جعل 
نفسه هذه المرة على علم دائم بحركات عدوه. عندما طلب منه جنرالاته 
منحهم يوم راحة» رفض طلبهم. وقال لهم: «سنضطر إلى المغادرة على 
الفور». كان جيش داريوش كبيراً وغير فعّال. من ناحية أخرى» يجب 
علينا أن نتخلى عن كل ما لا لزوم له لتحقيق مكاسب من خلال السرعة. 
من أجل السرعة؛ تخلى عن كل شيء؛ لقد ترك وراءه جميع الحيوانات 
باستثناء حيواناته الحربية التي كان عليها أن تحمل حصص الشعير التي 
تكفيها عدة أيام وانطلق من المخيم في 29 أيلول. واندفع من ضفاف نهر 
دجلةء إلى الأمام مع مفرزة صغيرة من سلاح الفرسان المرافق له» وترك 
الأمر لبارمينيو ليلتحق به مع الجزء الأكبر من جيشه. 

كان الإسكندر يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً فقط» ولكنه كان 
بالفعل في ذروة قوته. کان أعظم رصيد له هو أعصابه - لم يكن يزعجه 
شيء؛ وكان يحتفظ بها باردة في أي أزمة تواجهه. لم يؤثر به ذلك الجيش 
الجرار الذي وضعه داريوش في ميدان المعركة. إن المبداً القائل بأن 
«القوة العظمى لا يمكن مواجهتها إلا بقوة مساوية لها لم يكن له معنى 
بالنسبة لذلك القائد المقدوني. حسب تفكيره» كانت الطريقة لهزيمة القوة 

-164- 


الجبارة هي تدمير تماسكهاء وبمجرد تجزئتهاء يتم التعامل بشكل منفصل 

كان الملك الفارسي يتقدم مثقلاً بقوته الضخمة من الخيول والرجال 
وأرتال العربات الحربية نحو المواجهة. كان داريوش متعباء وكذلك 
التي تشكل مفترق الطرق بين بابل وباقي أجزاء إمبراطوريته» إلى نهر 
ليكوس (الزاب الكبير)» والذي يستغرق منه خمسة أيام أخرى لكي 
يعبر. في 25 أيلول» وهو اليوم الذي أسر فيه الإسكندر الكشافة الفرس» 
وصل داريوش أخيراً إلى سهل شاسع بالقرب من قرية غوغاميلا على 
نهر بوميلوس (الخازر). وعد هذا السهل الشاسع بتوفير ميدان معركة 
مناسب لفرساته بأعدادهم الهائلة ومئات من عرباته؛ هتف له جنرالاته 
وهم يؤكدون له أنه لا يوجد شىء يمكن أن يفعله المقدوني الملعون 
لإيقاف الهجوم الذي ستشنه العربات الحربية المميتة. 

كانت خطة داريوس بأكملها تعتمد على تفوق قوته البشرية. وبذلك» 
كان نئي لتنظيم خط قتالي طويل ومركز للغاية لدرجة أنه سوف يصل إلى 
أبعد مدى حتى إلى أقل الخطوط كثافة التي يمكن لليونانيين مواجهتها. 
كان يمكن لمركباته الحربية أن تخترق ببساطة قلب قوات العدوء 
رحكتودة القنخمة من الفرسان تهجه من حول أجتحة القوات اليوثانية: 
كانت تلك خطة مثالية. وللتأكد من أن لا شيء على الإطلاق يمكن أن 
يوقف المركبات ذات العجلات الثقيلة» فقد أمر الآلاف من العبيد بملء 
الحفر وتسوية الخنادق لتحويل الحقل الوعر إلى ميدان سباق ناعم مثل 
طاولات البلياردو لأجل مرور مركباته الحربية. 

عند وصوله إلى السهل» سارع الملك اليوناني إلى استكشاف الارض 
وسرعان ما اكتشف الموضع المحتمل لتواجد قوات داريوش. وفي 





١‏ تقع ضوشاميلا على بعد عشرين ميل شمال شرق الموصل في العراق» هذه التفاصيل 
مأخوذة من المؤرخين ديودور الصقلي وکورتیوس. 


-165- 


حين أن مجموعات من سلاح الفرسان التابع له شكلت ستاراً لإخفاء 
مكان وجود جيشه عن نظر العدو» سمح لقواته ببضعة أيام من الراحة» 
قبل أن يجتاز الأميال القليلة المتبقية» ويخيم في الليلة الأخيرة ليبتعد بت 
فقط ثلاثة أميال عن الفرس. كان الإسكندر قد تحرك سريعاً في الآونة 
الأخيرة لدرجة أنه لحق داريوش بشكل مفاجئ تماماًء وكان غير مستعد 
تماماً عندما ظهر الجيش اليوناني فجأة على المرتفعات البعيدة فوق سهل 
غوغاميلا. في الليلة التي سبقت المعركة» اقترح بارمينيو شن هجوم 
مفاجئ. وهذا من شأنه أن يقضي على خطر هجوم تقوم به حشود خيالة 
الجيش الفارسي» لكن الإسكندر لم يكن يعتقد أنه يمكنه أن يوجه ضربة 
حاسمة فى الليل. لذلك أجاب باقتضاب بعبارة اقتبسها منه الكثيرون: 
«أنا لن أسرق النصر!» . في الليلة نفسهاء توجه الإسكندر وقادته إلى قمة 
مرتفع. ومن هناك كتاهدوا عرضا راتا للقوةة ارت آلا المشاعل 
النارية عرضاً عسكرياً . ومرٌ موكب لا نهاية له من سلاح الفرسان وقوات 
المشاة من أمام عرش الملك داريوش. 

«ابحق زيوس - تمتم أغاثو من سلاح الفرسان لمملكة أودريسيا- 
لدى الفرس خيول أكثر من عدد رجالنا». 

أجاب الإسكندر: «نعم» لكن كل رجل من رجالنا يستحق عشرة من 
خيولهم». لم يؤثر به العرض. بالنسبة له» ما كان يجري في جميع أنحاء 
الميدان مجرد استعراض للقوة» ولم ينتج عنه سوى تعب الجيش. كان 
هناك شيء قد تعلمه كمتمرس في العمليات الحربية. إذا كان عليك أن 
تنظر على طول عمود السهم من النهاية الخاطئة» فإنك ستقع تماماً تحت 
رحمة الرجل الذي يحمله. سيتوقع أن يرى الخوف في عينيك لأنه من 
يمتلك السطوة . سوف يتفاخر وهو يراقبك وأنت تتلوى» وسيؤجل لحظة 
القتل حتى يكون قد فات الأوان. في الواقع» كان داريوش يملك هذا 
السهم مجازاً بحكم قوته البشرية الساحقةء لكنه لم يكن الرجل المؤهل 


لن فة ان ا را ما 


-166- 


كان الإسكندر يحتاج إلى نصر حاسم. لم يكن داريوش يفتقر إلى 
القوة البشرية» ولم يتخل عن شن الحرب؛ حتى بعد الخسارة التى 
تعرض لها في معركة إسوس كان قد أعاد تجميع جيش ضخم من سكان 
الأراضي الشاسعة التي يسيطر عليها. الشيء الوحيد الذي سينهي هذا 
الملك الفارسي هو فقدانه كل ما يحمل من شجاعة وأمل بعد أن يتعرض 
لهزيمة منكرة. زار الإسكندر الكاهن وقدم القرابين المعتادة. لقد استشار 
عرافه أريستاندر من أجل أن يخبره بنبؤته. ربما كان يؤمن بالکاهن» وربما 
لم يكن كذلك؛ كان قد علم منذ فترة طويلة أن القدر لا يحترم جحيم 
المعركة. ثم عقد اجتماعا أخيرا. عندما غادر جنرالاته وبقي هيفاستيون 
فقطء خرج الإسكندر من الخيمة» ثم التفت إلى صديقه. يجب أن نعرف 
فى غضون ساعات ما الذي سيجري. يجب أن ننتصر لأن آلهتنا حية». 

المكان هو غوغاميلا (أربيلا»» والزمان هو الأول من تشرين الأول 
سنة 331 ق.ه2©. بينما كان الجيشان يقيمان تشكيلاتهماء حلق طائر أسود 
كبير فوق ميدان المعركة. نظر الرجال إلى أعلى وبدؤوا يتحدثون عن 
الفأل الذي يحمله معه؛ بينما كانت أجنحة الطائر ترفرف عند الخيوط 
الأولى من الفجر البرتقالي مثل شبح جائع» كما لو أنها جاءت من السماء 
بأوامر من الإلهة أثينا. أيقن الملك اليوناني «أن الآلهة معنا...» ثم نام هو 
وأفراد جيشه لفترة قصيرة» في حين أن داريوش أبقى أفراد جيشه متأهبين 
طوال الليل وعندما أشرقت الشمسء كانوا متعبين. في حين أن اليونانيين 
لم يكونوا كذلك. 

بدأ اليوم مع قيام الإسكندر بعمل غير متوقع؛ جعل تشكيلاته الحربية 
تنحرف بمقدار عدة درجات. تم تجميع الجيش الفارسي في صف 
هجومي ثلاثي» انتشر إلى أبعد ما يمكن أن تراه العين» بعيدا عن متناول 
الصف الوحيد لليونانيين الذين كان يواجههم عن بعد. كان وميض 





2- حسب التاريخ الذي حدّده المؤرخ فلوطرخس: فإن شهر بويدروميون الإغريقي» 
يحل بعد أحد عشر يوماً من خسوف القمر ويصادف 1 تشرين الأول سنة 1 ق.م. 


-167- 


المعادن يبرق في كل مكان - حيث أشرقت شمس الفجر على الفولاذ 
المصقول وإطارات الدروع البرونزية. جلس الإسكندر على چو دوا 
ابتعد قليلاً عن قواته. شعر بالمصير الذي ينتظره. لن يصبح ملكا للعالم 
دون الإصغاء لحدسه بدلاً من الاستماع إلى حكم أصدقائه ومستشاريه. 
حتى لو كانوا جميعاً من الأبطال الذين حاربوا وانتصروا في العديد من 
المعارك. كل شىء كان جديداً وكل معركة كانت تحدياً جديدأء يختلف 
عن اة كان يعر لعل رجاه فن انوا و بن النهاية. 

لم يكن لدى الإسكندر سوى سبعة آلاف مقاتل من سلاح الفرسان 
وأربعين ألفاً من المشاة» لا أكثر. انتظر اللحظة الأخيرة تماماً حتى يعلن 
عن خطته التكتيكية للهجوم. لقد كانت خطة عبقرية خالصة. أعطى 
لبارمينيو مهمة قيادة الجناح الأيسر وأصدر تعليمات له بأن يحافظ على 
موقعه والدفاع عنه ضد أي هجوم من الجناحين يقوم به الخيالة الفرس 
المحتشدون في ذلك القاطع. كان الإسكندر يسير مع جناحه الأيمن 
بزاوية منحرفة نحو خط العدوء على أمل أن هذا النهج غير التقليدي 
سوف يجذب الفرس إلى ما بعد ساحة المعركة المحددة ويجعل تشكيل 
العدو الثابت يدخل في حالة من التشتت. لم تتم تجربة هذه الطريقة من 
قبل أبدات#» ولكن إذا أدى الجميع واجبهم بشكل صحيح» فستنجح. قام 
بترتيب وحداته بحيث تتمكن من أن تستدير وتلتف وتقاتل في جميع 
الاتجاهات . لقد اعتمد على تردد داريوش المعروف وحقيقة أنه لن يكون 
قادراً على تعديل مناورته المعدة ة مسيقاء حتى لو اضنطر إلى ذلك. لقد 
خدع الإسكندر عدوه. 

كان الإسكندر يخشى بمجرد اندلاع المعركة أن يفقد بسرعة سيطرته 
العامة على الأوضاع. لذلك قام بإبلاغ أوامره المحددة شخصياً لكل 
واحد من قادته الرئيسيين. . كان عليهم أن يتصرفوا وفقاً لخطته الرئيسة» 


ال ELE‏ 
3- على الرغم من أن هناك شيا مشابهاً وصفه المؤرخ كسيئوفون فى كتابه كيروبيديا 
يشير فيه إلى أن الملك كورش سبق وأن استخدمه. 1 


-168- 


لكن سمح لهم باستغلال ما تاح لهم من الفرص. كان يسير متقدماً قليلاً 
أمام صف قواته الأمامي. كانت قواته تعرض مشهداً رائعاًء أربعون ألف 
محارب يصطفون في تشكيل محکم» كان كل رامي سهم» وقاذف منجنيق. 
وحامل درع وجندي هوبليت في مكانه المحدد. كان الفرسان يتواجدون 
وراء الخط الأمامي» بعيداً عن أنظار العدو ليجعلوا داريوش يخوض 
في التخمينات. كان سلاح الفرسان بقيادة مينيداس هو قوته الاحتياطية 
سريعة الحركة للقيام بحركات الهجوم المضاد للأجنحة ضد نظيرها لدى 
العدو. أمام خطه الأول كان يتواجد رماة الأسهم والرماح» الذين يشكلون 
حاجز الصدّ الأول أمام العربات الحربية المخيفة. استاي 
باستهداف الخيول فقط» ورشها بوابل من السهام قبل أن يتراجعوا بسرعة 
خلف التشكيلات الثابتة لجنود الهوبليت حاملي الرماح. كان الإسكندر 
يعلم أن الرماة الحاملين سلاحاً خفيفاً سوف يركضون على أية حال» فكان 
من الأفضل أن يخبرهم أن يفعلوا ذلك وأن يحافظوا على شجاعتهم؛ 
ولكن فقط بعد أن يطلق كل واحد منهم ثلاثة أسهم على الأقل. إذا كان 
عليهم التراجع بناءً على أوامر الملك» فإنهم سيقفون ويطلقون النار ثم 
يركضون» ولكن ليس بسبب الذعر. بهذه الطريقة سيتمكن من السيطرة 
على ما لا يمكن السيطرة عليه. كان حراسه من المقاتلين النخبة وجنود 
الهوبليت يشكلان خط قتاله الرئيس. 

كانوا من مستويات مختلفة من الشجاعة والهمة» مما جعل الهجوم 
الأولي يستند على رماحهم المثبتة في الأرض. ولغرض إنجاح هذا الهجوم 
الرئيس بواسطة «جناحه الأيمن المتنقل»» قام المقدونيون» وعدد من 
مقاتلي قبائل الأقرانيين بقيادة أتالوس» وسلاح الفرسان الخفيف لمقاتلي 
الأريتيس» والبليونيزيين تحت قيادة أريوستوه وسادج العويات ارين 
بقيادة مينيداس» بتشكيل قوة هائلة» ولكنهم كانوا لا يشكلون شيئاً بالمقارنة 
مع ماکان يواجههم : أربعون ألفاًمن مقاتلي سلاح الفرسان الفرس المزودين 
بالأسلحة الثقيلة» كما كان هناك العديد من الفرسان في قوات الإسكندرء 


-169- 


من أقوام البختاريين» والداهانس» والسكثيون» بالإضافة إلى مائتي عربة 
حرب مع الرماة - ومليون فرد. بعد أن أخذ لاسرا اسان 
الحسبان توجه إلى قادته قائلاً: «في حال وفاتي» سيتولى فيلوتاس قيادة 
جناحي» وإذا وقع بارمينيو» يمكن استبداله بكراتيروس). ثم قام بالتحقق 
من تشكيلاته الحربية. تحقق أولاً من جناحه الأيمن» وكان بجانب 
مرافقيه عدد من الأفواج الملكية بقيادة كليتوس» وغل ووش وأريستوة 
وسوبوليس» وهيراكليدس» ودیمیتریوس» وميليغير وهيغيلوشوس. ثم 
يجيء بعده جنود النخبة وحملة السيوف بقيادة نيكانور. تولى فيلوتاس 
ابن بارمينيو قيادة سلاح الفرسان في الجناح الأيمن. كان لدى بارمينيوو 
المسؤول عن الجناح الأيسرء سلاح الفرسان الثيسالي تحت قيادة فيليب» 
والفرسان الفارساليون» والأودريسيون بقيادة أغاثوء والتراقيون بقيادة 
سيتاكليس» وحلفاء اليونانيين بقيادة كورانوس» والمرتزقة اليونانيون بقيادة 
أندروماتشوس. كان هناك عنصر آخرء مُجهز للعب دور مهم في المعركة؛ 
جزء من مشاة تراقيا كانوا يقومون بحراسة الأمتعة. لم يكن من المفترض 
أن يشاركوا في المعركة» لكنهم سيفعلون ذلك. 
عندما اطمئن الملك أن كل شيء في مكانه» بدأ يتنقل من قطاع إلى 
آخرء ولكن ليس على صهوة جواده العظيم بوسيفالوس» الذي بات 
عجوزاً الآن. كان يرتدي معطفاً مصنوعاً في صقلية» ويرتدي حزاماً حوله» 
وكان يلبس فوقه صدارة من الكتان المبطن بكثافة» والتي تم الاستيلاء 
عليها من بين غنائم أخرى في معركة إسوس. كانت الخوذة» التى صنعها 
ثيوفيلوس» على الرغم من أنها مصنوعة من الحديد» ومصقولة بشكل 
ممتاز لدرجة أنها كانت تلمع مثل الفضة التي تمّ جليها بشكل جيد. وتمّ 
4- تبدو أعداد جنود المشاة الفرس مبالغاً فيها للغاية. المصادر المعاصرة الأخرى 
تشير إلى أربعماثة ألف فرد يذكر كل من المؤرخين ديودوروس وبلوطرقس أن 
عدد الجيشين معا كان مليون فرد. الحقيقة هي أن القوة الكلية لسلاح الفرسان التابع 
للملك داريوش لوحده تساوي القوة الكلية الفعالة لسلاح الفرسان والمشاة في 
جيش الإسكندر مجتمعين. 





-170- 


تركيب وشاح من المعدن نفسه» مرصع بأحجار كريمة. سيفه» وهو أكثر 
سلاح استخدمه في المعارك كان قد أعطاه له ملك سيتينيا وكان صلباً 
بشكل يثير الإعجاب ويمتاز بالخفة. كان حزامه» الذي كان يرتديه أيضاً 
في جميع الاشتباكات» أكثر فخامة في صنعته من بقية دروعه. كان من 
عمل قدامى الهليكونء وقد قدمه له الروديانيون» كدليل على احترامهم 
له©. كان يتوقف بشكل متكرر للحديث مع جنود الهوبليت والعبيد 
وجنود المشاة ومرافقيه من أفراد حرسه؛ وكان يشجع الجميع» وأحيانا 
كان يضحك وهو يستخف بالجندي الجبان طالباً منه أن يكون شجاعاً. 
وكان يتحدث مع قادته عن الأوامرء للتأكد من أن تعليماته مفهومة وسيتم 
تنفيذها رهن إشارة منه» والأهم من ذلك كله أنه تأكد أنه لن يكون هناك 
أي تحرك للأمام قبل استلام الأمر المحدد منهء إلا في حالة ابتكار خطة 
معينة لاستدراج العدو خارج خط قتاله الجن سا 

أشار أريستاندر» عراف الملك» الذي كان يلف جسمه بعباءة بيضاء مع 
تاج من الذهب على شعره الأبيض» إلى نسر يحلق عاليا فوق الإسكندر 
ويتجه مباشرة إلى العدو.حينها ارتفعت هتافات الإغريق يصوت عال. 
كانوا يعلمون أن الآلهة ستسانده» فهو الابن الحقيقي لزيوس. 

كانت تمتد أمامهم مساحة واسعة من الأراضي العشبية» ترتفع بلطف 
إلى الأعلى وتعلوها قمة منخفضة تبعد حوالي نصف ميل. وهذا من شأنه 
أن يسمح للإسكندر باستخدام طريق جيد ليبتعد عن خط رؤية داريوش. 
بناءً على إشارة منه» بدأ التشكيل اليوناني يتقدم : نحو اليمين» مقترباً من 
العدو بزاوية منحرفة. بمجرد أن اكتشف الفرس ذلك» اضطروا إلى 
تغيير اتجاههم وفقأ لذلك واستداروا لتجميع قواتهم بعيدا إلى يسارهم. 
كان ما يمكن تحقيقه مع وجود جيش يتحرك أصبح شبه مستحيل 
بوجود قوة في موقع ثابت» وخاصة قوة ضخمة مثل الجيش الفارسي 
أصبحت الوحدات مر كر اس و اله 


5- عن المؤرخ بلوطرقس. 





-171- 


والبعض الآخر لم يتحرك على الإطلاق لأن ضباطها فشلوا في تلقي أو 
إعطاء أوامر لمتابعة الاتجاه العام نحو اليسار. . هذه الحركة لجان غير 
المنسقة تركت الخط الأمامي للجيش الفارسي غير متناسق ومكتظاً. رأى 
بيسوس الجنرال المسؤول عن الجناح الأيسر للجيش الفارسي» وهو 
حاكم بختاريا أا أن عدم استقرار تشكيلاته يزداد بسرعة وأن جناح 
ور سيجتاز قريب امضمار اي IS‏ 
هناك ل لل تمّ إصدار أوامره إلى 7 
الإسكندر المتحرك ووقف حركته نحو الجهة اليمنى. 

لزتعت 3 النداء لشنّ الهجوم. صوت البوق واندفع 
عملا گان هناك e 5 N‏ ا وشديداً 
وعانت الوحدات اليونانية المتقدمة بشدة. قام مينيداس» فوراً باتباع 
خطوات خطته التي كان قد أعدّها مسبقاًء فقام بإحضار سلاح الفرسان 
المرافق له على الفور وجعله يتقدم لمواجهة الهجوم ومنع إبادة جناح 
جيشه. كان بالإمكان سماع أصوات الاشتباك بين الخيالة» وقيامهم 
بتحطيم بعضهم البعض وهم يشتبكون وجهاً لوجه» عبر ميدان المعركة 
اکل ألقِي العديد من الفرسان اليونانيين عن ظهور خيولهم واستمروا 
في قتالهم سيرا على الأقدام» وقد رفعوا دروعهم عالياً لحماية أجسادهم 
بينما شقوا برماحهم بطون جياد الجيش الفارسي. تمكن السيكيثيون 
والبختاريون من إلحاق خسائر فادحة في سلاح الفرسان المرافق للملك. 
ول ع اا ا تحول إلى قتال جنوني» فشل 


8م د 


-172- 


الفرسان من المرتزقة اليونانيين إلى القتال وتمكنهم من صد البختاريين. 
صمدت صفوف قوات الإسكندر التي تعرضت لضربات قوية في وجه 
الهجوم الفارسي الأولي. الهجوم الثاني من سلاح الفرسان الفارسي لم 
يكن أفضل حالاء على الرغم من أن قوات المشاة اليونانية تأثرت بشكل 
خطير جرّاء هجومهم الأول. وهذا أعطى انطباعاً خاطتاً. صرخ أحدهم: 
«اليونانيون يفرّون!» وارتفعت الهتافات على طول خط قتال الجيش 
الفارسي بأكمله. وأطلق داريوش -اعتقاداً منه أنه تمّ كسر شوكة القوات 
اليونانية- مركباته ذات الحافات المنجلية. فهزت مجموعة ضخمة من 
المركبات الثقيلة ذات العجلات البرونزية الأرض في ممر العبور. 

كان رجال الإسكندر مستعدين لهجوم المركبات الحربية. قام 
رماتهم» وهم في مواضعهم المتقدمة» بشدٌ أقواس السهام وتوتيرهاء 
وأخرجوا السهام من جعبهاء ودفعوها بعضلاتهم الفولاذية نحو 
الأقواس» ممسكين السهم المسحوب بثبات بأيديهم المشدودة؛ رافعين 
إبهامهم إلى فكهم أثناء تصويبهم على الهدف» قبل أن يتركوا السهم 
ينساب من قبضتهم. كانت السهام تتجه إلى الأمام من القوس المرتخي 
لتجهز على المقاتلين فوراًء في غضون لحظات» كانت تتناثر في السهل 
أجساد الرجال والحيوانات المتساقطة» ولكن اندفعت نحوهم من الوسط 
والأعلى موجة أخرى من العربات. تحركت بعض الوحدات الموجودة 
في قوات مشاة الإسكندر الثابتة إلى الجانب للسماح للعربات التي تهاجم 
بجنون بالمرور دون عوائق. وبينما كانت العربات تجتاز الممرات التي تم 
تطهيرهاء قابلتهم موجة ثانية من السهام والرماح» وغارت عميقاً في أجساد 
الجياد. تعثرت الخيول التي تجرٌ العربات وتعالى صراخها بينما كانت 
السهام تخترق أجنحتها غير المحمية» كانت جروحها المفتوحة تتعمق 
مع استمرار الحركة المسعورة» فيما كانت أطقم المنجنيق تطلق قذائفها 
فوق رؤوسهم. نجح عدد قليل من الطواقم في الفرار» ولكن سرعان ما 
تم تقطيعهم إرباً. ومن دون أن يحدثا أي أضرار ولو بسيطة بالعدوء فشل 

-173- 


هجومان قامت بهما العربات ذات المنجل الدوار. وفي الوقت نقسهء 
قام أفراد سلاح الفرسان الخفيف الأرتيسي بمهاجمة مقاتلي سلاح 
الفرسان البختاري والسكيثي» وقد كان العديد منهم قد فقد بالفعل في 
الصدام الأولي. ومن على ظهور خيولهم النحيفة والأسرع في الحركة؛ 
وصلوا مثل سرب من الدبابير الغاضبة ليقوموا بضرباتهم» ثم تراجعوا 
بسرعة» فقط للهجوم من جانب مختلف. أدى هذا الهجوم المفاجئ إلى 
تقسيم الجيش الفارسي إلى مجموعات أصغر. طعنت رماحهم فرسان 
الجيش الفارسي» واخترقت سيوفهم الدروع الجلدية والمعدنية» وغرزوا 
سكاكينهم في اللحم الحي. 
كانت الكارثة على وشك أن تحل بالبختاريين والسكيثيين. وبعث 
بيسوس حاكم بختارياء نداء عاجلاً إلى داريوش طلباً للمساعدة. لم يلق 
التماسه للحصول على المساعدة إلا آذاناً صماءء نظراً لأن انتباه داريوش 
تحول الآن من جناحه الأيسر المضطرب إلى جناحه الأيمن» حيث دفع 
قائد جناحه» مازايوس» بكل أفراد احتياطي سلاح الفرسان في هجوم 
ضخم ضد الجناح الأيسر للإسكندر: تقدم ثلاثون ألف فارس» بدعم من 
سبعين لف مقاتل من المشاة» إلى الأمام على صوت الطبول والأبواق. 
ولمنع هذا الحشد الضخم من سحق جناحه وتعريض جيش الإسكندر 
للإبادة» قام القائد بارمينيو بنشر عشرة آلاف فرد من جنود الهوبليت وألفي 
مقاتل من سلاح الفرسان. أسفرت المرحلة الأولى من الهجوم الفارسي 
عن هرج اختلطت فيه صرخات المقاتلين مع أصوات أبواق الحرب 
وعويل الخيول. 
بينما حاول بارمينيو صد الحشود التي هاجمته» كان كل ما يجري 
في جناح الإسكندر يسير وفقا للخطة المرسومة. شاهد الملك من نقطة 
مراقبته ذات الموقع المتميزء عناصر الجيش الفاوسي التى فى المقدمة 
تتبع تقدمه بشكل متزامن؛ وهذا جعل رجال بيسوس يكونون خلف قطعة 
الارض التي أعدت خصيصا لهجوم العربات. كان لل رق طرق 
-174- 


حرج في المعركة. أصبح جناحا جيش الإسكندر نظراً لحركتهما الجانبية 
التي تشبه حركة السلطعون معرضين بشكل خطير لهجوم من سلاح 
الفرسان. أصبح بإمكان داريوش أن يطلق قوى الجحيم» وكان الإسكندر 
يعرف ذلك. فحبس أنفاسه» ودرس عن كثب وضع ذلك الحشد الضخم 
من الخيالة وهو يتحرك في جميع أنحاء ميدان القتال» وكان على استعداد 
لضرب جناحيه. لكن داريوش فشل في التحرك. حينها ضاعت فرصته. 

لم يكن الإسكندر قائدا عظيماً فحسبء بل كان أيضاً دارساً متعمقاً 
لأساليب القتال. في معركة ليوكترا التي جرت في عام 371 ق.م؛ استخدم 
أبامينونداس وهو قائد إغريقي من طيبة تكتيكاً ثورياً لكتائب المشاة 
لاختراق جيش أسبرطة. واتبع تعاليم زينوفون: «القائد الحكيم يهاجم 
عندما يكون العدو في أضعف حالاته»» قام إبامينونداس بتنظيم جنوده 
المشاة على شكل كتائب متدرجة فى العمق واستخدمها كقوة ضاربة 
مغلثة الشكل. ومن خلال تذييت أحد أجتمنته والتقدم نحو تجيش أسبرطة 
بزاوية منحرفة» تمكن من سحق الجناح الأيمن لعدوه. وبهذا سارت 
الأحداث في معركة غوغاميلا مشابهة لمعركة ليوكترا ولكن على نطاق 
واسع لا حدود له. 

كان هذا المقدوني البالغ من العمر 25 عاماً يمتلك نظرة عسكرية ثاقبة 
لم يمتلكها قائد عسكري حتى مجيء نابليون وخوضه معركة أوستريليتز 
(1805). وبامتلاكه نظرة ثاقبة وحدس عجيب فى معرفة التوقيت 
المناسب» اكتشف الإسكندر نقطة ضعف عدوه. كانت الحظة توجيية 
ضربة حاسمة قريبة. وسط ثقة الإسكندر بقوته التي لا تقهرء اندفع مع 
تشكيلاته المتقدمة؛ لقد عرّض نفسه لوابل من السهام القاتلة التي أطلقها 
الرماة البختاريون. لكنه تمكن من تحويل انتباه ببسوس. قام بتجميع كل 
من هو متواجد من جنود الهوبليت من الوحدات الأربع المتقدمة من 
السبيرايس (وحدة عسكرية يونانية يصطف فيها ستة عشر رجلاً في الأمام 
بشكل أفقي وبالعدد نفسه عمودياً) وشل منهم كتيبة مشاة تملك ثلاثة 

-175- 


أضعاف قوتها الطبيعية. في غضون دقائق» تم تحويل صف القوات إلى 
إسفين مثلث الشكل. للحصول على طاقة إضافية» تم تعزيز هذا الإسفين 
بوحدات تم سحبها من مرتزقة كلياندرء والتي كانت معروفة بضراوتها في 
القتال. صدر أمر إلى القائد فيلوتاس لاستخدام سلاح الفرسان المرافق 
له لكي يحجب الإسفين عن أي هجوم يسن من الجناح. تم تحديد كل 
شيء. ألقى الملك اليوناني نظرة أخيرة على مركز قوات داريوش. كانت 
لا تزال ثابتة في موقعها الأصلي لأنها فشلت في متابعة الحركة الجانيية 
لجناحها الأيسر. وقد فتح التحول الجانبي غير المنسق ثغرة خطيرة في 
الجناح الأيسر لداريوش» دافعت عنها كتيبة صغيرة من القوات الاحتياطية 
للجيش الفارسي. 

أصدر الإسكندر أوامره بصوت عالء لكن لم يكن هناك أي ص 
للصراخ فقد بدأت الأرض نفسها تعوي والأبواق تدوي وال شال 
يصرخون. توجب عليه استخدام إشارات اليد لجعل قوته الضارية 
تتحرك إلى الأمام؛ سيراً على الأقدام في البداية» ثم تهرول بعدها. توجه 
الإسكندر مباشرة نحو الثغرة. لم يستطع أن يفهم السبب في أن داريوش 
لم يقم حتى الآن بتحريك سلاح الفرسان القوي لسدّها. لم يكن يعلم 
أن الفرسان الفرس انخرطوا بشكل كامل في القتال ضد جناح بارمينيو. 
سرى صوت على طول كتائب المشاة حينما حمل أفرادها رماحهم 
الطويلة بطريقة صحيحة» وأصبح صوت الأبواق غاضباً أكثر من أي وقت 
مضى. تحولت الهرولة إلى ركض كلما اندفع الهجوم إلى الأمام. تتوجت 
المناورة الجريئة للوسكندرء النابعة من شجاعته الشخصية» بالنجاح 
الفوري. حدث هجوم بواسطة يطلق عليها اسم الكبش*© لا يمكن 
صذه بسبب قذائفها ذات الرؤوس الفولاذية ورجال يرفعون أصواتهم 
بصر ختهم المخيفة «تهلقاة Alalai,‏ هولا هو لاا وتم اختراق خط قتال 
الجيش الفارسي وتكبد خسائر فظيعة. كانت كل ضربة تقابلها ضربة ويتمّ 





26 آلة حربية كان يستخدمها القدماء لدك أسوار المدن المحاصرة. المترجم. 


-176- 


الرد على كل طعنة بطعنة مماثلة» سار الإسفين المثلث الشكل بخطى 
متناسقة على سجادة من الجثث. لقد أمسكوا بخناق الفرس من الأمام 
ومن الجانبين. 

لم يكن هناك شيء في الشخص الذي يقف منتصباً في عربته يشير 
إلى أنه ملك. تجمد داريوش عاجزا عن فعل شيء» حيث كان الرجال 
يصرخون ويهربون من أمام جنود المشاة الهوبليت اليونانيين. ولحق 
بذلك التشكيل الإسفيني الرهيب عدد كبير من أفراد الحرس الملكي 
اليوناني وهم يجمعون أفراد الوحدات الفارسية الفارين ويتوجهون بهم 
نحو الوسط» مما جعلهم يرتبكون بشكل مثير للشفقة» بينما كان يقوم 
سلاح الفرسان المقدوني بتوجيه ضربات بسرعة خطيرة نحو جناحه 
المتفكك. شقت الرماح المقدونية طريقها عبر الجيش الفارسي» وقسمته 
إلى قسمين منفصلين. فجأة» تحركت الكتائب اليونانية لتتوجه مباشرة 
اون ارو و ی امن ار عليه روح من لال رايم 
الحريرية. اقتحم أحد الكليانداريين الأبطال» وكان رجلا عملاقاً» الطوق 
الذي أقامه المحاربون من الحرس الملكي الفارسى لحماية شخص 
الإمبراطور. وبضربة قوية من سيفه» قام بشق رأس محارب كان يكسوه 
الفولاذ قبل أن يجلس على صدر الرجل الميت» والذي كان يتنفس 
بصعوبة. عندما رفع عينيه» التقتا بداريوش. كان خد المرتزق اليوناني 
مفتوحاً حتى العظم واختلط دمه بدماء عدوّه الميت. بالنسبة لداريوش 
فإن هذا المشهد لعملية ذبح خالصة» حدئت مباشرة أمام مركبته» كان 
أسوأ بكثير من المعركة نفسهاء وجعله يدرك فجأة الهزيمة المحتملة» وهو 
أمر لم يكن يتوقعه أبداً. ومع ذلك» كان لا يزال يملك قوات يبلغ تعدادها 
عشرة أضعاف عدد قوات خصمه» وهو ما يكفي لعكس الوضع لصالحه. 

ولأن الأمور لم تكن تسير على ما يرام بالنسبة لبارمينيو الذي كان 
على الجناح الأيسر لليونانيين. فقد كان أول مؤشر له على خطورة الوضع 
عندما بدأت الأرض تهتز. ثم تبعها صوت وقع حوافر الخيلء كان هناك 

-177- 


طوفان من الفرسان على مدّ البصر» خرجوا من أجل نيل شرف القتالء 
جاؤوا جميعاً بشكل مباشر نحو صفوف قواتهم الصغيرة لينتصروا في 
ذلك اليوم! في الليلة السابقة كان الإسكندر قد أخذ كل شيء في الاعتبار» 
لكنه لم يعتقد أن مازايوس سيركز كامل احتياطي سلاح الفرسان للقيام 
بضربة واحدة. كان تحت تصرف بارمينيو بضعة أسراب من سلاح 
الفرسان اليوناني الحليف تحت قيادة كويرانوس» وعند زاوية الجناح كان 
هناك جدار صد صلب من المرتزقة تحت قيادة أندروماخوس. 
صدر الأمر إلى مازايوس قائد الجناح الأيمن في الجيش الفارسي 
بالبقاء في مواضعه حتى صدور الأمر الإمبراطوري بالتقدم. وقد سبق له أن 
علم بالكارثة التي حلّت بالجناح الأيسر. رأى الفرصة مواتية للقيام بضربة 
ساحقة فى اللحظة التى فصل فيها الإسكندر جناحه الأيمن المتحرك عن 
الأيسر. وقد أدى ذلك إلى حدوث ثغرة فى قلب الجيش اليوناني» وقرر 
مازيوس» سواء جاءه الأمر الإمبراطوري أم لاء القيام بضربته. ووجه حشد 
فرسانه الضخم بالتوجه مباشرة نحو الثغرة. وسط الصراخ» ركض ثلاثوند 
ألف مقاتل من البارثيين والميديانيين والكابادوكيين والأرمن بسرعة 
للوصول إلى الفسحة التي تفصل سلاح الفرسان الثيسالي وحماة الجناح 
اليوناني. بدت الموجة الهائلة من الفرسان وكأنها سحابة من الأوراق 
الغامقة دفعها نسيم قوي عبر أحد الحقول. لم يجيئوا في صفوف مرتبة 
بشكل جيد ولكن مع رماحهم التي كانت تميل نحو أي اتجاه بشكل 
عشوائي. صدّت مجموعة من الرماح والسهام الموجة الأولى من الغوغاء 
الذين كانوا يصرخون. وللحظة من الزمن» جعلت الصفوف الأمامية 
تدخل في ارتباك مذهل» في حين أن مقاتلي الصفوف الخلفية -الذين 
كانوا مأخوذين بقوة اندفاع خيولهم التي لا يمكن السيطرة عليها- قد قفزوا 
و الجنود المتساقطين وقتلوا أولئك الذين توقفوا. تعئرت الخيول» 
وسرت رقابها ورقاب من كان يمتطيها. اندفعت الخيول التي لم تعد 
تحمل أحدا على ظهرها عبر الأمواج القادمة؛ وقع المزيد من الفرسان 
-178- 


وداستهم الخيول على الفور حتى الموت. حدث كل هذا قبل وصول 
أول ألف مقاتل إلى الكتائب اليونانية. كانت الصدمة فورية» إذ لم يكن 
بالإمكان تصور تلك المذبحة؛ تم ذبح الرماة من جزيرة كربت إلى آخر 
رجلء ثم تلاشت ببساطة حماية الجناح المكونة من المقاتلين التراقيين. 

لقد خسر بارمينيو أفضل مقاتليه» بل وجهت له الاتهامات بأنه كان بطيء 
الحركة وغير متماسك في هذه المعركة. وسواء أضعف العمر شجاعته أو 
كان يكره ويحسد خفية عظمة الإسكندر المتنامية» فقد أمر بالانسحاب7.. 
ووسط تعرض جناحه لخطر الانهيار الوشيك» أرسل بارمينيو فارسا مبعوثاً 
منه إلى الإسكندرء طالباً إرسال تعزيزات له. في هذه الأثناء كان يحافظ 
على ما تبقى له من مقاتلين. لم يكن يتمكن سوى من الصلاة؛ إذا منحه الإله 
زيوس الوقت للقيام بذلك. تمٌّ الطلب من الخدم والطهاة أن يلتقطوا رماح 
المقاتلين الذين سقطوا في أرض المعركة وأن يملؤوا الثغرات في جدار 
الصدً. كان مقاتلوه يتعرضون للضرب والدوس تحت حوافر خيول مقاتلي 
سلاح الفرسان الفارسي. أما قواتهم من المشاة فكانت على بعد ثمانمائه 
ياردة وكانت تأتي بسرعة» كان هناك الآلاف من المقاتلين الفرس الذين 
يهجمون وهم يصرخون وسرعان ما ازداد عددهم كثيرا. 

ينما كان جناح الإسكندر الأيمن يتعرض للضرب عند الجانب الأيسر 
من جيك داريو درء كان جام بارسيديو يقائل من أجل البقاء- بال 
لليونانيين» كان الوضع حرجا إن لم يكن ميؤوساً منه. لم يعد بالإمكان 
إيقاف حشود الأعداد الطاغية من الفرس. هجمة أخرى وستكون الكارثة 
كاملة. ما تحتاجه حشود الفرس الآن هو أن يأخذ إمبراطورهم زمام 
المبادرة» ويكون لهم نموذجاً مميزاً ويقود قواته الاحتياطية من الجبهة 
إلى أرض المعركة. لكن داريوش لم يكن الإسكندر. لقد بقي في عربته 
ولم يفعل شيئاً! 
7- عن المؤرخ كاليسثينيس. 





-179- 


وقريباً سيواجه رجال بارمينيو هجوماً جبھوياً2۵ من موجات قوات 
المشاة المتقدمة. لذلك توجب عليهم منع تدفق الخيالة والانتشار وراء 
جناح الإسكندر وبالتالي إبادة الجيش اليو ناني. اتخذ بارمينيو قراراًسريعاً 
والذي أثبت أنه القرار الصحيح. فبدلا من مواجهة هجوم المشاة» قام 
بتحشيد المقاتلين التراقيين بقيادة سيتاكليس» وطلب منهم القيام بالتفاف 
بمقدار 180 درجة وشنّ هجوم مضاد على سلاح الفرسان الفارسي. ودعا 
حراس الأمتعة من التراقيين إلى الانضمام إلى هذا الهجوم. هذه المناورة 
غير التقليدية فاجأت فرسان الجيش الفارسي تماماً. فقد رأوا أنفسهم 
يتعرضون للهجوم من كلا الجانبين بشكل مفاجئ» مقاتلون تراقيون 
أمامهم وخلفهم. جعل بارمينيو صفه القتالي الجديد يتموضع في معسكر 
أمتعة الجيش» والذي بسبب أكوام المعدات والقش التي يحتويها يمنع 
ائ مر للخيول» تمكن من تثبيت جدار صد صلب من الحرابء التي 
تشبه الأشواك في حيوان النيص. انضم حصانه الفارسالي7© إلى مشاة 
تراقيا وحارب ببسالة لصد موجات الهجمات الفارسية «... أما قادة 
القوات اليونانية التي تشكل الاحتياطي لكتيبة المشاة الأولى» فقد علموا 
بما حدث» فاستداروا بصورة منظمة نحو الاتجاه المعاكس» وفقاً للأوامر 
السابقة» وهكذا ظهروا في مؤخرة سلاح الفرسان الفارسي وقتلوا أعداداً 
كبيرة منهم...606. تم إيقاف حركة الخيالة على الجناحين مؤقتأ» ولكن 
كانت لا تزال هناك أزمة وشيكة» كانت هناك حشود ضخمة من المشاة 
الفرس تقترب بسرعة. 


في ذروة المعركة» ومع تدفق قوات المشاة الاحتياطية لدعم الجناح 





8- هو نوع من التكتيكات العسكرية التي تعتمد على مهاجمة مقدمة قوات العدو نطريقة 
جاتر ونظرا لأن القوات المهاجمة في وضع الهجوم الجبهوي ستواجه أقصى 
مقاومة ا للعدو فإن الهجمات الجبهوية عادة ما تكون آخر الخيارات التكتيكية 
التي يتخذها القادة في المعارك. المترجم. 0 

9- نسبة إلى بلدة فارسالا اليونانية. المترجم. 

0- عن المؤرخ ديودور الصقلي. 


-180- 


الذي يقوده بارمينيو وجعل النصر في قبضته» أصيب داريوش بالذعر. 
ربما تمّ دفعه إلى هناك بسبب حادثة بسيطة جرت فى حينها. اقترب 
كفيك كات ا ادو من مر نة يشكل ختطيره: او الما 
الذين يسير المئات منهم في أعقاب جنود الهوبليت» رشقات من السهام 
سقطت في الدائرة المحيطة بالحرس الملكي المكلف بحماية داريوش. 
حدق الإمبراطور وهو غير مصدق في بطن واحد من أفراد الحرس وقد 
ملأتها فجأة السهام المكسوة بالريش» ومزقت أنسجة بطنه ودفعت أمعاءه 
إلى الخارج. أما سائق عربته الملكية» وكان يدعى بانوتيس» وهو من قبائل 
السكوثيين» فقد وضع نفسه أمام إمبراطوره مباشرة لحمايته. فجأة سقطت 
سهام عديدة عليه» وفصلت نصف وجهه. تدفق الدم من جرح آخر في 
عنقه ولوث رداء داريوش النظيف. وبينما كان الإمبراطور في وسط 
اة من دة قا عاج لل دون شكير لكاقة راتو المراة 
تصرف بشكل متهور» وأنهى بذلك قرنين من الهيمنة الفارسية. فقد أبعد 
بانوتيس المحتضر عن العربة» وأمسك باللجام وجلد الخيول بالسوط 
وي ا ل ا IR‏ 
متشابكة مع جثث الموتى. قفز على فرس قريب منه وانطلق. كان كل فرد 
في جيشه يعرف ملكه بمجرد النظر إليه وارتفعت صرخة على طول خط 
القتال» حتى تحولت إلى هدير ضخم. «داریوش يهرب!" 

ألم يكن يدرك وهو يهرب بشخصه المهيب من ميدان المعركة أن 
نصف جيشه سيحاول إنقاذ نفسه بأي طريقة ممكنة؟ عندما رأى الفرس 
ممن كانوا على جانبه من الميدان عدد رفاقهم الذين قطعت أوصالهم أو 
تعرضوا للطعن أو الضرب حتى الموت من أجل إمبراطور تخلى عنهم 
بطريقة جبانة ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم» ؛ تخلّوا عن إرادتهم في مواصلة 
القتال. فقاموا بإلقاء أسلحتهم وابتعدوا عنه. . وهكذاء انهار الجناح الأيسر 
للجيش الفارسي بأكمله. ارتفعت سحابة غبار كثيفة أثارتها الكتلة الهائلة 

من الهاربين» بحيث لم يعد يمكن تمبيز أي شيء بوضوح» وبالتالي فقد 


-181- 


المقدونيون أثر داريوش. وبات ضجيج الصراخ وقرقعة السياط هو من 
يرشد المتعقبين610. 

لقد أصبح مقاتلو الجناح الأيسر لجيش داريوش عبارة عن رعاع مبتذل 
يركض للنجاة بجلده بينما قام الفرسان المينيداس بتقطيع أوصال الهاربين 
التعساء ل جناح كامل yy‏ التامة 
ل E‏ 
جناحه الأيسرء ولا إلى أين تتجه قوة المرتزقة التي يقودها أندروماخوس. 

فى الوقت الذي كانت فيه هذه المعركة في أوجهاء وصلت رسالة 
عاجلة من بارمينيو إلى الإسكندر. لم يكن لديه وقت ليخسره. في حالة 
انهيار خط قتال بارمينيو» ستكون هذه هي النهاية. أظهرت اللحظات 
القليلة التالية برودة أعصاب الإسكندر في اتخاذ القرارات. قام ا 
9 حصانه» 2 خضم رغبته تحقيق انفراج ا أوامره 
الفرسان ل بالقيام بانسحاب منظم» رقا ا لمهاجمة 
حشود فرسان مازايوس. كان سلاح الفرسان الذي يقوده الإسكندر يضم 
خيرة المقاتلين» والأكثر انضباطاً في ميدان المعركة. كانت أداة تواصل 
الإسكندر هي إشارات اليدء وبفضل الممر السلس» الذي تم شقه بناء على 
أوامر داريوش ولكنه لم يقصد أبداً منه مهاجمة سلاح الفرسان اليوناني» 
تمکنت وحدات الإسكندر من النخبة أن تتقدم نحو ميدان القتال» حيث 
اصطدمت مع جناح الجيش الفارسي. . هكذا جرت وقائع أقوى معركة 
في سلاح الفرسان في التاريخ القديم» وربما في كل العصور (02,. ما إن 


1- عن المؤرخ ديودور الصقلي. 
32- يحكن مقارتتها فقط مع محركة تنهؤال غل 


بين الملكين ثيودوريك وأتيلا (451)» 
والصراع بين سلاحي الفرسان بقيادة المارشال نبي وا وأيرل أوكسبريدج في معركة 
واترلو (1815)ء والمواجهة بين النمساويي وإ فی معركة كوتيغريدي و 
0 ويبن والبروسيين في مع ركة كو نيغر يتس في 


-182- 


مرت اللحظات القليلة الأولى» حتى تمّ إنزال الآلاف من الفرسان عن 
خيولهم ليتلقوا الطعنات بالرماح ولتدوسهم حوافر الخيول. كان الفرس 
يقاتلون بشراسة على الرغم من خسائرهم الرهيبة. تمسك بارمينيو بمن 
قى من المقائلين التراقبين مرة أخرى؛ ورغم أن أعدادق لم تعد كبر 
ولكن لم يكن هناك * شيء يمكن أن يقلل من روحهم القتالية. انسحب 
الجرحى من فرسان الإسكندر عبر الممرات التي تركها لهم مفتوحة 
المرتزقة الإغريقيون المتقدمون بقيادة كويرانوس» في حين تحركت 
الكتيبة الثانية تحت قيادة سيمياس إلى الأمام لس الثغرات. a.‏ 
نفذت ببراعة» فإن كلا الحركتين حشرت الفرسان الفرس جاتباً.. اتنهت 
المعركة في غضون دقائق» وانتشر الذعر في كل اتجاه بسبب حركة 
الخيول الهاربة التي كانت تعدو لوحدها بدون فرسانها. . مع التهديد الذي 
كان يشكّله سلاح الفرسان الثيسالي من خلفه» لم يكن أمام مازایوس خيار 
سوى التراجع» أو مواجهة الإيادة. وكان أول الهاربين هم الكبادوكيين. 
لم ينتظروا حتى الأمر بالانسحاب؛ فقاموا ببساطة بالاستدارة والانطلاق 
هاربين. حطمت رماح حملة الدروع من مقاتلي الهيباسبيستاس ما تبقى 
من سلاح الفرسان الفارسي وحوّلته إلى مجموعات مبعثرة» وسرعان ما 
بدأت موجة متماسكة من الرجال المدرعين وهم على خيولهم -وقد بدت 
على شكل حشد غير منظم- - بالفرار إلى السهل العظيم الذي وراءها. لم 
يكن هناك شيء يبدو حقيقيا ". لا تزال حشود قوات المشاة الفارسية تتقدم 
على جناح بارمينيو عندما توقفت فجأة في ارتباك تام. . ارتفع صوت يشبه 
أنين العملاق في جميع أنحاء الميدان. . ردد أحد الجنود وهو غير مصدق 
الصرخة التي علت في الجناح الأيسر. . «داريوش يهرب!) 
لقد هرب الملك. 
1 بعد أن تخلى إمبراطورهم عنهم» وتحطم سلاح الفرسان في جيشهم» 
أصيب جنود المشاة الفرس بنوع من الهستيريا. . لقد انهار الجناح الأيمن 
للجيش الفارسي مثل قلعة من الرمال. . وبسرعة مذهلة. تعرضت صفوفه 
-183- 


الأمامية للطعن بالرماح في حين تحطمت الصفوف الخلفية وانسحبت. 
ظهرت ثغرات كبيرة» امتلأت على الفور بالإغريق الذين كانوا يصرخون 
وهم يذبحون ويقطعون الأعداء إرباً. انهالت السيوف والهراوات والعصي 
على مجموعات من الفرس كانت تقوم ببعض أعمال المقاومة الأخيرة. 
ثم أصبح جيش الإمبراطور حشداً هارباء يطارده الإغريق بحماسة وسط 
شهوة الحصول على المجد. في ميدان ملأته وجرفته آلاف العجلات 
والصنادل تناثرت عشرات الآلاف من الدروع والخوذات والجثث» 
والكثير منها ارتمت على وجهها وقد مزقتها جروح عميقة من الخلف» 
ورجال تم تقطيع أوصالهم على يد مقاتلي سلاح الفرسان اليونانيين بينما 
كانوا يحاولون الفرار. لقد قبض عليهم الموت بطرق عديدة» فمنهم من 
واجه العدو ببطولة ومنهم من فر بشكل مخز. كان من المستحيل حتى 
تخمين الخسائر التي تكبدها الفرس. 
وحينها انتهى كل شيء. وانتصر الإسكندر الذي ترجل من حصانه. 
تحول الشد في عضلاته إلى خدر. رأى بارمينيو» وهو يشق طريقه عبر 
الميدان من الموضع الذي تجمع فيه الفرسان المتحالفون مع الإغريق 
بقيادة كويرانوس. بدؤوا بتقييم وضعهم. كانت هيئة بارمينيو في حالة من 
الفوضىء فقد مال درعه وانبعجت خوذته. ولم يكن وجهه يعد باي أخبار 
مبهجة. «لقد فقدنا أغاثو وسيتاكليس» لقد رحلا كلاهما». رحل اثنان من 
أفضل الضباط الفرسان لديه؛ ويا ترى كم رحل من رجالهم؟ 
أصدر الإسكندر أمرين آخرين: مطاردة الفرس الفارين إلى أربيلا 
وإلحاق ضرر كبير بالطريق» حتى لا يتمكنوا من العودة؛ وقتل نابشي البشر 
الذين كانوا يتنقلون في ميدان الموت لتجريد الذين سقطوا من ملابسهم 
وأشيائهم؛ وهو ما كانوا يفعلوه بعد كل معركة» بغضٌّ النظر عن نتائجها. 
وكانت وصيته «دعوا الموتى بسلام!» انطلق أفراد سلاح الفرسان اليوناني 
إلى الأمام وفعلوا ما أمرهم الإسكندر به. 
جلس الإسكندر على ربوة بجانب صديقه هیفاستیون» كانا شخصيتب: 


-184- 


معزولتين عن ميدان الذبح. وقال هيفاستيون «انظر هناك». يشير إن 
سلسلة من الأفراد وهم يتعثرون عبر الأرض المليئة بالجثث. تحركت 
تلك الأشكال الآدمية حول الوحدات التي لم يعد من الممكن تمييز . 
أفواجها من ألوان راياتها. كان هناك لون واحد فقط - اللون الأحمر لون 
الدم6. بدأ الإسكندر يحدق بصمت. في ميدان القتل المليء بالدماء 
الممتد أمامه» وفي الدروع المصقولة للرجال الذين سقطوا في أرض 
المعركة وهي تتلألاً وسط أشعة الشمس الغاربة» وفي مئات العربات» 
التي تجٌ الاستيلاء عليها بمساعدة أثينا. كان العاضر الفورق أك واقمية 
من أي ذكريات يحملها عن اليونان البعيدة وما حققه نصره لبلاده. لم يكن 
بإمكانه أن يتخيل أن نصراً واحداً يمكن أن تنتج عنه عواقب بعيدة المدى 
على الرجل الذي أحرزه. 

أصبح الإسكندر المقدوني حينها حاكماً للعالم. 

قام داريوش بجلد خيوله بالسوط طوال الليل للوصول إلى معسكره 
في أربيلاء الذي يقع على بعد خمسة وسبعين ميلا وعندما لم تعد خيوله 
تستطيع الحركة» أجبر حراسه الشخصيين على وضع خيولهم أمام عربته. 
كان الإسكندر ومجموعة من خمسمائة مقاتل من سلاح الفرسان المرافق 
له يطاردونه. لقد اندفعوا مضحين بأنفسهم وخيولهم إلى أن سقط الكثير 
منهم موتى» الخيول من الإرهاق والرجال من الجروح التي تلقوها خلال 
المعركة نفسهاء بعض منهم نزف حتى الموت وهو على سرج حصانه. لم 
يسمح الإسكندر ورجاله لملك الفرس أن يرتاح هنيهة. كادوا يمسكون به 
في مدينة إكباتانا (همدان)» حين وجدوا أن الرماد ما زال يتوهج في نار 
تة كان غدة أقزاد مجموعة الاستكتد نيصل إلى سين رجلا وقد 





3- كما هو الحال مع الأرقام التي ذكرت عن عدد الأفراد المشاركين» فإن أر قام الضحايا 
لم تكن مؤكدة. فالمؤرخ أريانوس يذكر أن عدد قتلى الفرس كان ثلاثمائة ألف» فيما 
يشير كورتيوس إلى أربعين ألفاً والمؤرخ ديودور الصقلي إلى تسعين ألفا. وبالمقابل» 
فإن خسائر جيش الإسكندر كانت تتراوح بين مائة إلى خمسمائة. 


-185- 


عرضهم لخطر جسيم حيث قادتهم المطاردة إلى عمق أراضي العدو. 
استمرت هذه المطاردة أحد عشر يوما. 

أخيراً» وصل الإسكندر ولكن بعد فوات الأوان. كان هناك شخص 
آخر قد أمسك بالملك المفزوع وهو بيسوس حاكم ارا اندع جداك 
حام بينهما اتهم فيها حاكم بختاريا | لملك الجبان بأنه أرسل أبناء بلده بلا 
داع إلى حتفهم» ثم تخلى عنهم ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم. وهكذاء 
عندما دخل الإسكندر خيمة الإمبراطور داريوش الثالث» وجد اخر 
الحكام الفرس ميتاً على الأرض» وقد انفصل رأسه عن جسده بضربة من 
سيف حاكم بختاريا69. 

قام الملك الإسكندرء الذي قهر داريوش في ميدان المعركة وأصبح 
ملكاً على آسياء بتقديم القرابين في معبد أثينا في مدينة ليندوس لا نبوءة 
العراف قد تحققت639. 

وحدث بعد ذلك أن الإسكندر المقدوني» ابن فيليب الذي خرج من 
أرض كتيم [اليونان]» وقتل داريوش ملك الفرس والميديين» وحدث 
بعد أن هزمه» أنه أصبح يحكم بدلا منه» وبعد أن كان يحكم في الماضي 
اليونان. خاض معارك كثيرة» وسيطر على العديد من المواقع (من كتاب 
سفر المكابيين الأول)69. 

كانت العبقرية العسكرية للإسكندر ذات شقين: فقد تطابقت مواهبه 
E‏ عر E‏ الع تر وكان يقول: «إن جنود الهيلوتس (العبيد) 
المسلحين تسليحا خفيفا يمثلون أذرع الجيش» وسلاح الفرسان يمثل 
4- عندما عثر الإسكندر على بيسوس أمر بإعدامه. 
5- هناك تمثال منقوش عليه رأس ثور وهو الذي وضعه الإسكندر بنفسه في معبد 


F. Jacoby, Die Fragmente der griechischen رودس تكريما للالهة أثيئا المصدر:‎ 
.Historikcr, Berlin, 1923 





6- سفر المكابيين يصف مآثر الإخوة المكابيين الثلاثة: يهوذا ويوناثان وشمعون. ويُعتبر 
هذا السفر مع كتابات يوسيفوس أهم مصادر تاريخ هذه الفترة المملوءة بالأحداث 
من التاريخ اليهودي. المترجم. 


-186- 


أرجله» وجنود الهوبليت يمثلون الصدر والدروع» والقائد هو الرأس)67. 
ولا يمكن مقارنته بأحد من ناحية موهبته التنظيمية. ولكونه شخصاً بارعاً 
في أمور الإدارة كان يحتفظ دائماً باحتياطى كاف من القوات لتحقيق 
النصر. كان يبتكر الخطط القتالية بشكل غير معقول ولم يكن بإلإمكان 
التنبؤ بها. وكقائد استراتيجي فقد حقق النصر من خلال عدم تكراره لأية 
مناورة تكتيكية قام بها. وأثناء غزواته كان يتحرك بسرعة تحير العقل. (في 
عام 1991ء وباستخدام آلاف الطائرات» استغرق الأمر من قوات التحالف 
الذي ترعاه الولايات المتحدة ثمانية أشهر لبدء عملية عاصفة الصحراء 

من أجل تحقيق النصر على بلد واحد فقط). إن ما حققه الإسكندر لا 
يصدقه العقل حقاً فقد استطاع في غضون فترة قصيرة لم تتجاوز عشر 
سنوات من غزو العالم» وأنجز ذلك في قتال على الأرض فقط. 

وكرجل سعى إلى المجد من خلال الفتوحات» أمر ببناء المدن وأسكن 
فيها التجار والفنانين68. وكان مثل هؤلاء الأشخاص ينقلون من آسيا إلى 
أوروباء والعكس بالعكس. وبالتالي» كان ينوي أن تجتمع شعوب عالمه 
وتندمج بسلام. من بين أعظم مشاريعه» وكان أكبرها بلا شك هو مكتبة 
الإسكندرية» المصدر العالمي لكل صنوف الحكمة. لم يكن الإسكندر 
شخصض] غالا فقن كحدت روفاقه المقريوة تضرائحة عن خلسات تناو 
الخمر الخاصة.وكانوا يقولون عنه «يا الله» إنه أفضل رجل يصاحبه 
المرء على مائدة الشراب». وكانت تقام مسابقات لشرب الكحول حيث 
يتوفى الفائز أحياناً بسبب تناوله الكثير من الكحول. كان هناك شك أيضاً 
في أنه هو نفسه توفي بعد أن شرب كثيراً مع رفاقه. «تمت دعوته بإلحاح 
للذهاب إلى أحد الأصدقاء» وهو ميدوس ابن مدينة لاريساء من أجل 
وليمة» وهناك؛ بعد أن ملا بطنه بالكثير من النبيذ» صرخ فجأةٌ بصوت عالٍ 
7- من كلمات الإسكندر وذكرها القائد العسكري أفوقراطس. 


8- عن المؤرخ ديودور الصقلو من ملاحظات المؤرخ هيرونيموس الكاردي. 
9- عن المؤرخ فلوطرخس من كتابه الأخلاق نقلاً عن الملك أريستوبولس. 


-187- 


وظل يتأوه ويتأوه» ثم أمسك به أصدقاؤه وحملوه بأيديهم ووضعوه في 
الفراش 0م40 
من المألوف» عند دراسة الدوافع التي تحرك عمالقة ا و 
الإيحاء بأنهم كانوا يميلون إلى الشذوذ الجسي» إلى -حدَ أن أفعالهم 
جميعاً يتم تفسير تفسيرها استناداً إلى المشاعر التي ولدتها هذه الميول. قبل 
وقت قصير من وفاة الإسكندرء تم العثور على هيفاستيون» صديقه 
کار کا کار بعد امب اا ای فی اول کر 
من المشروبات (تشرين الأول سنة 324 ق.م). في ليلة وفاة هيفاستيون» 
كان الإسكندر يعاني من كابوس. وظهر له شبح ملفوفٌ بملاءة وتوجه 
نحوه» كان يشبه أولئك المجذومين الذين كانوا يصطفون على طول طريق 
جيشه ويتوسلون أن يعطيهم الصدقات؛ أو يصبون اللعنات على المارة 
متوعدينهم بسوء الحظ. أفاق الإسكندر من سكرته» وعندما رأى كيف 
کان هيفاستيون ممدداً هناك تبدد شحوبه. لم يستطع تحمل فكرة موت 
أفضل صديق له. شيء ما انكسر في قلبه. بعد مرور عدة قرون» زعمت 
ألسنة شريرة أن الإسكندر قد قتل صديقه في لحظة غيرة مجنونة. لا 
يوجد أي أساس لهذا الاعتقاد. ا العلاقات الجنسية 
المثلية» كما كانت العاف على د افر فق الوا المشاعر الرجولية 
الطاغية حيث يكون الرجال مستعدين لقتال وعلى استعداد للموت» لكن 
الاسكتدر کان يصطحب معه أيضاً موكباً متنقلا Sa‏ 
الفتيات الجميلات. وثم كانت هناك زوجته» روكسانا الأميرة البختارية» 
والتي تزوجته عن حب وليس لأسباب سياسية. ومهما كانت ميوله 
الجنسية > فلم يكن لها تأثير على معاركه أو سياساته. 
e‏ ل أول LS as‏ 


ا شرب اليا افدر ا الكأس نفسه» وتزوج 
0- عن المؤرخ ديودور الصقَلي. 





-188- 


عشرة آلاف من رجاله من نساء فارسيات. وأمام حشد من الضيوف 
المدعوين» الذين تجمعوا من كل ركن من أركان إمبراطوريته» قام 
الملك بالصلاة من أجل السلام العالمي؛ «وأن يكون جميع مواطنيها 
شركاء متساوين في اتحاد عظيم فلنهش معأ في وئام في ظل وحدة القلب 
والعقل». لم يكن بالإمكان ‏ تحقيق هذا الحلم ولو بشكل مؤقت لولا أنه 
كان يمتلك رغبة عارمة لتوحيد تلك الشعوب. 

كا اودر دون الق ززالة ااج فين الى الت 
أصبحت إمبراطوريته مكان التقاء العالم. امتدت الثقافة اليونانية إلى 
روما وأثرّت على مستقبل أوروبا إلى حد بعيد أكثر من أي وقت 
مضى. استمر إرثه على يد أربعة من جنرالاته - بطليموس» وسلوقس» 
وأنتيغونوس وليسماتشوسء والمعروفين باسم الديادوتشي (الخلقاء)» 
وقد أسسوا جميعاً ممالك لهم: بطليموس في مصرء والسلوقيين في 
آسياء وأنتيغونيديس فى مقدونيا ومملكة أسوكا فى الهند"“. على الرغم 
من وفاته المبكرة وظهور قوة عالمية أخرى» هي روماء فقد استمر ! ات 
الإسكندر حياً. وبجّله الإمبراطور أوغسطس واعتيره الملك الإله؛ وحما 
رسماً لذلك المقدونى على ختمه الإمبراطوري وأمر بأن يُطلق ا 
الإسكندر المقدوني لقب الإسكندر (ماغنوس) أي الكبير. 

كان الإسكندر بالفعل إلهاً حياً:2). بحلول عام 333 ق.م» كرّمته المدن 
الأيونية بإقامة الأضرحة وذبح القرابين» ومنحته الشرف الإلهي كمحرّر 
لها من نير الفرس. في ربيع عام 323 ق.م» أرسلت مجموعة من الدول 
اليونانية سفراءها في مهمة مقدسة إلى بابل. ركعوا أمام الملك الشاب 
وقدموا له التاج الذهبي باعتباره ملكاً على اليونان ومقدونيا. 

كان الإسكندر يتذكر طوال حياته» قصة رواها له المعلم الكبير 
41- كان أسوكا (230-293 ق.م) آخر حكام الإمبراطورية الماورية وقد اشترك أيضاً في 

تأسيس مملكة اسوكا. 
2 عن المؤرخ هيسبير يدس. 





-189- 


أفلاطون» عندما سأل الفيلسوف: «من هو أسعد رجل في العالم؟1, 
وكان يتوقع أن يسمعه يقول: «أنت أيها الأمير الشاب». لكن الرجل 
أجابه: «إنه تيلوس من أثينا. كان يعيش في مدينة مزدهرة» وكان له أبناء 
شجعان» وعاصر جميع أطفالهم وقد عاشوا متنعمين وأصحاء. في 
إحدى المعارك» أجبر عدونا على التراجع ومات ميتة الأبطال. دفنته 
أثينا ومازالت تكرمه كثيراً. لذلك» كما ترى يا أميري» كان رجلا سعيدا». 
ثم أضاف أفلاطون: «لا يمكنك أبداً معرفة ما إذا كنت سعيداً إلا عند 
موتك. أن يحوز رجل واحد على كل شيء؛ مما يؤدي إلى السعادة 
القصوىء لهو أمر مستحيل. الشىء نفسه ينطبق على البلدء والأمة. في 
كل عمل تقوم به يجب أن تراه دائماً حتى النهاية». كانت رمزية قصة هذا 
الأسعد من الرجال تتناسب مع عالم الإسكندر. كان يمكن أن يكون 
حالما لم يتوقف أبداًء على سبيل المثال» في سعيه للعثور على أعمدة 
هرقل الغامضة. لقد كان يؤمن بالمعجزات والنبوءات» والعجائب 
والطوالع» ولذلك كان يعتقد أن الآلهة كشفت عن نفسها للإنسان الزائل 
بطرق كثيرة وفيرة. عندما كان يحتضرء ردد الإسكندر على شفتيه عبارة 
خالدة للملك أوديب: «في جميع الإشارات التي أرسلتها الآلهة ليء 
فإنها لم تخدعني أبدأ». 

في 3 حزيران سنة 323 ق.م» توفي الإسكندر المقدوني الذي فتح 
العالم وهو في الثالثة والثلاثين من العمرء كان أعظم محارب في التاريخ» 
لم يهزم أبدأً في معركة» وقع ضحية لعدو غير مرئي. فقد نقلت لدغة 
بعوض إلى جسمه طفيلي يعتاش على الدم تسبب في إصابته بحمى غير 
قابلة للشفاء سماها الرومان ملاريا (وتعني هواء فاسد). دفن الملك في 
المدينة التي لا تزال تحمل اسمه» الإسكندرية. 

مات ذلك الإنسان» لكن إيمانه الأبدي بعقيدة تجمع جميع البشر لم 
يمت أبدا. ولا تزال هذه العقيدة هي الحلم المستحيل للبشرية. 
3- هو الاسم الذي أطلقه الرومان على مضيق جبل طارق. المترجم. 


-190- 


«الرب هو الأب المشترك للجميع» لكنه يصنع أفضل الأشياء بطريقة 
خاصة به). 

من الناحية التكتيكية» كانت معركة غوغاميلا مغامرة رائعة ناجحة. 
فمهاجمة قوة متفوقة كثيراً فى العدة والعدد بالانقضاض المائل عليها كان 
ASAE‏ 

ولا يقلل بأي حال من الأحوال الخطة الرائعة لذلك المقدوني كون 
مفتاح انتصاره الضخم كان يكمن في اللحظة التي أصيب فيها الإمبراطور 
الفارسى بالذعر وفرٌ من الميدان. كان داريوش الثالث يفتقر إلى الشجاعة 
الجسدية؛ كان رجلاً مهووساً بسلامته الشخصية وأساء استخدام قيادته. 
في معركة إسوس كان قد هرب مفضّلاً القتال في يوم آخر. وفي معركة 
غوغاميلا لم يفعل سوى الفرار. 

جعل النصر في معركة غوغاميلا من مقدونيا أقوى مملكة على 
الأرض» وبلاد فارس الأضعف. مع موت داريوش ونهاية الإمبراطورية 
الفارسية» هتف الجنود اليونانيون لمحبوبهم الإسكندر الذي أصبح «بقوة 
السيف» ملك الملوك. 

لقد غيّرت معركة غوغاميلا خريطة العالم. 


4- عن المؤرخ فلوطرخس. 


-191- 


الفصل السابع 
هنيبعل عند الأبواب! 
معركة كاناى 
2 آب عام 216 ق.م 


هنيبعل عند الأبواب! 


صرخة من أحد الرومان» عام 216 ق.م 
«إذا عصينا الآلهة» فسوف تعم الفوضى» 
e‏ فيرجيل» الإنيادة (الكتاب السابع» 312( 


«لا تنس أبداً من هم أعداؤنا يا بني». بهذه الكلمات تحدث حملقار 
برقا" -اسم برقا مشتق من كلمة البرق- وهو يرتدي الوشاح الارجواني 
للقائد الميدانى الكبير» يحيط بذراعه ابنه الصغير. 

«ومن هم أعداؤنا يا أبي؟») 

«الرومان!» 

أحكم الأب قبضة يده على كتف الولد الصغير. «أقسم لي عند هذا 
المذبح بكل ما هو مقدس عندناء أنك ستواصل عملي حتى لو لم أعد إلى 
جانبك لأرشدك. - وأنك ستكره وتحارب الرومان حتى الموت». 

كانا يقفان أمام مذبح تقديم القرابين للإله العظيم بعل. تقدم الولد 
1- قائد وسياسي قرطاجي. المترجم. 

-193- 





ووضع معان حير المدوح البارد؛ لم يستطع | إخفاء دموع تأثره فى ذ 
هذه اللحظات المقدسة. «يا آٻي» ا و لدينا»©, 
طوال حياته لم ينس قَسَمِه أبداً. كان عليه أن يقضي الخمس والثلاثين 
ا ا ا . كانت 
عبقريته العسكرية لا حدود لهاء وكانت تكتيكاته متقدمة على زمانها بحيث 

لا تزال تطبق في المعارك الحديثة. في مواجهة عدو كان يمتلك التفوق 
العددي. كان عليه أن يكون ذكياً. اتر الأمر قتالاً بين نمر (قرطاجة) 
وفيل (روما). إذا بقي النمر ساكنء فإن أنياب الفيل ستمزقه بالتأكيد. 
لكن النمر لن يقف ساكناء ويعد فترةء سيسقط الفيل ميتاً من الإرهاق. 
لقد كان شديد الإعجاب بالعبقرية العسكرية للإسكندر المقدوني» تماماً 
كما حازت مواهبه على إعجاب يوليوس قيصر والذي قام بتقليده. كان 
محبوباً من قبل قواته» يهابه أعداؤه» وفي النهاية خذله شعبه. 

إنه هنيبعل القائد القرطاجي. 

مع زوال إمبراطورية الإسكندر الهلنستية» التي نتجت عن وفاته 
المفاجئة» ظهرت قوتان» وكانت كلتاهما تتنافسان على السيادة على 
حوض البحر الأبيض المتوسط. كانت إحداهما قوة حديثة النعمة هي 
رماو الأخرى ذولة اة لجار الما الج مكرك من الوا 
لا يمكن تخيله. عند حوالي سنة 1200 ق.م؛ قبل خمسمائة عام أي قبل 
أن يستقر اللاجئون من حروب بحر إيجه (حروب طروادة) في مستنقع 
عار ري OR‏ الور و كوت ترب ليد الاك 
والتي سينطلقون منها لغزو بقية بلدان العالم؛ أنشأ التجار الفينيقيون 
مركزاً تجارياً على الساحل الشمالي من أفريقيا. أطلقوا عليه اسم المدينة 
الجديدة» أو ة و أو قرطاج. قام القرطاجيون بحماية طرقهم 
التجارية من خلال أسطول بحري ضخم. ازدهرت تجارة قرطاج على 
طول موانئ البحر المتوسطء وكان يتم تبادل السلع والأفكار بحرية» 
2- روى هنيبعل قصة قسمه هذا في مدينة أفسس في عام 193 ق.م. 


-194- 


وكان كل شيء على ما يرام - حتى بدأت روما في سعيها لتحقيق الهيمنة 
العالمية. ولأجل هذه الغاية» ركزت روما مجهوداتها بأكملها على بناء 
جيش يقوم بالفتوحات. خطا قادة روما الخطوة الأولى عند تمكنهم 
من هزيمة قوة مشتركة من أقوام الأتروسكيين والسامانيين والغال في 
معركة سنتينوم (295 ق.م) تلك المعركة التي ستحسم مستقبل إيطاليا 
للألفي سنة القادمة. بعد قيامهم بغزو الشمال» وضع الرومان عينهم على 
تقال ماغرض ل الإغريق الفوتتودين ف اين ب رة 
وتارينتوم» فطلبوا المساعدة من أعظم جنرال في عصره» بيروس» 
ملك إبيروس» وتلميذ الإسكندر. استخدم بيروس الفيلة كقوة صدام 
متحركة. وقد أرهبت هذه الحيونات الرومان للغاية لدرجة أنه حقق 
سلسلة من الانتصارات. ومع ذلك» فقد أثبتت ثبتت كل معركة تلت ذلك 
أن تكلفتها عاليةء حتى إنه بعد أن سحق الرومان في معركة أسكولوم 
(276 ق 4 صرخ قائلاً: ار آخر مشابه لهذا سيتسيب في 
انهياري». وق ديك تعن غد أكبر من الرجال فاق الذين خسرهم 
العدو المهزوم. وأصبحت نجاحاته تعرف باسم النصر البيروسي. 
وجاءت الضربة القاصمة في معركة بينيفنتوم (275 ق.م). سيطر جيشان 
رومانيان على الميدان الذي يقع قبالته وكان عليه منعهما من الاندماج. 
كانت مواجهته الآأولى مع جحافل القنصل الروماني مانيوس كونيوس. 
كان يعلم أن الرومان لم يسبق لهم أن قاتلوا في الليل أبدأء فخطط للقيام 
بمسيرة ليلية اضطرارية لمفاجأة الجحافل النائمة. بعد وقت قصير من 
إصدار أمره» رأى في الحلم أن فمه امتلاً بالدم وأن أسنانه تتساقطء 
وحاول إلغاء الهجوم الليلي. ولكن في ذلك الوقت كان جيشه قد تقدم 
بالفعل» فقام بتسلق غابة صنوبر كثيفة ليحتل منها موقعه القيادي. . لسوء 
الحظء فإن الابيروسيين قد أساؤوا تقدير المسافة فانطفأت مشاعلهم. 
وبينما کانوا يتنقلون في الظلام» سمعهم حارس روماني وأيقظ جنود 





3- لا تزال العبارة شائعة الاستخدام لوصف تحقيق الانتصار مع تكبد تكاليف مدمرة. 


-195- 


ةا مانيوس كونيوس وكتيبته الرومانية موقعهم المتميز في 
المرتفعات» وانتهت معركة بينيفتوم بهزيمة بيروس. 
اندلعت الحرب البونية الأولى بين روما وقرطاجة بسبب حادث 
بسيط. في عام 264 ق.م» اندلع نزاع في جزيرة صقلية بين مدينتي سرقوسة 
ومسيناء وسرعان ما تدخلت كلتا القوتين العظميين في البحر المتوسط 
في النزاع. ونظراً لأن روما لم تكن أبداً قوة بحرية» فلم يكن بإمكانها فعل 
الكثير لمنع التعزيزات القرطاجية من الوصول بانتظام إلى جزيرة صقلية. 
دفع هذا الأمر روما إلى بناء أسطول بحري» والذي تم إغراقه على الفور 
بسبب المهارة الملاحية للقرطاجيين في خليج مسينا. ابتكر الرومان بعد 
ذلك أسلوباً للاستيلاء على سفن العدو عن طريق إنزال جسر متحرك من 
سطح أعلى؛ أعطى هذا ميزة حاسمة للقوات البرية الرومانية الأكثر تفوقاء 
والتي شرعت بعد ذلك بالتوجه نحو سفنهم. وبذلك» حول الرومان قتالا 
في البحر إلى معركة برية خاضوها فوق سطح الماء. وقعت المواجهة 
التالية قبالة بلدة ميلاتسو. فقد القرطاجيون خمسين سفينة؛ وأصبحت 
روما قوة بحرية وطردت القرطاجيين من جزيرتي كورسيكا وسردينيا. 
جعلهم غزوهم ذاك يمتلكون موطئ قدم على الساحل الشمالي لأفريقيا. 
في معركتهم التالية في البحرء التقى أسطول الرومان المكوّن من 330 
سفينة مع أسطول قرطاجي أكبر بكثير قبالة سواحل هيراكلياء حيث أثبت 
جيش روما الذي كان يستخدم الجسر المتحرك مرة أخرى أن الانتصار 
حليفه. ومقابل فقدانه أربعاً وعشرين من سفنه» أغرق تسعين سفيئة. 
ولكن بعد ذلك توجه الأسطول الروماني ببعض من الحماقة نحو أفريقيا. 
على الشاطئ» قابلهم سلاح الفرسان القرطاجي تحت قيادة المرتزق 
الأسبرطي؛ زانثييوس» الذي ألحق بهم هزيمة ساحقة. نجحوا بالهروب 
إلى صقلية (255 ق.م)؛ لكن واجهتهم عاصفة. ما فشل القرطاجيون 
بتحقيقه قام إله الطقس بإنجازه لهم. كانت الكارثئة ال حل- : 
كاملة يكل العقا بسن د ل5 و الت لكب الررين 
ا 4 سفينة من أصل 364 إلى قاع البحر. ومن 
-196- 


خلال إحدى نزوات الطبيعة» استعادت قرطاجة مرة أخرى السيطرة على 
البحر الأبيض المتوسط. لم يثبط هذا الأمر عزيمة الرومانء الذين بنوا 
أسطولاًآخر وباتوا مستعدين للهجوم في الوقت الذي شرعوا فيه في تنفيذ 
مناورة أخيرة لتحسين تكتيكاتهم. توجهوا إلى البحر بصعوبة فحاصرهم 
نبتون إله البحر مرة أخرى وغرق أسطولهم بالكامل (249 ق.م). لقد 
خسرت روما كل شيء وابتعدت عن البحار. في عام (241 ق.م)» وبعد 
المزيد من المناوشات غير الحاسمة على الأرض» أصبح كلا المتحاربين 
مرهقين لدرجة أنهما وقعا معاهدة لوضع حدّ للحرب البونية الأولى. 
لقد كشف هذا الصراع عن نقطة الضعف الرئيسة عند كلا الخصمين. لم 
تتمكن روما من التحرك ضد قرطاجة بدون أسطول حربي» ولم تتمكن 
قرطاجة من هزيمة جيوش روما البرية. وشرع كلاهما في التفكير في 
الوسائل التي تؤدي إلى تلافي عيوبهما. 

انتقلت .جحافل روما شمالاً وفتحت الطريق على طول غرب البحر 
الأبيض المتوسط. واشتبكت في طريقها مع قوة من قبائل الغال في معركة 
أسفرت عن مقتل أربعين ألفاً من أعدائهم في الميدان. كانت قرطاجة 
تراقب الطموحات التوسعية الرومانية بقلق متزايد. سرعان ما أصبح من 
الواضح أن الجحافل الرومانية كانت متجهة إلى شبه الجزيرة الأيبيرية. 
كان إحباط مثل هذه الخطوة يستدعي اللجوء إلى قوة برية قوية. قامت 
قرطاجة بنقل قوة كبيرة عبر مضيق جبل طارق* إلى إسبانيا. احتل الجنرال 
القرطاجي حملقار برقا معظم شبه الجزيرة الأيبيرية وأسس مدينة ساحلية 
جديدة» هى أليكانتى7). وكان آخر من بقي يقاوم قرطاجة هم الأوريسيون 
سكان جبال سییر موري 

في عام 9 ق.م» تلقى حملقار رسالة من ملك أمة الأوريسيين الغدؤة 





4- تم ابتكار اسم جبل طارق بعد ألف سنة على يد المغاربة. 
5- وفقاً للمؤرخ ديودور الصقلي كانت تسمى أكرا - ليوكا وفقط العرب هم من سماها 
في القرن السابع باسم أليكانتي. 


-197- 


تدعوه لعقد لقاء معه ومناقشة إجراء تسوية إقليمية. عبر حملقار نهر إيبرو 
يرافقه عدد محدود من الأشخاص كان من بينهم ابنه هنيبعل9 وصهره 
صدربعلء لمقابلة الملك الأوريتاني. كان الملك بانتظاره بالفعل - مع 
كمين تم تید د . وبينما كانت مجموعتهم الصغيرة تمر عبر ممر ضيق» 
نذأت ناق السكون والحجارة ملم وأغلق المحاربون الأوريتانيون 
الطريق عليهم. تمكن القرطاجيون من شى طريقهم نحو النهر. تمكن 
جميعهم من عبوره - باستثناء حملقار برقاء الذي جرفه حصانه وأغرقه. 
كان هنيبعل (183-247 ق.م) لا يزال صغيراً للغاية» وبالتالي تم التصويت 
لصهر حملقار ليتولى قيادة الجيش. ومع جيش مكون من 60 ألف جندي 
مشاة و8000 من سلاح الفرسان و200 من أفيال الحرب» قام صدربعل 
بعملية انتقام رهيبة من الأوريسيين الغادرين. . عم أي شخص تم القبض 
عليه» ولم يضع القرطاجيون أي اعتبار لعمر من يُلقى القبض عليه أو جنسه. 
لأغراض هذه العملية» قام جيش صدربعل بالتخييم في أحد الحقول الذي 
سرعان ما أصبح مدينة أطلق عليها اسم قرطاج الجديدة» أو قرطاجنة”. 
وكانت نتيجة الحرب الأوريتانية أن أصبح جيش صدربعل يحتل معظم 
إسبانياء وضع ذلك روما أمام الأمر الواقع. تم توقيع مغاهدذة حددت نهر 
إبرو باعتباره الخط الفاصل بين القوتين الكبريين. كان صدربعل يرغب في 
تكوين تفاهم أفضل مع روما؛ لكنه أثبت ثبت أنه شديد الثقة بالآخرين. في عشاء 
رسمي تعرض للطعن على يد خادم من أقوام الغال مأجور من قبل روما 
(221 ق.م). لم يكن هناك شك في هوية الطرف المذنب» ولا فى هوية 
الشخص الذي ينبغي أن يقود جيش قرطاجة من الآن فصاعداً: إنه هنييعل 
البالغ من العمر 25 عاماً. 

كان هنيبعل برقاء نحيل الجسد ولكنه ذو وجه يكشف عن إرادته 
6- أبئاء حملقار الآخرين هم ماغو وآذربعل وأيبيسيدس وصدر بعل (على اسم صهر 


حملقار المتزوج من ابنته سلامبو). 
7- عن المؤرخ ديودور الصقلي. 





-198- 


الحديدية» كانت لديه طاقة غير مكبوتة وقوة مقاومة جسدية. وكان يمزج 
بشكل غريب بين الخرافات والسذاجة والشك. لقد آمن بالنجوم؛ فبالنسبة 
إليه فإن النجوم هي الوحيدة التي لا تكذب. الأهم من ذلك كله أنه كان 
يؤمن بالأقدار. لقد أظهر ذكاء عالياً وصلابة عقلية» وهو المكون الرئيس 
لنجاحاته» ومرونة غير عادية للتكيف على الفور مع أصعب الموقف. وقد 
تقاطع مع تقاليد الجيش البوني» حين جند مساعديه من مملكة نوميديا 
(الجزائر)» وبلاد الغال (فرنسا) وجزر البليارء واخترع قوة جديدة تماماء 
وهى «الكوماندوز»» وهى وحدة صغيرة في عددها ولكنها مرنة ومدربة 
تدريباً عالياً» للقيام بضربات مرعبة خلف خطوط العدو. قام رجاله بمبايعته 
باعتباره إلههم الحي» وظل طوال حياته المهنية مرتبطا بهم بروابط روحية 
ألهمتهم للقيام بالأعمال البطولية. (أسس نابليون علاقته الحميمة مع أفراد 
الحرس الإمبراطوري على طراز ما فعل هنيبعل). أملت الضرورة إنشاء هذه 
الرابطة. وكان يؤكد على مخاطر الهزيمة وجعل جنوده يقاتلون بشجاعة 
مستميتة. لقد كان قائداً بارزاً للرجال ورجل أفكار خلاقة. لقد فهم - قبل 
مائتي عام من ظهور الإمبراطور أغسطس وفترة اباكس رومانا»9- أن العالم 
القديم لا بک أن عل إلا رة واحدة. وكتب عنه الكاتب الروماني 
تيتوس ليفيوس «بسبب شجاعته الجريئة في مواجهة الأخطار» كان يتمكن 
من توحيد الجميع في مواجهة المصائب». ثم أضاف تعليقه الخاص» في 
مثال نموذجي عن الكيفية التي يمكن أن يصف بها كاتب روماني أكبر عدو 
لأمته: الم يكن لديه أي اعتبار للحقيقة» ولا للقداسةء ولا خوف من الآلهة 
ولا التزام بقسم» ولم يكن مهووساً بالدین»'. لم تكن قسوته بالتأكيد شيئا 
غير طبيعي في العصر الذي عاش فيه ولم يكن غدره أكبر من غدر عدوه. 
8- في عام 1944ء تمّ العثورعلى تمثال نصفي رائع من البرونز لهنيبعل خلال عمليات 
تنقيب جرت في مدينة وليلي المغربية. 
9- كانت فترة طويلة من السلام والاستقرار التسبيين حدثت في الإمبراطورية الرومانية. 
المترجم. 
0 عن الكاتب نيتوس ليفيو س. 





-199- 


بدأت سحب الحرب تتجمع. وتد استعدت روما وقرطاجة لهذا اليوم. 
عندما اكتشف سكان مدينة ساغونتو في إسبانيا أن أراضيهم غنية برواسب 
من الفضة؛ تحركت روما وأقامت تحالفاً معهم الضمان حمايتهم؟ من 
أي اعتداء» لم يكن وجود مدينة ساغونتو على الجانب القرطاجي من 
خط المعاهدة التى وقعها الرومان بالأمر الذي يهمهم» وبذلك فقد 
اتتهت معاهدة نهر إبرو. قررهنيبعل أن يتصرف. في عام 219 ق.م؛ هاجم 
مدینة ساغونتو واستولى عليها بشكل مفاجئ. كان رد فعل روما على 

«العدوان غير المبرر على حليفهم) هو إرسال وفد زغ المستري عن 
أعضاء مجلس الشيوخ إلى قرطاجة. لم يطلب الرومان شيئاً أقل من رأس 
هنيبعل. وقف زعيم وفدهم» كوينتوس فابيوس ماكسيموس» الغاضب 
من رفض الإنذار النهائي لروماء بطريقة مسرحية أمام أعضاء مجلس 
الشيوخ القرطاجيين» وقام برفع طيّة ردائه التوجة“ الفضفاض وألقاها 


تختاروا ما تشاۆون»). 


تعرض مجلس شيوخ قرطاجنة للإهانة؛ ارتفع الصراخ والشتائم 
من أعضائه. كيف يجرؤ هذا المغرور الروماني على استفزازهم داخل 
قاعاتهم المقدسة! ردوا عليه «اختر بنفسك»» لقد تحدوا القائد الروماني. 
ومن دون أن يفكر ملياً في العواقب» وفي لفتة ميلودرامية» ترك فابيوس 
ماكسيموس طبة ردائه تسقط على الأرض. 

إنها الحرب إذاً! ”٠1ا86“‏ هذا كان رذّه» وهكذا أصبحت الحرب 
البونية الثانية في طريقها للاشتعال. استمرت سبعة عشر عاماً وحصدت 
أرواح مثات الآلاف. كان هنيبعل هو الرجل الذي يديرها لصالح قرطاجة. 
كان تقديره المتأني للأمور بأعصاب باردة وخبرته ورؤيته الواضحة هي 
من جعلته أحد قادة التاريخ البارزين. لقد أدرك أن الطريقة الوحيدة لتركيع 
| ! - زي كان يرد لون( ة ال ومائة 
ی ر ةرمرم 


-200- 


روما هي تحديها داخل الأراضي الإيطالية. لقد أعدٌ خطة جريئة: قرر أن 
ينتقل من قرطاجنة» من فوق جبال البرانس» عبر نهر الرون الشاسع وجبال 
الألب العالية المغطاة بالثلوج لغزو إيطاليا بأكملها وإسقاط الإمبراطورية 
الشريرة. وإذا أخذنا بالاعتبار الفترة الزمنية» وحجم جيشه. كانت الشكوك 
تحبط بنجاح هذا المشروع. إذا أرادت قوة صغيرة نسبياً أن تغزو أرض قوة 
عظمى يجب أن تتمكن من الاعتماد على رجال وإمدادات غير محدودة. 
دافع هنيبعل عن مخططه. . (إذا كان الإسكندر قد استطاع أن يفعل ذلك 
فيمكنني أنا أيضاً فعله) . لقد كان أفضل خيار له ليلتزم بقسمه أمام الإله 
بعل» لأنه بعد كل التضحيات والجهود لتحقيق ذلك» كانت في انتظاره 
مكافأة أكبر بكثير: هيمنة قرطاجة على العالم وكان على استعداد للتغلب 
على كل عقبة يمكن أن يضعها البشر والطبيعة في طريقه. ترك هنيبعل 
شقيقه صدر بعل" مغ جيشه في قرطاجنة و#خضاع قبائل هسبانيا وحماية 
طريق التراجع المحتمل. أصبح شقيقه شقيقه الآخر ماجوء الذي كان شخصاً 
مبدعا ولكن طائشاء نائب القائد العام وقائد الفرسان. 

في ربيع عام 218 ق.م؛ انطلق هنيبعل مع جيشه في المسيرة الأسطورية 
التي ستستغرق منه ست عشرة سنة. قطع الطريق المار عبر جبال البرانس 
دون صعوبة كبيرة. ثم استدار إلى الشمال الشرقي لتفادي الطريق 
الساحلي» الذي تسيطر عليه الجحافل التي يقودها القنصل الروماني 
غنايوس سكيبيو في مرسيلياء واجتاز نهر الرون عند المنطقة التي تقع به 
بلدتي أفينيون وأورانج9". وبمجرد عبوره عقبة المياه الرئيسة» توجه إلى 
أعالي جبال الألب (في منطقة غرونوبل). يشير أحد جنود الاستطلاع 
النوميديين» وهو واحد من الكثيرين الذين كانوا يسيرون بخيولهم من 
حول الجيش بينما كان الذباب يتطاير حول حصانه المتعب» إلى «الجدار 
الأبيض». «كنا نظن أنها سحابة» حيث دخلنا الأراضي التي كان يعيش 
3- لا ينبغي الخلط بينه وبين صهر هنيبعل الذي يحمل الاسم نفسه» والذي تم اغتياله. 
14- عن الكاتب تيتوس ليفيوس. 





-201- 


es‏ وج اساي مدر 


ا هنيبعل القائد 000 قائد وحدة الغاليين. «ما هو هذا 
الجدار الأبيض الذي يرتفع فوق ذلك السهل؟» 

«إنه الجبل والجليد الذي يغطيه» سيدي». 

«الجليد؟ وضح لي ذلك». 

«عندما تهطل الأمطار في الأشهر | الباردة» تتجمد قطراته وتبقى على 
الأرض. يكون الجليد بارداً جداً وزلقاً للغاية» سيدي». 

عرف هنيبعل» الذي أقسم يمينا مقدسة بالعمل على تدمير صرح الدولة 
الرومانية بأكمله» أنه ليس لديه خيار سوى عبور هذا الحاجز من الصخور 
والجليد. وخاطب قادته: يجب أن نواصل مسيرتنا العظيمة وفاءً لوعدنا. 
لا شيء يمنعنا. ثقوا بي». ولقد فعلوا. لم يكن بإمكان أي شخص فعل 
ذلك» لكنه نجح في جعل رجاله يقرّرون اجتياز الجدار الأبيض؛ ولكن 
ماذا عن الأفيال الستة والثلاثين التي نجت من الخمسين فيلاً الأصلية؟ 
كيف سيكون رذ فعل هذه الكائنات التي تعودت العيش في المناخ الدافئ 
إذا ما سارت في الثلج؟ لم يكونوا يستطيعون الاستغناء عنها. كانت تلك 
الحيوانات عاملاً حيويا في استراتيجية هنيبعل19. 

بدأ الجنود والخيول والفيلة بالصعود أعلى فأعلى. كانت غابات 
الصنوبر الخضراء تؤدي إلى المنحدرات الجرداء» في حين كانت الرياح 
الباردة تصفر وهي تدور من حول حافات ومنحدرات حادة» وبدأت 
درجة الحرارة تنخفض سرعة. ا تفعة لم يلتقوا بأي شبح 
جبل شرير من شأنه أن يعيق ق تقدمهم» بل كتلة بيضاء حبيبية مثل الرمال 
الصحراوية ولكنها أكثر بر برودة. دفعت الرياح الألبية بلورات من الجليد 





5- هناك مدافع آخر عن فكرة قوة الصدمة المتنقلة» وهو الجنرال فون مائشتاين» الذي 
شارك في الحرب العالمية الثانية» وهو العقل الذي ابتكر فكرة الحرب الخاطفة 
الألمانية في عام 1940 حيث قام بكتابة بحث دراسي عن هنيبعل. 


-202- 


نحو وجوههم. . سقط العديد منهم ضحية لدمار قضمة الصقيع وأمراض 
المرتفعات العالية. لم تجعل المسارات شديدة الانحدار المغطاة بالجليد 
التقدم أمراً خطيراً فحسب ولكن قاتلاً تماماً. . في كل خطوة كان يتجدد 
الألم؛ كانوا ينزلقون ثم يقعون لاهثين على الجليد البلوري. . يا له من أمر 
مثير للشفقة» بعد كل المعارك التي خاضوهاء يسقطون أمام عدو لم يتمكنوا 
من رؤيته» بل يشعرون به فقط. أصبح مزاج القرطاجيين وحلفائهم قاتماً 
مع مرور الأيام. . واجه ماجو شقيقه هنيبعل» الذي كان يلف نفسه في عباءة 
ثقيلة من جلد الغنم. بالقول: «لا يمكننا الاستمرار. سنصل إلى إيطاليا 
ولن يتبقى منا في أحسن الأحوال سوى عشرة آلاف رجل». 

«حتى لو بقينا أنا وأنت فقطء فيجب علينا المضي قدماً». وبالفعل 
قاموا بذلك. في اليوم التاسع09 وصلوا إلى قمة السلسلة الجبلية وإلى 
الأسفل كانت سهول الحوض الواسع لنهر بو في منطقة سيسالبين غال قد 
أصبحت بعيدة عنهم. لم يشعروا بالكثير من البهجة حيث وجدوا التزول 
أكثر خطورة من التسلق. انزلق العديد منهم من المنحدرات الجليدية 
راق فى القتوق الا اررق حافة الجبروف الميخرية ايسفن 

في الهاوية السوداء. الأسوأ كانت مسألة الأفيال» فأقدامها المسطحة لا 





6- - قام الكاتب تيتوس ليفيوس بهذا السرد الزمني للأحداث» ليس من المحتمل أن 
يقوم جيش يصطحب معه عدداً من الجمال والأفيال أن يتحرك بهذه السرعة عند 
قمة جليدية بارتفاع 3000 مترء فقد تحدث المؤرخ بوليبوس عن فترة شهرين» وهذه 
تبدو فترة طويلة جداًء ما لم يكن قد أخذ في الحسبان مسيرة الوصول عبر التلال 
الواقعة عند سفوح الجبال. قبل عدة سنوات اجتزت هذا الطريق سيراً على الأقدام؛ 
وكنت لا أحمل سوى حقيبة ظهرء واستغرق الأمرمني تقرياً أقل من أسبوع واحده 
وأنا أتابع السير في طريق ممر هنيبعل الجبلي» » ليس هناك أدلة تاريخية محددة عن 
المكان الذي عبر منه هنيبعل جبال الألب» فيعتقد البعض أنه عبر من منطقة غرونوبل 

- برانسون في جبال الألب في فرنسا (التي تسمى كول دي ترافيرسيه أو كول دي 
كليبير) اصطحبني أحد الرعاة المحليين إلى ممر جبلي مرتفع معروف في الأساطير 
الشعبية باسم ممر هنيبعل وهناك يوجد منحدر يقودك مباشرة نحو مدينتي توريئو 
وميلان» أشار الكاتب تيتوس ليفيوس إلى أن أولى القبائل غير العدائية التي قابلها 
هنيبعل كانت قبيلة السالاسيانس التي كانت تسكن في تلك المنطقة. 


-203- 


يمكن أن تمنع كتلة الجسم الضخمة من الانزلاق على الجليد. كانت 
تتناثر في الجزء السفلي من بعض المنحدرات جثث أفيال وسط برك من 
الدم نصف المجمد. وأخيراً وصلت معاناتهم إلى نهايتها. عبر أفراد فرقة 
هنيبعل الاستكشافية من الأنهار الجليدية إلى الأرض الصلبة. لكنهم ما 
زالوا في دائرة الخطر؛ بدأت القبائل التي تسكن الجبل بإحداث انهيارات 
للصخورء ليس لوقف تقدم الجيش ولكن لنهب رتل مؤوناته. همال 
كانت الخسائر على الجبال فى الرجال» وحيوانات الحمولات والأفيال 
الحربية الثمينة مذهلة. عبر هنيبعل جبال البرانس بصحبة 59000 مقاتلء 
وعندما وصل إلى السهل الإيطالي العلوي» كان لديه 34000 فرد إفريقي 
و8000 من الأيبريين» و6000 من الفرسان النيميديين27 والفينيقيين واذا 
لم تأخذ بالاعتبار خسائره في المعركة السابقة» فقد كلفه عبور جبال 
الآلب خسارة 13000 رجل و30 فيلا0. 

في تلك الأثناء» كانت عمليات الاستكشاف السرية لصالح روما 
تعمل بكفاءتها المعتادة» وأعد القنصل الروماني بوبيلوس كورنيلو 
سكيبيو استقبالا للقرطاجيين المنهكين. واختار لهذا الآمر ضفاف نهر 
: شن كوعان الرج د انال وماد E‏ إلى جه كير علدا 
وقاتلوا على أرض معروفة لهم» إلا أن هنيبعل تمكن من هزيمتهم. فل 
o‏ ا 0 
ا 

عندما أطلق هنيبعل سراح جميع الأسرى غير الرومان» تحدث قائلاً: 
«أنا لم آت للقتال ضد الإيطاليين» لكنني سأحارب بالنيابة عنكم جميعاً 
ضد روما». كرمه هذاء والذي كان أمراً غير معتاد فى الزمن الذي كان 
17- = نيديا مملكة قديمة وتغرت اليوم باسم الخزائرء 
18- کر المؤرع ولوس ل را هذا ا م کا ع چ ورای وکر 

لوسينا. 


-204- 


فيه احتمال ذبح الأسرى أكبر من احتمال الإفراج عنهم جعل العديد 

من القبائل تقف إلى جانبه. جرت المواجهة التالية في كانون الأول 
عام 218 ق.م عند نهر تريبياء أحد روافد نهر بو. أبحر الجيش القنصلي 

من البحر الأدرياتيكي ليهرع لإنقاذ سكيبيو وجعله يسترد عافيته. كانت 
المشكلة تكمن في قائد قوة الإغاثة» القنصل سيمبرونيوس لونغوس» 
وهو رجل مغرور ليس لديه خبرة عسكرية وكان يكرهه مساعدوه 
الغاليون كثيراً. بناءَ على نصيحة سكيبيو» أقام سيمبرونيوس موضع صد 
منيع أمام النهر. لسبب غير واضح. غير رأيه» وعبر النهر وهاجم معسكر 
هنيبعل. قبل فترة وجيزة من المعركة» أخفى ماجو شقيق هنيبعل مفرزة 
من سلاح الفرسان في واد ضيق» ومع وصول القتال إلى ذروته هاجم 
الوحدات الخلفية لسيمبرونيوس وقادها إلى قبالة ضفة النهر. في خضم 
المعركة» تغير موقف مقاتلي بلاد الغال الذين كانوا يقاتلون إلى جانب 
سيمبرونيوس وأحضروا معهم رأس قائدهم الروماني. حسمت المعركة 
لصالح هنيبعل؛ خسر الرومان 30 ألفاء وخسر هنيبعل خمسة آلاف 

وفي حين أثبت هنيبعل أنه لم يهزم في إيطالياء تعرض القائد القرطاجي 
حانون للهزيمة أمام اثنين من جحافل غنايوس شقيق بوبليوس سكيبيوء 
الذي كان يسير من ماساليا (مرسيليا) إلى أمبوريا (أمبورياس). في 
إسبانياء بالنسبة إلى هنيبعل» كانت هذه صدمة شديدة» حيث إنها قطعت 
عليه الطريق الوحيد الذي يمكن أن ينسحب منه؛ إذا ساءت الأمور في 
حملته الإيطالية. 

مع حلول صيف عام 217 ق.م» كان الوضع مشوشاء وهذا أقل ما 
يمكن قوله: بينما كان الرومان يسيطرون على أجزاء كبيرة من إسبانيا 
ويهددون قرطاجنة» كان هنيبعل يتقدم في شبه الجزيرة الإيطالية نحو 
روما. ا ا 
وأرسلا لمواجهتهء الأول مؤلف من 40 ألف رجل تحت قيادة القنصل 
غنايوس غيمينوس لمنع الطريق أمام القرطاجيين في مديئة أريتسو 

-205- 


عند سلسلة جبال الأبناين» والآخر مؤلف من 20 ألف فرد تحت 
قيادة مساعد القنصل» غايوس فلامينيوس نيبوس» توجه إلى مدينة 
ريميني على ساحل البحر الأدري ياتيكي. ومن جديد فعل هنيبعل ما 
هو غير متوقع. عبر المستنقعات «التي كان من المستحيل اجتيازها) 
ليظهر فجأة في المواقع الخلفية لجيش فلامينيوس نيبوس عند بحيرة 
تراسيمين» حيث وقعت معركة في يوم الحادي والعشرين من حزيران 
سنة 217 ق.م. 

اعتمد هنيبعل على افتقار خصمه للمهارة التكتيكية» ولم يخب ظنه. 
ولأجل قطع الطريق أمام هنيبعل» ضحى القنصل فلامينيوس نيبوس 
بالمحافظة على أمان قواته من أجل الوصول بسرعةء وارتكب خطأ عندما 
os ®‏ ل ل . كان ذلك خياراً 
قاتلاً» لأن خط سير الرومان يمرٌ في طريق على طول شريط من الأرض؛ 
فيه أماكن كان عرضها يبلغ بالكاد مائة قدم» يمر ما بين مياه عميقة وجرف 
شديد الانحدار. وضع هنيبعل قوة مانعة عند مخرج الممر الضيق؛ كان 
ماجو شقيقه ينتظر مع مجموعة من الخيّالة النيموديين في غابة كثيفة على 
الطريق. فيما وضع كارثالو وهو واحد من جنرالات هنيبعل المفضلين؛ 
عند مدخل الممر الضيق. كان عليه أن يغلق المدخل بمجرد مرور 
الرومان» مما يجعل تراجعهم مستحيلاً. واستوضح منه كارثالو: «هل 
نغلقه بعد أن تمر كتيبة الجيش الروماني؟» 

أجابه هنيبعل «كلا»» إلى أن لا يعود بإمكانك سماع صوت آخر روماني 

٤‏ إذا يت بذاك بشكل ضحيع رن م يمن هناك من تبان لي 
ذلك». في الواقع: كان جنوده بحاجة إلى التشجيع. سأله أحد جنوده: 
ااهل تعتقد أننا قادرون على سحقهم؟». انعم» لا يوجد سبب يمنعنا من 
ذلك. لطالما كنت أعتقد أن روما لديها أفضل الجنود في العالم. الآن 
سنهزمهم» لأننا أفضل». 

في صباح يوم المعركة» غطّت سحابة من الضباب البحيرة وشواطئها. 

-206- 


كان الضباب كثيفاً لدرجة أن الرومان لم يتمكنوا من الرؤية لأكثر من 
بضع ياردات. كان بإمكان كارثالو سماع إيقاع خطوات أفراد الجيش 
العظيم وهي تمر بالقرب منه؛ لم يكن بإمكانه رؤیتهم» تماماً مثلما لم 
يستطع الرومان رؤية جنوده القرطاجيين. كان يتبع مرورهم من خلال 
أصوات ضباطهم المرتفعة وقعقعة السلاح وهم يجتازون قواته المختبئة 
محشورين في الممر البالغ طوله خمسة كيلومترات يسيرون متلوين على 
طول ساحل البحر. عندما وصلوا إلى المكان الذي بدا فيه أن الطريق 
قد انتهى إلى الماء انقشع الضباب للحظات. تبين أن مقاتلي روما قد 
تحجروا في مكانهم وهم في حيرة من أمرهم؛ لا يتمكنون من التقدم ولا 
يستطيعون العودة لأن هناك المزيد من الوحدات التي سوف تشتبك معهم 
من الخلف. انطلق من وسط الضباب صوت عويل بوق الحرب. كانت 
تلك إشارة هنيبعل لبدء الهجوم» وقد صدمت المفاجأة الرومان كثيراً حتى 
إن الكثير منهم لم يحصلوا على فرصة ليستلوا سيوفهم. أول ما رأوه من 
عدوهم كان حشداً من أشباح الفرسان الذين ظهروا من وسط الضباب - 
كانوا الفرسان النوميديين بقيادة نوميديانس. كانت خيولهم ترتفع من فوق 
جنود جحافل الرومان وتنزل حوافرها على رؤوسهم. تبعهم من الخلف 
مقاتلو قوات المشاة» وهم يصرخون مثل الشياطين. كانت الرماح تمزق 
أوصال الرومان وصفير السهام المنطلقة يخترق الهواء. لم يكونوا قادرين 
على رؤية من أين يأتيهم الموت» وهذا ما زاد من ارتباكهم. وسرعان ما 
انقسمت وحداتهم القتالية إلى مجموعات أصغر فقدت كل تماسكها 
وسط الضباب الرمادي الغامق. على طول الممر الضيق بين الطريق 
والشاطئ» انهارت الوحدات الرومانية وبدأت بالفرار. أولئك الذين 
حاولوا الفرار من خلال الركض على طول الطريق الضيق قوبلوا بوابل 
من الرماح من رجال كارثالو عند المخرج الخلفي المغلق بإحكام. كان 
الرومان يقاتلون يائسين. لفت القنصل فلامينيوس نيبوس النظر بسبب 
معطفه الأرجواني. تمّ رصده من قبل وحدة مؤلفة من مقاتلين من بلاد 
-207- 


الغال. قبل سنوات» قاد فلامينيوس بنفسه حملة عقابية على أراضيهم عند 
نهر بو. كان قد دمر أراضيهم وقتل عائلاتهم. الآن جاء دوره. مع موته. 
ألقى معظم الرومان الباقون أسلحتهم أو تمّ دفعهم إلى البحيرة وغرقوا 
هناك. عندما انقشع الضباب أخيرأًء كان الشاطى ممتلئا بآلاف الجثث؛ 
مات 15 ألف رومانی» وأصِرٌ 15 ألفا آخرين. 

لم تكن هذه هي النهاية. حلّت كارثة أخرى بالرومان عندما وقع 
القنصل سيرفيليوس» الذي كان يندفع لمساعدة القنصل فلامينيوس› 
في كمين نصبه الجنرال القرطاجي ماهربعل. تمّ القضاء على قوة خيالة 
رومانية مؤلفة من أربعة آلاف فارس. كان على قائد الحرس الإمبراطوري 
أن يبلغ روما المذهولة: «لقد خسرنا معركة كبيرة». 

«أوقفوا هنيبعل !) تفجر غضب المواطنين بهذه الصيحة. كان يمكن 
لمجلس الشيوخ خلال حالة الطوارئ -وكانت مسيرة هنيبعل نحو روما 
هي بالتأكيد واحدة من هذه الحالات- تنفيذ الإجراء النهائى: استبدال 
منصب القنصل المزدوج التقليدي بمنصب ديكتاتور واحد يتمتع بسلطات 
غير محدودة. بعد الكثير من الجدال في مجلس الشيوخ. کان الرجل 
الذي اختاروه هو م الذي أعلن الحرب على قرطاج: كيو فابيوس 
ماكسيموس. ومن أجل تهدئة معارضة الأقلية فى مجلس الشيوخ» قبل 
الأرستقراطيون تنصيب م. ميئو سيوس روفوس الرجل الثاني في القيادة 
ليقود سلاح الفرسان الروماني؛ كان خياراً كارثياً؛ كان الزعيمان العسكريان 
ضد قائده وكان يشير إليه بسخرية باعتباره 0112012601 9) شخص متردد 
وجبان. اعتمد هنيبعل على حقيقة أن التنافس بي 1 ب رتلى الجي 
الروماني من الاندماج في المعركة. وهذا سمح له بفسحة من التفك 
لتشكيل تحالفات جديدة مع بلاد الغال وتزويد جيشه بالمؤن» وهو ما فعله 
من خلال تجريد ريف منطقة إتروريان وسط إيطاليا من كل ما يحتويه من 





9- باللاتينية في الأصل. 


-208- 


مزروعات تصلح طعاماً للمقاتلين. أما المؤن التي لم يتمكنوا من حملهاء 
فقد قاموا جر عاد فاببوس ماكسيموس إلى روما الحضور مهرجان 
ديني مهم“ وسلم مقاليد القيادة إلى مينوسيوس» الذي وقع» بسبب فرحته» 
في الكمين الذي نصبه له الجيش القرطاجي وتلقى هزيمة منكرة على يد 
هنيبعل بالقرب من مدينة جيرونيوم. عندما سمعت روما بهذه الكارثة 
الجديدة» أقال مجلس الشيوخ مينوسيوس وأمر فابيوس ماكسيموس 
بالعودة إلى نيدان الفجال» اختار القنصل فابيوس ماكسيموس الذي كان 
شديد الحذر مكانا للمعركة في موضع لا يمكن مهاجمته يقع في وادي 
سن ان من الخال ديد الاتحدار. حا حلفت الزاقفة العاريحية 
المعروفة «بليلة القرون المشتعلة». عندما رأى هنيبعل طريقه مسدوداء أمر 
رجاله بربط حزم من الحطب بقرون قطيع حيوانات متكون من ألفي ماشية. 
خلال الليل» أضاء رجاله «المشاعل فى القرون» وقادوا الماشية على طول 
سلسلة من التلال الجبلية. كان الرومان فى أسفل الوادي» يراقبون المشاعل 
الا ي ا أن« لحيس القر طا ج اد قرو 
فوق التلال»» فتخلوا عن مواضعهم المتماسكة وهرعوا إلى جائب التلال 
شديدة الانحدار ليكتشفوا «قطيعا من الماشية وقرونه مضاءة». في هذه 
الأثناء» مر جيش هنيبعل من دون تهديد يذكر عبر الوادي غير المحمي. 
جعل هذا الحادث الجيش الروماني وقائده موضع سخرية. 

أصبح فابيوس ماكسيموس غير مرغوب به» وبدأ حكام روما 
البحث بيأس عن ثنائي جديد لتخليصهم من المحنة. وقع اختيارهم 
على البطريرك لوسيوس أميليوس بولوس وشخص من عامة الناس 
يدعى غايوس تيرينتوس فارو. بدأوا استعداداتهم لمواجهة القرطاجيين 
بتحشيد ثمانية جحافل. لم يحدث من قبل أن حشدت روما جيشا بهذا 
الحجم. وتم تعزيزه بفرق عسكرية استَّدْعِيَت من جزر كورسيكا وسردينيا 
وصقلية» وقد بلغ مجموع القوات 85 ألفاً من مقاتلي الفيالق بالاضافة إلى 
0 فرد من سلاح الفرسان. في مواجهة هذه الأعداد الهائلة» كانت قوة 

-209- 


هنيبعل البالغ قوامها 26 ألف فرد تبدو ضئيلة للغاية. . لكن القرطاجيين 
كانوا يملكون ورقتين رابحتين. الأولى كانت سلاح الفرسان النوميديين» 
وهو أفضل بكثير من أي شيء يملك الرومان القتال به والثاني جنرالاته 
الجريئين مثل: ماجو» وهانو» وسوسيلوس» وكارثالو» وماهربعل» الذين 
يمكن لتعاملهم الرائع مع الرجال أثناء القتال أن يحدث فرقاً كبيراً. . علاوة 
N‏ مضو ا اجاك . وقد تغلب على الرومان 
مراراً وتكراراًمن خلال التقدم من مكان لم يكن متوقعأء وهذه المرة تحرك 
بسرعة لدرجة أنه استولى على مستودع للحبوب والسلاح الروماني غير 
المحمي على نهر أوفيدوس (أوفانتو) بالقرب من مدينة كاناي. 

وضع فارو وبولس خططاً 7 تم التخلي عن بعضها أثناء النقاش الذي 
دار فيما بينهما: «كان القرطاجيون يتقدمون» على غير هدى بين الجبال. 
وسيكون مقاتلوهم الأكثر خبرة مع هنيبعل في المقدمة. من المحتمل أن 
يشكل المساعدون حراساً خلفيين أو ينتقلون في فرقة قريبة. معظمهم 
سيكونون غير مسلحين جيداً وغير مدربين. الأسلحة التي يحملونها لا 
تقارن بسيوفنا. سيكون رتلهم مثقلاً بالنساء والأطفال وقطعان الخراف 
وجميع ممتلكاتهم الدنيوية. باختصار» إنهم د ضعفاء» وهم لا يعرفون أننا 
سننتظرهم». كان هذا قبل أن يتم إخبارهما أن مستودع المؤن قد وقع في 
أيدي عدوهم . اندفع أميليوس بولس وتيرينتيوس فارو مع جحافلهم للقاء 
مل في ا كاناي . كان القائد القرطاجي عالقاً في وضع ينطوي على 
اختيار الأقل سوءاً من سلسلة من الخيارات السيئة: مع الريف المدمر 
الذي تركه وراءه» والجيش العظيم الذي يتر ا 
أن يقبل الدخول في المعركة لضمان بقاء جيشه. 

SS EG 
قواعد هيكلية القيادة في روما. من أجل تدعيم المبدأ الجمهوري وسلطته‎ 
المزدوجةء تم تقسيم المسؤوليات السياسية والعسكرية بين القنصلين‎ 
المنتخبين؛ وكان يفرض تغيير يومي للقيادة من قنصل | إلى آخز. نحكم‎ 

-210- 


القدر أنه في الأول من آب عام 216 ق.م؛ كان يجب أن يتولى المسؤولية 
البطريرك بولس. كان قلقا بحق من سلاح الفرسان الذي يمتلكه هنيبعل؛ 
ونصح بضبط النفس. كان عليهم أن يجدوا ساحة معركة أكثر ملاءمةت 
تكون مغطاة بالشجيرات وتنشطر إلى أقسام بواسطة التلال الصغيرة» 
الأمر الذي سيمنع هنيبعل من نشر تشكيلات خيالته المتفوقة. ومن دون 
الالتزام بأوامر بولس» شن فارو هجوماً غير مدروس لسلاح الفرسان. 
ما لبث أن تحول إلى مناوشة بسيطةء لكنها أجبرت حينها الرومان على 
الانخراط في المعركة الحقيقية في صباح اليوم التالي على أرض كانت 
في نهاية المطاف مواتية لسلاح الفرسان الذي يقوده هنيبعل وفيلته؛ وفي 
ذلك اليوم» عادت قيادة الجحافل إلى فارو. 

عندما أنشأت روما آلتها الحربية» اعتمدت وحدة القتال الرئيسة الخاصة 
بها على «تجمع العشائرء أو الفيلق» الذي يمتلك قوة قتالية قوامها 10 آلاف 
رجل. والفيلق يتألف من 5000 من جنود الهوبليت (المشاة ذوي الأسلحة 
الثقيلة)» و4000 من جنود الفيليتس (المشاة ذوي الأسلحة الخفيفة)» 
وحوالي 800 فرد من سلاح الفرسان7©. تم تقسيم جنود الهوبليت إلى 
الجنود الهاستاتي (وهم الأصغر سناً)» وجنود البرنسيبس والترياري (قدامى 
المحاربين)؛ تمّ الاحتفاظ بالجنود الفيليتس كاحتياطي وراء جدار الصد 
الذي أقامه الجنود الهوبليت. كانت الوحدة الأساسية هي المانيبل ءاماهقه: 
(وهي بمثابة سرية جنود)» وتتألف من اثنين من السنتوريا (الفصائل) مؤلفة 
من مئة فرد تحت قيادة ضابط يسمى سانتوريان (وتعني قائد لمئة فرد). 
كانت أدوات حمايتهم عبارة عن درع مربع (سكوتوم)» وخوذة من النحاس 
الأصفر وواقي للصدر (بيكتورال)؛ كانت أسلحتهم للهجوم هي أداة خفيفة 
لرمي الرمح (بيلا) أو أداة أثقل للرمي (هاستا)» وسيف الطعن (غلاديوس) 
وكانت النتيجة هي المزج بين الرمح الثقيل والسيف مئل ذلك المزيج 
الذي تم التوصل إليه في الحرب الحديثة باستخدام الحربة والبندقية؛ كان 





0- عن المؤرخ بوليبيوس. 
-211- 


رمي الرمح يمهد الطريق للمواجهة بالسيف. مثلما يمهد إطلاق وابل من 
رصاص البنادق لسن هجوم بواسطة الحراب. تم انتخاب قادة الفيلق 
كمسؤولين تنفيذ تنفيذيين أو كقناصل يتولون السلطة العسكرية والسياسية على 
حد سواء . ولأن ترقيتهم كانت مبنية على هيمنة أسرهم في مجلس الشيوخء 
وليس على خبرتهم العسكرية» فقد أدى هذا في كثير من الأحيان إلى اعتماد 
استراتيجيات تم التتخطيط لها بشكل سيئ وبروز قيادات ضعيفة. . لذلك. نم 
تعبين كبار الضباط المحترفين» الذين يطلق عليهم التريبيون» بواقع ستة لكل 
فيلق» لإسداء المشورة للقناصل» وتعيين ستين ضابطا (سانتوري) كمساعد 
لكل ضابط تريبيون. في معظم الأوقات» كان لدى روما ثمانية فيالق جاهزة 
للقتال» منها أربعة فقط يكون مقاتلوها من الرومان» والبقية من مقاتلي 
لفسال 00 المساندة. كان مبدأ الفيلق هو تحقيق التفوق التكتيكي من 
a‏ مشاة مصغرة» والتى قدمت ميزة كبيرة لأن هذا 
التكنيك كان أكثر مرونة من القتال بخط مستقيم. كانت آلة الحرب في روما 

في صباح يوم 2 آب سنة 216 ق.م» أخذ كل من المقاتلين الرومان 
والقرطاجيين مواقعهم. سأل القائد القرطاجي: «من الذي يتولى قيادة 
الرومان في هذا اليوم؟). 

«إنه فارو» سيدي»ء أجاب قائد سلاح الفرسان المدرع» المرتزق 
الأسبرطي سوسيلوسء الذي كان أطول وأضخم من قائده. 

استرفق با الآلهة. الكثير متا سيهوتون» لكم تذكرواء نح سيك 
قرطاج!» حدق هنيبعل في ميدان المعركة وعندما عصفت الريح بالميدان 
رفرفت رايات الرومان. اسنضرب بقوة ونبقى بعيدا قبل أن يتمكن 
فرسانهم من تنظيم صفوفهم لمواجهتناء وعندما يطاردوننا سنستدير 
ونضربهم مجدداً بعيداً عن رتلهم». 





1- عن كتاب للمؤرخ الألماني تيودور مومسن 1895 .Die Geschichte Roms, Berlin,‏ 


-212- 


Cannae ١ 
2 August 216 Bc 












NUMIDIA 





في ما كان يطلق عليه نابليون «تحفة إبادة كلاسيكية»» توصل هنيبعل 
إلى خطة عبقرية . ربما كان قد أحذ درساً من معركة ماراثون» التي جرت 
قبل قرنين من الزمان . هناك تم تنفيذ استراتيجية الهجوم على الجناح عن 
طريق الصدفة. هذه المرة كانت ضربته التكتيكية محترفة. راق أن قارو 
ررس لكر عط N‏ 
في تشكيل متدرج ثلاثي الصفوف. كان باستطاعتها أن تتقدم بخط 


-213- 


مستقيم إلى الأمام» لكن تحركها بشكل أفقي كان شبه مستحيل. . وهذا من 
بان ل من اول نس ف ا و 
الضربات لها ونشر الدمار والارتباك. كان عدد قوات المشاة الرومانية 
يتراوح بين 75000 و85000» وكان لدی هنيبعل أقل من 2225000©. كان 
كل شيء يعتمد على اختيار توقيت دقيق. 
عند النهاية المعاكسة من ميدان العركة» شعر بولس بعدم الارتياح 
وحاول تحذير فارو من أن سلاح الفرسان المدرع بمقاتليه من شبه جزيرة 
أيبيريا وبلاد الخال الذي يقاتل مع هنيبعل متوار عن الأنظار. ذهب تحذيره 
عبثاً. فقد قال له فارو د نثقة: : «لا تقلق يا بولس). (هنيبعل سيبقيهم في 
موقف دفاعى» ولا يمكننا أن نرغب بأكثر من هذا». هذا ما انتظرته روما 
لسنوات» وها قد جاءتنا هذه اللحظة. أدعو أن يقف الإله جوبيتر معنا». 
كان فارو بحاجة إلى أكثر من المساعدات الإلهية؛ كان بحاجة إلى خطة 
قتال فعالة» ولم يكن يمتلكها. أما هنيبعل فقد كان يمتلك مثل هذه الخطة. 
كان يخطط لسحب وحداته المدرعة والتى كان مقاتلوها من المخضرمين 
ويترك فقط قوات مشاته الأيبيرية مع سلاحها الخفيف وقوات بلاد الغال 
المساعدة لمسك المركزء مع تواجد مقاتليه الليبيين كقوة احتياطية في 
الخط الثاني. كان يدرك جيداً أن مركزه سيضطر للتوقف عن القتال تحت 
الضغط الروماني. كانت هذه بالضبط خطته. 
«أيها المحاربون يقف أمامكم جيش روما الجرار. حاريوا بشجاعة 
ومن يفعل ذلك ستكون له مكافأة كبيرة» ولكن ستتم معاقبة أولئك 
الذين يتخاذلون بشدة. هذا وعد مني أناء هنيبعل برقا». ارتفعت هتافات 
الآللاف تحية لكلماته. ثم ألقى نظرة سريعة على مقاتليه ليتأكدوا أنه قد تم 
تفتيشهم. كل ما كان يحتاج إليه هو أن يدلهم على الاتجاه الصحيح. 
كا اليش روني في موقد جاهزاً وينتظر. ولأكثر من ساعة» 


ومستودعات المؤن ا 





-214- 


كانت الجحافل تصطف بناء على الأوامر التي يصدرها الضباط السنتوريون 
بأصوات عالية» والذين يمكن تمييزهم بواسطة الريشات المصنوعة من 
شعر الخيل على خوذاتهم. تم ترتيب الرجال الذين كانوا متمترسين خلف 
الدروع في كتائب المشاة المعتادة» وكانت أطراف رماحهم تميل إلى 
الأمام» وعلى استعداد للتقدم. خلف حاملي الدروع كانت ترتفع أعلام 
الكتائب العسكرية» ووراءهاء النسر الذهبي لكل جحفل. كانت هناك ثمانية 
جحافل. عندما ارتفع صوت البوق» انفتح جدار الدروع قليلاً للسماح 
لآلاف الرماة بالمرور والتقدم إلى نقطة تكون في مدى فعالية سهامهم. ثم 
تشكلوا في طابور طويل امتد على طول ميدان المعركة بأكمله. 

كانت شخصية هنيبعل النحيلة تظهر بشكل بارز فوق إحدى التلال 
الصغيرة» حيث يدرس تشكيلة العدو. كانت عيناه تدمعان. ومنذ المسيرة 
الشاقة التي اجتاز بها المستنقعات المليئة بالذباب» تدهور بصره يسبب 
التهاب أصاب عينيه جعله في النهاية يستخدم عيناً واحدة . لكن في صباح 
يوم معركة کاناي» كان ما رآه من خلال عينين غا اوراس ولعت 
وقف الرومان في ثلاثة خطوطء كانت عميقة جداً لتحقيق أقصى قدر من 
التأثير» وكان هذا خطأ خطيراً. نظر إلى رماتهم» جاؤوا من قبائل مختلفة 
الأعراق؛ كان هناك إتروريون يرتدون ملابس جلدية» وكان بعضهم من 
بلأة الغال عراة الصدون يرتدون الخوة وإزارات: جلدية» تشبه كثيراً 
تلك التي يرتديها أبناء بلاد الغال؛ وكان هناك مقاتلون من قبائل الكانتي 
والإيسيني وجميع مقاتلي القوات المساعدة الأخرى الذين اعتمدت روما 
عليهم ليقاتلوا إلى جانبها . كان هناك أمل أن يكونوا قد سئموا من خدمة 
دولة بوليسية لا ترحم ولن يقاتلوا بحماس. لقد كانت القبائل دائماً هي 
للحا ل لسرا مو 

جلث قتلاها. كانت مكافأتهم شرف أن يصبحوا مواطئين رومائيين 

كلب ال بهن 

جمع القائد القرطاجي قادة قواته ورسم مخططاً لخطته القتالية على 


-215- 


لوح مُغطى بالشمع. «ماجوء ستتولى قيادة سلاح الفرسان المؤلف من 
مقاتلى بلاد الغال والإيبيريين - هنا». وأشار إلى بقعة بالقرب من ضفة 
النهر. «سينطلق هجوم الفرسان الرئيس من جناحنا الأيسر. سوف تقود 
رجالك للهجوم على سلاح الفرسان الأرستقراطيين. عليك أن تحطمهم» 
أما أنت يا ماهربعل فستضع نفسك تحت إمرة ماجو. على سلاح الفرسان 
النوميديين الخاص بك مهاجمة سلاح الفرسان اللاتيني عند جناحنا 
الأيمن وإخراجه من المعركة. بمجرد الانتهاء من ذلك» ستنتظر أوامري 
اللاحقة. وأنت يا هانو» ستتولى قيادة قوات مشاتنا الليبية والإيبيرية في 
الوسط. بمجرد تعرضك للهجوم» ستنسحب ببطء» لكن لا تدع جحافل 
الرومان تخترق صفوفك. مهمتك هي تحديد أفضل المحاربين القدامى 
في جحافلهم؛ تراجع ولكن حافظ على صفوفك بكل ما تملك حتى 
تطمئن. يجب علينا تدمير سلاح الفرسان قبل أن نتمكن من هزيمة قلب 
قواتهم. سوسيلوسء أنت تقود المشاة الأفارقة المدرعين والذين ستعزز 
بهم الأجنحة. لا تنخرط في القتال قبل أن تصلك إشارة مني». ومع أن 
جنرالاته كانت لديهم أسئلة حول هذه المناورة غير التقليدية» لكنهم 
احتفظوا بها لأنفسهم. جميعهم ما عدا هانو. 

(إن إضعاف مركزنا قد يخلق بلبلة»). 

«سوف يفاجئهم. ما سيراه العدو في بداية المعركة هو انتشارنا المعتادء 
واشتباك قدامى محاربینا مع قدامى محاربيهم في الوسط. لكننا سنعكس 
مسار المعركة» ونجعل محاربينا القدامى يستديرون وننقلهم بشكل غير 
مباشر إلى الأجنحة. وسوف يقومون بتوجيه ضربة حاسمة ضد مركز 
العدو بمجرد سحبه إلى جيبنا». 

«هل تتوقع أن يقعوا في الفخ؟21. 

«فأجاب هنيبعل: نعم». وقد بدا متجهماً. كان المتحدث هذه المرة هو 
ماجو» وجعل شقيقه يبدو كما لو أنه لم يدرس جميع الاحتمالات. «لن 
يسمح العدو لقدامى محاربيه بقطع الاتصال بمركزناء وهذا يتماشى مع 

-216- 


انسحابنا المحسوب والتقدم بعيداًء مما يترك قواته المساندة في الجناحين : 
دون دعم من أي فيلق. كل هذا يتوقف على النجاح في تدمير سلاح 
الفرسان الروماني». 

«إنها مجازفة). 

اكل شيء في الحرب مجازفة. سأطلب من العرّافين أن يكشفوا لي 
الطالع بعد ذبح القرابين وقبل الدخول في المعركةء لكنني مقتنع بالنتيجة 
النهائية. عليك إطاعة أوامري وسنلتقي مرة أخرى للاحتفال بالنصر 
الكبير). ٠‏ 

لم تكن خطة هنيبعل جريئة فحسبء بل كانت خروجاً جذرياً عن 
المعايير التكتيكية للقتال. ربما كان لدى جنرالاته شكوك حول عقلانية 
مناورته» لكن ولاءهم العميق لزعيمهم هو الذي انتصر. لإخفاء تحركاته 
عن العدوء أمر هنيبعل بوضع صف من المقاليع قبل الصف الرئيس من 
أجل إخفاء انسحاب مشاة المحاربين القدامى الأفارقة. قام سوسيلوس 
بتقسيم الوحدات المدرعات إلى وحدات حلزونية أصغر(25تآءم5) 
تتألف كل واحدة منها من 256 رجلا وأمرهم بخفض رؤوس رماحهم 
حتى لا يتم رصد حركتهم من أي نقطة في جميع أنحاء ميدان المعركة» 
ثم قاموا بمسيرتهم انطلاقاً من المركز. وقام بوضعهم على كلا الجناحين» 
مختبئين وراء ستار من قوات المشاة ذوي الأسلحة الخفيفة. بهذه الخطوة. 
قام هنيبعل بتجريد قلب جيشه من الوحدات القتالية المتعددة وجعله ذا 
قوة قتالية صغيرة - بدلاً من الصفوف الاثني عشر المعتادة» فإن أربعة 
فقط ستواجه هجوم الرومان. كل شيء كان يتوقف على القوات في قلب 
جيشه. كان عليها أن تقوم بانسحاب بطيء ومخطط له مسبقاً ويستمر إلى 
أن يتولى ماجو أمر سلاح الفرسان الروماني. لقد وضع هناك أربعة آلاف 
مقاتل من قبيلة نوميديا تحت قيادة ماهربعل» وهي قبيلة محاربة شرسة من 
جبال الأطلس. ومثل قبائل الهون التى ظهرت فى فترة لاحقة» ولد هؤلاء 
الرجال في الجبال؛ كانت مهمتهم الأولى هي هزيمة ألفي فارس لاتيني. 

-213- 


لكن الصدام الرئيس سيحدث عند جناحه الأيسر. هذا هو المكان الذي 
وعم فيه غدل ساف وو الذي ت ا 
إيبيريا وبلاد الغال ليواجهوا أربعة آلاف من نخبة الفرسان الذين كانوا مع 
اا عائلات روما الأرستقراطية الذين تنافسوا مع 
بعضهم البعض» لسن فقط من أجل ثل شرف القغال» ولكن أيضا في من 
ه الخارجي أحسن. . كان شباب روما الشقر يركبون الخيول 
الجميلة وكانت تزين دروعهم المنقوشة بدقة رموز الحرب الذهبية. 
الأفيال العشرون التي بقيت من الخمسين الأصلية ستكون محدلته 
الساحقة قة. كانت تظهر من فوق الضباب مثل القلاع المصغرة . لقد رسم 
هنيبعل خط سير المعركة. 
كانت لدى قائد روما في ذلك اليوم» الذي كان مصمماً على أن يتتزع 
مجداً له من خلال تحقيق النصرء ثقة مفرطة وهذا أمر سيى أثناء القتال. 
فاق عدد قدامى المحاربين في جيشه أعداد من كانوا يقاتلون مع هنيبعل 
بنسبة ثلاثة إلى واحد» ومع وجود النهر من خلفهمء فإن ذلك سيشعل 
روحهم القتالية» لأن التراجع كان مستحيلاً. ظهر فارو بمظهر رائع وهو 
يمتطي حصانه الأبيض. غطى المعطف الأرجواني للقنصل الروماني 
درعه المنقوش. ولإظهار ازدرائه المطلق» كان يجلس ويدير ظهره 
للعدو. . اجوبيتر وروما!» هكذا صاح على أفضل مقاتلي سلاح الفرسان 
الأرستقراطي الرومانيء الذين اصطفوا لحماية جانبيه؛ وأجابوا عليه بهتاف 
مثير: «الشرف والوطن 75818©!» كانوا ذوي نظرة صارمة وكانوا مقاتلين 
جيدين. . ما لم يكن فارو يتوقعه هو أنهم تعرضوا أيضاً لنوبات مفاجئة من 
الذعر الجماعي. e‏ أحدهم «إنهم يتحركون!» في الواقع» لقد فاجأهم 
هنيبعل وأطلق قواته أولاً .كانت معركة كاناي الكبرى قد بدأت. 
كان هنيبعل ينظر إلى مجموعاته القتالية وهي تتقدم في المركز؛ 
ويرى رداء الإيبريين الأبيض» والجذوع البرونزية العارر ية لأبناء بلاد 
دم كوك الاو و الا EAE‏ 


3- باللاتينية في الأصل. المترجم. 


-218- 


الغال» وكانوا جميعاً من قاذفي المنجنيق ورماة ذوي خبرة. أما مقاتلو 
سلاح فرسانه الخفيف والمدرع» فقد كانت خيولهم تنخر وترتعش» 
وهم يكمنون للعدو خلف الأجنحة التي تتقدم بشكل مائل. تقدم الجدار 
القرطاجي بخطى موزونة؛ كان وسطه بارز قليلاً إلى الخارج. كان الهدف 
من هذه الخطوة هو تحدي الرومان؛ وكانت مجازفة هنيبعل المحسوية 
تعتمد على أن فارو سيهاجم بتهوره المعتادء وينقض مباشرة على أي 
شيء يوجد في طريقه. وقد فعل فارو ذلك بالضبط تقدم مندفعاً بلا 
تفكير بالعواقب نحو مركز القرطاجيين. توجهت الجحافل الرومانية 
تحت قيادة أتيليوس وسيرفيليوس وهما من الضباط التربينيون نحو 
القرطاجيين بخطى سريعة» كان جنود الهاستاتى فى المقدمة» ووحدات 
البرنسيبس وراءهم» ووحذات الترياري في الصف الثالث ليقوموا بتسديد 
الضربة القاتلة بمجرد اختراق خط العدو. ما إن وصلوا إلى مسافة مائتي 
ياردة حتى تسلل حشد من الرماة واجتازوا صفوف المشاة المدرعين 
من المقاتلين القرطاجيين والليغوريين والغاليين. كان تقدمهم مفاجتاً 
لدرجة أن الرومان لم يكن لديهم الوقت الكافي لرفع الدروع لتكون 
غطاءً واقياً لهم. مزقت السهام التي انطلقت دفعة واحدة أجساد الرومان 
وكان تأثيرها مدمراً. سقط المئات على وجوههم. ووقف آخرون هناك 
وهم يشدون قبضاتهم على صدورهم أو أفخاذهم أو حناجرهم» وكل 
تلك المواضع من أجسامهم التي اخترقتها السهام» قبل أن يسقطوا ببطء 
على الأرض لتدوسهم أقدام الموجة التالية من المقاتلين. انطلق الرومان 
بأقصى سرعة» وحناجرهم تهدر بنداءات الدعوة إلى القتال إلى أن صاروا 
في مدى مرمى الرماح. رموا برماحهم النحيفة قبل أن يصطدموا بمركز 
القرطاجيين بأقصى قوة. كان الضجيج يصم الآذان» وكان القتال يجعل 
صفوف المقاتلين تغدو وتجيء ذهاباً وإياباً مثل السفن التي تتمايل 
في البحر الهائج. التحم المقاتلون فيما بينهم. صلى الرجال لآلهتهم 
المختلفةء ثم تابعوا العمل على تحقيق هدفهم» الذي يقضي بقتل أكبر 
-219- 


عدد 8 من أفراد العدو. أسندوا كامل وزن أجسامهم على دروعهم؛ 
وجعلوا كتفهم الأيسر يتقدم إلى الأمام لتحرير ذراعهم الايمن ليمسكوا 
به سيفهم. أصبح القتال قضية فردية» رجل مقابل رجل. بدات تترنح 
الوحدات التى يقودها هانو المتواجدة في القلب» تسمت ثقل ضربات 
قاوم مقاتلو كتائب المشاة الويبيرية» ولكنهم لم يتمكنوا من الانسحاب 
وكانوا يقاتلون وهم يتراجعون خطوة بعد خطوة» وسحبوا معهم الرومان 
بدروعهم الفولاذية. 

فى تلك الأثناء» كانت خطة هنيبعل تسير بنجاح. بجعله تركيز عدوه 
ينصبٌ على المركز» شنّ هجوماً واسع النطاق على الأجنحة الرومانية. 
اشتبك فرسانه النوميديون الأربعة آلاف مع ألفين من الخيالة اللاتينيين. 
لأول مرة» يتفوق القرطاجيون عددياً. انقض مقاتلو الجحافل التي يقودها 
ماهربعل القادمين من جبال الأطلس على الفرسان اللاتينيين الذين لا 
يحملون سوى الأسلحة الخفيفة. وسط صرخاتهم القتالية الوحشية» حطم 
النوميديون فعليا تشكيل عدوهم ولم يتكبدوا سوى خسائر قليلة للغاية في 
صفوفهم. انتهت هذه المعركة في غضون دقائق. انكسرت شوكة الخيالة 
اللاتينيين وتناثروا هنا وهناك. أولئك الذين لم يسقطوا ميتين على الأرض 
أو داستهم حوافر الخيول حاولوا الفرار عبر النهر. انتهى المطاف بالبعض 
خلف جدران بلدة فينوسا أو کانوسیوم» ولكن لم يكونوا كثيرين. نجاح 
النوميديين هذا أطلق يدهم للمشاركة في المرحلة التالية من خطة هنيبعل 
التكتيكية. الذي أرسل أحد فرسانه حاملاً أمره: «إلى ماهربعل: لا تطارد 
اللاتينيين» ابق في مكانك بانتظار أوامري اللاحقة». 

تلك اللحطة نفسهاء توجه حشد من الإيبريين وأبناء بلاد الغال 
ية ما شرة للاشتال ياه : 
قودهم ماجو مباشرة للاشتباك مع مقائلي سلاح الفرسان الإمبراطوري 

ين يرافقون القنصل بولس وتمكنوا من دفنهم تحت الأرض بسبب 

-220- 


تقل الخيول الإسبانية التي كانت ضخمة للغاية؛ وأوقعوا النبلاء الرومان 
من سروجهم بشكل كامل. بات تشكيل القنصل بولس يتشظى إلى عدة 
مجموعات» تقاتل بيأس ومن دون تماسك. تمّ تقطيع أوصالهم زرافات 
ووحداناً. لم يكن هذا الوقت المناسب لقتال الفرسان الذي كان يحلم به 
أبناء النبلاء؛ ولم يكن هذا وقت البطولة» بل القتال لمجرد النجاة بالنفس. 
عندما يتعلق الأمر بالوحشية المطلقة» لم يكن أمام نبلاء روما أي فرصة 
للصمود أمام المحاربين ارين المتوحشين. في غضون لحظات» 
أجبر الفرسان الرومانيون جميعاً على الفرار. حاول أحد ضباط التربيون 
الرومانيين» بالتلويح بسيفه في لفتة غير مجدية؛ لغرض تجميع الفرسان 
الهاربين أثناء مرورهم من أمامه متوجهين جهين إلى النهر. ولأن الموت كان 
يجري في أعقابهم» أجبروا خيولهم على الخوض في الماء. مما تسبب في 
غرق الكثير منها. كان عدد أبناء نبلاء روما الذين ماتوا أثناء هروبهم أكثر 
من الذين ماتوا أثناء القتال الذي كانوا يسعون من ورائه لاكتساب الشهرة 
من خلال القيام بأعمال بطولية. أولئك الذين نجحوا في العبور انتهى بهم 
المطاف خلف جدران كانوسيوم يترنحون مذهولين من شدة الصدمة 
في وسط الميدان» قاتل رجال هانو مثل الأسود. كم دامت هذه 
المعركة» لم يستطع أحد فيما بعد أن يحدّد ذلك بدقة» ولكنها بدت للناجين 
منها وكأنها استمرت لعام كامل وليس لبضع دقائق. كان الرجال الذين 
ينزفون متمددين أمام صف حاملي الرماح المنتصبين بحزم» يسعلون 
وأرواحهم تزهق على الأرض المليئة بالدماء. . رفع ليبي سيفه وأنزله على 
رأس أحد مقاتلي الجحفل الروماني في الوقت الذي كان يطعن يرمحه 
أحد الأيبيريين. ارتفع صوت أنين من كليهما وتوفيا في وقت واحد. 
سحق أحد الضباط السنتوريين» الذي كانت ذراعه التى تحمل السيف 
تتدلى بارتخاء إلى جانبه» رأس أحد الغاليين بدرعه الثقيل. كان القتال 
من أجل السيطرة على وسط الميدان يجري بضراوة شديدة» وجذب مثل 
المغناطيس» المزيد من الرومان إلى فخ يشبه حدوة الحصان. 


-221- 


كان فارو واثقاً جداً من أن النصر قريب إلى حد أنه أمر ما توفر لديه 
من وحداته الاحتياطية من مقاتلي الترياري والفيليتس للتوجه کوج 
المناطق المعزولة في وسط الميدان. كان قلب قوات القرطاجيين مكتظا 
للغاية وكان تماسك صفوفه ضعيفاً جداً لدرجة أنه شارف على الانهيار. 
كانت تلك هى اللحظة التي كان ينتظرها هنيبعل على أحرٌ من الجمر 
لوضع خطته الرئيسة موضع التنفيذ. ولمواجهة تهديد سلاح الفرسان 
الرومانى» أطلق يد سوسيلوس قائد كتيبة قدامى المحاربين الأفارقة: «إلى 
سوسيلوس: تقدم بكل قوات المشاة المدرعة التي لديك واضرب من كلا 
الجانبين الجحافل الرومانية في الوسط!» بأمر واحد» وضع هنيبعل تكتيكه 
الحربي التاريخي المعروف بالتطويق المزدوج أو فكي الكماشة موضع 
التنفيذ» وكل من أراد أن يدون اسمه في سجل العباقرة العظام من القادة 
العسكريين الذين جاؤوا بعده» من قيصر إلى نابليون وحتى يومنا هذاء قام 
بتطبيق (تكتيك كاناي) لقيادة جيشه إلى النصر. بعد سلسلة من إشارات 
البوق انطلقت المرحلة الثانية من المعركة. تحرك جنود المشاة الأفارقة 
المدرعونء الذين لم يواجهوا أية مقاومة تقريباًء نحو الداخل وتقدموا بسرعة 
نحو جناحي العدو. ومن الأمام أطلق هنيبعل العنان لتقدم قوات أخرى كان 
يحتفظ بها كاحتياطي للحالات الطارئة؛ لتحدث تأثيرها الكامل والمدمرء 
كان هذا الوضع مثالياً: عدو مضغوط بإحكام في جبهة صغيرة نسبياً. 

أول ما عرفه القادة الرومان عن الكارثة كان صوتاً مثل أبواق الجحيم. 
تأرجح جدار درع قرطاجنة إلى الداخل مثل فتحة بوابة واسعة وكشف 
عن حشود رمادية ضخمة تتحرك نحو الوحدات الرومانية. اقتحمت أفيال 
الحرب الإفريقية معاقل الرومان المتراصة بإحكام وداست بأقدامها على 
صفوف المقاتلين فقتلتهم في الحال. زاد هيجان وصخب تلك الوحوش 
4- مناورة عسكرية يقوم فيها الطرف المدافع بمهاجمة جناحي الطرف المهاجم في 


الوقت نفسه الل و 0 فع» الز 2 
و ي يهاجم فيه المهاجمون قلب الجيش المدافع» الذي بدوره يتراجع 
بانتظام حتى يتمكن جناحاه من تطويق المهاجمين. ا 


-222- 





من حجم الذعر. وقف الرومان جامدين في حالة من الرعب» في حين 
كانت الأرض من حولهم تهتز تحت تأثير وقع الأقدام الثقيلة. وسرعان ما 
تكونت ثغرات واسعة في العديد من أماكن خط القتال الروماني» وعلى 
الفور ملأتها حشود من المحاربين الأيبيريين والغاليين وهم يصرخون 
عالياً» يطعنون ويمزقون أجساد الرومان المذهولين. كان شاغلهم 
الوحيد هو الابتعاد عن الأفيال الهائجة» لكن صرخة تحذير جاءتهم من 
سرفيليوس الضابط التريبيون جعلتهم ينظرون إلى جانبهم: كان يندفع 
نحوهم من الأجنحة جنود الهوبليت الأفارقة بقيادة سوسيلوسء وكانوا 
يتراكضون بسرعة كما لو كانوا يحاولون التفوق على بعضهم البعض في 
مسابقة للركض. لم يكن ذلك ميداناً رياضياً ينتظر فيه الفائز إكليلاً من الغار 
في خط النهاية؛ كان ميدانا لقتال ضارء حيث كانت الجائزة الوحيدة هي 
الموت. اشتبكت السيوف» وصرخ الرجال بأعلى أصواتهم وهم يخترقون 
صفوف المحاربين الذين تنائرت دماؤهم نتيجة إطلاق الرصاص القاتل 
عليهم» واحترقت أجسادهم وسط سعير الغضب. انهار جناح الجيش 
الروماني وتراجع نحو قلب وحداته» وقد أصبح محشوراً داخل نتوء مقعّر 
كان يضيق بسرعة من حولهم. لم يستطع الرومان المتهالكون» الذين 
كانوا يترنحون تحت وطأة هجوم الأفيال» أن يتصدوا للهجوم الذي شته 
الالاف من الجنود الأفارقة المنتعشين والمتمرسين بالقتال. أطلق الرماة 
الرومانيون مجموعتهم الأخيرة من السهام. أصابت إحداها سوسيلوس 
في الكتف» ووسط صدمة الألم» دفع ركبتيه إلى جوانب حصانه لدعم 
جسده المترنح» قبل أن يجئو الفيل» الذي حمله بشجاعة خلال العديد 
من المعارك على ركبتيه» انغرز رأس الرمح المدبب في صدره المثقوب. 
لكن لم يعد بإمكان أي شيء إيقاف الأفارقة. 1 

ٍ الخ جحافل الرومان. وصمتت طبولهم» وكانت مجموعاتهم 
القتالية على وشك الانهيار. انتهى حلم القنصل فارو بئيل المجد المطلق 
من خلال الهجوم الشرس الذي شئه فرسان هنيبعل. لقد كانت مجزرة 

-223- 


بخيولهم من خلال المزيد من الممرات a‏ في الوسطء التي 
تؤدي بهم إلى الت لتشكيلات الرومانية المنكسرة أصلا لتقتحمها بسورة من 
الد لغضب. خاض الرومان معركة يائسة» حيث بدؤوا استعداداتهم للتصدي 
لأي هجوم يشنه المشاة الأفارقة على الأجنحة بينما كانوا يحاولون 
يائسين إقامة جدار من الرماح لصدّ سلاح الفرسان. وصل سلاح الفرسان 
المدرع بقيادة ماجو بعدما انتهى لتوّه من المواجهة التي انتصر بها على 
شامل» وأحكم الطوق حول الرومان. تعرضت جحافل روما إلى مذبحة؛ 
بعد مهاجمتها من جميع الجهات من قبل النوميديين بقيادة ماهربعل 
والأفارقة بقيادة سوسيليوس والأيبيريين والغاليين بقيادة ماجو. 
٠‏ صاح سرفيليوس القائد الروماني بمقاتليه» وهو يمسك بالنسر الذهبي 
لفيلقه: «عبر النهر» عودوا عبر النهر!» ثم ما لبث أن قتل. لكن التراجع 
لم يعد ممكناً؛ كانت حلقة من الرماح والحراب قد أغلقت جميع السبل 
للفرار واصطف فرسان ماجو على طول الشاطى وقتلوا أي شخص ينجح 
في عبور النهر. 
جمع القائد الروماني أتيليوس رجاله. حاصرت حشود من المقاتلين 

القرطاجيين المسعورين مجموعته وقاتلتها بوحشية فيما كانوا هم يقاتلون 
بياس من أجل إنقاذ أرواحهم. كانت السهام والسيوف توزع الموت 
عليهم. انقض القرطاجيون عليهم» ولم يتمكن الرومان من إيقاف تيارهم. 
ى أتيليوس» ا الشجاع في قلب الميدان. أصابه سهم في وجهه 
ومزق آخر عنقه. تعثر بضع خطوات ثم سقط. كان رجاله يتساقطون 
ايضاً وقد تمددوا وسط الرجال المقاتلين في الوحل المنقوع بالدم؛ وهم 
مطعونون أو مذبوحون. 

' 0 ل بولس عن حصانه بسبب رمح اخترق حصانه. ثم انحرف 

يشحمى ضربة من رمح شخص آخرء وأمسك بمهاجمه من صدره وركله 

-224- 


E‏ القرطاجي وهو يتلوى من الألم» قطع 
بولس رأسه. بعدها تجمع القرطاجيون كلهم من حوله. بعد أن وصلوا 
وهم يصرخون ويتصايحون وهم يلوحون بالرماح والسیوف» وحتى 
بالسكاكين المعقوفة» عازمين على قتل القنصل. E‏ 
يجري من حوله؛ ولكن عينيه بقيتا مفتوحتين؛ بدأ يترنح» بعدها جلس 
رخ كود لجان على الله الذي كان تر رين لل رطف لذج 
يحمي جسده في الموضع الذي اخترقه أحد الرماح. حاول الوقوف على , 
قدميه لكن لم تكن لديه قوة تعينه. بعدها تجاوزه التيار الهادر غير مبالٍ به. 
عندما تمّت مساعدة الجنرال الجريح سوسيلوس ليقف على قدميه» 
لم يعد هناك وجود للجيش الروماني. لقد تم القضاء عليه. كان قادته قد 
ماتوا أو كانوا ممددين وسط الميدان. خفت ضجيج المعركة. وسرعان 
ما أصبح ميدان المعركة فريسة لأسراب النسور التي تحوم من فوقه 
وهي جوعى. بإوبط اللدماء الضترة والحران الخافت لبر عي» جلت 
القرطاجيون ونامواء وهم مرهقون للغاية فلم يشيدوا خيماً لهم أو حتى 
يتناولوا الطعام. مع حلول الليل خيّم الصمت. .. صمت الموت العميق. 
فقد الرومان ثمانية فيالق و2700 من الفرسان الأرستقراطيين والضباط 
و50 ألفاً من الجنود9© (70 ألفاً حسب المؤرخ بوليبيوس). وكان من بين 
القتلى» القنصل أميليوس بولس والقنصل السابق سرفيليوس غيمينوس 
وقائد سلاح الفرسان مينوسيوس روفوس وثمانون من أعضاء مجلس 
الشيوخ الرومائي الذين انضموا طواعية إلى سلاح الفرسان وتسعة وعشرون 
قائداً عسكرياً برتبة تريبيون. . عندما أحصى هنيبعل عدد الإصابات» شعر 
بالحزن لأن انتصاره كلفه ثمناً باهظا ا فقد كان يتمدد على أرض المعركة 
0 من مقاتليه الموتى. وفي حين أن الرومان سيكونون قادرين على 
تعويض الخسائر في صفوفهم من خلال تجنيد سكان الريف والفلاحين في 
جميع أنحاء إيطالياء لم يستطع القرطاجيون الاعتماد على مثل هذه الميزة. 





5- عن الكاتب تيتوس ليبيوس. 


-225- 


وهذه المفارقة جعلت هنيبعل قلقاً للغاية. ما لم يتمكن من الحصول على 
تعزيزات من قرطاج» وبسرعة» فإنه سيحارب قريبأ في قضية خأسرة. 

تلوّن مذبح قرطاج باللون الأحمر بسبب دماء أعدائه. كان النسر 
الرومانى قد تحول إلى ديكاً هرماً. وتساقطت الأكاليل المذهبة؛ التي 
حازت عليها جحافل روما في أيام المجد» من على سارياتها القرمزية. 

ارتفعت صيحة: هنيبعل عند الأبواب! !sئporta “Hannibal ad‏ 
وسادت روما حالة من الهيجان. اجتاح المدينة جو من الخرافات 
والخوف» كان مواطنوها على استعداد لتصديق أي شيء يقال لهم. كان 
لا بد من العثور على كبش فداء للهزيمة. ألقى مجلس الشيوخ باللوم على 
تراخى الأخلاق لتسببها بالكارثة. انُهمت اثنتان من عذارى فستال» 
تبئنا خطاً بتحقيق النصرء بفقدانهما قدرتهما الفطرية على التنبؤ بسبب 
الانغماس في أعمال العربدة. تمّ دفنهما أخياء. وتم رجم فيلسوف يوناني 
من قبل الجماهير وتم اقتياد مجموعة من الغاليين إلى الساحة العامة 
حيث لقوا حتفهم. هَل العديد من أفراد الحرس الإمبراطوري في روما 
خلال المعركة» ويسبب غيابهم انهار النظام. وتفشت أعمال الاغتصاب 
والنهب. وتم نهب المتاجر» وسرقة القصور وقتل العائلات الأرستقراطية 
قبل أن يشكل المواطنون وحدات أمنية أهلية أعادت الحياة إلى مظاهر 
النظام من خلال قتل الرعاع في الشوارع. 

بدأ هنيبعل في جني ثمار نجاحه الهائل. لقد أصبحت روما وجنوب 
إيطاليا مفتوحتين على مصراعيهما أمامه الآن©. ومع ذلك» لم يقترب 
أبداً من تحطيم «الإمبراطورية الشريرة) مار بما حدث في 2 آب سنة 
6 ق.م. كان يعتقد أن روما سوف تتوقف الآن عن القتال وقد كان 
6- باللاتينية في الأصل. المترجم. 
7- هن كاهنات الإلهة فستا العذراء المكلفات بالحفاظ على بقاء الثار المقدسة مشتعلة 


بحسب الأساطير الرومانية. المترجم. 
8- عن المؤرخ بوبيليوس. 





-226- 


مخطياً للأسف. في خضم هزيمتهم المخزية» شعر مجلس الشيوخ 
الروماني بالحاجة إلى وسيلة قوية لإعادة بناء جيشه على أسس جديدة» 
وجلب قادة عسكريين شباب يمتلكون الحيوية إلى الواجهة. . لكي يحدث 
هذاء ما هو الشعار الأفضل الذي يمكن أن يجدوه أكثر من التهديد بأن 
«هنيبعل عند الأبواب»)؟ لقد حثوا مواطنيهم على الدفاع عن وطنهم 
ومحاربة «القرطاجيين القساة»» وقد أثبتت تلك الإرادة الحديدية» التي 
ترسخت على مدى قرون في مواطنيهاء أنها القوة الحقيقية لروما. 

أرسل هنيبعل وفداً برئاسة كاثالو للتفاوض ذ فى الحصول على فدية 
مقابل إطلاق سراح الأسرى الرومانيين. . قرر مجلس الشيوخ المتشدد أنه 

من الأكثر نبلاً عدم رؤية أبنائهم مرة أخرى بدلاً من الاعتراف بالهزيمة. 
بناءٌ على رفض روما التفاوض» أراد عدد من قادة قوات هنيبعل -من 
بعض الحلفاء الجدد الذين عانوا تحت نير الرومان وغيروا ولاءهم- قتل 
كل أسير روماني لديهم. لكن هنيبعل منع حصول المذبحة. 

خاطبه المتحدث باسمهم» النوميديني ماهربعل: «هذه هي اللحظة 
التي انتظرناها. دعنا نتوجه على الفور إلى روما». 

«لا. يجب ألا ننتصر فحسب» بل نعرف أيضاً كيف نو نوظف انتصارنا 
جيداً. صحيح أننا انتصرنا في معركة كبيرة. لكن روما لم تهزم! ليس 
بعد!). 

لكي يحدث هذا سيستغرق الأمر ستمائة سنة أخرى. 

وللمرة الأولى» تراجع الرجل الذي لم يحجم من قبل عن المخاطرة. 
شي متسل حندبوابات روما في هذا المكان المشؤوم في 12ب 216 ق ۾ 
ورغم تحطيمه جيوش روما وقد أصبح الطريق سالكاً أمامه تقريبا فقد 
بقي عند البوابات» ولكن ليس داخل المدينة؛ كانت لديه فيلته والآلات 
التي يمكن أن يفرض حصاراً بها. لم یتبق لدی روما سوى مواطنيها 
المرعوبين . كان هنيبعل مصدوماً للغاية من المشهد المروع الذي شاهده 
في ميدان كاناي وحريصاً على التوصل إلى تسوية من شأنها إنهاء مزيد من 

-227- 


المعاناة؟ أما اليمين الذي أقسمه لتدمير كل ما يقف في وجهه لتدمير روما 
فقد كان بالكاد يتطابق مع فكرته هذه. إذأء ما الذي أعاقه عن فتح روما؟ 
سيبقى ذلك واحداً من ألغاز التاريخ العظيمة. 

توج تكتيك الكماشة الذي نفذه هنيبعل في معركة كاناي عبقريته 
العسكرية ورفعه إلى ذروة مكانته كقائد عسكري. بفضل خطته الرائعة 
حقق ذلك الشي النادر الحدوث في المعارك: التأثير الحاسم والشامل 
لعنصر المفاجأة. ومع ذلك» فمن الناحية التاريخية» لم يغيّر النصر الأكثر 
إثارة في تاريخ الحروب شيئاً. خسرت روما المعركة ولكنها لم تخسر 
ارت 

ربما كان لنا أن نتأمل جيداً في كيف سيتغير مجرى التاريخ لو أن . 
هنيبعل اقتحم البوابات ودخل روما. 


-228- 


الفصل الثامن 
الجميع سواسية عند الموت 


معركة زاما 
9 نيسان سنة 202 ق.م 


«من يرغب في السلام عليه الاستعداد 
للحرب». 


٠‏ فيجيتيوس» القرن الرابع الميلادي 


في العديد من الحروب» كان كل ما يتطلبه الانتصار في بعضها 
الاستيلاء على إحدى المقاطعات الرئيسية في بلد الخصم» وكان يستلزم 
في غيرها تدمير جيش العدوء لكن في معظم الحالات كان من الضروري 
الاستيلاء على العاصمة. حقق هنيبعل الهدفين الأوليين ببراعة» لكنه فشل 
حتى الآن في تحقيق الهدف الثالث. كان يعلم أن الهدف النهائي لحربه 
يكن النصر يتطلب دائماً الإبادة الكاملة لجيش العدوء خاصةً إذا كان هو 
الأقوى. كان هنيبعل يعتبر دائماً أن الطريقة الأكثر فاعلية لتحقيق النصر هو 
استنزاف جيش روما؛ حيث يمكن أن يكون الاستنزاف التدريجي لإرادة 
عدوه هو السلاح الأكثر حسماً في ترسانته. لم تحسم هزيمة الرومان في 
معركة كاناي» رغم أنها قضت تقريباً على إرادة روما في المقاومة -بأي 
حال من الأحوال- عسكرياً. 

-229- 


أدرك هنيبعل أين يقع مركز القوة الجديد» ووجه جهوده السياسية 
ا ونظراً لأن عدوه لم يكن لديه قائد واحد يمكن تمييزه» فان تركيزه 
انصب على روما نفسها. لقد شتت قوتها العسكرية وهو يعمل الآن بجد 
من أجل تفكيك قبضتها على الاتحاد الإيطالي من خلال التحركات 
السياسية. حصل على بعض النجاح الأول عندما تحالفت بلدة كابوا 
معه» وكذلك فعلت المدينتان اليونانيتان سيراكيوز وتارنتوم. ولكن في 
الوقت الذي أقام فيه تحالفات على الأرض» فشل الأسطول البوني في 
السيطرة على البحر. أراد هنيبعل أن يجعل ملك مقدونيا فيليب الخامس 
-الذي كان يسيطر على أفضل جيش في اليونان- يقف إلى جانبه. لكن 
عبثاً. لم تحقق جهود هنيبعل الدبلوماسية أي شيء. بقي جيش الملك 
فيليب في اليونان للاهتمام بالشؤون الداخلية» واحتفظت روما بالسيطرة 
ل م ا . خلال كل ذلك الوقت 

نت تتم عملية إعادة بناء جيش روما ليزداد حجماً. 

لقد حان الوقت لروما لاسترداد شرفها واستعادة نسور جحافلها. 
ووجدت غايتها في الأخوين سكيبيو» وهما بوبيلوس وغنايوس وهما 
اثنان من الجنرالات الكفوئين اللذين ذهبا إلى إسبانياء حيث تمكنا 
من حشد القبائل ضد القائد القرطاجى صدربعل جيسكو. لكن بعد 
ذلك عانيا من مصير مماثل لمصير هنيبعل في إيطاليا؛ لقد تخلى عنهم 
مجلس الشيوخ ر مون قام به فرسان تر دت قيادة ره 
المحارب الشرس ماسينيساء لقي كل من بوبليوس وغنايوس سكيبيو 
مصرعهما. كانت روما مرة ة أخرى تحت ضغط شديد. في أوقات الخطر 
الشديد كان يتقدم الصدارة دائماً القادة الاستئنائيون. كان الرجل الذي ر 
له إنقاذ روما قد درس جيداً عبقرية الإسكندر الاستراتيجية وبريق هنيبعل 
التكتيكي. كان بوبليوس كورنيليوس سكيبيو» النجل الأكبر لبوبليوس 
سكيبيو» متحمساً للغاية بعد مقتل والده وعمه على يد القرطاجيين. 
9- النسر هو شعار الجحافل الرومائية. المترجم 





-230- 


وكأصغر ضابط تريبيوني في تاريخ روماء نجا سكيبيو الشاب بأعجوبة من 
المذبحة التي وقعت في كاناي. خلال انهيار سلاح الفرسان» كان قد منع 
بعض النبلاء الرومانيين من الهرب من خلال وضع سيفه على رقابهم» 
وجعلهم يقسمون أنهم لن يتخلوا عن واجبهم المقدس تجاه روما مرة 
أخرى. بعد لحظات تعرض حصان سكيبيو إلى طعنة برمح» ووسط 
آلام الاحتضار ألقى بفارسه في النهر. جرفه النهر ليجد نفسه مبتلاً على 
الشاطئ المقابل» لكنه لم يصب بأذى. من بين آلاف القتلى في معركة 
كاناي» أنقذ القدر الشخص المقدر له أن ينتقم من هنيبعل. كان بوبليوس 
كورنيليوس سكيبيو ذا مظهر مهیب» وكان يبدو عليه أنه شخص ساحر 
ويتكلم بلباقة» ولكن كان يمكنه أن يعذب الآخرين أيضاً بشراسة. وكونه 
عسكرياً رومانياً نشأ في ظل الانضباط العسكري الصارم» كان یکره من لا 
يمتلك الكفاءة. لم يكن يمتلك العبقرية الطاغية لهنيبعل» لكنه بالتأكيد أخذ 
درساً منه» على عكس كل الرومان الآخرين الذين واجهوا القرطاجيين. 
أصبح هنيبعل قدوته وبطله» تماماً كما أصبح سكيبيو الروماني الوحيد 
الذي حظي باحترام هنيبعل على الإطلاق. 

افا بوبليوس كوو ايوش سكعو الات اة اسا بط 
ظلام روما. جاءته فرصته الأولى لإثبات نفسه في إسبانيا. لقد أظهر في 
جميع أعماله إتقاناً غير عادي ليس فقط لشنّ غارات مذهلة على أهداف 
معزولة ولكن أيضاً للعمليات الاستراتيجية بعيدة المدى. لقد أدرك أنه 

من أجل هزيمة قرطاج» كان عليه أن يتصرف مثلما فعل هنيبعل عندما 
خاض الحرب في إيطاليا. كان يتعين على روما شن حرب على الأراضي 
الإفريقية. وفر سكيبيو القوة الدافعة لذلك» وعلى الرغم من أنه كان في 
الرابعة والعشرين من عمره إلا أن مجلس الشيوخ ع جعله المسؤول عن 
جيشهم في هسبانيا0. 

في عام 210 ق.م, بدأ مسيرته العسكرية بقيامه بفعلة مُحكمة الإتقان. 


هو الاسم الذي أطلقه الرومان على كامل شبه الجزيرة الإيبيرية. المترجم. 
-231- 


قام بإغراء صدربعل جيسكو (لا .نبغي الخلط بينه وبين صدربعل برقا 
شقيق هنيبعل) للخروج من معقله في قرطاجنة ومن ثم سار في الحصن 
المهجور دون قتال. قام صدربعل جيسكوء إلى جانب حشود فرسان 
صيفاقس ملك نوميدياء بتطويق جحافل سكيبيو في مدينة كاسترا كورنيليا. 
وحيث كان سكيبيو في مواجهة موقف يائس» فقد طلب التفاوض على 
الاستسلام. أثناء قيامه بإطالة المفاوضات عمداء قام بتنظيم هجوم ليلي 
على معسكر القرطاجيين. وكانت نتائجه مدمرة وفاقت نجاحاته حدود 
الخيال. تسللت قوات سكيبيو جنباً إلى جنب مع قوات سلاح فرسانه 
بقيادة الجنرال لايليوس» واستطاعت أن تصل إلى معسكر القرطاجيين 
وتشتعل النيزان فيه لم يكن مخططاً للأمر على هذا النحو» ولكن نظرا 
لأن عددهم قليل» فكان يمكنهم إشعال الخيم الخارجية فقط» مما تسيب 
عن غير قصد في حدوث عاصفة نار رهيبة. كانت حلقة النيران تمتص 
الأوكسجين بجشع من وسطهاء مما جعل درجات حرارة النيران تقترب 
من 1000 درجة مئوية©. من المستحيل على الخيال أن يبالغ في وصف 
المشهد المروع» لذلك فقد تجاوز تماما في رعبه كل ما عرف من حرائق 
حتى ذلك التاريخ62. هلك في تو ن ذلك الجحيم الذي اجتاح المخيمات 
0 ألف فرد من القرطاجيين وأبناء البلدان المساندة لهم. 

في عام 207 ق.م» اشتبك سكيبيو مع صدربعل جيسكو في بلدة 
إليبا (تقع بالقرب من مدينة إشبيلية). قاتل سكيبيو وفق خطة تكتيكية 

معدة مسبقاً استقاها مباشرة من كتاب هنيبعل العظيم. وفي مواجهة 74 
ألف قرطاجي و32 فيلاً» لم يكن بإمكانه حشد سوى 48 ألفاً فقط. لكن 
بوبليوس سكيبيو لم يكن يثبط همته التفوق العددي. كان قد درس بدقة 
تكتيكات صدربعل جيسكو واكتشف أن القرطاجيين يضعون قدامى 





31- استخدمت هله التقنية بعد ألفي عام خلال غارات القصف الليلي على مدينتي 


هامبورغ ودريسدن. في عام ۱945 تجاوز عدد ضحايا عاصفة النار في دريسدن عدد 
ضحايا القنابل الذرية. 


2 عن المؤرخ بوليبيوس. 


-232- 


المحاربين دائماً في الوسط وأفراد القوات المساعده على الأجنحة. ولم 
يتغير الأمر في إليبا ورفض لمدة ثلاثة أيام خوض المعركة لكنه واجه 
دائماً صدربعل مع جحافله من قدامى المحاربين في الوسط ومقاتلي 
اغراك الصا من الأنيريو والكالي الأفنيف على الأجنعدة لكن 
سكيبيو لم يكن لديه أي نية للتضحية بجحافله الثمينة في مواجهة مع 
قدامى المحاربين الأفارقة من النخبة في قرطاج. وبدلاً من ذلك» خطط 
لمهاجمة قوات مساندة صدربعل بكتائب من جحافله. مثل هذا التبديل 
في اللحظة الأخيرة كان عملاً لا يتخذه إلا شخصٌ مثل هنيبعل العظيم 
نفسه. وهذا ما حدث في صباح اليوم الرابع» تحركت الجحافل بخطوات 
سريعة ثلاثية بشكل مائل نحو الجانبين وهاجمت الوحدات الضعيفة 
الموجودة على الجناحين. قام قدامى المحاربين الرومان بقيادة سكيبيو 
بجعل القوات المساندة للقائد صدربعل من المقاتلين الإسبان تتوجه نحو 
المحاربين القدامى الأفارقة في الوسط؛ لم ينج في عملية الانسحاب تلك 
-والتي نادراً ما شهد لها التاريخ مثيلاً- من الذبح سوى 6000 فرد فقط 

من أصل 72000 مقاتل قرطاجي. 

هذا الانتصار منح سكيبيو نقطة الانطلاق التي يتوجه منها نحو أفريقيا. 
في عام 206 ق. م أبحر إلى نوميديا (الجزائر)» حيث قابل سرا الرجل 
الذي سيلعب دوراً حاسماً في تحقيق انتصاره الكبير. فبينما كان ماسينيسا 
ملك نوميدياء يقاتل دعماً لهنيبعل في إيطاليا وإسبانياء تمّت إزاحته عن 
عرش نوميد ميديا من قبل صيفاقس» ملك ماسولة» وذلك بتواطؤ من قرطاج. 
أغضبت هذه الخيانة الملك ماسينيسا ولم يعد يفكر إا في الانتقام. . بعد 
اجتماعه مع سكيبيو» دعا ماسينيسا قادة قواته وأبلغهم «إننا سنخوض 
مع ركة). 

سألوه: «ضد الرومان؟» 

«كلاء لقد وعدنا الرومان بالكثير إذا قاتلنا إلى جانبهم». 

«ولكن الرومان لا يحبوننا أكثر من القرطاجبين». رغم ذلك ظل 

-233- 


ماسينيسا ثابتاً على موقفه. أقنعت مهارات سكيبيو الدبلوماسية والذهب 
الذي قدمته روما هذا القائد الصارم ذا الشجاعة الفائقة بفتح ممر لروما 
في شمال أفريقيا. 

بينما كانت تتم هذه الصفقات» بعث هنيبعل -ووقتها لم يكن يعلم 
بالتطورات التي تجري في الداخل- برسل لا حصر لهم إلى قرطاج؛ 
طالباً المساعدة الفورية. تجاهل شيوخ قرطاج مناشداته. كانوا منقسمين 
إلى فصيلين عدائيين» برقا العسكري وهانوس التجاري. كان جناح برقا , 
يضم الجنرالات. فيما ضجٌّ جناح هانوس التجار ذوي النفوذ الذين 
كانوا يتهمون هنيبعل باستنزاف موارد بلده في سعيه لخوض حرب 
عديمة الفائدة. ومع رفض طلب المساعدة» استغلت روما الوقت لإعادة 
بناء قوتها العسكرية. كان التأثير الجوهري لغزو هنيبعل لإيطاليا هو أنه 
منح مجلس الشيوخ في روما قضية يجمع الناس من حولها ومكنته من 
تعزيز مكانة روما كأقوى أمة فى القارة الأوروبية. وقبل خطة سكيبيو 
الامعزائجية ليفاجأة القيظان فى عقر ذازه» ليس لميحارئة هتبعل فق 
إيطالياء ولكن للتغلب على قرطاج في شمال أفريقيا. 

بعد سنوات من التجوال غير المجدي» لم يتم حسم أي شيء وتم 
إجبار هنيبعل على التراجع مع قواته المستنزفة بشكل مطرد إلى أقصى 
جنوب إيطاليا. في ربيع عام 207 ق.م» وبدون الحصول على أوامر من 
قرطاج؛ قام صدربعل شقيق هنيبعل بتجميع قواته في إسبانيا وتوجه 
لمساعدة شقيقه مع جيش يتراوح عدده بين أربعين إلى خمسين ألف 
مقاتل. فجأة» باتت روما لا تواجه جيشاً واحداً بل اثنين من الجيوش 
القرطاجية وعندها بدأت الحروب البونيقية نيقية الثانية على الأراضي الإيطالية. 

بدأ كل شيء بواحدة من تلك الحوادث البسيطة التي تحمل مع 
ذلك تداعيات خطيرة . أرسل صدربعل ستة رسل للإعلان عن وصوله 
الوشيك ولنقل خطط مسيرته إلى هنيبعل» كانوا أربعة من الغاليين 
واثنين من النيميديين. كان هنيبعل قد غادر معسكره بالفعل وانتقل إلى 


-234- 


مدينة كانوسيوم (كانوسا) لانتظار شقيقه. عبر رسل صدربعل الستة 
شبه الجزيرة الإيطالية دون أن يتم اكتشافهم» وكانوا على بعد مسيرة 
يوم واحد من معسكر هنيبعل عندما اعترضتهم دورية رومانية وعثرت 
على رسائل صدربعل التي تحوي على تفاصيل الخطط. اطلع القنصل 
كلاوديوس نيرو» الذي يتصف باندفاعه الكبير وتهوره» على خطط 
معركة صدربعل وأعدٌ خطة رائعة لمواجهتها. سلم قيادة الجزء الأكبر 
من جيشه إلى كوينتيوس كاتيوس مع أوامر بمنع هنيبعل من الانتقال 
إلى معسكره والانضمام إلى شقيقه» في حين اختار قوة من نخبة من 
المحاربين القدامى مكوّنة من ستة آلاف رجل وألف فارس وقطع في 
سبعة أيام مسافة 250 ميلاً كانت تبعده عن اقليم أومبريا لتعزيز جحافل 
القنصل بورسيوس ليفيوس سالينيتور» في معسكرها على نهر ميتوريوس 
(ميتورو). ولأجل إخفاء تحركاته» سار في الليل فقط. عندما وصل نيرو 
إلى معسكر سالينيتورء أمر قواته بأن يتشاركوا الخيام الموجودة وأن يخفوا 
وجودهم. لكن القيام بإجراء احتفالي بمناسبة قدوم القنصل أفشى السر. 
لم يسمع جنود الاستطلاع القرطاجيونء الذين كانوا يتجولون بخيولهم 
من حول مخيم القنصل سالينيتور إشارة بوق واحدة» بل إشارتين 
صغيرتين مخصصتين لشخص القنصل؛ وهذا يدل على وجود قنصلين 
في المعسكر الروماني. وهذا يعني تواجد جيشين. عند سماع هذا الخبر» 
قرر صدربعل تجنب القتال والتوجه جنوباً على طريق فلامينيا للانضمام 
إلى شقيقه. أمر بالانسحاب» عند الظلام للتغطية» لكن جيشه ضل طريقه 
عندما تركه مرشدوه الإيطاليون. وعند شروق الشمس وجد نفسه في 
وضع غير موآت. أقامت الكاهنة العليا للوله بعل مراسم ذبح القربان 
ولمست رأس صدربعل بأطراف أصابعها. دمدم غاضباً «إنه ليس بالفأل 
الحسن إنني أحتاج إلى المرور اليوم» ولكنه الطالع». وضع قوات المشاة 
المدرعة من المقاتلين الليغوريين في الوسط ومقاتليه الغاليين على تل 
على الجانب الآخر من قوات القنصل نيرو. انقسمت قواته عندما وصلت 
-235- 


إلى أخدود عميق (وادي سان أنجيلو)» مما حال دون الاتصال المباشر 
بينها. جمع نيرو قواته من النخبة وراء التل. وعند الحافة قام بجعل وحدة 
من القوات المساندة بالانتظام في صف واحد وكانت واضحة للعيان 
للغاية وأمر مقاتليها بالصراخ وإحداث ضجيج. 

أخذ صدربعل قدامى المحاربين الليغوريين والإيبيريين وسار بهم 
إلى جزء الوادي الذي يمكن عبوره. وقام بضرب جحافل ليفيوس 
سالينيتور. أخذ المحاربون المخضرمون على عاتقهم البدء بالمرحلة 
الافتتاحية للمعركة» حيث قاتلوا بضراوة شديدة. حينها شارك الجزء 
الأكبر من قوات المشاة الرومانية وسلاح الفرسان في صد الهجوم الذي 
شئته القوات الإسبانية» كان قدامى المحاربين على دراية جيدة بالأسلوب 
الروماني للقتال» وكان الليغوريون محاربين أشداء. ثم وصلت الفيلة إلى 
الجبهة نفسهاء وجعلت الخطوط الأمامية تدخل في حالة من الارتباك عند 
شن هجومها الأولي وأجبرت القوات الرومانية على التراجع إلى الوراء. 
مع ازدياد حدة الصراع والصراخ» لم تعد الأفيال تحت السيطرة وياتت 
تتجول بين خطي القتال» كما لو كانت غير متأكدة من المعسكر الذي 
تنتمي إليه» مثل السفن التي تنجرف من دون مجاذيفها”©. عندما رفضت 
الفيلة إطاعة سائسيهاء اضطروا إلى قتلها. 

وسط انخراطه الشديد في القتال فشل صدربعل فى اكتشاف أن جيشاً آخر 
as‏ سار القنصل نيرو الذي لم يتمكن من عبور الوادي 
العميق» بفيلقه متخفيا خلف عدد من التلال المنخفضة والتف حول مقاتلى 
صدربعل من هسبانيا. فجأة وجد الجيش القرطاجى نفسه عالقاً بين جيشين 
رومانيين» وبات الرجال الذين كانوا قبل لحظات 00 فى إحراز النصر 
يواجهون الإبادة. اندفع رجال نيرو ليضغطوا على المقاتلين من هسبانيا. 
صب الرماة الرومان وابل مستمر من السهام على حشود المقاتلين» نفذت من 
و 
3- عن الكاتب تيتوس ليبيوس. 


-236- 


ا وو دن قر ر 
المفاجئ في مواجهة جيش لم يهزم من قبل» تقدم مقاتلو جحافل الرومان 
إلى الأمام وبدؤوا بقذف رماحهم الخفيفة في أعقاب العدو الهارب. تهاوى 
المزيد والمزيد من المقاتلين القرطاجيين كالدمى المعطوبةء متدحرجين في 
الوادي؛ وكانوا یذبون ويزحفون ا ليموتوا بهدوء تحت بعض الأدغال 
أو بجانب أحد الصخور. بعد أن تم تطويقه من جميع الجهات» لم يستطع 
صدربعل فعل أي شيء لوقف الكارئة. إذا كان هناك من تعبير جامد خالياً 
من الخوف والرهبة» وحتى الأمل» ويظهر العزم فقطء أو ربما الاستسلام؛ 
فقد كان ذلك هو التعبير الذي بدا على وجه صدريعل بينما كان يشاهد النهاية 
الحتمية. لم يصب بأذى» وكان يجلس فوق صهوة جواده العظيم» عندما رأى 
الرجال الذين من حوله فجأة الحصان وهو يميل إلى الأمام. تمتم يصراخ 
وحشي وحطم رأس ضابط روماني (سانتوري) بشفرة سيفه. ثم طعن أحد 
الخيّالة بالقوة نفسها حتى إن سيفه اندفن في جسد ضحيته. رفع قدمه وركل 
خصمه إلى الوراء ليخرج النصل. كان المزيد من الفرسان الرومان يتحركون 
من حوله. كان يدور حول نفسه ورفع سيفه لدرء القادمين لطعنه. . لم يتمكن 
إا من جعل السيوف تنحرف قبل أن يدخل نصلها إلى صدره تماماً مثلما 
طعن صدربعل لتوّه» وسقط هو وعدوه وقد تشابك أحدهما بالآخرء على يعد 
ياردات من حافة الوادي. عندما حرمه القدر من كل الآمال في المستقبل» 
لسر ب اد ب الهزيمة الكاملة» قد يواجه مصيره 
ويعاني من شيء لا ب يستحق الذكر في تاريخه كقائد عسكري. .. وعندما خسر 
المعركة» اندفع صدربعل | إلى كتيبة رومانية» حيث سقط وهو يقاتل ببسالة» كما 
كان يليق بابن حملقار وشقيق هنيبعل»71. على طول شاطئ نهر میتوروس» 
وفي الوادي الذي وراءه» كانت المئات من النسور تحوم وسط حرارة ما بعد 
الظهر, في انتظار الانقضاض على ما تحتها وتناول وجبة شهية. 

أشعلت معركة ميتوروس المحرقة الجنائزية لحلم هنيبعل بالسيطرة 


4- عن المؤرخ بوليبيوس. 





-237- 


على إيطالياء أما قوات الإغاثة التي كان يعوّل عليها لتصل بحملته الإيطالية 
إلى نهاية ناجحة لم تعد موجودة. كان هنيبعل بمفرده» وهو يعلم أنه في 
النهاية سوف يخسر أمام القوات التي كانت تتجمع ضده. الرجل الذي 
كانت خطته هي جعل روما تركع على ركبتيها من خلال تطويق إيطالياء 
وجد نفسه محاصراً. ومما زاد من آلامهء أن الرومان وجدوا في بوبليوس 
كورنيليوس سكيبيو جنرالاً يملك مهاراته نفسها. 

كان الانتصار في معركة ميتوروس ذا أهمية كبيرة لأنه عكس الأدوار. من 
الآن فصاعداً سيتحول الرومان إلى الهجوم. في خريف عام 204 ق.م؛ نزل 
بوبليوس سكيبيو مع ثلاثين آلف جندي مدربين بشكل جيد في يوتيكاء وهو 
ميناء يقع على مقربة من قرطاج . هرع هانو أحد جنرالات هنيبعل» الذي قاتل 
ببسالة في معركة كاناي» إلى هناك بصحبة قوة صغيرة وقتل. قبل أن يتمكن 
سكيبيو من الاستفادة من هذا النصرء هدد جيش قرطاجي آخر خطوط 
اتصاله» وقرر إقامة معسكرات شتائية لمقاتليه. في الربيع التالي التقى مرة 
أخرى بالقائد القرطاجي صدربعل جيسكو. الجنرال الذي كان قد واجهه 
من قبل في مدينة إلبا الإسبانية وهزمه في معركة باغبارديس (سنة 203 ق.م). 
قبل ثلاثة ثة عشر عاماً كان هنيبعل عند بوابات روما ويوشك أن يقتحمها ؛ والآن 
أصبح سكيبيو فجأة عند بوابات قرطاج. بدأ أ الرومان في إتلاف الأراضي 
المحيطة بالمدينة المحصنة» قرر مجلس الشيوخ في قرطاج وقد تملكهم 
الذعر استدعاء هنيبعل. لم يكن الأمر مفاجثاً بالنسبة إلى سكيبيوء الذي بقي 
على اطلاع جيد بكل تحركات خصمه. 

في 23 حزيران عام 203 ق.م» أمر هنيبعل بقتل جميع خيوله وأفياله. 
وأبحر إلى موطنه مع الخمسة عشر ألف مقاتل الذين تبقوا معه. «أخيراً 
وصلت مسيرته الأسطورية» إلى نهايتهاء تلك المسيرة التي كانت بدأت 
من خلال التغلب على جبال الألب المغطاة بالثلوج وجعلت روما تركع 
على ركبتيها. . وفي النهاية لم تحسم شيئاً ولا فازت بشيء. 

لم تكن روما متأكدة من أنها ستربح حرباً طويلة على الأرض الإفريقية 

-238- 


وبالتالي عرضت إجراء محادثات سلام. وأرسلت المبعوثين إلى قرطاج. بدلاً 

من الحوار معهم؛ قادت قرطاج مبعوثي روما مباشرة إلى زنزانات السجن. لم 
ينتظر سكيبيو الحصول على دعم من مجلس الشيوخ عندما سار في المدينة 
على رأس جيش روماني قوي. تعالت الصيحات اهنيبعل ينقذنا!» لم يكن 
يفصل قرطاج عن الكارثة سوى عبقرية هنيبعل. لكن ذلك لم يعد كافياً .بات 
جيشه المنتصر شيئاً من الماضي؛ لم يعد بإمكانه الاعتماد على التفوق في عدد 
الفرسان» سلاحه الذي كان حاسماً في معركة كاناي توجّه هنييعل» الذي نزل 
بجيشه في مدينة هدرموتا (حالياً هي مديئة سوسة في تونس) وكان يعرف أن 
العمل الحاستم يجب القيام به في مملكة لوميدياء بمسيرة إلى عاضميها زاما 
(زاورين) في محاولة يائسة لمنع ما لم يعد من الممكن تأجيله. في 19 نيسان 
سنة 202 ق.م» التقى الجيشان عند بوابات مدينة زاماء في الوادي الذي يقع 
شرق ولاية سليانة. على الرغم من أن الجيشين كانا متقاربين عددياً تقريباء 
فقد ضح كل واحد منهم 35 ألف فرد. إلا أنها كانت المرة الأولى التي يتولى 
فيها هنيبعل قيادة قوة مكونة بشكل أساس من جنود مكلفين غير مدربين» 
كان الكو متهم من العنيد اللين ثم تجريرهي لخر قن شن ال . کان كل 
شيء يعتمد على الفيلة التي معه . وعلى الرغم من أنه كان لديه مائة منهاء وهو 
ما يمثل أكثر عدد من الفيلة سبق له أن امتلكه على الإطلاق» إلا أنها كانت 
جميعاً من الحيوانات اليافعة غير الداخلة في تجارب قتالية ومن دون تدريب 
مناسب. إذا تمكنت هذه الحيوانات المخيفة من إحداث الفوضى في صفوف 
القوات الرومانية» مع الاعتماد على قدامى المحاربين الليغوريين والغاليين 
البالغ عددهم 5 ألفا فسيوقف زحف سكيبيو إلى مسقط رأسه. 

لقد انتصر هنيبعل بمواجهات صعبة من قبل» لكنها كانت ضد قادة 
متواضعين. لكن هذه المرة كان يواجهه أفضل جنرال في روما. كان 
كلا الزعيمين يدركان أن نتيجة المعركة ستعتمد على سلاح الفرسان 
بالكامل» والآن فقط يمكن للرومان الاعتماد على حليف هنيبعل السابقء 
الفارس النوميدي الذي لا نظير له» الجنر ال ماسينيسا. كان قائداً بارعا 


-239- 


وكذلك هو حال فرسانه النوميديين. لذلك ابتكر هنيبعل خطة فيها بعض 
الأمل في النجاح. ولكونه كان يعتمد دائما في مناوراته التكتيكية على 
سلاح الفرسان المدرع والخفيف» لذلك كان من غير الحكمة تماماً أن 
يستخدمها كقوته الضاربة. وأمر قادة سلاح الفرسان الذي يتكون مقاتلوه 
من النوميديين والقرطاجيين بإبداء مقاومة بشكل بسيط ثم يستديروا 
ويتظاهروا بالفرار. وهذا من شأنه أن يسحب سلاح الفرسان الروماني 
بقيادة ليليوس وماسينيسا من مسرح القتال. 

خاطب هنيبعل قادته قائلاً: «سنهاجم قبل أن يكون سكيبيو قد اتخذ 
موضعاً له. أطلقوا جميع الأفيال والمحاربين القدامى في وقت واحد 
ليس لدينا سلاح الفرسان الذي يمكن أن يلتف على جناح الرومان». لقد 
تراجع عن المفهوم المقدوني القديم للصدمة من خلال تكوين حشد 
كبير؛ كتيبة بعمق ستة عشر رجلا مع عدم وجود ثغرات في الصفوف 
وعدم التخاذل في مقابلة هجوم الفرسان وجهاً لوجه. لقد ثبت ثبت أن الرماح 
الكثيرة قد تكون أكثر رعباً للحصان والفارس من رعب سلاح المرسان 
الذي يستخدم السيوف في مواجهة جندي المشاة المسلح بالرماح. 
كل هذا يتوقف الآن على سلوك فيلته. إذا خلقت ما يكفي من الفوضى 
في وحدات الجيش الروماني» عندها سيتمكن مع مقاتليه الليغوريين» 
والغاليين والأفارقة من سحق قلب الجيش الروماني ويحقق الانتصار. 

كان سكيبيو متفوقاً في إعداد التشكيلات» وكانت خطته للمعركة صورة 
طبق الأصل من تكتيك الكماشة (أو الطوق المزدوج) الذي استخدمه 
هنيبعل في معركة كاناي وكان يقول: لعجب علينا تدمير جناحيه قبل أن 
نتمكن من مهاجمة مركزه! لكن أولاُ يجب أن نوقف الأفيال». وضع 
سكيبيو مقاتلي الترياري في الوسط» ولكن خلف مقاتلي الفيليتس. ثم 
ابتكر طريقة ذكية لجعل الهجوم المتوقع من الفيلة أقل فعالية. قام بترتيب 
خطوط قوات مشاته الثلاثة ثة بشكل طوابير بدلاً من التشكيل المعتاد الذي 
يشبه رقعة الشطرنج المتداخلة. وهذا سيسمح بفتح ممرات يمكن أن تمر 

-240- 


فيها الفيلة المهاجمة. كان تحقيق المهمة الثانية أكثر صعوبة. كانت الفيلة 
سلاحاً ذا حدين. فهي تهاجم في خط مستقيم؛ ولكن إذا كان من الممكن 
تعريضها إلى أذى يكفي أن يجعلها تجفلء فلا يمكن التنبؤ بردود فعلها. 
كان الكثير يعتمد على سرعة تأثر جلد الفيل السميك والسيطرة الدقيقة 
على الفيل الضخم من قبل مدربه. تحقيقاً لهذه الغاية» تمّ تجهيز مقاتلي 
الفيليتس بعصي طويلة وسنانير خطف لإيقاع المدربين من فوق الفيلة التي 
يركبونهاء بالإضافة إلى رماح ذات نصال متعددة لتمزيق الأجزاء الأكثر 
تأثراً من أجساد الفيلة» مثل الجذع والجلد الناعم تحت ردفها. تمّ وضع 
سلاح الفرسان اللاتيني بقيادة لايليوس والنوميدي بقيادة ماسينيسا على 
الأجنحة لمنع مقاتليها من الهروب بواسطة الفيلة. 

«قبل حلول الظلام» سيعرفون ما إذا كانت روما أو قرطاج هي من ستفرض 
هيمنتها على الشعوب» ليس فقط في أفريقيا أو إيطالياء ولكن في العالم كله 
وهذه ستكون مكافأة هذا النصر... غرقت الأرض في أكوام من الدماء... 
وكلما كان الطرفان يتخطيان العقبات» يهاجم بعضهما البعض بأشد الأساليب 
شراسة... استمرت المعركة لفترة طويلة دون حسمء كان الرجال يسبب 
شجاعهم العنيدة يسقطون ميتين في مواقعهم دون أن يتزحزحوا خطو 26 

ارتفعت الشمس في السماء مثل كرة حمراء متوهجة» توعد بيو 
إفريقي حار. كانت الأشعة تنعكس من الدروع الفولاذية والخوذات 
البرونزية ورؤوس الرماح الحادة للغاية. من خلال غبار الصباح» شاهد 
كل من الطرفين بعضهما البعض عن كثب. انطلق فارس قرطاجي نحو 

احسناً»» وأشار إلى موضع في منتصف الطريق بين خطي القتال. 
اعند هذا التل». 

التقى الجنرالان العظيمان بدون أن يرافقهما أحد لأول مرة وجهاً لوجه. 
سكيبيو الشاب والعجوز هنيبعل» التلميذ الشاب اللامع والمعلم القديم. 


5 عن المؤرخ بوليبيوس. 





-241- 


لقد أرادت الآلهة أن أكون أناء القائد الذي د شن الحرب على أراضي 
روماء وأحرز النصر في أغلب الأحيان» من يمد يده لك طالبا الجادم, من 
بين جميع الجنرالات الرومانيين الذين قابلتهم منتصرأء فإنه لمن دواعي 
5 شرفك أنك جعلت هنيبعل يتخذ هذه الخطوة. يجب ألا نفقد إرادتنا في 
التفكير الهادئ. السلام المضمون أفضل من النصر غير المؤكد. 

كان سكيبيو يراقب القائد القرطاجي دون أن يظهر أي انفعال. لكن عيناه 
الزرقاوين الساطعتين تحدته وأظهرتا الإرادة والشجاعة والمثابرة. 

وتابع القائد القرطاجي: «أنا هنيبعل» أطلب منك السلام». 

رد سكيبيو أخيراًبصوت سيد لا يفاوض ولكن يملي الشروط فقط. 
آباؤنا لم يبدؤوا هذه الحرب» لم يغزوا وطنك. . أنت رجل شريف. لكن 
مجلس شيوخك غادر. كان أعضاؤه يتحدثون عن السلام ولكنهمٍ 
يستعدون للحرب . أنا أعرف جيداً قوة القدرء أيها القائد القرطاجيء تماماً 
كما أعرف أن كل شيء في المعركة متروك للصدفة . ليكن» دع الآلهة هي 
من تقر ر) 60 . لقد أطاع سكيبيو القاعدة القديمة التي ت تقول إن على المرء أن 
لا يساوم العدو في زمن الحرب. 

استدار كلاهما ببطء نحو خيولهما وعادا إلى خطوط قواتهما. 

لقد ضاع على هنيبعل عنصر المفاجأة عندما وجد أن قادة جيش سكيبيو 
قد اصطفوا بالفعل حسب الرتب» متخفين بواسطة صف رفيع من الرماة. 
كانت قواة المشاة القرطاجية المدرعة قد اتخذت مواقعها القتالية» ولكن 
لم يتم الإبلاغ عن أي اشتباكات كبرى حتى الآن» عدا بعض المناوشات 
المعتادة بين قوات صغيرة من سلاح الفرسان لكلا الجانبين. كان يتم 
تمييز أفراد قوات مشاة هنيبعل المدرعة (سكوتاري)» من خلال أرديتهم 
البيضاء الموشحة باللون البنفسجي» وقد تمّ تجميعهم في الوسطء وقد 
اصطدمت دروعهم البيضوية الطويلة بالأرض. عبر خطوط الجبهة» ركز 
هنيبعل كل فيلته. . وسار ممتطياً جواده برفقة جنرالاته» على طول خط 





.M. Jelusich, Hannibal, Vienna, 1934 عاله)‎ Titus ااvاuو( عن:‎ --6 


-242- 


القتال وتوقف عند مرتفع صغير وبصوت تردد صداه بشكل يناقض حجم 
جسمه الصغير صرخ قائلاً: «يا رجال قرطاج» لقد كللتم أنفسكم بالمجد 
الأبدي في العديد من المعارك التي خضتموها... في أراضي العدو. الآن 
يجب أن تفعلوا الشيء نفسه عند أبواب مديتتكم الحبيبة. أنتم ولا غيركم 
حماة قرطاج. لقد حان الوقت الآن لكي نظهر للرومان قوة سيوفنا». 
ارتفعت الأصوات العالية للمقاتلين وهم يحيّون زعيمهم المحبوب. 





-243- 


درس سكيبيو طريقة اصطفاف عدوه. لقد كان على وشك مخاطبة 
قواته» لإشعال حماسهم الوطني وتحفيز كراهيتهم للعدو. ولكن بعد ذلك 
حدث شىء ما أبطل خططه المدروسة جيداً. اندفعت مجموعة صغيرة 
من الأفارقة الذين تمرسوا في القتال وقد ألهب حماسها خطاب هنيبعلء 
ودخلت في مناوشة مع مجموعة من المقاتلين الهاستاتي”” الرومانء 
وقبل أن يكون بالإمكان إخماد نيران هذه الحادثة الصغيرة اتسعت رقعتها 
لتتحول إلى واحدة من حرائق الغابات العادية. استمرت المعركة. تم 
التخلى عن الخطط التى وضعها الزعيمان بسبب الشرارة المفاجئة التي 
أشعلت العاصفة ونشرت النيران والدم والموت في جميع أنحاء ميدان 
المعركة. كانت حرارة الشمس شديدة بشكل لا يطاق عندما ظهرت 
عشرات الآلاف من الشخوص التي تحتمي بدروع فولاذية وقد كانت 
كأنها ميتة وعادت لتوها إلى الحياة وتقدمت بسرعة نحو بعضها البعض. 
لم يعد هناك شيء يمكن أن يوقفها الآن. أصبح ميدان المعركة مثل إفريز 
متنوع الألوان حيث كانت كل فرقة وكل وحدة من المشاة تندفع إلى 
الأمام» وقد طليت دروع مقاتليها بألوان زاهية لتمييز كل وحدة على حدة. 
لم يكن ما يجري أحداث قصة خيالية. هؤلاء الرجال كانوا أحياء» يتنفسون 
وعلى وشك الوقوع فوق بعضهم البعض وسط قتال مميت. كل من كان 
يقع يلقى حتفه بعد أن تجرّه حشود المقاتلين المتتابعة وتدوسه بأقدامها. 

صدرت الأوامر للرومان «اهجموا بسلاح الفرسان!». فخرج من 
بين كتائب مشاة الرومان (فلانكس) المتواجدة فى أحد أجنحة الفرسان 
النوميديين بقيادة ماسينيسا. لكن تمّ اعتراضهم على الفور من قبل هجوم 
ممائل من سلاح الفرسان بقيادة هنيبعل. لكن يبدو أن رجال ماسيئيسا 
فازوا في السباق. فقد كان متسابقوه أسرع قليلاً» أو ربما كانوا محظوظين 
في اختبارهم للتضاريس» وسددوا ضربة جانبية إلى فرسان قرطاجنة 





7- 9 5 . ]7 4 0 ا 0 ١‏ 
E‏ جنود المشاة في جيوش الجمهورية الرومانية الأولىء كانوا بالاصل 
يقاتلون بالرماح ثم استبدلوها لاحقاً بالسيوف. المترجم. 


-244- 


النوميديين. نشبت معركة و بين «الأخوة الأعداء». لم يكن 
فرسان ماسيئيسا متفوقين عددياً فحسب» لكن القدرة القتالية لقواته 
كانت قد تصاعدت على يد هنيبعل نفسه ووصلت إلى حد الكمال من 
خلال المعارك الكثيرة التي خاضها من هسبانيا إلى كاناي. أصبحوا 
يستخدمون الآن خبرتهم ضد قائدهم الميداني السابق. في غضون دقائق؛ 
قاموا بتشتيت فرسان هنيبعل وأجبروهم على الفرار. فبدلاً من التوجه 
نكو ارداقكر و ا ا و 
لإخوتهم الأعداء في الميدان» ولم يشركهم حينها في المعركة مع جنود 
مشاة سكيبيو. حدثت المعركة نفسها تقريباً على الجناح الآخر» حيث 
قاتل الفرسان اللاتينيون بقيادة لايليوس وطاردوا مقاتلي سلاح الفرسان 
القرطاجيين» ثم تركوا سكيبيو وقد فقد فرسانه الذين لا يقدرون بثمن. 
بإشارة من هنيبعل» جعل سيد الفيلة وحوشه الرمادية الضخمة تتقدم 
إلى الأمام بقوة ماحقة تسحق كل من يعترض سبيلها. . ورغم | أنهم لم يكونوا 
00 من قبل لكن الرومان الآن ابتكروا عنصراً جديداً: شطر 
ئب المشاة لفتح ممرات في وسطها. وباستخدام الحراب والرماح» 
" مقاتلو الجحافل بدفع الأفيال إلى دخول هذه الممرات المفتوحة؛ 
كان الجنود الفيليتس الرشيقون يتراكضون إلى جاتب الفيلة وهي تدوس 
الأرض بأقدامها الثقيلة» وقد تمزقت جذوعها برماح منجلية طويلة من 
نوع خاص. و صبح الجنود مأخوذين بلعبتهم القاتلة بحيث وقع عدد 
ا o GS‏ 
الابتعاد عن طريقه بسرعة كافية» فإنه سيسحقهم مل الخنافس. فيما قفز 
آخرون واتخذوا أماكن مميزة لهم» وحين كانت كتل من اللحم التي تهاجم 
تجتازهم» كانت الرماح تطعنها في ار دافها. لکن لم يكن هناك شيء يبدو 
قادرا على إيقاف الفيلة؛ فلم تفعل الرماح المنجلية سوى زيادة هيجان 
تلك الحيوانات المتوحشة. طغت أصوات صياح الفيلة المرتفعة على 
صرخات الرعب وهي تقوم بقتل الرومان بشكل جماعي» مخلفة وراءها 
-245- 


أعداداً من الجنود الموتى والمحتضرين. وفي أعقاب تلك الوحوش 
المخيفة» وصل قدامى المحاربين في جيش هنيبعل» متقدمين بخطوات 
متأنية» ورماحهم تتصادم بدروعهم تصحبها صرخات الفيلة المزعجة. عند 
ستين قدماً من خط قتال العدو» توقفوا فجأة» ومن خلال بعض الثغرات 
فى الخطوط القتالية» قاموا بتمزيق أجساد الرجال برماحهم. سددوا 
وابلاً منها على خطوط العدو ثم تراجعوا بسرعة قبل أن يتقدم المقاتلون 
المدرعون» وهم يصرخون بحناجرهم الخشنة الصوت. وسط ضجيج 
هائل» انسحق الجداران المدرعان وهما يصطدمان ببعضهما البعض. 
ثم بات يسمع صوت ارتطام الفولاذ وأزيز السهام وهي تطير في الهواء. 
تشظى الإفريز الموحد الألوان إلى جزر صغيرة بألوان مختلفة. لم يكن 
بإمكان أحد الهروب من جحيم الصراخ والألم والدم. صنعت صرخات 
الجرحى وأصوات المزامير الصاخبة موسيقى مرعبة. تحت قيادة هنيبعل 
الملهمة» شتت كتائب المشاة القرطاجية العنيدة هجومها بصلابة وقوة 
شديدة. كانوا أكثر شراسة وتعطشاً للدماء من الرومان ووضعوا أنفسهم 
في مواجهة مقاتلين من الصنف الأول في جحافل الرومان وهم الهاستي 
واشتبكوا معهم بقتال شرس ودموي. استسلمت الصفوف الأولى من 
الرومان تحت ضغط هجوم الفيلة الوحشي» والضربات المتتالية التي 
تعرضوا إليها على يد المحاربين الغاليين الشرسين» وقد اختلطت كميات 
هائلة من اللحوم والبرونز والفولاذ مع بخضها. بدأت تشكيلات سكيبيو 
القتالية بالانهيار؛ وبدا جنود مشاتها مرهقين وأصابهم الإجهاد فلم 
يعودوا قادرين على التماسك على الأرض الجافة. انهار مركز القوات من 
الداخل. هوجم مقاتلو الفيليتس وتم ذبحهم. تناقص جدار الدرع المكوّن 
من عشرة أشخاص إلى خمسة: ثم ثلاثة» ثم أصبح مجرد ثقب. تدفقت 
أغداد من الليخوريين والغاليين بشكل اکر من أي وقت مضى می غنول 
ار للقتال عن قريب مع مقاتلي العرياريس .ار تفي مار يات الع 
من الجيوب القتالية لمحاربي الفيليتس التي تعرّضت لضربات مروعة. 
-246- 


هكذا تقرر مصير قرطاج. لقد كان حادثاً بسيطاً ولكنه حاسمء ولم 
يستطع أحد تقديم وصف واضح لكيفية حدوثه. ما كان مؤكداً للغاية 
هو التالي: نجح أحد المقاتلين الفيليتس في أن يغرز رمحه الطويل في 
المؤخرة الناعمة لفيل شرس وكبير الحجم؛ رفع الحيوان المبتلى بالألم 
أرجله الأمامية واستند على رجليه الخلفيتين وأوقع سائسه عن ظهره 
قبل أن يستدير ويتوجه مباشرة إلى الوراء نحو الطريق الذي جاء منه. 
لا بد أن يكون هذا الفيل هو من قاد عملية التراجع» خيث قامت نصف 
دزينة من الوحوش المجنونة وبسرعة فائقة بتقليد ما فعله؛ ومع رفع 
جذوعها وبسطها آذانها إلى أوسع مدى» تراجعت إلى خط القرطاجيين 
المتقدمين وقامت بتشتيت خطوط هنيبعل التي تضمٌ المحاربين القدامى» 
تاركة وراءها أكواماً من الجثث المسحوقة بأقدامها. أعطى الصوت 
العالي لنهيم الفيل الهارب إشارة للقطيع بأكمله» والذي خرج عن نطاق 
السيطرة في خضم أتون المعركة. وسط هذا المرجل الفوار من السحق 
بأقدام الفيلة ومن ثم الموت» ألقى المقاتلون أسلحتهم للفرار من النهيم 
المجنون للفيلة التي استدارت نحوهم. غمرت سحابة ضخمة من الغبار 
وغطت بشكل مناسب مشهد الجنون هذا؛ وتلاشت صرخات العذاب 
بسبب الأصوات الصاخبة لنهيم الوحوش المجنونة. لم يكن هناك ناجون 
أعادوا سرد قصة هذه اللحظات الرهيبة؛ أولئك الذين تمكنوا من الفرار 
تحولوا إلى أشخاص مجانين من هول ما شاهدوه. 

مستغلاً هذه الفوضى فى كتائب مشاة عدوه» أمر سكيبيو على الفور ما 
تبقى من قوات احتياطية من مقاتلي البرينسيبس والهاستاتي بمهاجمة قلب 
قوات القرطاجيين. أصبح مقاتلو الهاستاتي متورطين بشكل لا فكاك منه 
في القتال عن قرب ولم يعد بإمكانهم أن يحققوا أي تقدم ضد المحاربين 
القدامى المتماسكين بقيادة هنيبعل. وفي لحظة يقشعر لها البدن كان كل 
شيء معلقاً بشعرة. على الرغم من ضغوط مقاتلي سكيبيو في الصف 
الثالث الترياريء إلا أن هنيبعل كان ما زال بإمكانه تحقيق النصر لو كان 

-247- 


الأمر مجرد حركة لقوات المشاة. لكن هذه لم تكن معركة كاناي. ولم يكن 
معه ماجو شقيقه والفارس الشجاع المسؤول عن القرطاجيين والنوميديين 
ليساعده في حسم النتيجة. . في اليوم نفسه الذي كان يتم فيه تدمير سلاح 
الفرسان التابع لهنيبعل في صقلية» أنزل المقاتلون النوميديون ماجو عن 
ظهر حصانه وقاموا بقتله. كلاء» كانت هذه معركة زاما؛ وكان ماسينيسا 
القائد النوميدي الشرس قد غيّر وجهة ولائه. . ولكن أين كان ماسينيسا؟ 
بعد الاشتباك الأولي؛ كان فرسان هنيبعل يفرّون من النوميديين بقيادة 
ماسينيسا الذين كانوا يطاردونهم حتى أصبحت كلتا المجموعتين بعيدتين 
عن مرمى بصر من كان في ساحة المعركة. .عانى سكيبيو من مأزق كبير بعد 
اختفاء مقاتليه في سلاح الفرسان بسرعة. . لم يكن لديه وقت ليخسره ه. كان 

من الضروري حمل ماسينيسا على مهاجمة مؤخرة القرطاجيين. كما أن 
قيام الفرسان بشن هجوم مركز سينهي هنيبعل بسرعة أكبر من من أي قدر من 
البطولة يقوم بها المقاتلون الرومان الترياري. . وفي حين يم أن مشاة سكيبيو 
فشلوا في اختراق الخطوط التي يقاتل فيها المحاربون القدامى من جيش 
هنيبعل» وأ صبح القرطاجيون متفوقين مرة أخرىء فقد قام بإرسال اثنين من 
الرسل يسابقان الريح بفرسيهما ليلحقا بماسينيسا ويسلماه أمراً بالالتفاف. 

نظر هنيبعل بتقدير كبير إلى المشاعر الوطنية العالية التي دفعت برجاله 
لأن بحرا با رو جم هن أجل ال وطن لقد كانو] شون قدما لان ورا 
به. وكان يشعر أنهم سينجحون في ذلك وسط تسارع خطواتهم. وحينها 
بدأ سكيبيو يتعرض لضغوط شديدة. كان قدامى المحاربين من مقاتلي 
هنيبعل قد اقتحموا خطوط قواته وبدؤوا يطوّقون مواضعها الخلفية. 
اندفعت نحو الرومان حشود من القرطاجيين المسعورين» وهم يسدّدون 
ضرباتهم بغضب شديد نحو جدار الصد المدرع» عندما وصلته أصوات 
حوافر الخيل وهي تدوي مثل الطبل بجنون غريب. عندما نظر هنيبعل إلى 
الوراء» لم يكن بائساً بل مهتاجاًء وشاعراً بغضب العاجز. فقد طعنه ذلك 
الوضيع ماسينيساء الذي رفعه إلى مصاف العظماء؛ فى الظهر... 

-248- 


أطلق ماسينيسا فرسانه النوميديين باتجاه حاجز الرماح المسننة» التي 
نصبها على عجل قدامى المحاربين القرطاجيين المتفاجئين. .دع فرسانه 
لزاع انا ورا جامايهاءنىداخل المرجل اشرت الا 
وقد تكذست في ممرات الهروب جثث المتحاربين. وقف الليغوريون 
وراء أكوام الموتى متأهبين لمواجهة الهجوم؛ سرعان ما تمّ الضغط 
عليهم فأصبحوا يقتربون من بعضهم البعض بحيث لم يعد بإمكانهم 
استخدام أسلحتهم. كان النوميديون يضغطون عليهم» مما تسب لهم 
بخسائر فادحة. ذبح مقاتلو هنيبعل حيثما وجدوا . وقام الفرسان -الذين 
دمروا جحافل روما نفسهم في معركة كاناي» ثم تحولوا إلى حلفاء 
لروما- بتنفيذ الضربة القاتلة في معركة زاما. 

قاد هنيبعل حصانه ببطء وتوجه به نحو قرطاج. كانت معركة زاما نهاية 
حلم طويل. ٠‏ 
جلس سكيبيو على حصانه» وقد زمٌ شفتيه. كان يعتقد أنه سيستمتع 
بمشاهدة أولئك الذين دمروا فخر روما في معركة كاناي وهم يسقطون 
صرعى. لكنه لم يشعر بالبهجة. كان عليه أن يوقف المذبحة ويعطي 
القرطاجيين فرصة الاستسلام المشرف. وحسب طريقة تفكيره 
الأرستقراطية فإنه ليس من النبل قتل عدو لم يعد يستطيع الدفاع عن 
نفسه . كان لا بد من رعاية الجرحىء وبتر الأطراف المصابة» وكي 
الجروح. أما أولئك الذين تعرضوا للطعن أو مزقتهم السيوف دون أن 
يكون هناك أمل في شفائهم فيجب أن يوضع حدٌ لمعاناتهم. . كان لا بد 
من تجميع الخيول السائبة» وأن تحصى أعداد الموتى. . تنائرت الآلاف 
من الجثث على رمال مدينة زاماء وقد تجعدت» سيقانها ملتوية بشكل 
غريب» وعيونها المعتمة تحدق في الموت. رفرفت الغربان من فوق 
جثة إلى أخرى. سقط من الجانب الروماني ألف وخمسمائة قتيل» ومن 
القرطاجيين أكثر من عشرين ألفاًة0. 


8- عن المؤرخ بوليبيوس. 





-249- 


7 ق مختلفة. اشتعل الغضب في بعضهم إلى 

لي ا لسو ا 
حد جعلهم يقتلون a‏ ا سكيبيو حصانه وغادر 
ا 0 بيطا لدم كانت آخر أوامره تتعلق 
الميدان» كان رومانياً ولیس بربرد ا 
بالموتى: «أقيموا المحرقة الجنائزية واحرقوا فيها جثث الدي 

«وماذا عن القرطاجيين؟» 

«لقد قاتلوا مثل الأبطال» الجميع سواسية عند الموت». 

ا لسكيبيو» فقد تحقق الانتصار بشق الأنفس. هنيبعل خسر 
أيضاًء ولكن ليس كثيراً. حادثة واحدة أحدثت فر قا. في النهايةء توج المعلم 
العجوز مآثره من خلال إعطاء منافسه الشاب درساً في التكتيكات. كانت 
محاولة سحب الفرسان النوميديين من الميدان من خلال عملية انسحاب 
مفبركة فكرة عبقرية خالصة. وقد نجحت تقريباً. ولولا تدخل ماسينيسا 
في اللحظة الأخيرة» لكانت نتيجة المعركة قد ذهبت لصالح هنيبعل. على 
المدى البعيدء أنقذت المعركة التي كان على وشك أن ينتصر فيها مديتته 
حثت الرومان على السعي لتحقيق السلام. وتماماً مثلما لم يتمكن 
هنيبعل من التغلب على روما عن طريق القوة» امتنع سكيبيو عن مهاجمة 
قرطاج المحصنة؛ وتم التوصل إلى سلام هش. 

على الرغم من اعتراضات كير هانو التي كانت تعادي هنيبعل» 
اختاره أهالي قرطاج تجاكماً ديا لهم. ف فى السنوات التي تلت ذلك» 
حاول هذا القرطاجي المخلص عبثاً التغلب على الفساد والظلم الذي 
ابتليت به المدينة. . بقي مستقيماً حتى عندما شوه أعداؤه سمعته. وجاءت 
نهايته كما تنبأ العراف» عندما تحوّل الغوغاء عن الرجال الصالحين 
والطيبين ثم جرجروا أنبياءهم | إلى مذبح القرابين. . مالم تستطع أن تحققه ا 
اه لروماية لأ فمله معارضوه الذين كانت تأكلهم الغيرة من 
خانه أهله . أبناء قرطاج الغادرة! تعاون ن أعضاء مجلس الشيوخ مع روما 
لتسليمه؛ معتقدين أن هذا من شأنه أن ينقذ رقابهم. وهرباً من الإهانة فر 

-250- 


هنيبعل على متن سفينة. طارده الرومان في جميع أنحاء الشرق الأوسط 
بأكمله إلى الأناضول» حيث حصل على حماية بروسياس ملك بيثينيا9©. 
لم يكن ذلك بلا مقابل كانت بيثينيا تخوض حرباً ضد جارتها مملكة 
بيرغامون. كانت قضية السيطرة على المضائق الحيوية الممتدة من البحر 
الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط على المحك. لعب هنيبعل دوراً 
مهماً في انتصار البيثنيين البحري عندما جعلهم يملؤون الجرار الفخارية 
بالأفاعي السامة ومن ثم ألقوها على سفن أعدائهم. 

أما بالنسبة إلى عدوه» سكيبيو الإفريقى فقد كان يركز على استعداداته 
للققاك عيدما شعنت روما هرما عند اط ر افا ماك ورا 
السلوقية. في أوائل عام 192 ق.م» عبر سكيبيو نهر هيلسبونت وغزا 
سوريا. قبل أن يحين وقت المعركةء أصيب سكيبيو بالمرض واضطر إلى 
التخلي عن القيادة إلى غناس دوميتيوس (قنصل ماغنيسيا سنة 190 ق.م). 
كانت الاستراتيجية التي انتصرت قد وضعها سكيبيو بالكامل. ولكن 
تآ الصو إلى ور او يفكن عة هة الحرب لولم 
تشهد حدثا تاريخيا حقيقيا. التقى هنيبعل برقا والقائد الإفريقي بابليوس 
كورنيليوس سكيبيو للمرة الأخيرة. سجل المؤرخون المعاصرون تفاصيل 
لقائهم وحددوا مكانه في مدينة أفسس عام 192 ق.م. 

سكيبيو الإفريقي: «من هو القائد الذي تعتبره يمتلك أعظم عبقرية 
عسكرية؟). 

هنيبعل: «الإسكندر المقدوني). 
«وفي المركز الثاني؟) 
«بيروس الويبيري). 
إذاء من الذي ستضعه في المركز الثالث؟» 
ومن دون تفكير» أجاب هنيبعل: «أنا! عندما كنت شاباً» غزوت إيبيريا. 





9- تقع مملكة بيثينيا بين البحر الأسود وبحر مرمرة. 


-251- 


كنت أول من يعبر جبال الألب بعد هرقل. ثم انتقلت إلى إيطاليا ولم يكن 
لدى أحدكم الشجاعة لمواجهتي بينما أحرقت 0 مدينة من مدنكم 
وحتى هددت روما نفسها؛ وكل ذلك دون أدنى مساعدة من قرطاج)40. 

فكر سكيبيو قليلآ» ثم قال: «لكن ما هو المركز الذي ستعطيه لنفسك 
لو لم أهزمك في معركة زاما؟». 

«حسناً» في هذه الحالة كنت سأضع نفسي قبل الإسكندر). 

eT‏ الذي بات يعرف الآن باسم الرائد الإفريقي» إلى روما. 
وبسب الوهن الذي أصابه بسبب التقدم في العمر والمرض» لم يعد 
المحارب الأشيب ذا فائدة. اتهمه أعداؤه في مجلس الشيوخ بالاختلاس. 
كانت التهمة باطلة» لكن عار خيانة شعبة له دفعه إلى التقاعد الطوعي. 
تمّ محو كل ما تبقى من أشياء تشير إلى إنجازاته الشخصية. وشمل ذلك 
علامات انتصاره في معركة زاما. 

وجه بروسياس ملك بريثنيا سؤالاً إلى هنيبعل عن الرجل الذي و 
فى المعركة: «لقد تمّت الإطاحة بسكيبيو. هل يجعلك هذا سعيذا؟). 
لمانا يعفاي عا لق كان الروماني اترا الذي ا 


الاحترام»). 
«كم أنت غريب يا هنيبعل يبدو أنه يجب على المرء أن يهزمك ليكسب 
احترامك). 


في سنة 183 ق.م» نجحت روما أخيراً فى الوصول إلى هنيبعل. 
في صفقة سياسية مشبوهة» وعد القنصل الروماني فلامينينوس الملك 
بروسياس أن تقدم روما مساعدة عسكرية له فی حرب مملكته بيئينيا 
المستمرة ضد مملكة بيرغامون. لم يكن الثمن أقل من رأس هنيبعل. 

أجاب الملك بروسياس (إنه ضيفى» وحياة الضيف مقدسة». 

«والمساعدة التى طلبتها؟» 


<A. Mûller, )0 عطعة رموه‎ zur Woeltgeschichte, Stuttgart, 1965 : ر اجع‎ -40 





-252- 


اوهذا يقوذنا إلى جوهر القضية! هل يليق بي أناء أقوى الملوك؛ أن 
أطلب معروفاً من شخص من عامة الناس!). 

بدا فلامينيوس غاضباً. «أنا لست من عامة الناس! أنا قنصل روما». 

تراجع براسيوس الماكر عن كلامه بسرعة: «فليكن. سأمنع هنيبعل من 
عبور حدود بلادي». 

«أيها الملك» أنت تمنح شيئاً كانت روما قد حققته بالفعل بقوة سلاحها. 
كلاء يتوقع منك مجلس الشيوخ أن تقدم لهم دليلاً على أن تملك ما هو أكثر 
من مجرد الفائدة التي تفكر بها. إنهم يطالبون برأس هنيبعل». 

«وما هو الثمن الذي ترغب روما في دفعه مقابل ذلك؟ أبناء شعبي 
يحبون هنيبعل. فإذا خنته» فقد يخونوني). 

«في اليوم الذي تسلم فيه هنيبعل» ستدفع روما دينها». 

إنها روما الغادرة... أثناء معركة مغنيسياء كان دور سلاح الفرسان 
لمملكة بيرغامون فعَالاً في مساعدتهم على هزيمة الملك أنطوخيوس 
ملك سورياء والآن يبيعون صداقتهم مقابل رأس رجل واحد. وهكذا 
كان. بمجرد أن تغلبت السياسة الواقعية على الشرف» تقرر مصير هتيبعل. 

في صباح اليوم التالي استيقظ القائد القرطاجني ليكتشف أن مقر 
إقامته في مدينة ليبيسة (جبزى) كان محاطاً بالجنود» وأن جميع المخارج 
كانت مغلقة وأن مضيفه كان يستعد لتسليمه إلى القنصل الروماني. وصل 
هنيبعل» الذي كانت تعذبه شكوكه الذاتية وكبر سنه حيث تعدى عمره ما 
بعد الأربع والستين سنة» إلى نهاية مسيرته الأسطورية الطويلة. ولكن في 
NEN EEE‏ 
عظمى في العصور القديمة لسنوات عديدة. بدا أن هنيبعل العظيم كان 
يخرج من قبره بقدر ما كان يستعد للنزول فيه. رأى الأشباح في انتظاره؛ 
غرق والده فى الطوفان» وإخوانه ذاهبون إلى الموت في المعركة. كان 
ندر آناء برقا أن لآ يموتزامينة ی و الان جا دورو 

يا آلهة الانتقام» أدعوكم لتشهدوا على مقتل شخص حل ضيفاً ومعاقبة 

-253- 


من تسبب في وفاة رجل أعزل. اللعنة على ملك بيثينيا الذي خان ضيفه. 
وليحل الدمار بروما. 

شعر الضابط الروماني الشاب المكلف بمهمة القبض عليه بالرهبة في 
حضرة أعظم الأعداء الذين واجهتهم بلاده على الإطلاق فخاطبه قائلا: 
«(هنيبعل العظيم» »لا ترحل وشفتاك تتمتمان باللعنات. اذهب بسلام». 

(السلام» يأ بني» لم أعرفه أبداً. لشن الأمر بيدي» طالما أني أتنفس 
فإن هناك عهداً يعيش معي أخذته على نفسي وأنا طفل. لكن كل هذا يبدو 
شيئاً من الماضي. فالعشب ينمو فوق ميادين قتالنا. لقد تولى جيل جديد 
الأمور» سيت نسيان كل شيء قريباً. . سوف تصبح أسماؤنا هي الغبار الذي 
تذروه الرياح» . ما كان بالإمكان تصور أن هنيبعل سيكون مخطباً إلى هذا 
الحد. على العكس ففي الألفيات القادمة» سيرتبط اسم هنيبعل بالعظمة» 
وسيكون الرمز الخالد للشجاعة والعبقرية. 

لم تكن هناك جرأة أكبر من جرأة ملامحه؛ ولا أكثر تحدياً من النظرة 
التي ارتسمت على وجهه لحظة رفع كأس السم إلى شفتيه» وشربه. كان 
موته الذي اختاره بنفسه آخر ما فعله فى ازدرائه للمحن» والإيماءة الأخيرة 
للصدق أمام نفسه والتاريخ. ۰ 

عندما وصل الخبر إلى سكيبيو الإفريقي» نظر إلى السماء قائلاً: «أنا 
حزين على الرجل» وليس على القرطاجيين». وقد أشاد شعب قرطاج 
وروما بشجاعة هنيبعل الهائلة. حملت تابوته مفرزة من الجنود الرومان 
وتم دفنه ليرقد بسلام بكل إجلال واحترام في ضريح من الرخام في مدينة 
ر کا على ی بغز و ون ب وكسينيوس (البحر الأسود). 

قشت مقولة سكيبيو على شاهد قبر القائد القرطاجي العظيم: «أيها 
الوطن الناكر للجميل! أنت لا تستحق حتى عظامي». لد بقيت شاهدة 
قبره شاخصة لأكثر من ألف عام قبل أن يدمرها الأتراك الغاضبون. 

إنها واحدة من المفارقات العظيمة أن يتشارك رجلان عظيمان» 
وعملا قان حفيقيان من بين القادة العسكريين على مر التاريخ» المصير ذاته 

-254- 


تقريباً. أصبح سكيبيو» ؛ الذي كانت المواكب تسير تكريماً له» وهتف له 
آلاف الأفر اد بصفته منقذاً لروماء وهو يرتقي درجات المنتدى مزيئاً بأكاليل 
النصر ومنحه مجلس الشيوخ في روما لقب الشرف «الإفريقي الأكبر»؛ 
شخصاً منبوذا» يعيش سنواته الأخيرة في عزلة في أملاكه في نابولي. 

عاش القائد الروماني بعد منافسه القرطاجي لمدة ثلاثة أشهر فقط. 
ومثل هنيبعل» » مات بوبليوس كورنيليوس سكيبيو الإفريقي الأكبر وحيداً. 
«أريد أن يتذكر الناس ما فعلته وما حاربت من أجله. .. لا أكثر ولا أقل». 
وقد منحه التاريخ أمنيته الأخيرة. 

أما بالنسبة لقرطاج» فإن غدرها لم يستطع أن يحافظ عليها. تم تدمير 
المدينة بعد مرور سبع وثلاثين سنة على موت هنيبعل. . كانت نهايتها 
سريعة بقدر ما كانت وحشية . فقّد سادت الكراهية. أثار كاتوء زعيم أغلبية 
مجلس الشيوخ» مشاعر أعضاء المجلس حين خاطبهم قائلاً: 

«أنا أؤمن إيمانا قوياً بضرورة تدمير قرطاج». 

لو كان مستشار هنيبعل الحكيم قد تغلب على مجلس الشيوخ الفاسد 
والضعيف» لكانت قرطاج قد نجت من نوبة الإرهاب الأخيرة. ولكن 
ذهبت تلك الأيام التي كان فيها هنيبعل ذو الشخصية الجذابة لهم الرجال 
على التطوع للقتال من أجل إنقاذ بلادهم. وقد جعلها خوف وضعف 
تجارها الأثرياء وحكامها مكشوفة للأعداء بلا رحمة. طلبت روما أن 
يتوجه سكان قرطاج بعيداً عن الشاطيع ويتركوا المدينة» وهذا الإنذار 
النهائي وجُهه السناتور ماغنوس بورسيوس كاتو الذي كان یکره قرطاج. 
قام حفيد سكيبيو الإفريقي وهو في الأصل ابن صديقه باولوس وقام هو 
ني وأصبح اسمه بوبليوس سكيبيو أميليانوس بعبور البحر ليغرض 
حصاراً على قرطاج. ظلت المدينة معزولة عن كل مساعدة خارجية 
لعدة أسابيع من خلال طوق من الجحافل الرومانية. أهلكها الجوع 
والأمراض المعدية. توفي تسعة أعشار سکانها وواجه الباقون احتمال 
لفرت سيوف ومان في سنة 147 ق.م» وفي المساء قبل أن يستعد 


-255- 


سكيبيو أميليانوس لهجومه الأخير» قام بتجميع جيشه وقام بترديد تعويذة 
0 مناه ه“» داعياً آلهة الجحيم إلى معاقبة أعداء روما. 
شتتيهم إلى الأبد» انشري بذور الخوف والرعب في بلدة قرطاج 
و 0 أدعوه باسمه الحقيقي. واجعلي أولئك الذين يحملون 
السلاح ويطلقون رماحهم ضد جحافلنا وجيشناء يختفون» واسلبي النور 
من هذا الجيش» وهؤلاء الأعداء» ورجالهم في المدن» وحقولهم وجميع 
سكان هذه المناطق)20». بعد ما يقرب من سبعين سنة من ذلك اليوم؛ كان 
المنتقمون للهزيمة في معركة كاناي جاهزين» وعيونهم مليئة بالكراهية. 
كان الوقت عند الظهيرة» وكانت المدينة ترقد ميتة بلا ظل عندما 
تسلق الجيش الروماني أسوار المدينة وشرع في القتل في الشوارع. في 
المرحلة الأخيرة من الحصار» حاول سكيبيو أميليانوس إظهار بعضٍ من 
نبل ذلك الرجل الذي سمي على اسمهء سكيبيو الإفريقي» لكن مجلس 
شيوخه أصدر تعليمات صارمة بتدمير المدينة. حول الروعان لؤلؤة البحر 
الأبيض المتوسط إلى مدينة أشباح» خاوية بلا حياة» ليس فيها سوى أكوام 
من الركام تشير إلى المكان الذي كانت تنتصب فيه بيوت الأرثوذكس 
ذات يوم. وقد رقد أصحابها تحت أكوام من الحجارة والأخشاب تبعث 
على الحزن» أولئك الذين خانوا هنيبعل. ظلت المدينة تحترق لسبعة 
عشر يوماً. بعد ذلك قامت جحافل روما برش الملح فوق الأرض لجعل 
تربتها غير صالحة للزراعة. لم يحدث أي تدمير مشابه لمدينة كبرى لا 
قبل ذلك التاريخ ولا بعده» بما في ذلك الدمار الناجم عن القنابل الذرية» 
لم يشهد أي مكان ولو بشكل تقريبي ما حدث لقرطاج. اختفت كما لو 
أنها لم تكن موجودة. 
1- باللاتينية في الأصل. المترجم. 
2- الديفيتو 0070110 أصلها من كلمة ديفيتورا ١١۷0ء‏ اللاتينية وتعنى إلقاء تعويذة 


شريرة ذكر نصها الكاتب ماكروبيوس ممثل القنصل في أفريقيا في كتابه عبد الال 
تورن 





-256- 


لقد رك الأمر لنظرة يوليوس قيصر الجيوسياسية للتعرف على موقعها 
بسبب أهميتها الاستراتيجية والتجارية. في سنة 46 ق.م وضع الأساس 
لبناء مدينة قرطاج جديدة. حلت الأعمدة والمدرجات الرومانية محل 
معبد الإله بعل» وكانت اللغة السائدة هي اللاتينية. 

بعد اغتيال قيصرء أكمل القيصر أوكتافيوس عمل عمه» وباعتباره 
الإمبراطور أغسطسء فرض «باكس رومانا أو السلام الروماني «الخاص 
به“ على عالم العصور القديمة» وهو أمر أصبح ممكناً حينها بفضل 
اختفاء أكبر منافسي روما في البحر المتوسط. 

كان حسم قرار من يجب أن يحكم العالم القديم هو قصة معركتين. 

الأولى هي معركة كاناي» التي خطط لها رجل واحدء ونفذها رجل 
واحد وانتصر فيها رجل واحد. ربما كانت أفضل مثال على إحراز نصر 
لا يعتمد على الصدفة والغباء. لقد هاجمت أفضل قوات هنيبعل عدوها 
في أسوأ الاحوال» ومع أن جحافل فارو الرومانية المتمرسة في القتال 
حوصروا في الوسط على يد مقاتلي القوات المساعدة لقرطاج» إلا أن 
معركة كاناي أصبحت وخا كلاسيكياً لأعمال الإبادة. ومع ذلك» فإن 
معركة كاناي لم تحسم شيئاً. فقد حسمت معركة زاما كل شيء» وبالتالي 
أصبحت إحدى المعارك المفصلية في التاريخ. لقد كانت أشبه بمعركة 
(واترلو) بالنسبة إلى هنيبعل» نتيجة لتأثير الصدمة التي أحدثتها صرخة 
اهنييعل عند الأبواب!» استيقظت روما المطمئنة وقادتها إلى عظمتها 
النهائية. عندما بدا أن الجميع ضائعونء انبعث طائر الفينيق الروماني من 
الرماد وصنع آلة حربية جبارة ثم استخدمها لغزو العالم. 

إلى آخر أيام هنيبعل في الحكم» كائت السياسة» وعلاقتها بالسلطة 
القرطاجية» جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيته» لکن تحليلات حملاته من 
فبل معاصريه. ومعظمهم من الرومان واليونانيين» ركزت بالكامل على 


41- فترة طويلة من السلام والاستقرار النسبيين حدئت في الإمبراطورية الرومانية. 
ار 





-257- 


الجانب العسكري البحت. كان تأثير حملاته على روما عميقاً إلى حذ 
أن الهزيمة التي حدثت في عامه الأخير لم تفعل شيا للتقليل من مكانته 
الرفيعة. درس القادة العسكريون الرومان حملاته واعتبروها قمة في 
الخطط الحربية؛ حاولوا توضيح أسرار استراتيجية هذا القائد القرطاجي 
وأذكاره وتحركاته القتالية» ليس لفهم ما قام به فحسب ولكن للتحضير 
لحروب المستقبل. 

تكمن عظمة هنيبعل في قدرته غير العادية على التغلب على 
الاحتمالات المستحيلة. ومن خلال اختراق ذهن خصمههء كان ينطلق 
من الاستنباط إلى التخطيط للعمل» وكان مستعداً للدخول في مجازفات 
ل ل ل ا . لم يستفد أسلوبه في 

تحيّن الفرص للقيام بالعمليات القتالية من أي أساليب نموذجية ومحددة 

سس ا ا Eo‏ 
وبفضل مهاراته التكتيكية والاستراتيجية البارعة في ظل احتمالات هائلة؛ 
واجه أكثر الدول ديناميكيةً وفاعلية من الناحية العسكرية» وحجز له مكانا 
كواحد من أعظم ثلاثة قادة عسكريين في كل العصور. 

في معركة زاماء استخدم سكيبيو الإفريقي خياله لوضع استراتيجية 
لخصمه قبل إشراك قواته في المعركة الحاسمة. ولريما لم ينجح في 
ذلك إلا أن الفيل استدار نحو الطريق الخطأ . الحظ يقف دائماً إلى جانب 
المنتصر.كان الأمر بالنسبة للقرطاجيين» صراعاً من أجل البقاء؛ أما 
بالنسبة للرومان فقد كانت معركة من أجل الهيمنة العالمية والتفوق». 

قبل معركة ميتوريوس» كانت روما أمة عسكرية إيطالية. بعد معركة 
زاماء أصبحت القوة العظمى في العالم القديم. 





„A. Mûller, Gespréche zur Weltgeschichte, Stuttgart 1965: ر اجع‎ -4 


-258- 


الجزء الرايع 


102 - 44 قم 
من ماريوس إلى قيصر 
(دعهم يكرهوننا طالما يخافون منا). 


م نكتاب الفيلييات لشيشرون (43-106 ق.م) 


-259- 


الفصل التاسع 
حامي روما 
معركة أكواى سكستيا 
2 نموز 102 ق.م 


امن العار على القائد في ميدان المعركة» 
أن يتفوق مقاتلوه عليه في الشجاعة» ومن العار 
على المقاتلين أن لا يصلوا إلى بسالة زعيمهم. 
يقاتل القادة من أجل النصرء والمقاتلون من أجل 
قائذهم) . 


۰ من كتاب جرمانيا للمؤرخ تاسيتس 


كان القنصل غايوس ماريوس هو الملاك الحارس لروما. وعلى 
أساس النظرة الموضوعية إلى التاريخ» فإن ماريوس فعل من أجل بقاء 
عز روما أكثر مما فعله الآخرون. لقد أنقذها من الدمار» ولا شيء أقل 
من ذلك. من حسن حظ الأجيال التالية» أن اثنين من الكتاب الرومان قد 
سجلوا مآثره - تاسیتس وفلوطرخس. 

كان قادة جيوش روما خخاضعين لمجاس الشيوخ» يتلقوث الإرشادات مته 
وينفذون أوامره» وبعد أن يحين موعد تقاعدهم ينشغلون في زراعة العنب 
في مزارعهم» التي منحهم إياها مجلس الشيوخ» ولا يتدخلون في عالم 
السياسة مطلقاً SL‏ ل 


-261- 


فى عائلة أرستقراطية والذي اختار أن يكون زعيم العامة» وشكل حزباً من 
عامة الناس(121-135 ق.م) ثم قاد شخصيات من العامة لتتولى مناصب 
في مجلس الشيوخ. بعد وفاته وبناءً على طلب من الأعضاء الأرستقراطيين 
في مجلس الشيوخ» انتخب الأعضاء من العامة قائداً عسكرياً غير معروف 
ولست مرات متتالية كممثل وقنصل لهم. کان اسمه غايوس ماريوس. 
في عام 113 ق.م؛ أو )0٥×[(‏ كما يكتب وفقاً للتقويم الروماني 
(أو بعد 640 عاماً من تأسيس روما في عام 753 ق.م)» ظهرت فجأة 
من الغابات الكثيفة على طول الضفة الشمالية لنهر الدانوب في منطقة 
نوريكوم (النمسا)» حشود كبيرة لرجال عمالقة شقر ذوي عيون زرق» 
طويلي القامة لدرجة أن أفراد حامية مدينة كارنونتوم الرومانية المتواجدة 
على نهر الدانوب وبمجرد أن ألقوا نظرة واحدة عليهم» ألقوا بأسلحتهم 
وفروا. كان هؤلاء هم المحاربون الكيمبري (بالألمانية تعني كلمة 
1مسة؟ المحارب» ويلفظها الرومان 6521© الكيمبري) من أقوام 
التيتون. أدّت الفيضانات الغزيرة إلى تدمير أراضي أوطانهم الأصلية 
(شليسفيغ هولستاين وشبه جزيرة غوتلاند في الدنمارك) وأجبرتهم على 
التجوال بحثاً عن مراع جديدة. جمعوا زوجاتهم وأبقارهم وأواني طبخهم 
وسيوفهم وانطلقوا في مسيرة طويلة. من النمساء حيث تم إيقافهم من 
قبل فيلق روماني بقيادة القنصل بابيريوس كاربو فسحقوه تماماء انتقلت 
حشودهم الضخمة إلى هيلفيتيا (سويسرا)» حيث انضمت إليهم قبيلة 
محاربة أخرى هي قبيلة؛ أمبرونس. تمّ التعرف على هذه القبائل الثلاث 
جميعا لأول مرة في بلاد الغال (فرنسا) في عام 110 ق.م» وهي متجهة 
إلى أ سفل وادي الرون. التقى القنصل الروماني سيلانوس مع زعماء 
القبائل» وألقى نظرة على حشودهم الضخمةء ورفض بازدراء طلبهم 
له بأن يمنحهم أرضاً ليستقروا فيها. لقد قلّل بدرجة كبيرة من التهديد 
المحتمل الذي تشكله هذه الموجة البشرية على إيطاليا أثناء تنقلها. حاول 
سيلانوس منعهم من مواصلة رحلتهم» لکن قواته التي تمّ تجميعها بشكل 
-262- 


ارتجالي» والمؤلفة بشكل أساس من قوات الاحتياط والمكلفين غير 
المدربين» عانت من المصير الكارثي نفسه الذي تعرض له رجال القنصل 
كاربو قبله. مات أكثر من مائتي ألف روماني بضربات فؤوس العمالقة 
الشقر. ما لم يتمكن متيلانوس من 'تحقيقه بماتي ألف مقاتلء ا 
المي ايوس اكا يعن :لك ته اجانين ألفاً من مقاتلي 
الجيش الروماني المدربين. في عام 105 ق.م» التقى مع القبائل في منطقة 
أراوسيو (تسمى حالياً أورانج) على نهر الرون. تحوّلت تلك المعركة إلى 
واحدة من أسوأ الكوارث التي لحقت بالجيوش الرومانية. عند مواجهة 
حشد يضج بالصراخ من عمالقة الشمالء ترك المقاتلون مواضعهم وفروا 
مذعورين. وأثناء محاولتهم للهروب عبر نهر الرون الواسع» قتلوا جميعاً. 
بعد المعركة» قام المنتصرون بجمع ما يصل إلى أربعين ألفاً من المقاتلين 
غير الرومانيين وذبحوهم. 

فجأة بدأ يلوح في الأفق شبح غزو الأراضي الإيطالية. لم يكن هناك 
شيء يقف بين البرابرة الشقر وشبه الجزيرة الإيطالية» لا شيء سوى بعض 
مقاتلي الكتائب وكانت معنوياتهم منخفضة ويختبئون مرعوبين خلف 
جدران ماساليا (مرسيليا) ا ا ا اصن لين 
الشيوخ بالذعر واستدعى مستشاره المختصء القنصل غايوس ماريوس. 
لقد كان رجلاً من سلالة من الفلاحين صلبة» وكان مواطناً رومانياً حرا 
ولكنه لم يكن أبداً جزءاً من الطبقة الأرستقراطية الحاكمة. بفضل ذكائه 
الفلاحي وأعصابه الباردة فى المواقف الصعبة» تسلق درجات السلم 
العسكري. وحين أصبح قائداً رومانياً استطاع أن يُخضع القبائل المتمردة 
في إسبانيا. . في وقت وقوع الكارثة كان في شمال أفريقياء مشغولاً بالتعامل 
مع مشاكل النوميديين الشرسين. ومن خلال غدرها المعتاد هاجمت 
روما المحاربين» مما أدى إلى انتصار سكيبيو أفريكانوس على هنيبعل. 
ا تيع نا رومس شام ANN‏ . كانت 
مهمته | لأولى هي وقف تقدم البرابرة نحو غزو الولايات الرومانية. 

-263- 


أبحر ماليوس نحو ماساليا بصحبة طاقمه» وکال عم الكويستورةا 
الشاب لوسيوس كورنيليوس سولاء والذي سيقدر له ال عي دورا 
حاسماً في حياة القنصل. ما كان يننظره عند وصوله كان حدثاً مخزيا. 
كشف عن ضعف دفاعات روما وجبن قواتها. كانت هناك حفنة من 
المقاتلين غير المنظمين» يعانون من نقص في السلاح ومعنوياتهم عند 
الصفر. كانت مهمة ماريوس الأولى هي جعلهم يتغلبون على مخاوفهم 
من عمالقة قبائل التيوتوني» وزرع الثقة بين صفوفهم. لم يكن هناك شيء 
يمكن أن يفعله حيال البرابرة إلى أن تتم إعادة تنظيم صفوف مقاتليه 
المحبطين. كان الحظ معه. حدث ذلك في وقت متأخر من فصل الشتاء 
وقرر زعماء قبائل الكيمبري والأمبرونوس والتيوتون وقف رحلتهم 
جنوباً ونصب مخيم شتائي على طول نهر الرون بالقرب من بلدة أفينيون: 
قبل محاولة المجازفة بعبور النهر الخطير أثناء فصل الربيع الذي كان 
على الأبواب. حدث شجار بين القبائل جعل قبيلة الكيمبري تنفصل 
عن قبيلتي التيوتون والأمبرونوس فقد غادر مقاتلوها للقيام بأعمال نهب 
في إسبانياء ولكن تم إيقافهم في ممرات جبال البرانس من قبل القبائل 
السلتية الأيبيرية. قلص انفصال قبيلة الكيمبري من فعالية القبائل بشكل 
عام» ولكن تفوقها العددي كان لا يزال عند نسبة عشرة إلى واحد. 

منح الشتاء أشهراً ثمينة لماريوس» استثمرها في القيام بجلسات 
تدريب وغسيل دماغ صارمة. وهكذا أصبح ماريوس أول من ابتكر 
الحرب النفسية. «التيوتونيون ليسوا من عرق متفوق علينا»» ظل يصرخ 
في وجه رجاله في جلسات يومية. اسنهزم هولاء البرابرة». لم يقل علانية 
إنهم لن يتمكنوا من مواجهة رجال التيوتون العمالقة فى القتال ما لم 
تصبح الظروف أكثر ملاءمة. كان للقبائل ما يزيد عن مائتى ألف فرد من 


المحاربين القاسين المدججين بالسلاح» يقابلهم عشرون ألف مقاتل. 





-١‏ لقب منصب كان يتولى صاحبه الإشراف على الشؤون المالية في الدولة وتدقيق 
الحسابات النقدية. المترجم. 


-264- 


كان ماريوس رجلاً يؤمن بالخرافات كثيراً وكان يؤمن بالنجوم 
وذبح القرابين ونبوءات العرّافين» ولا يدخل معركة إلا بعد أن يتلقى 
البركة الإلهية من كائن أعلى. لذلك كان يحتفظ دائماً بعرّافه الشخصى 
إإو معاي وهي ر تعرف نا مت قارفا ا و 
ممسكة برمح وقد تزينت بشريط فوق رأسهاء كانت مارثا تذبح قرابين 
من الحيوانات إلى الآلهة وتتنباً بالغيب باستخدام رماد عظامها. نصحت 
ماريوس بالتحلي بالصبر» وثق ماريوس بها. وقد كانت نصيحة جيدة. 

أمضى ماريوس فصل الشتاء لسنتي 102/103 ق.م. في معسكر في 
مدينة أرناغينوم (تقع في سان غابرييل في منطقة كامارغ). مع بزوغ أولى 
أشعة الشمس الحارة» تحركت حشود قبائل التيوتون والأمبرونوس ضد 
معسكره المحصن. لم يحاولوا الاستيلاء على المعسكر بالهجوم عليه 
كانوا يسخرون من الرومان ويشتمونهم لإغرائهم بالتقدم'خارج دفاعاتهم. 
لم يهتم ماريوس لأي من هذه الأفعال؛ لقد كان هناك لإنقاذ روماء وليس 
للدخول في مناوشات سخيفة لا يمكن له أن ينتصر بها. حتى إنه رفض 
الخضوع للاستفزاز والدخول في قتال منفرد مع زعيم قبيلة التيوتون. 
وحتى لا يتم اتهامه بالجبن» برّر ماريوس فعلته لرجاله بالقول: «إنها ليست 
مسألة كسب انتصارات شخصية والحصول على غنائم» ولكن لتجنب 
عاصفة الحرب وإنقاذ روما». عندما ظل زعيم قبيلة التيوتون مصراًء أرسل 
ماريوس مصارعاً ليحل محله. لا يوجد كتاب يذكر نتيجة المواجهة. 

EE‏ ل ات كر ل 
بعضهما البعض» »> سكم الرماة ع غير المنضبطين من البقاء في حالة انتظار 
أمام دفاعات مدينة أرناغينوم العالية . فتر كوا مواضعهم لمواصلة مسيرتهم 
جنوباً (102 ق.م). كان ماريوس يشاهد لمدة ستة أيام كاملة من موقعه 
أي جبل لي بوه مجموعة لانهائية من العربات تتحرك في الوادي» قبل 
أن ينطلق بملاحقتها. شقت الحشود الضخمة من المحاربين والنساء 
والعربات والماشية طريقها بشكل مؤلم عبر العديد من المستنقعات 


-265- 


والبحيرات الضحلة في منطقة كامارغ» قبل أن تعبر نهر الرون دون أن 
تتعرض لمضايقة ثم سارت على طول نهر دورانس. قام ماريوس ورجاله 
البالغ عددهم عشرين ألفاًء من مواقعهم الآمنة في سلسلة جبال لوبيرون؛ 
بمراقبة تقدمهم البطيء عن كثب. منذ رفض القنصل الروماني الدخول 
في قتال» تحول الوضع في الأشهر القليلة التالية إلى حالة من الترقب. 
وسخر مقاتلو قبيلة التيوتون من الحراس الرومان الذين يصطفون فوق 
المنحدرات التي فوقهم: «هل لديكم أي رسالة لزوجاتكم؟ سنكون 
قريباً معهن» وننام في فراشكم». بدأت الجحافلء التي حكم عليها بعدم 
التحرك فوق الأرض المرتفعة» تعاني من نقص المياه. لقد أظهر مقاتلوها 
نفاد صبر متزايد» إن لم يكن تمرداء إلى درجة باتوا يتوقون فيها فعليا 
للقتال. وهذا كان من ناحية أخرى مناسبا لماريوس. 
«لماذا لا تسير بنا إلى الأسفل قبل أن تجف دماؤنا؟» أراد مقاتلوه 
الظامئون أن يعرفوا. 
رذ عليهم قنصلهم «كل شيء في الوقت المناسب». كانت استراتيجيته 
بسيطة جداً: جعل الأعداء يشعرون بالاطمئنان» وفي الوقت نفسه. يزيد 
من الروح القتالية لجحافله. ولكن قبل أن يفكر في أي هجوم» كان 
عليه تقسيم القبيلتين إلى «أقسام ذات أحجام يمكن التحكم فيها». كان 
سبروريوس أحد مساعديه من الشباب» قد اتخذ له موضعاً على نهر 
الدانوب وكان يتحدث لغة قبيلة التيوتون بطلاقة؛ قام في إحدى الليالي 
بالتجول في المعسكر البربري وتظاهر بأنه هرب من السجن الروماني 
في ماساليا. وأثار شهيتهم للذهاب إليها من خلال أحاديثه عن مدينة من 
الكنوز الهائلة» مجردة عملياً من الدفاعات الخارجية وجاهزة لأآن يستولوا 
عليها. انطلت عليهم الحيلة. في اليوم التالي» وبالقرب من منطقة أكواي 
سيكتيا سالوفيوروم (مقاطعة إيكس أن بروفانس حالياً)» قررت قبيلة 
التيوتون الانفصال عن قبيلة الأمبرونس والتوجه للبحث عن الذهب في 
ماساليا. وأصبح ما يفصل القبيلتين مسيرة يوم واحد. ٠‏ 
-266- 


وصف غايوس ماريوس الوضع حينها بالقول: «بإمكان جحافلي أن 
تتخلص من البرابرة واحداً تلو الآخر. لكن يجب أن نسحبهم إلى أرض 
المعركة المناسبة. هم إلى الآن يتصرفون بذكاء شديد بحيث لا يتم القبض 
عليهم بهذه الطريقة. لكن حتى الأذكياء يرتكبون الأخطاء». تمّ العثور على 
«أرض مناسبة للقتال» عندما وصلت قبيلة الأمبرونس إلى وادي القوس» وهو 
مكان جميل يحوي منحدرات لطيفة وينابيع دافئة. كانت العائلات الرومانية 
من مقاطعة إيكس أن بروفانس تستخدمه كمنتجع صحي وهو المفضل لديها. 
قامت قبيلة أمبرونس بالتخييم في وادي الجنة هذا بالقرب من الآبار» في حين 
كان مقاتلو جحافل روما في أعلى التلال والعطش لا يزال يفتك بهم. 

#غايوس ماريوس» يجب أن يكون لدينا ماء وإلاسنموت من العطش». 

أجاب قائدهم: «من حقكم» لكن يجب أن تحصلوا على الماء 
بدمائكم»» وبذلك وجّههم إلى ما يريدهم أن يقوموا به دون أن يعلموا 
بذلك. كانت الحادثة التى تلت ذلك بسيطة في حذ ذاتها ولكنها ساعدت 
ار سجر التاريخ. كان أفراد إحدى الوحدات الرومانية قد نال 
منهم العطش لدرجة أنهم كانوا على استعداد لترك صفوفهم» والمجازفة 
والحصول على ما يحتاجونه؛ هرعوا إلى أسفل التل مصطحيين معهم 
أوعية ودلاء» ومسلحين بالسيوف» لكي يجلبوا الماء. قابلوا حفنة 
من نساء القبائل يقمن بغسل الثياب» وكن محميات من قبل حفنة من 
المحاربين. نظراً لوجود عدد أكبر من الرومان أكثر من العمالقة الشقرء 
تعامل مقاتلو الجحافل مع البرابرة بسرعة. جلبت صيحاتهم بضعة 
مقاتلين آخرين من قبيلة الأمبرونس إلى مكان الحادث» جاء بعضهم 
مباشرة من حيث كان يأخذون حمامهم الرائع في الينابيع الحارة» غير 
مسلحين ويتعين عليهم خوض المعركة بقبضاتهم العارية. تغلب الرومات 
المدربون جيداً» والمدججون بالسلاح» عليهم بسهولة. سارع عدد أكبر 
من المقاتلين إلى النزول لمساعدة رفاقهم» وسرعان ما تطور القتال إلى 
معركة منتظمة مع اندفاع البرابرة بأعداد متزايدة إلى أرض المعركة. ظل 


-267- 


مقاتلو الأمبرونس يصلون بشكل عشوائي» في حين كان الرومان يصلون 
بشكل كتائب منظمة. لم تكن لدى البرابرة أية فرصة للنجاح أمام جحافل 
منضبطة. كانت حادثة مدبرة بشكل جيد جعلت مسألة الحسم تعود 
من جديد بيد ماريوس. ومثل فيضان من الدروع» تدحرجت جحافله 
أسفل المنحدرات» وخاضت القتال بعزم شديد» تخترق العمالقة الشقر 
لتقسمهم إلى مجموعات أصغر وأصغرء ليتمّ ذبحهم على يد كتيبة رومانية 
واسيخة . مع صراخ قبيلتهم القتالي «أمبرا!» حملت حتى نساء الأمبرونس 
6 . ولكن دون جدوى - فقد امتلاً جدول المياه الرائع حد الاختناق 
بأجساد البرابرة الموتى والمحتضرين. «كانت تسمع صرخات مقاتلي 
قبيلة الأمبرونس المهزومين طوال الليل» ولم تكن مثل تنهدات وآهات 
الرجال ولكن مثل عواء وحوش برية»©. وهكذا هلكت أمة الأمبرونس. 

لم يكن لماريوس وقت لتذوق النصر. أخبره جواسيسه أن رجال قبيلة 
التيوتون المخيفين كانوا بالقرب منه. هجومهم المتوقع لم يتحقق» لكن 
مع ذلك فإنه ترك ماريوس مع مشكلة التعامل مع قبيلة التيوتون الكبيرة 
العدد. هل يتراجع إلى التلال؟ كان الأوان قد فات على ذلك. يجب اتخاذ 
القرار خلال ثمانٍ وأربعين ساعة. أبقاه جنود الاستطلاع على اطلاع 
بكل تحركات التيوتونيين. دخلت القبيلة إلى واد بموازاة مواضعه. قبل 
حلول الظلام» انطلق ماريوس مع عدد من المرافقين. نزلوا عن خيولهم 
وصعدوا التل الذي يفصل جحافله عن البرابرة. كانت الغابة صامتة مميتة؛ 
لا طيور» ولا مخلوقات أرضية:» وبالتأكيد ليس هناك بشر؛ لقد فروا قبل 
وصول موجة مقاتلي التيوتون. كان يكمن أمامهم ما يشبه الممر. كان 
المنحدر المؤدي إلى الأعلى حاداً ولكنه غير سالك. ثم كانوا في القمة؛ 
فصارت لديهم رؤية واضحة للوادي الذي أمامهم وآلاف من الخيم التي 
يتسامر أمام بابها الجنود. بحماقة تامة» استقرت قوة التيوتونيين فى منطقة 
يمكن نصب كمين فيها بسهولة وإيقاعهم فيه؛ إذا كان هناك جيش ينصب 
2- عن المؤرخ فلوطر خس. 





-268- 


لهم كميناً! لم تكن جحافل ماريوس كبيرة بما يكفي لنصبه. كان لزعماء 
القبائل الحق في التصرف بثقة. في الصباح» توجهوا من الوادي وانتشروا 
في الأراضي غير المحمية. كان هناك شعور بالموت الوشيك منتشراً في 
الأجواء المحيطة بهم. عرف ماريوس أنه كان يدافع عن الحاجز الأخير 
بين هذا الحشد الهائل وروما. نظر متهكماً إلى الأسفل نحو القوات 
المحتشدة. كان عليه إعادة تنظيم رجاله والتخطيط لشيء مختلف وجديد. 
كان لديه بعض الأفكار؛ كان يأمل فقط في أن يمنحه إله الحرب فرصته. 


Aquae Sextiae 
2 July 102 ع8‎ 





-209- 


لم يتقيد ماريوس بالنماذج المعروفة للخطط الحربية. فقد بنى خطته 
وسط حالة من اليأس. فى الحرب» يُعرف هذا باسم «الحل الأفضل في 
سلسلة من الخيارات السيئة». قرر أن يستخدم كل مجموعة مقاتلين كقوة 
قتال فردية بدلاً من دمجها في كتيبة مشاة متماسكة. كان على كل مجموعة 
أن تقيم خط قتالٍ أمامياً مكوّناً من خمسين رجلا مع فاصل ستة أقدام بين 
كل مقاتل» بدلاً من تشكيل السلحفاة للتروس المتراصة©. وهذا من شأنه 
أن يسمح بوجود المزيد من المساحة لاستخدام السيوف» ويزيد من طول 
خطه القتالى إلى حدّ كبير. كما يضاعف من تأثير القوى البشرية المتاحة. 
ثم أضاف مفاجأة» فإذا كان هنيبعل قد استطاع نقل أفياله عبر جبال الألب» 
فمن المؤكد أن رجاله سيتغلبون على الجبل الذي تغطيه أشجار الصنوبر. 
خلال الليل» أمر ثلاثة آلاف من مقاتليه النخبة» يقودهم الضابط التريبيون 
كلوديوس مارسيلوس فى الصدارة» بعبور الممر الجبلي والاستعداد 
لإغلاق الوادي من الناحية الخلفية لمواضع قبيلة التيوتون بينما سار مع 
قوته الرئيسة في الجبل لإغلاق المخرج الأمامي للوادي. وجعل جحافله 
تتراصف وفق ترتيبه التكتيكي الجديد» وهو تشكيلة رقعة الشطرنج المرنة 
التي ستحدث ثورة في طريقة ترتيب تشكيلات الجيش الروماني وتحمل 
اعا 4ه القرون التالية: حتشافل مارياة و أن سات جميع 
الأمور وفق ما يرضيه» صعد ماريوس إلى قمة التل حتى يتمكن كل فرد 
من زملائه من رؤيته بوضوح. لقد كان يعرف ماذا يعني وجود القائد وتأثيره 
على معنويات المقاتلين؛ فقد تمّت خسارة الكثير من المعارك لأن القائد 
لم يكن حاضراً ليرى ما الذي يحدث في ساحة المعركةء وبالتالي فشل في 
الاستجابة للموقف الذي كان يتطور بسرعة. ربما كان الوقوف على التل 
أقل شجاعة من القتال في وسط المعمعة» لكنه اعتبر أن الشجاعة ستكون 
صفة عقيمة عند مقارنتها بالنظرة العامة للقائد. 
3- في هذا التشكيل يجتمع جميع الرجال في صف واحد ويمدون التروس المستطيلة 

الضخمة للأمام والاعلى» لتحصين أنفسهم من جميع الجهات. المترجم. 

-270- 


كان قد أعطى تعليمات دقيقة لمجموعة الإغلاق الأولى؛ على صفوفهم 
المتقدمة أن تصدر أصواتء ثم تتوقف وتهرب كما لو أن الذعر قد أصابهاء 
لتغري العدو للوقوع في الفخ. وذلك ما فعلوه» وابتلع مقاتلو التيوتون 
الطعم. وسط صراخ القتال الشرس» اندفع عمالقة الشمال في أعقاب 
الرومان الهاربين» بينما صرخت نساؤهم بالتشجيع وجلجلت طبول حربهم 

أصدر ماريوس أوامره «لترتفع أصوات أبواق المعركة». وسط دوي 
الأبواق» خرج صف من حملة الرماح ذات الرؤوس الفولاذية المدببة 
من مكان اختبائهم خلف الأشجار التي تغطي الوادي» لمواجهة البرابرة 
القادمين. في هذه اللحظة الحرجة» بدأت تصدح المزيد من أبواق 
الرومان. وهذه المرة جاءت من خلف الوادي. انقض مقاتلو الجحافل 
على العمالقة الشقر بعنف لم يترك مجالاً للشك في مدى تصميمهم. 
فوجى التيوتونيون لدرجة أنهم توقفوا عن الحركة وسط صيحات ونظرات 
من الحيرة. كان التأثير المعنوي لهذا الهجوم المفاجى من خلفهم مدمراً؛ 
كان البرابرة يدورون من حولهم بحَيرة» الأمر الذي جعلهم يتداخلون مع 
بعضهم بشكل لا فكاك منه. أغلق الرومان مخرجي الوادي كليهما. وقف 
ماريوس» بهيئة إمبراطور (قائد) وهو يرتدي عباءة قرمزية» مثل المنار على 
صخرة شاطئية. وأمر عازف البوق بأن يطلق نداء الدعوة للتقدم. انتظمت 
أفواجه على شكل مربعات واندفعت قدماً نحو التيوتونيين الغارقين في 
الفوضى. استخدم أول صفين الطعن برماحهم» في حين أن الصفوف 
الخلفية قامت برمي (الرماح) على مؤخرة العدو. تم استخدام معظم 
الرماح عدة مرات» حيث كانت الجحافل المتقدمة تسحبها من الجثث .مع 
الضغط على مقاتلي قبيلة التيوتون من الأمام والخلف» بين المنحدرات 
على 6 الاين تحولت المعركة | إلى مذبحة» ارتفعت على الأرض 
أكوام عالية من جه جشث الذين سقطوا. سجل المؤرخ فلوطرخس مقتل 
مئات الآلاف وا والأطفال الذين سيكونون عبيداً 
في المستقبل. والحقيقة هي أنه لم ينج الكثير من مقاتلي قبيلتي التيوتون 


-271- 


والأمبرونس. لم يعد الأسرى الضعفاء والبائسون مصدر إزعاج لمجرد 
أنه كان لا ب من إطعامهم» بل أصبحوا يمثلون تهديداً مباشراً للأمن وحتى 
لحياة غزاتهم المرتدين بذلات جحافل ماريوس ذات الزخارف اللامعة. 
سار مئات الآلاف على المنحدر شديد الانحدار لجبل سانت فيكتوار©, 
وهو عبارة عن صخرة ضخمة زرقاء وبيضاء ارتفعت بشكل حاد من وسط 
سهل بروفينسال» ثم ينضغط ليصبح ذا شكل مستدق فوق المنحدرات. 
تركوا وراءهم أكواماً من الموتى والمحتضرين» والآلاف من الجثث 
العارية والمتشابكة مع بعضهاء لتتعفن في حرارة الصيف فتنطلق منها 
رائحة كريهة لدرجة أنها أجبرت مواطني مقاطعة إيكس أن بروفانس على 
الفرار بسبب تلك الرائحة الكريهة. وباتوا:نظلقوة على المنطقة آنذاك 
تسمية (حقول التعفن) ننا 1ه 70 ولا تزال القرية الموجودة في 
موقعها اليوم تسمى (20115118565) وتعني بالفرنسية المتعفنة. 

كان لا يزال هناك خطر واحد؛ خطر قبيلة الكيمبري» التي عادت من 
جبال البرانس وتوجهت لقتال الرومان. والأكثر من هذاء أن ماريوس 
تو جه لإنقاذ روماء مصطحباً معه هذه المرة قوة رومانية أعيد بئاؤها اعت 
المعركة ضد التيوتونيين قيمة تشكيله التكتيكي الجديد» وكانت معركة 
فيرسيلاي (101 ق (e.‏ تكزاراً لانتصاراته السابقة؛ تمكنت مكيوفات 
اللقل a SS e‏ ة قبيلة الكيمبري: قتل 
0 ألف شخص أو أعدموا في ساحة المعركةء وأرسل ستون ألفاً من 
غير المقاتلين إلى مناجم الملح ونساءهم إلى بيوت الدعارة. في معركة 
فيرسيلاي» كما هو الحال في معركة أكواي سيكسيتاي» ترك ماريوس 
و أكوااً نن جلف الف ال“ ٠‏ 

بعد معركتي أكواي سيكستياي وفيرسيلاي» تم الترحيب بماريوس ٠‏ 





4- جبل فنتوري» بات يعرف منذ القرن السادس عشر باسم مونتاني سانت فيكتوار أي 
جبل النصر تكريماً لانتصار ماريوس. 
5- بالفرنسية في الأصل. المترجم. 


-272- 


باعتباره حامي روما وانتخب لمنصب القنصل ست مرات متتالية. ومع 
ذلك» لم تكن حنكته السياسية مثل 'موهبته العسكرية» وأدى حكمه 
السيع إلى نشوب حرب أهلية مرعبة (88-91 ق.م)ء كانت الأسوأ في 
التاريخ الزومانيء حيث دار القتال في شوارع روما. كان خصم ماريوس 
الذي کان غا من عامة الناس مرافقه السابق والشخصية المحافظة 
سولا وكان هو الذي بدأ القتال. هرب ماريوس إلى أفريقياء لكن الزعيم 
الشعبوي لوكيوس كينا أعاده. أقام ماريوس عهداً من الرعب والذي ظهر 
مثيلاً له بعد ألفي عام في عهد الرعب الذي أقامه روبسبير خلال الثورة 
الفرنسية (1794). في نهاية المطاف تقرر مصير الحرب الأهلية في روما 
على يد سولا (82 ق.م)» الذي هزم قوة الشعبويين؛ واستولى على روما 
وأعلن نفسه ديكتاتوراً. أنهى حامي روماء غايوس ماريوس» أيامه الأخيرة 
منبوذاً في أفريقياء وكان يتعقبه غاليونيوس بومبيوس (بومبي). 

أورث ماريوس روما إصلاحاً عسكرياً رائعاً. لقد أظهرت كارثة 
أراوسيو (105 ق.م) بوضوح الحاجة إلى تغيير نظام روما العسكري» 
وكان ماريوس هو من قام بإصلاحه. لقد تخلى ماريوس الشعبوي عن كل 
الفروق الأرستقراطية داخل الطبقة العسكرية وأجبر مجلس الشيوخ على 
نين فا ی ال ون التوريية . كان مقاتل الجحافل بالعادة 
شجاعاء يتغذى جيداً وذا بنية جيدة . كانت مكافأته للسلوك الشجاع قطعة 
أرض يمنحها له إمبراطوره» وكانت تتحدد مساحتها وفقاً لما يُظهره من 
شجاعة. اختفى تماما الإكوايتس (مقاتلو سلاح الفرسان الأرستقراطي» 
الذي هزم في معركة كاناي)» وهي خد كانت مخ هة اقا لاتا 
النبلاء؛ وتم م استبدالها بفيالق من سلاح الفرسان المحترفين» يتكون من 
مرتزقة أجانب من نوميديا أو تراقيا أو هسبانيا. تمّ تنظيمها بشكل (أجنحة) 
ويديرها الرومان. ورغم أنهم كانوا يفتقرون إلى الحماسة الوطنية 
لجحافل روما السابقةء إلا أنهم عرّضوا عن ذلك بمهارتهم وكفاءتهم 
المهنية. وهذا ساعد الإمبراطور ماريوس على أن يؤسس بالإضافة إلى 


-273- 


فيلق ماريان نظاماً من وحدات قابلة للتبديل ذات مرونة قتالية عالية وقدرة 
كبيرة على المناورة» وكانت أداة عسكرية قوية أورثها إلى ابن أخيه. 
والح وتام أن عطي لعا رول ا 
غايوس يوليوس قيصر. 

تمّ تحقيق تحقيق الانتصارين في معركة أكواي سيكستياي بحكم الضرورة 
الملحة. وسبب موارده البشرية المتدنية» اضطر ماريوس إلى تبني 
نظام تكتيكي أصبح مفتاح الوصلاح العسكري الشامل. ومن دون أن 
يدرك التأثير الكامل لابتكاره» فإنه وفر العنصر الأساس لعمليات الفتح 
الروماني العظيم. 

كان ماريوس قد أوقف البرايرة عند بوابة إيطاليا. والآن جاء الدور 


لرجل أصغر سنا ليقهر العالم. 


-274- 


الفصل العاشر 
القيصر الغاضب 


4 أيار 55 ق.م 


«يا رجل روماء وأنت تُخضع الأمم لحكمك 
عليك أن تهتم بشؤونها وأن تقيم السلام بين 
المغلوبين» فقدع الخامل وتقهر تقهر المتكبر». 


« فيرجيل (70-19 ق.م) الإنيادة 


يمكن لأي شخص يمتلك السلطة أو القدرة على الإلهام أذ يعت 
الرجال على القتال. يتساوى في ذلك راعي الأغنام والقصاب» فالخطب 
الديماغوجية البارعة لها فوائد واضحة. كان الفارق الأساس بين قيصر 
وخصومه هو أن قيصر لا يعخوض معركة ما لم يكن متأكدا من وجود فوائد 
أولية فيهاء وربما لا يفعل حتى في تلك الحالة» في حين ين أن خصومه كانوا 
على استعداد لشن الهجوم مهما كانت مساوئه. . لقد فهم كيفية الحصول 
على المزيد من المنافع بتكلفة أقل . وبهذه الطريقة» كان قيصر معلماً بارعاً 
في مجاله. ولم يكن خصومه كذلك. 

لم يكن يمتلك الذكاء العسكري للإسكندر أو هنيبعل» ولكنه كان 
يمتلك شيئاً حيوياً للنجاح: وهو البحظ . في التاريخ الطويل للحروب» لم 
يكن هناك أي قائد عسكري أكثر حظا منه أبدأء فبالإضافة | إلى جرأته وطاقته 
المفرطة كان يمتلك حظاً مميزاً. علاوة على ذلك» أدرك طبيعة الحرب 


-275- 


في عصره» وجعل من جيشه أداة تدميرية بشكل فعال كشفت عن مهاراته 
الخاصة. فى أي محاولة كان يشارك فيهاء سواء كان ذلك في إسبانيا أو في 
بلاد الغال أو أثناء الحرب الأهلية في روما أو في مصرء كان يتأكد له من 
خلال قيادته وشخصيته الجذابة» مدى ولاء قواته الذي لا يخامره الشك 
فيه. كانت مواهبه فريدة من نوعها. لم يتمكن أي شخص بعد ذلك من 
الجمع بين صفات القائد العسكري العظيم ورجل الدولة والدبلوماسي 
والمشرع والمؤلف. لقد وجه كل الوسائل المتاحة له -الرجال والمال 
والساسة نحو هدق واحلا لاغير؛ الاسستزاتيجية الكبرق للفو زبالسلطة: 
قامت تجا حاة الفسكرية على هذا اشاس اضرف رسرغة قبل أن شاق 
الأزمة ويتضاعف الخطرء وحالما تتجاوز حدود القوة» اضرب بكل ما 
تملك ولا تتوقف حتى يتم القضاء على العدو تماماً. مرة واحدة خانه 
حظه. في ذلك اليوم الذي وقع فيه ضحية لخنجر القاتل. لكنه ترك للتاريخ 
اسمه» الذي بات يرمز إلى أغلى سلطة في أي دولة: قيصر. 
كان غايوس يوليوس قيصر (من مواليد حوالي عام 102 ق.م) 
صاحب نزعة ديموقراطية» ومثل عمه» ماريوس» أظهر أن له مستقبلا 
واعداً عسكرياً. في العشرين من عمره منحه مجلس الشيوخ التاج 
المدني (corona civica)‏ تكريماً لانتصاره المذهل على قراصنة 
بحر إيجه والدور الذي لعبه في انتصار روما على الملك ميثريداتس 
(74 ق.م). في عام 68 ق.م» حصل على لقب 010265605 كويستورا" 
منطقة هسبانيا التيريور. قام بقمع الانتفاضات المحلية وأنهى فترة 
ولايته من خلال غزو منطقة لوسيتينيا بأكملها ليصبح ممثل القنصل في 
إسبانها (61 ق.م). بالنظر إلى ما بات يمثله من نموذج للشجاعة الفائقة» 
فقد حاز على تقدير الجنود وباتوا يعتبرونه إمبراطوراً لهم» وقد سبّب 
هذا الإطراء إزعاجا كبيرا لمجلس الشيوخ خاصة وأن قيصر كان جزءاً 
من الأقلية الشعبية في المجلس. تمّ استدعاؤه إلى روماء حيث أكسبه 
ا“ وهو منصب في مرتبة أدنى من ممثل القنصل. 
-276- 


و ا e‏ على السلطة اه 
و الم اه ور TT‏ 
لايمكنه محارية بومبى بي العظيم على أسس متساوية يقول المثل: «إذالم 
تتمكن من قتالهم» انضم إليهم»» وقد فعل ذلك» حين ڌ تم تأسيس الحكم 
ميثريدائس (66 ق.م) وقيصر المعتز بنفسه.» وليسينيوس كراسوس» 
المصرفي وأغنى مواطن في روما . على الرغم من أن ه من المستحيل أن 
يكون كراسوس قائداً عسكرياً إلا أنه اث شترى» جیشاًء واستخدمه في 
إخماد تمرد سبارتاكوس (71 ق.م) بوحشية» وهو الإنجاز الذي ختمه 
بان قام بصلب كل مؤيد لذلك المصارع المتمرد على طول طريق 
أبيان©. لم ينظر إلى هذا العمل سوى أنه دليل على أن كراسوس کان 
قاسياًء لكنه لا يمثل خطراً على الهيمنة السياسية لقيصرء الذي اقترح 
على شركائه في الحكم الثلاثي أن يخدموا روما على أفضل وجه» وأن 
يملوّوا جيوبهم بالمال» من خلال الاعتناء ب «المقاطعات ذات الثروة 
الواسعة» - التي كانت بعيدة عن مقرٌ سلطة روما - بينما عرض أن 
يتولى تنظيم الأمور في الداخل» حيث اندلعت أعمال الشغب وازداد 
التهديد بنشوب حرب أهلية. وبعد أن أزاح عن طريقه شركاءه الذين 
يتقاسمون السلطة معه» والذين انشغلوا بالاهتمام ببعض المقاطعات 
النائية» حصل قيصر من مجلس الشيوخ على أمر تعيينه ممثلا للقنصل 
ا اوكا تراك صر وم اا I‏ 
تضم انل دوب فرنيبا ‏ مدای »دوفين ولايشيدوك) التي مات 
ا 


2 يُعدَ من أوائل الطرق الرومانية المهمة والاستراتيجية. المترجم. 


-277- 


حاكمها السابق إثر سقوطه عن ظهر حصانه وقد خدم موته أهداف 
قيصرء الذي كان يعتقد» أن «البرابرة يهددون إيطاليا». حمل ادعاؤه 
هذا بعض المصداقية» لأنه قبل أربعة وأربعين عاماً فقط نجح عمه 
ماريوس في وقف غزو قبائل الكيمبري والتوتون والأمبرونس. كان 
قيصر يخطط للكثير من الأشياء. منحه منصبه الجديد كممثل للقيصر 
لكلى منطقتي بلاد الغال سيطرة تلقائية على عدد من جحافل روما 
المخضرمة في القتال. 

لم تكن عبقريته العسكرية قائمة على أفكار جديدة» لكنه طبق 
مخططات الجنرالات العظماء الآخرين - الإسكندر وهنيبعل وسكيبيو 
وعم ارو شك وشل إلى حت الكمال: درس قيضب الإضّلاحات 
العسكرية التي قام بها ماريوس» وقد شغلت اهتمامه تأثيرات إيجاد 
مساحة بين أعضاء كل مجموعة قتالية» على عكس التكوينات السابقة 
لكتائب المشاة الضخمة المتماسكة» المدربة فقط على المواجهة إلى 
الأمام والبقاء هناك» فيما يحمل قسم من أفراد الصفوف القتالية رماحهم. 
تم تصميم جيش قيصر الجديد بحيث يتمكن من سرعة الحركة وزيادة 
مرونته القتالية. ١‏ ` 

كتب يوليوس في مقدمة كتابه الضخم تعليقات حول الحروب الغالية؛ 
«تنقسم بلاد الغال إلى ثلاثة أجزاء». ولكونه قائداً عسكرياًء فقد كان يرى 
الأشياء بشكل مختلف عن الجندي العادي؛ ولكونه مؤلفاً استدلالياً فقد 
قام بمسح للمسيرات المستعجلة وعمليات الحصار ومعارك القادة. كتب 
قيصر عن القائد العسكري قيصر بصيغة الغائب» ولكن فى الحقيقة كان 
هو الرجل نفسه. 1 

كانت خططه الأولية هي توسيع ممتلكات روما عبر نهر الراين 
والسير على طول نهر الدانوب» ذلك النهر الأسطوري الذي يفصل 
حدود جبال الألب في روما عن البرابرة الشماليين. ولكن النزوح 
المفاجئ الذي قام به 385 ألفاً من أبناء قبائل الهلفيتيان جئوباً على طول 

-278- 


نهر الرون وتعرض روما جوهرة الأقاليم الرومانية إلى الخطر أجهضت 
خططه الخاصة بنهر الدانوب. مع 34 ألفاً فقط من المقاتلين المتمرسين 
بالقتال» سارع يوليوس قيصر إلى ملاقاتهم. كانت هذه هي المرة الأولى 
التي يلجأ فيها إلى استراتيجية منع عدو قوي ومتمكن من خلال سلسلة 
من القلاع. 

قام كشافة قيصر بعمل ضخم في تتبع مسار الأنهار والممرات الجبلية» 
ولكن هناء في أعماق الغابات في منطقة جوراء كانت جحافله تتعثر في 
مسارات لا تشبه الطرق التي شيّدها او ا حول 
مقاطعاتهم. لم تكن هذه أكثر من مسارات للأبقار» حيث كانت أغصان 
الأشجار تخفق بقوة أردية المقاتلين الطويلة وقد أبطأ الإعياء مسيرة 
الرتل الطويل القسرية. كانوا متعبين» ولكن العدو كان كذلك. قام مقاتلو 
قبائل الهلفيتيان بمسيرة عبر الوديان والجبالء والتي لم تكن سهلة حيث 
كان يرافقهم طابور المؤن الكبير وجميع خدم المعسكر. وعندما أقاموا 
المعسكر لم تكن لديهم خطة دفاعية؛ ولا خنادق» ولا أوتاد مشحوذة» 
ولا صفوف منسقة من الخيام. انتشرت الملاجى البدائية والخيام الثقيلة 
بصورة عشوائية. تجولت الماعز والأغنام والخيول والخنازير بأعداد 
كبيرة. اشتبك رجال قيصر مع الهلفيتيانيين أثناء عبورهم لنهر أرار (سون). 
تم إبادة 30 ألف فرد منهم» كانوا ما زالوا ينتظرون من ينقلهم إلى الضفة 
اليسرىء بينما اضطر بقية مقاتلى القبيلة لمشاهدة المجزرة وهم بلا حول 
ولا قوة من الشاطى المقابل. ٠‏ 

في تموز سنة 58 ق.م» اشتبكت جحافل قيصر مع ما تبقى من 
الهلفيتيانيين بالقرب من مدينة غرونوبل. قام قيصر برفقة 30 ألفا 
من جنوده» معززين ب 20 ألفاً من قوات الغاليين المساندة والتي 
كان ولاؤها مشكوكاً فيه» بمهاجمة 70 ألفاً من الهلفيتيانيين خارج 
معسكرهم. في معركة استمرت على مدار اليوم» أعاد الرومان فيها 
الهلفيتيانيين إلى معسكرهم» وهم يشتعلون غضباً مع صراخ مئات 

-279- 


الآلاف من النساء والأطفال. استغل قيصر الهرج والمرج الذي ساد 
لشن هجومه النهائي. كانت المرة الأولى التي يظهر فيها شخصيته 
الحقيقية. كانت المعركة شرسة» وفي بعض الأحيان بدا الأمر وكأنه 
قد يخسرها. كان من الضروري ذبح القرابين» لجعل الآلهة سعيدة. إذا 
كانت جثث المهزومين ستقوم بذلك» فليكن. كان هدك قرابين وفيرة 
50 تمّ الكشف عن مشهد فظيع جرى في المعسكر حيث 
ُبيحَ الرجال والنساء والأطفال بشكل عشوائي بأمر من يوليوس قيصر؛ 
مات 130 ألفاً من المحاربين الهلفيتيانيين. لم يحسب الرومان القتلى 
من النساء. أصيب مبعوث خاص لمجلس الشيوخ في روما بالصدمة 
لما شاهده؛ مناطق من الريف مليئة بالجثث المشوهة لقبيلة بأكملها. 
وطالب بتبرير من ممثل القنصل. كان قيصر مقنعاً للغاية في شرحه بأن 
رجاله لم يتصرفوا إلا دفاعاً عن النفس إلى درجة أن المبعوث أعلن 
رضاه عن ذلك. 

بعد القضاء على تهديد الهلفيتيانيين» سار قيصر بجيشه إلى مدينة 
بيبراكتي (عند جبل بوفراي) للتعامل مع دومينوريكس زعيم اتحاد 
الأيدونيين» والذي يمثل أكبر اتحاد للقبائل الغالية في وسط فرنتا: 
لعدة سنوات كان هذا الرجل يجمع الضرائب» وأصبح غنيا للغاية. كان 
يحتفظ بحارس شخصي وفرسان معروفين» وبمساعدتهم مارس نفوذه 
على القبائل المجاورة. كان متزوجاً من أميرة من قبيلة الهلفيت» وكان 
يغذي في داخله مشاعر الكراهية ضد قيصر وكل ما هو روماني. علاوة 
على ذلك» قلص وصول قيصر من سلطاته عندما قام قيصر بتكريم 
شقيقه ديفيسياكوس علانية2. استخدم قيصر مهارته الدبلوماسية 
العظيمة لإقناع دومينوريكس بالخطر الجسيم على حكمه بسبب غزو 
قبائل تيوتوني بقيادة أريوفبستوس» وهو تهديد» وفقاً لقیصر» لا تتمكن 
من منعه سوى جحافله الرومانية. ولهذا الغرض» تحدث مع زعيم 


,Cnosar, De bello galllco راجم:‎ -3 





-280- 


اتحاد قبائل الأيدويين لتزويده بأربعة آلاف مقاتل من سلاح الفرسان 
من الغاليين. فسارع قيصر مع مساعديه الغاليين المعينين حديثاً: إلى 
مواجهة أريوفيستوس. . في 10 أيلول سنة 58 ق.م» اشتبك مع 75 ألفاً من 
المقاتلين البرابرة بالقرب من مدينة فيزانتيو (حالياً بيزونسون). استطاع 
سحق مقاتلي قبيلة التيوتون وطردهم عبر نهر الراين. وبهذا النجاح 
انتهى العام الأول من الحرب الغالية (58 ق.م). وأمضى قيصر أشهر 
الشتاء في بيزونسون. 
في عام 57 ق.م» اندفع قيصر شمالآء مع جحافله التي يبلغ تعداد 
مقاتليها 20 ألف جندي و20 آلف مقاتل من القوات المساندة» وقام 
بغزو بلجيكا. في نيسان» اشتبك في قتال مع مئة آلف من رجال 
القبائل بقيادة الملك غلبا عند نهر أكسونا (يعرف حاليا بنهر آن) وهزم 
المقاتلين البلجيكيين المتوحشين وغير المنضبطين» وكاد أن يحتل 
أراضيهم عندما في تموز وقعت قواته في كمين نصبه له مقاتلو قبيلة 
نيرفي. حدث الهجوم بينما كانت جحافله متناثرة على طول الوادي 
الضيق المليء بالأشجار لنهر سابس (أو سامير)©. هبط خمسة 
وسبعون ألفاً من رجال قبيلة نيرفي من التلال الحرجية وفاجؤوا 
الرومان عند ضفة النهر. على الرغم من الصدمة الأوليةء تمكن قيصر 
اتاعار ل عيا را د اكد رمام لمارا في نهاية اليوم» طافت 
جئث ستين آلف فرد من قبيلة نيرفي في نهر سامبر. كانت خسائر قيصر 
كين أشنا ولك تددن من بد ا ا ا 
للقيام بالمزيد من الفتوحات حتى العام المقبل. بعد انتصاراته الثلاثة 
الحاسمة على البرابرة الشماليين» اعترفت مناطق بلاد الغال الشرقية 
والوسطى تسيادة روما 
أثناء وجوده في فصل الشتاء في وادي اللوار» خطط قيصر للقيام 
e‏ 


4- استخدم الألمان النهج نفسه في الحرب الخاطفة لعام 1940. 


-281- 


بصحبة فيلق واحد إلى منطقة آكيتانيا (آكيتيين» وتيتوريوس سابينوس 
إلى مقاطعة النورماندي» في حين أن مرؤوسه الأكثر موهبة» ليجيت 
تيتوس لابيانوس» واجه البرابرة الألمان على طول حدود الراين. قام 
قيصر» على رأس عدد من الجحافل» بالسير نحو قتال قبائل الفينيتي 
التى كانت متواجدة في منطقة أرهوريكا (عالا طبه جزيزة بريتاتي)8. 
سبقه خمسة من ضباطه ببذلاتهم الرومانية للتفاوض على احتلال 
المنطقة دون قتال. صفع الفينيتيون المبعوثين الرومان وقيدوهم 
بسلاسل ووضعوهم في قفص وتجولوا بهم في جميع أنحاء البلاد 
لإظهار قوتهم. لم يسبق لهولاء أن تعاملوا مع قيصر فلم يكونوا 
يعرفونه جيداً. بعد أن علم باعتقال سفرائه» هدّد قيصر قائد الفينيتيين 
بأنه سيقوم بأعمال نهب وقتل. اعتمد الفينيتيون على أسطولهم البحري 
لصدّ الرومان الذي لم يكن لهم منفذ بحريّ. فاجأهم قيصر من خلال 
إصداره أمراً ببناء ستين سفينة» زودها بفيلق من المقاتلين بقيادة 
ديسيموس بروتوس) بينما وقف بقية أفراد جيش قيصر على الشاطى؛ 
وقعت معركة بحرية في خليج كويبرون بين ديسيموس بروتوس 
والفينيتيين. لم تكن السفن الرومانية المبنية على عجل تستطيع مجاراة 
السفن السريعة والأثقل لعدوهم. كان موقف الفينيتيين هو الأقوى. 
توصل بروتوس لفكرة ذكية تمثلت في تزويد أفراد قواته بمناجل ذات 
مقابض طويلة يمكن للمقاتلين من خلالها قطع حبال أشرعة سفن 
عدوهم. قريبا سيتمايل أسطول الفينيتيين وسط الخليج على غير هدى 
وسيكون عاجزا عن فعل شيء. صعد المقاتلون الرومان إلى سفن 
الفينيتيين وقتلوا بحارتها. انتقم قيصر انتقاماً رهيباً لسوء المعاملة التي 
تلقاها سفراؤه. 

PR E -5‏ يونا شرح 

افق 


6- والذي سيكتسب سمعة سيئة بسبب عبارة قيصر الشهيرة: حتى أنت يا بروتوس. 


-282- 


Caesar's Major E in His Conquest of Gaul 
2 





خلال أشهر الشتاء» انكب قيصر على دراسة خرائط بلاد الخال لمعرفة 
علد القوى البشرية التي سيحتاجها في حملته الربيعية القادمة. مع ذوبان 
الثلوج؛ واجهت جحافله مقاومة ضئيلة فى محاولتها للتغلب على قبائل 


-283- 


الموريني والمينابي في بلجيكا (الفلاندرز). مع تقلص حجم التهديدات 
الأخيرة» وإقرار المعاهدة مع دومينوريكس ملك الأيدونيين» أصبحت 
معظم أراضي بلاد الغال تحت سيطرة قيصر. في عام 55 ق.م» وجه 
قيصر انتباهه الكامل لإخضاع قبائل التينكتري والأسيبيت الجرمانية 
التي كانت محتشدة في بلاد الغال عبر نهر الراين. سار قيصر مع قواته 
الأساسية شديدة الولاء له والبالغ عددها ثلاثين ألف مقاتل» لملاقاة 430 
ألف ألماني» منهم مئة ألف على الأقل من المحاربين ن المتمرسين بالقتال. 
على الرغم من الاحتمالات المستحيلة للنصر» كان قيصر مقتنعاً في تلك 
اللحظة أنه لا يوجد شىء على وجه الأرض يمكن أن يقف أمام جحافله 
لدرخة أنه قر أن بجع هته المعركة أولة شنم جميم المعامرات التي 
يمكن أن تقوم بها القبائل البربرية عبر نهر الرون مستقبلاً. ومثل ثعبان 
كبير» كانت أرتال لا نهاية لها من الألمان تلتف عبر الأودية الواقعة بين 
تلال آردن المليئة بالشجر قبل أن تنصب لها خيماً على طول نهر الموزيل 
في منطقة تريفيري (ترير). 

بدأقيصر يلعب بورقة الدبلوماسية ببراعة . طوال فترة المفاوضات» كان 
مب اليا لاقام البراير. وكان يجادل أن نهر الراين يشكل خطاً طبيعياً 
لترسيم الحدود جغرافياً؛ لكن زعماء القبائل لم يكونوا يعتبرونه كذلك. 
ولم يستطيعوا الاتفاق فيما بينهم على أي شيء؛ واصلوا مشاحناتهم علناًء 
واستغل قيصر الانقسامات الموجودة بين قبائل عدوه وجعلها تصبٌ في 
خدمة الهجوم الذي كان يخطط له. وتوصل بإدراكه السياسي والعسكرى 
منذ البداية أنه لا يمكن كسب شيء عن طريق التفاوض؛ وأنه لا يمكن 
حل الأمور إلا من خلال القتال . كان تقييمه بعيد المدى يشير إلى أن روما 
يمكنها أن تنجو من غزو قبائل الغال لمدة لا تزيد عن عام قبل أن تتحرك 
القبائل عبر نهر الراين جنوباً وتطرق أبواب روما. بينما كانت المفاوضات 
مع زعماء القبائل جارية على قدم وساق» والقوتان تنصب خيمهما على 
مرأى من بعضها البعض» ظل قيصر على علم دائم بخطط العدو عن طريق 

-284- 


شخص منشق من قبيلة تينكيتري» الذي كان يخبره عن الخلافات بين 
رؤساء القبائل. وكان ذلك مناسباً لقيصرء إلى أن جاء اليوم الذي أخبره 
فيه جاسوسه أن البرابرة يخططون لشن هجوم مفاجئ. 

لقد حانت اللحظة التي يجب فيها على قيصر أن يقرر الاختيار ما 
بين الهجوم والتراجع. إنه يريد أن يقاتل» لكن عليه أن يقرر متى. قامت 
حشود القبائل الجرمانية بالتخييم عند سهل بالقرب من غابة كثيفة - وهذا 
الموقع كان مناسباً لنصب كمين لها من قبل سلاح الفرسان. وكان مع 
قيصر سلاح الفرسان المساند بمقاتليه الغاليين وتحت إشراف الضباط 
الرومان. وخاطبهم قائلاً اسوف يسلبون منكم وطنكم». لقد كان متأكدا 
أن بلاد الغال كانت وطنهم. يجب أن نقف معأ لإنقاذها»» كان يتحدث 
مع الفرسان الغاليين بلهجة مغرية مثل نغمة المزمار الذي يسحر الأطفال. 

كانت الاستعدادات التي قام بها قيصر لشنّ هجوم صادم بمثابة تجميع 
للعديد من الخدع المضللة. لقد قام بتحويل انتباه العدو عن تعزيز قوته 
بشكل متزايد وباطراد من خلال إصدار أوامر إلى سلاح الفرسان بإقامة 
استعراضات شكلية وعمليات تفتيش روتينية للقوات على مرأى تام من 
الألمان» بينما كان ينقل في الخفاء في الليلة نفسها فيلقاً كاملاً إلى أعماق 
الغابات ليأخذ مواضعه على جوانب المعسكر الجرماني. كانت النيران 
تنصاعد بشكل كبير في إشارة إلى استمرار وجود هذا الفيلق في المخيم. 
وفي الوقت نفسه كان مقاتلو سلاح الفرسان ينسلون من خلال الغابة إلى 
الجهة الأخرى» حيث يتمركزون في الغابة الكثيفة. 

خاطب قيصر ضباطه «سنفاجئهم»» ثم التفت إلى قائد سلاح الفرسان. 
«اقتحموا الغابة واذبحوهم قبل أن يصل جيشهم بالكامل سوف يبتسم لكم 
الإله جوبيتر». لكز الضابط لوسيوس مانسينوس حصانه نحو الغابة حيث 
وقف الفرسان. تجمع الرجال حيث يقف. لم يسبق للألمان أن قاتلوا 
ليلاً؛ خطط قيصر لمهاجمتهم بينما كانوا يستريحون وهم متجمعون حول 
نيران خيمهم. 

-285- 


كان قيصر (ممثل القنصل) محقاً. كان نادراً ما يخطئ في المسائل 
العسكرية. كان رجاله هم الذين يشكلون قوة ذراعه اليمنى» وكانوا في 
موقع المعركة» بينما كان البرابرة يتنعمون بالراحة في معسكراتهم؛ من 
دون خفراء ولا حراس. بدأت أبواق قيصر تصدح. تلاشى صوت كل 
شيء بسبب الصراخ» الذي انفجر من عدة آلاف من الأفواه» وكان يهتز 
في الهواء» صادراً من جخافل قيصر. كان البرابرة غير مستعدين تماما 
وقد فوجكوا تماماً. «الرومان قادمون!». أما زعماء القبائل الجرمانية 
الذين كانوا يتناولون الشراب معاء فقد بدأت أقدامهم تترنح» وقفزوا 
إلى جيادهم وانطلقوا ليوقظوا من كان في المخيم. «الشجاعة: أيها 
الإخوة)» صرخ أحدهم» «هؤلاء هم الرومان نفسهم الذين سبق 
وأن هزمناهم من قبل. تذكروا كراهيتكم لأي شيء روماني. سنكون 
سادة هذه الأرض. قاتلواء يا إخوتي» قاتلوا!» لقد فات الأوان لإتقاذ 
الموقف. عندما احتشدت بعض القبائل» كانت صفوف مقاتلي 
الرومان على مرمى رمح عنهم» فانطلقت حرابهم. دمر وابل من 
الرماح المتساقطة صفوف الألمان. كانت السيوف تومض على طول 
خطوط قتال الجحافل. وفي لمح البصر أصبحت الأرض من حول 
المخيم مليئة بالجثث. تردد الألمان أولاًء ثم تراجعواء وبعدها هربواء 
فيما كان قيصر يلاحقهم بحماسة لا هوادة فيها تعرض سلاح الفرسان 
للاختراق من مواقعه الخلفية غير المحمية. وتعثرت الجحافل التي 
جاءته من الخلف أثناء مسيرها بأكوام القتلى والجرحىء الذين انزلقوا 
في برك من الدماء» وتعرضوا للأذى من أسلحة الموتى التي كانت 
ملتسقة بالأرضن: . كان البرابرة يتلقون عدة ضربات على ركبهم بشكل 
مستمر» فتهتز أذرعهم عشوائياً. اندفعت موجة من المقاتلين الرومان؛ 
وهم يقفزون من فوق من تساقط من الرجال. تدحرج البعض. كانت 
تتدفق على الجميع موجات متتابعة من المحاربين» تطعن من سقط 
على وجهه وتدوس عليه. لقد اجتاحوا المكان دون أن يردعهم 

-286- 


المدافعون المذهولون ولو قليلاً. في زحمة الخنادق الكثيرة المنتشرة 
حول المخيمات» أصبحت خيول سلاح الفرسان التابع لقيصر لا قيمة 
لها. ترجل الرومان عن خيولهم لمهاجمة البرابرة القادمين سيراً على 
الأقدام من ٠‏ الأجنحة . دخلوا وسط صفوف الألمان» على الرغم من أن 
العديد منهم قد مات نتيجة الضربات الشديدة التي تلقوها من الفؤوس 
القتالية الفتاكة حيث ترك المزيد من المحاربين الجرمان أمكنتهم في 
المعسكر للانضمام إلى المعركة. 

سار قيصر بحصانه حتى خط. المواجهة الذي كانت تسوده 
الفوضى وفجأة وجد نفسه وسط البرابرة. مد البرابرة أياديهم لتتناوشه؛ 
خدشوا جلده» ومزقوا رداءه الأرجواني. هاجمه أحد البرايرة بفأاس 
ضخمة. انغرزت شفرة الفأس فى مؤخرة حصانه فسقط عن متنه؛ 
وقبل أن سكن المتحارتب :الالماني من توجيه ضربته القاتلة» اندفع 
أحد المقاتلين الرومان لإنقاذ قائده. سقط الألماني» واخترقه رمح 
ار وای يكن لدی ر وفع للشعور بالخوف. هذا سيحدث 
لاحقا. استمرت المذبحة من حوله. تحركت جحافله الموجودة 
على الأجنحة نحو المخيمء > مثل باب ضخم يتأرجح من مفاصله. 
اكتسحت الجحافل الرومانية حشود الغوغاء التعساء من الألمان 
وبدأت تدفعها أمامها لتعيدها مرة أخرى إلى معسكرهاء فده درا 
رهيباً بين زوجاتهم وأطفالهم. تم تطويق الكثيرين وظهورهم نحو نهر 
الموزيل» وفي ا 6 عدد كبير منهم. . انهار الباقون أثناء 
رحلتهم البرية. منح الريف ذو الغابات الكثيفة جنود قيصر الفرصة 
لإغلاق خط الرجعة على رجال القبائل. وقف مقاتلو الجحافل وراء 
أكوام من جثث الموتى» ومنعوا أي شخص من الفرار. خف الضغط 
على المقاتلين» وحينها تحول الخوف الذي سيطر عليهم في البداية 


-287- 


Battle of Mosel at Treveri 
14 May 55 عه‎ 





ظهر القائد غايوس يوليوس قيصر بقامته المديدة وسط مقاتليه. 
وهر عد a‏ نقد كان اترا روان راتا 
ارتفعت الهتافات: ر ام ا ل 
اا ا ا و ورت ر ارات ا 
الع 0111 SE EEE‏ 
أمامه مباشرة. . الن يكون في مصلحة روما أن أبدّد بقية قواتي في هجوم 
جدید. يحب تلقينهم درساً. “لايم السسنات أبدا للد ا 
أخرى بتهديد مصالح روما الحيوية. لن يعبروا : نهر الراين مرة أخرى». 
بهذ العبارة الوحيدة» حكم على أريعمائة ألف شخص بالموت. جمع كل 
رجل وامرأة وطفل من قبيلتي الأسيبيت والتينكتيري وقام بقتلهم. سمح 


-288- 


لعدد قليل منهم بالهروب عبر نهر الراين» حتى يتمكنوا من إيصال رسالة 
تعبّرعن غضب قيصر الرهيب» وبالتالي منع القبائل الجرمانية الأخرى من 
التفكير بالقيام بأية مغامرة في في المستقبل. 

e E O ياه القع‎ a 
استخدمه أعداء قيصر لإضعاف موقفه السياسي في الداخل» معبرين‎ 
بشكل منافق عن صدمتهم. طالب مجلس الشيوخ قيصر بالدفاع عن‎ 
موقفه من المذبحة. لم يفعل الكثير لتوضيح الأمر؛ لقد ذكر ببساطة أن‎ 
حجم نشاط التمرد في جميع أنحاء بلاد الغال وألمانيا لم يترك له أي بديل‎ 
سوى تلقينهم درساً مناسباً لإخماد الخطر المتزايد وضمان سلامة مواطني‎ 
روما . حرص أنصاره على نشر رده في جميع أنحاء المدينة؛ وبدلاً من أن‎ 
ست تم التهليل له في جميع أنحاء روما. ااه‎ 
في‎ TT 
aA SS 
0 الموارد الل تة مذهلا. . من أجل ا إمدادات ثايتة لجحافله.‎ 
بتشييد جسر يمر من فوق نهر الراين» وهو إنجاز لم يسبق له مثيل من قبل.‎ 
كانت المشكلة التي واجهت مهندسيه أن النهر كان عريضا بشكل كبير‎ 
إضافة إلى تيارات الماء القوية التى ازدادت قوتها بسبب أمطار الربيع.‎ 
كانت مهمتهم هي بناء جسر من شأنه أن يصمد أمام فيضانات الصيف‎ 
ويضمن لجيوش قيصر عودة آمنة بعد حملتهم الصيفية". وكانت مهمتهم‎ 
الأولى هي تحويل التيار القوي من أجل نصب أعمدة التجسير. لقد قاموا‎ 
نوو ال اه‎ a 
من مصادفات التاريخ» أن الجسر الذي شيّده قيصر يقع بالقرب من جسر ريماجين‎ -7 


الشهيرء والذي استخدمه الجيش الأمريكي لعبور نهر الراين في الحرب العالمية 
الثانية. 


-289- 


بحل هذه المشكلة عن طريق تنصيب صف من الأعمدة الثلاثية كواقيات 
من التيارات المائية. وبمجرد الانتهاء من ذلك» وضع صف آخر من 
الأعمدة» متبوعاً بالصف الثاني من الأعمدة المزدوجة بزاوية مائلة لكى 
تقف بوجه التيارات القوية. بمجرد أن تمّ وضع كلا الصفين» وُضِعَت 
عوارض متقاطعة ومغطاة بجذوع الأشجار. أصبح الجسر جاهزاً الآنء 
وعبر قيصر مع جحافله إلى ألمانيا. لم تكن حملته ناجحة مثل إنجازه 
لبناء الجسور. كان لدى القبائل وقت للمغادرة» وقام قيصر بمطاردتها في 
المناطق النائية في ألمانيا دون أن يحتك بها. في منتصف الصيف عاد إلى 
بلاد الغال. وبمجرد عبور آخر جندي نهر الراين» تمّ تدمير الجسر. وبقي 
نهر الراين بدون جسر لمدة ألف عام. 

بحلول عام 55 ق.م» أصبح قيصر مستعداً لغزو منطقة لم يكن قد مسّها 
بعد النسر الرومانى©؛ وهى الجزر البريطانية. أثناء تواجده داخل ألمانياء 
أمر بإنشناء أسطول م تجميحة فى اء إيتيومن لامقاطغة بولوني)): خلال 
أسبوع هادئ في أواخر الصيف» تمكن من الوصول إلى ميناء دوفر. وعند 
الشاطئ واجه مقاومة شديدة من تحالف من القبائل السلتية تمّ تشكيله 
على عجل. باستخدام المنجنيقات والمقاليع التي يتم تركيبها على 
السفن» تمكن من إنزال بعض من قواته. بعد حالة انتظار دامت أسبوعين 
على الشواطئ دعا قيصر قواته للانسحاب وأبحر بها مرة أخرى إلى بلاد 
الغال من أجل إعداد غزو للميناء بشكل مدروس أكثر في العام المقبل. 
في تموز من سنة 54 ق.م» قامت جحافل قيصر الخمسة مع ألفين من 
مقاتلي سلاح الفرسان - بلغ إجمالي القوات 22 ألف فرد - بالإنزال على 
شاطئ ميناء دوفر دون أن تواجه معارضة. بعد وقت قصير من استقرار 
الجميع بسلام على الشاطئ أغرقت العاصفة أسطول الغزو. وجد قيصر 
نفسه بلا إمدادات وتجهيزات» وفي الوقت نفسه» واجه قوة كبيرة من 
محاربي القبائل السلتية تحت قيادة زعيمهم كاسيفيلونوس. وبيئما تردد 


8- النسر شعار الجيش الروماني. المترجم. 
-290- 





البريطونيون» اندفع قيصر نحو داخل البلاد وعبر نهر التايمز في مكان 
ما شمال لندن. تقدمهم السريع هذا منع كاسيفيلونوس من توجيه ضربة 
قاصمة لهم» فبدأت حينها المفاوضات» والتي انتهت بالخضوع الاسمي 
للبريطونيين لسلطة قيصر وروما. 

خلال هذه المفاوضات» تعرض قيصر لضغوط بسبب اندلاع تمرد 
صريح في شمال بلاد الغال. مع بقاء قيصر في بريطانياء هاجمت قبائل 
النيرفي الفيلق الذي يقوده سابينيوس» وعندما طلب الرومان هدنة» 
منحهم زعيمهم أمبيوريكس ممراً آمنا؛ ولكن بمجرد أن تحرك الرومان 
من معسکرهم» كان یکمن لهم رجال القبائل وقاموا بقتلهم. شكل فقدان 
القائد الرومانى سابينيوس نكسة شديدة. من حسن حظ روماء أن قيصر 
كان رجلا اعتاد على التحديات الصعبة وقادراً على اتخاذ القرارات 
بسرعة البرق. وفي سبيل حل الأزمة» طلب يوليوس قيصر من مجلس 
الشيوخ منحه حق القيادة الفردية؛ من تلك اللحظة فصاعداء لم يعد 
طاقمه التشغيلي أكثر من تنظيم لتجميع المعلومات المطلوبة» ونقل 
أوامره الشخصية. 

بوجود 7000 رجل فقط» سارع قيصر إلى مواجهة 60 ألف محارب 
يقودهم أمبيريكس. حيث التقيا في نهر سابس (سامبر)» حيث قام قيصر 
بذكاء بادعاء أن له نوايا حسنة فى المفاوضات وتظاهر بالتردد» مما 
أدى إلى إغراء أمبيريكس بشن الهجوم في أرض غير مواتية حيث إن 
تفوقه العددي لم يحدث فرقاً كبيراً. قام مقاتلو قيصر بشن هجوم مضاد 
وطرد قبائل النيرفي من ميدان المعركة. بعد انتصاره على النيرفي» انتقل 
لمهاجمة بلجيكاء وأجبرها على الخضوع له. 

في عام 53 ق.م» هرّ حدث غير متوقع معاقل روما القوية عندما قاد 
كراسوس الشريك الثري للثلاثي الحاكم لروماء مهمة استكشافية حمقاء 
ضد الفرثيين في عهد القائد سوريناء الذي لا يمكن مقارنته بهنيبعل» ولكن 





9- عرقية قديمة تواجدت في جزيرة بريطانيا. المترجم. 


-291- 


بالمقارنة مع المصرفي كراسوس فإنه يكون مخططاً استراتيجياً كبيرً. عبر 
كراسوس نهر الفرات واشتبك معه سورينا في الصحراء المفتوحة بالقرب 
من (حران). بدلاً من الهجوم وفرض نتيجة حاسمة» قام كراسوس بقيادة 
مقاتليه من سلاح الفرسان في دائرة من حول الميدان. وبدؤوا يطلقون السهام 
باتجاه حشود الجحافل الضخمة لخوض المعركة» في حين ترك الرومان 
لتحترق جلودهم تحت أشعة الشمس الساخنة» قام فرسان سورينا بتعذيب 
مقاتلي الجحافل الرومانية الذين أصابهم العطش عن طريق حمل قراب من 
جلد الماعز وترك الماء يتدفق منها إلى رمال الصحراء. لم يستطع كراسوس 
الهائج أن يحسن التعامل مع العدو المراوغ بينما كان جيشه يهلك بسبب 
الحرارة والعطش. في خطوة يائسة» أرسل ابنه بوبيليويس كراسوس مع 
أحد الفيالق لجلب الماء. قام سلاح فرسان الفرثيين بالتظاهر بالانسحاب» 
مما أغرى الرتل المكون من ستة آلاف رجل للوقوع في كمين نصبوه لهم؛ 
وعندما أصبحوا وسط الكثبان الرملية العالية نزلوا عليهم ومحوهم إلى آخر 
رجل. مع حلول الليل» أخذ كراسوس استراحة» تاركا أربعة آلاف جريح من 
مقاتليه تحت رحمة الفرثيين. تمّ إيقاف تراجعه عند شروق الشمس. بينما 
كان يجلس في خيمة سوريناس للمفاوضات» لقي مصرعه على يد سيف 
مقاتل من الفرثيين. كانت معركة حران انتصاراً واضحاً لسلاح الفرسان على 
«الجحافل الرومانية التي لا تقهر»» وهى أول إشارة إلى أن جنود المشاة 
لم يعد بإمكانهم الوقوف أمام الفرسان الرماة الموجودين في الشرق. كان 
الفرسان الفرثيون الأشداء يمثلون النذر التى تشير إلى فرسان قبائل الهون 
والمغول الذين سيأتون بعدهم. كانت النتيجة السياسية لمعركة حران هي 
سيطرة الإمبراطورية الفرثية على أرمينيا وبلاد ما بين النهرين. 
في أعقاب هزيمة كراسوس» اجتاحت شوارع روما أعمال عنف. 

وبدأت تجوبها قطعان صاخبة من أفراد مسعورين» وكان أي شخص في 
طريقها يتعرض للضرب والسرقة ترافقه قهقهات بذيئة. تمّ تنصيب بومبي 
ديكتاتوراء وبصحبة حاشيته ومرافقيه اشتبك مع حشود المشاغبين. سحق 
-292- 


يعض الرؤوس» وصلب آخرين حتى تمكن من فرض النظام بسرعة قياسية؛ 
مما جعل المواطنين يدينون له بامتنان كبير. 

لم تكن هزيمة كراسوس مفاجأة لقيصر. في البداية» كانوا ثلاثة» بطلاً 

هو (بومبي)» ومصرفياً (کراسوس) ودبلوماسياً (قيصر). . الآن أصبحا اثنين 
فقيل وكان يجب أن يرحل أحدهما. علم قيصر أنه من أجل أن يقضي على 
الدعم الشعبي لبومبي» كان يحتاج إلى عمل واضح للغاية ومفيد لروما. كان 
الهدف الأكثر إغراءً هو بلاد الغال» والذي كان يشغل منصب ممثل القيصر 
فيها. كانت خطته دائماً توسيع نطاق سيطرة روما من منطقة الأقاليم الرومانية 
(بروفانس) شمالاً لتشمل جميع بلاد الغالء مما يستلزم القضاء على العديد 
من القبائل المستقلة. الآن اتخذ هذا الطموح بُعداً اشا آوسع. . لم يكن 
فيصر يقوم بأي إجراء بدون خطة محكمة تماماً. وإذا أصبح فاتح بلاد الغال 
فإنه سيكون في وضع يمكنه من تحدي بومبي ويتوج بإكليل الغار. لم تكن 
هناك سوى عقبة واحدة تقف بين قيصر وحصوله على الإجماع الشعبي على 
شخصيته الذي من شأنه أن يؤدي به بالتأكيد إلى السلطة المطلقة» وهو زعيم 
الغال المغمور الذي يحمل اسماً غير مألوف: فرسن جتريكس. أخبره جنود 
الاستطلاع أن قبيلة الأفيرني فيها مقاتلون متوحشون وأنهم يعتبرون قرسن 
جتريكس بمثابة إله لهم. ومن المحتمل أنه اقتنع بذلك. وهكذا توجه قيصر 
لیخوض كبرى معاركه. 

كان نجاح قيصر في نهر الموزيل» في مواجهة احتمالات لا يمكن 
التنبوء ء بهاء يعود إلى قدرته على استغلال عاملين في فن الحرب: المرونة 
والمفاجأة. فقد كان قائداً أكثر منه جنرالاً عسكرياًء يجسد مقولة نابليون 
التي أعلنها بعده بألفي سنة: اانسبة أهمية الروح المعنوية مقارئة بالقوة 
الجسدية هي من ثلاثة إلى واحد». وللأسف فإن بريق شجاعته الشخصية 
في ساحات القتال قد زال نتيجة أحداث شائنة جرت فيما بعد. وكانت 
لنتيجة النهائية ثية لعمله الذي اعتبره البعض معيباً هو أن القبائل الجرمانية 
عت لقرون من عبور نهر الراين. 


-293- 


الفصل الحادي عشر 
العام الرهيب 52 ق.م 
معركة أليسيا 
5 أيلول سنة 52 ق.م 


«إلى الأمام يا أبناء بلاد الغال تقدموا إلى 
الأمام» يا أبناء فرنساء تقدموا نحو المجد... إلى 
الآمام يا أحفاد العمالقة مقاتلي القبائل السلتية 
ذوي الشعر الطويل». 


1871 فيكتور هيجوء العام الرهيب»‎ ٠. 


بدأت حروب بلاد الغال» بمذبحة التجار الإيطاليين التي حدئت في 
مدينة سينابوم (حالياً أورليان) في شتاء عام 53 ق.م. بدأ حلفاء روما 
من قبائل بلاد الغال ينشقون عنها واحدا تلو الآخر؛ فبعد انشقاق قبائل 
الأيدويين انشقت تباعاً قبائل سيغيسياف وباريسي وكيبوباك وسينيون 
وبولوفاك وأمبارس. لكن من كانت أكثرها شراسة إلى حد بعيد هي قبيلة 
الأفيرني تحت قيادة زعيمها فرسن جتريكس. وكانت الوحيدة التي تمتلك 
كلاً من القوة والتنظيم اللذين يمكناها من أن تتحكم بمصير بلاد الغال» 
لأن معظم القبائل الأخرى كانت إما ضعيفة جداً أو منقسمة للغاية فيما 
بينها فلم تشكل تهديداً خطيراً لروما. كانت بلاد الغال ذات أهمية عسكرية 
حيوية مزدوجة لروما؛ فهي تضم نهر الراين الذي هو بمثابة حاجز لصد 


-295- 


القبائل الجرمانيةء وفي الوقت نفسء هي نقطة انطلاق جحافل روما نحو 
و 
ما تكشف عنه عام 52 ق.م -وهو العام الذي أطلق عليه الفرنسيون 
سم «العام الرهيب)- anne terrible‏ » کان سيناريو لم يكن أحد 
0 لقد انهار نظام حكم روما الثلاثي القوي. فتل 
کراسوس» وكان بومبي منشغلاً بإحكام قبضته على السلطة المطلقة 
ا EH‏ 
نتشرت في الزوايا الأربع للبلاد. في أحد أخطائه النادرة ف فى التشخيص 
0 اعتقد قيصر أن الشمال الشرقي يمكن أن يصبح نقطة 
محورية في اندلاع الانتفاضة ضد حكمه؛ لكن هذا الخطر جاء من 
الو سط؛ المنطقة التى بدت فيها تحالفاته أقوى. منذ بداية غزوه» اعتمد 
قيصر في استراتيجيته على التحالف مع أمة الأيدوبين وقبائلها الرئيسية 
الخمس. بالنسبة إلى القوة الضاربة المتنقلة لجيشه؛ فقد اعتمد على 
مساعديه من بلاد الغال» وخاصة أربعة آلاف فارس من الأيدويين وهم 
فرسان الملك ديمينوريه. في تموز من سنة 54 ق.م» أثناء انتظاره هبوب 
رياح مواتية ليعبر إلى بريطانياء وقع حادث كانت له عواقب وخيمة. 
لسبب وجیه» كان قيصر يشعر بالقلق من أن بعض حلفاته في بلاد 
الغال قد يتخلون عن ولائهم له ويتمردون على الحكم الروماني خلال 
غيابه أثناء خوضه لمغامرته بالتوجه نحو بريطانيا. لقد قرر أن لا يترك 
وراءه سوى قادة الخال الذين يمكن أن يثق بهم تمامأء وأن يصطحب 
معه أولئك الذين كانوا يشكلون تهديداً. وكان الأقوى من بين هؤلاء 
هو الملك ديمينوريه زعيم الأيدويين» عندما دعاه «قيصر) لمرافقته في 


رحلة بحرية» اختلق ديمينوريه - جميع أنواع الأعذار: كل ا يخاف 
من القيام برحلة بحرية». أو «| نه يفضل البقاء لأن لديه التزاماً بواجبه 
-١‏ بالفرنسية في الأصل. المترجم. 


-296- 


الدينى تجاه شعبه)©. عندما وجد ديمينوريه نفسه في مواجهة رفض 
قيصر القاطع لتركه وراءه» بدأ يفكر مع زملائه ا فائل الغال على 
التخطيط لمكيدة تمكنه من البقاء في القارة. لا بد أن يكون هناك 
سبب وراء استدعاء قيصر لنبلاء بلاد الغال جميعاً وجعلهم يتركون 
هذا المكان. «هدف قيصر هو ذبحنا جميعاً بعيداً عن أعين إخواننا. 
سوف يأخذنا إلى بريطانيا حتى يقضي علينا». كان قيصر منشغلاً 
للغاية باستعداداته للغزو أكثر من انشغاله بديمينوريه. في اليوم الذي 
أصبحت فيه الرياح مواتية أعطى الأمر بالبدء بالإبحارء ترك ديمينوريه 
المخيم وتوجه إلى المنزل. استشاط قيصر غضباً وقرر أن يجعل من 
ملك الأيدويين عبرة لمن يعتبر» لأنه لم يعد يتوقع شيئاً طيباً يصدر من 
رجل تجر أعلى عصيانه» ومام زعماء قبائل الغال أرجأ عملية مغادرة 
أسطوله وأرسل مفرزة من سلاح الفرسان الروماني لإعادة الملك حياً! 
في غضون أربعة أيام» أمسك الرومان بملك الأيدويين الهارب» الذي 
كان يتنقل بلامبالاة معتقداً بشكل أكيد أن قيصر كان بالفعل في أعالي 
البحار. فاجاً الفوج الروماني الأيدويين وهم نيام فى معسكرهم .ممع 
ديمينوريه الضجة وخرج من خيمته لمواجهة ما يجري حاملا سيفه 
في يده. وسط حماس تلك اللحظة» وعلى الرغم من الأمر الصريح 
الذي أصدره قيصر لإعادة رهينته وهو على قيد الحياة» رمى قائد 
الفوج برمحه نحو صدر ديمينوريه «أيها الخائن» لقد حان يومك!» 
بينما أصبح الأيدويون يدورون من حولهم بسرعة جرّاء شدة الهجوم» 
غرز المزيد من المقاتلين الرومان حرابهم في جسده. . حدث هذا القتل 
على مرأى ومسمع من المحاربين الأيدويين المرافقين لملكهم. . وفقاً 
للأعراف. تمّ قطع رأس الملك الميت والعودة به كدليل على القبض 
عليه. أصيب قيصر بالصدمة» ليس بسبب وحشية الفعل» بل بسبب 
ما انطوى عليه من غباء مطلق. فقتل الملك أمام مواطنيه لا يمكن 


2- عن كتاب يوليوس قيصر الحروب الغالية وجميع الاقتباسات اللاحقة منه. 





-297- 


أن يؤدي إلا إلى المتاعب. انتشرت القصة وأصيب أبناء بلاد الغال 
بالضدمة: وكما توقع قيصرء بعد مقتل ملكهم تمّ إلغاء المعاهدة مع 
الأيدويين. ثم تم إلغاء جميع المعاهدات الأخرى مع القبائل الغالية 
ووجد قيصر نفسه مع جحافله الرومانية فقط وبدون معاونيه يقوم 
بالقتال من أجل روما. تركه هذا الأمر من دون سلاح الفرسان» لم 
يعد يستطيع الاعتماد على المؤونات التي كانت تأتيه من حلفائه» وبدأ 
رجاله يعانون من الجوع. 

خلال اجتماع عقدوه في أعماق غابة كارنوتس» أقسم زعماء القبائل 
يمينا مقدساًء وقد وضعوا جانباً مشاعر الغيرة فيما بينهم وعقدوا العزم على 
محاربة عدو مشترك واحد . كل ما كان يتطلبه الأمر هو أن يتقدم زعيم نشط 
ويأخذ الأمر على عاتقه ويوحٌد القبائل. وكان مثل هذا الرجل هو فرسن 
جتريكس أمير قبيلة الأفيرني. ولد في قرية غيرغوفيا حوالي عام 80 ق.» 
وهو سليل عائلة من الأمراء. وكان عمه جوبانيتيو ملك أفيرني؛ ووالده 
هو سيلتيليو الشرس» الذي حاول اغتصاب تاج شقيقه وأعدم بسبب ذلك 
علناً . كان فرسن جتريكس في أواخر العشرينيات من عمره» طويل القامة 
وذا بنية جيدة» مع شعر طويل ينسدل على كتفيه ولحية ذهبية أعطته مظهراً 
يتسم بقوة مهيبة لنبي شديد الغضب من العصور القديمة. كان قد تلقى 
تدريبه العسكري على يد قيصر في حظيرة (2165صمءطتغهمه) في الجيش 
الروماني يسكن أفرادها في خيمة واحدة» وهي في الواقع طريقة لاحتجاز 
ذوي النسب النبيل. لاحظ قيصر الصفات القيادية لدى الشاب وأمل أن 
يجعله قائداً للجحافل المساندة لروما. ولكن فرسن جتريكس كان يتمٌ 
تدريبه من قبل روما ومن أجلها -مثلما سيحدث مع تيتونيس أرمينيوس 
بعل بضع سنوات- فقط لخدمة روما والقتال في جحافلها. منحه رجال 
قبيلة أفيرني درعاً وأعلنوه ه ملكا عليهم. كانت خطوته الأولى هي إرسال 
سفراء إلى قبائل بلاد الغال -كان عددها يقارب الثلاثمائة» يتمركز 


-298- 


معظمها حو ل أو بييدومات ”الام م0 ۵- ودعاها للانضمام إلى حملته 
لتحرير بلده من الغزاة الرومان. كانت تحركاته تزداد زخماً فقد قررت 
القبائل الكبرى» مثل باريسي وبيكتون وكادوروكي وتورون وسينون» أن 
تنضمٌ إلى حملة فرسن جتريكس. 

فوجئ قيصر بالأمر ولم يكن متحسباً له» ولكنه بعد ذلك قام برد فعل 
سريع كعادته. لقد فاجأ اتحاد القبائل الغالية الناشئ لتوه بعبوره قمم 
جبال فيفاراس المغطاة بالثلوج في أوائل شهر شباط وغزو أراضي قبائل 
الأفيرني» ومن هناك سار بجحافله إلى قرية أغيدينكوم بالقرب من مدينة 
سينس. كان هذا هو المكان الذي بدأت فيه المرحلة الأخيرة من حرب 
قيصر ضد بلاد الغال. لقد شين قيصر الحرب عندما رفض الأيدويون 
تزويد جحافله الجائعة بالمؤن الغذائية. فى أوائل آذار» غادر أغيديتكوم 
وسار نحو مدينة سينابوم (حالياً أورليان). في منتصف الليل ظهر جيشه 
أمام بوابات المدينة. تدفق عدد من الناس المذعورين على الجسر الضيق 
الممتد على نهر اللوار بينما كانت الجحافل تشق طريقها إلى المدينة. 
سمح قيصر لرجاله بنهب أورليان قبل أن يشعل النيران فيها. ومن أورليان 
سارع إلى هدفه التالي» مدينة أفاريكوم (بورجيس) المحصنة بشدة» 
جوهرة بلاد الغال وعاصمة قبائل بيتورجيس. 

بالنسبة لقيصر» كانت مدينة أفاريكوم ذات أهمية مزدوجة: كمكان 
يبين فيه للقبائل ماسيفعله لأي حليف يتج رأعلى تغيير و لائه له» وكمصدر 
لإمدادات ثمينة لجحافله. كان ممثل القنصل الروماني يتعلم درساً حول 
مدى خطورة القيام بحملة مع جيش يعتمد على الخيول قبل أن يتم 
حصاد الحبوب. لحرمان جيش قيصر من علفه» أمر فرسن جتريكس 
باتباع سياسة الأرض المحروقة. وبناءً على أمره» أحرق الغاليون ثلاثين 
مدينة - لكن لم تكن بورجيس من بينها. فقد رفضوا التضحية ب «لؤلؤة 
بلاد الغال». وهكذا بقيت بورجيس صامدة» وكان ذلك عيب قاتل في 





2 مصطلح قديم يشير إلى تجمعات سكنئية كانت منتشرة في أوروبا. المترجم. 


-299- 


استراتيجية قبائل الغال. ولأول مرة» برزت إلى الواجهة عبقرية قيصر 
في فرض الحصار. استغرق الأمر من جحافله يومين فقط لتشييد هيكل 
ضخم؛ كانوا يعملون مثل النمل» وأقاموا مدرجين مرتفعين» طول كل 
منهما 100 متر وارتفاعه 30 متراً. وباستخدام المنجنيقات أبادوا قوات 
العدو. كان سقوط المدينة مجرد مسألة وقت. لم يكن أمام المدافعين 
خيار سوى الهروب» من خلال نفق سري. وعندما نجحوا في هروبهم؛ 
اعترضت عليهم نساء البلدة بصيحات عالية لدرجة أنها كشفت موقع 
النفق» فقام رجال قيصر بسدّ مخارجه. . تسلق المقاتلون الرومان أسوار 
البلدة دون أن يواجهوا مقاومة واقتحموا المدينة» وارتكبوا في طريقهم 
أعمال ذبح رهيبة؛ من بين أربعين آلف مقاتل كان يدافع عنهاء تمكن 
0 فرد منهم فقط من الفرار. هذا النصر الروماني لم يكن بسبب بسالة 
المقاتلين ولكن بسبب خطة قيصر المبتكرة فى فرض الحصار. ما تلا 
ذلك لم يضف سوى القليل إلى أمجاد قيصر: لقد أعطى أوامر محددة 
بذبح جميع سكان بورجيس. مع إيلاء اهتمام خاص للدرويد". لکن 
حمام الدم المستهتر هذا عاد بنتائج عكسية على قيصر. فقد أصبح حل 
الأومة سياهيا الا ارا عي وارد 
بعد يومين من الراحة» بعد حصول جيشه على الطعام والإمدادات 
اللازمة» سار قيصر بجيشه نحو تجمعات سكن الأيدويين (0نالأمم0) 
في بلدة ديسيتيا (ديسيز) وأجبر كوتوسء الحليف الوحيد له والذي كان 
لا يزال بإمكانه الاعتماد عليه» على التنحي لصالح كونفيكتوليتافيس . أمل 
قيصر أن يثبت الأخير أنه ممتن له ويساعد في حماية مؤخرة الجحافل. 
ولكن بدلاً من ذلك اختار كونفيكتوليتافيس التعاون مع فرسن جتريكسن 
ووجد قيصر نفسه عالقاً بين جبهتين» أمة الأيدويين القوية إلى الشمال 
وفرسن جتريكس في قرية غيرغوفيا. 
سبق لقيصر أن حسب تكلفة مشروعه التالي: حصار غيرغوفياء 
4- كهنة بلاد الغال. المترجم 
-300- 


وتجمعات سكن قبيلة الأفيرني (بالقرب من مدينة كليرمونت في 
وسط فرنسا). كان يدرك أنه يجب أن يتحرك بسرعة ويضرب بحزم 
قبل أن يجد الأيدويين في ظهره. وهو في الطريق» حاول قيصر جمع 
دعم روما لمخططه؛ لقد طلب مساعدة الحلفاء الأقوياء؛ ليس فقط 
موافقة مجلس الشيوخ على خططه العسكرية» ولكن أيضاً موافقتهم 
على أهدافه الكبرى أيضاً. لن تكون هذه هي المرة الأولى التي ينجح 
فيها قائد بارع» بالقيام بغزو حاسم» ثم يستخدمه في سعيه للوصول إلى 
السلطة المطلقة. بعد تخلصه من فرسن جتريكس لن يتبقى له سوى . 
التخلص من بومبي. 

كان فرسن جتريكس يستعد لوضع خطته الرئيسية موضع التنفيذ. من 
خلال إغراء قيصر لفرض حصار على غيرغوفياء وحينها سيضيق الخناق 
عليه ثم يسحقه حينما يصبح بين قوات قبيلته أفيرني من جهة وقوات 
الأيدويين القوية من جهة. 

كان الحصار الذي قام به قيصر بمثابة كارثة منذ البداية. كان قد وقع 
في الفخ. ومع تدفق حشود ضخمة من مقاتلي قبائل الغال بشعرهم» 
الذي دُهنت جدائله الطويلة بالزيت» وقد ارتدوا سترات جلدية على 
صدورهم العارية وحملوا سيوفهم الطويلة في أحزمة معلقة على كتف 
واحد؛ متأهبين للانقضاض» تخلى عن فرض الحصار وقرر الانسحاب. 
كان هذا الأمر مكلفاً؛ لقد فقد ألف قتيل» بما في ذلك ستة وأربعين من 
ضباطه الأكفاء. لكن قيصر تخلص من الفخ وتمكن من الانضمام ثانية 
إلى نائبه في القيادة تيتوس لابينوسء الذي كان قد حقق لتوّه مع جحافله 
الست انتصارات على قبيلة باريسي على أبواب مدينة لوتيس (باريس). 
كان قيصر لا يزال بدون سلاح الفرسان المهم لديه. فقد تركه سلاح 
الفرسان التابع للقوات الغالية الحليفة معه سابقاً وكانت كل المؤشرات 
تميل لصالح قوات الغاليين البالغ عددها ثلاثمائة ألف فردء بما في 
ذلك ما لا يقل عن ثلاثين إلى أربعين ألف مقاتل من سلاح الفرسان. 

-301- 


قرر قيصر أن يترك بلاد الغال ويتوجه نحو قلاعه في المقاطعات 
الرومانية (بروفانس). كان أكثر شيء يحتاجه هو حماية قواته المنسحبة 
من هجمات سلاح الفرسان. بعد أن تركه مقاتلو سلاح الفرسان من 
الغاليين الذين كاو ا معه أرس سقزاء يخرن أكيانا من الفضة عر 
نهر الراين لإشراك خمسة آلاف من الفرسان الألمان الذين لا يرحمون» 
وكانت تلك مقامرة جريئة حيث إن من المعروف أن المرتزقة البربريين 
يقاتلون مع من يدفع أكثر. وبمجرد وصولهم عبر نهر الراين» استطاع 
الذهب الذي قدمته لهم قبائل الغال أن يغير مواقفهم بسهولة وبدؤوا 
يقاتلون ضد الرومان :وكات اسیا جتحا وسر غان ما ات هولاء 
البرابرة أنهم يستحقون الذهب الذي منح لهم. 

في الوقت الذي سارع فيه قيصر بالتوجه جنوباًء ازدادت أعداد 
المحاربين في قوات بلاد الغال» مثل جداول الماء التي تغذي مجرى 
نهر كبير. ومع ذلك» كانت القوة الرئيسة لا تزال بعيدة جداً في الشمال 
فلا يمكن أن تقدم مساعدة فورية إلى فرسن جتریکس» وتركت له أمر 
إغلاق طريق قيصر المؤدي إلى المقاطعات الرومانية. وقد فعل هذا 
عند نهر أرمانسون (بالقرب من مونبار). عند ريف بورغوندي الجبلي» 
انقسم سلاح الفرسان لبلاد الغال إلى ثلاثة أرتال - ظهر اثنان فجأة على 
الأجنحة الرومانية بينما منعت قوات المشاة الغالية تقدم قيصر. دخل 
مرتزقته الجرمان ميدان المعركة. وخاضوا معركة قصيرة ولكن شرسة» 
وصل الألمان ذروة قتالهم حين انقضوا على مقاتلي بلاد الغال. كان 
الهجوم الذي شنه الألمان مفاجئ للغاية لدرجة أن فرسن جتريكس لم 
يكن لديه الوقت لنشر جنوده؛ تمّت هزيمة وحدته المحتجزة عند نهر 
أرمانسون و«ارتكب البرابرة الألمان بحقهم مجزرة فظيعة». 

دعا قيصر إلى اجتماع مع عاط جاو . انحن نسير عبر أرض معادية 
يعوي الذئب منادياً: أناء فرسن جتريكس» سوف آكلكم! حسناًء الذئب» 

حتى الجریح» يظل ذ ذئباً. مقاتلو الغال أمامنا وفي ظهورنا. دعونا نطارد 

-302- 


هذا الذئب الوحيد طالما يفتقر إلى الدعم. إذا تراجع إلى موقع محصن» 
فسوف نطوقه ونجوعه). 

«وما العمل عندما يأتي الجبش الجرار لمساعدته؟) 

احينها سنقيم خطاً دفاعياً ثانياً وسنقاتلهم أيضاً». 

ايعيش القيصر» ولتكن الآلهة معك». هذا كل ما قالوه» لأنهم كانوا 
بعرفون أن إرادة قيصر هي فقط ما تتحقق. بينما كان الرومان قد وضعوا 
بالفعل خططا لفرض الحصارء توصل فرسن جتريكس إلى قرار مصيري. 
فى هذه المرة سينصب فخا أقوى من الفخ الذي نصبه في غرغوفياء 

. 8 7 و 0 

جيش الغاليين من الشمال ليسحق قيصر مثلما تُسحق الذرة بين حجارة 
الطاحونة. بعد هزيمة فرسانه» أمر فرسن جتريكس الذي كان عند نهر 
أرمانسون مقاتليه بالانسحاب الفوري وتوجه إلى حيث يقيم المندوبون 
وهو تجمع لعدد من قبائل الغال في مدينة أليسيا©. 

منذ ذلك الحين» والمؤرخون يتساءلون لماذا حبس فرسن جتريكس 
نفسه وقواته داخل حصون مدينة أليسيا. فهو إجراء لا معنى له من الناحية 
الاستراتيجية. كان لديه أكثر من وسيلة فعّالة كافية لعرقلة الطريق الوحيد 
المؤدي إلى الجنوب عبر جبال بورغوندي» وهو موقع مثالي لنتصب 
الكمائن. كان لديه ثمانون ألف مقاتل ولم يكن لدى قيصر سوى خمسة 
و التفسير البسيط هو أنه قد انصدم بشدة بسبب أن ما فعله 
كان أشبه بالهروب عند نهر رمانسون» حيث شهد بأم عينيه كفاءة جحافل 
روما المنضبطة» مما جعله يخطط لمحاصرة قيصر ويبقى ينتظر» ما 
دامت جميع قبائل الغال قد اندفعت نحو قيصر لتبيد النسر الروماني. 
هذا العامل» وليس غيره» يمكن أن يكون الدافع الاستراتيجي لخطوته. 
لقد تجاهل الخطر الرئيس. إذا حدث خطأ ماء فسيتم تركه محاصراً عند 
سسسعسي يس و ا ا ا ا ا حا 
3 عن كتاب يوليوس قيصر: الحروب الغالية. 


-303- 


إحدى الصخور. ولكن كيف يمكن أن يحدث أي شيء خطأ؟ أخبره 
جنود الاستطلاع أن القوة الغالية الرئيسة التي يبلغ عددها مئات الالاف 
لم يعد أمامها سوى بضعة أيام لتتجه إلى الشمال. 

ااقيصر لا يستطيع أن يسير جنوباً خلفنا وإلا فإننا سوف نزعج قطعاته 
الخلفية. علينا أن نكون في طريقه مباشرة. فيضطر لأن يهاجمناء وهذا 
مكان مناسب. لكنه سيأتى محملاً بالحديد والنار» والآلهة وحدها تعلم 
ما يملك من القوى المظلمة الأخرى». ومهما كان السبب الذي دفعهء فقد 
كان زعيم الغال يقوم بإعداد الميدان لمعركة ذات أبعاد ملحمية. 

تقع حصون(10122م00) مديئة أليسيا © عند جبل أو سوغ الصخري» 
الذي يبلغ ارتفاعه 418 م» تحيطها أربع تلال متساوية تقريبا في الارتفاع: 
ريا بارتفاع (386 م)» ودي باسيه (246 م) وبينيفيل (405 م) ودي فلافيري 
)421 م( ويمتد أمامه لمسافة ثلاثة أميال» مرعى يسمى بلين دي لاموس» 
يقطعه نهر بينر. تتناثر فيه اليوم الحقول والمزارع ويوجد فيه الطريق 
السريع المؤدي إلى مدينة ديجون. ثم يأتي مرج تنتشر فيه حقول الذرة 
التي تستخدم لإطعام سكان الحصون. 

في صيف عام 52 ق.م» تغيّر الطقس فجأة بشكل سيى. بدأت 
السماء تمطرء وارتفعت نسبة مياه الأنهار وأصبحت الأرض مغمورة 
بالمياه. كان هذا ليصبح أحد العوامل الحاسمة في المواجهة القادمة 
بينما كان فرسن جتريكس ينتظر جيش قبائل الخال الجرار ليحكم 
الطوق على الجحافل الرومانية» والتي كانت تُعسكر في مخيمات أمام 





6- حتى منتصف القرن التاسع عشرء ظل الموقع الدقيق لمدينة أليسيا لغزاً. أمر نابليون 
الثالث بإجراء عمليات تنقيب لتحديد ما سمعه قيصر موروس غالوس» أي جدار 
الغاليين» بالقرب من قرية أليزيه سائت» تم تقديم الدليل النهائى على وجوده فى 
منتصف الخمسينيات باستخدام التصوير الجوي» والذي أظهر بوضوح المعالم 
الأساسية للجدار الذي تحدث عنه قيصر. من زز المكان سيتعرف على تمثال فرسن 
جتريكس البرونزي العملاق وهو تحفة فنية للنحات الفرنسى إيمى ميلت والذى 
يطل على ريف بورغوغني. ا ٠‏ 


-304- 


جبل أوكسوا في سهل مفتوح» لا يمكن الدفاع عنه» تباطأ بشكل كبير 
تقدم قوة الإغاثة وهذا منح قيصر الوقت للتحضير للمواجهة. كان من 
الصعب مهاجمة حصون أليسيا. ومع ذلك» أدرك قيصر نقطة ضعفها: 
إذا لم تتمكن جحافله من صعود التل» فإنه سيستطيع -من خلال تطويق 
كامل لجبل أوكسوا عن طريق السدود الترابية التي لا يتجاوز ارتفاعها 
صدر الإنسان المتوسط القامة- منع فرسن جتريكس وقواته فعلياً من 
النزول. وهذا من شأنه أن يحرم المحاصرين من مصادرهم المائية 
وهما اثنان من الجداول الصغيرة أوسى وأوسيراين» واللذان يمران 
عبر الوادي. ومن خلال تحويل سار ]مدا داك لماه الخاصة بهم» فإن 
هذا من شأنه أن يجعل من في الحصن مضطراً للنزول. أمر القائد البارع 
في فنون الحصار بتشييد أضخم أسوار الحصار التي عرفها العالم من 
قبل: لقد تم نقل مليوني متر مكعب من التراب لبناء سورين دائريين» 
ليكونا بمثابة مصد لمنع سكان أليسيا من الخروج» وتم تطويقها لمنع 
مقاتلي قوات الإغاثة من الوصول إلى إخوانهم المحاصرين في حبل 
أوكسوا. سهّلت المياه التى غمرت الأرض عملية حفر مساحة هائلة 
منها والتي كانت لازمة لبناء مثل هذه الأسوار الضخمة. تمّ تشييد 
القاعدة الأساسية لها من جذوع الأشجار المقطوعة بدلاً من الأرض 
الرطبة؛ وحالما تصبح جافة» يتجّ جعلها دعامة ثابتة. عمل مقاتلو 
الفيالق الرومانية» الذين كانوا عراة إلى حدّ خصورهم» على تعزيزها 
بالاستحكامات. كانت فؤوسهم ومعاولهم ترتفع وتهبط بإيقاع 
واحد. وبعد أن اشترك جميع المقاتلين في كل عمليات القطع والحفر 
والسحب والبناء» تم الانتهاء من تشييد السورين في وقت قياسي. تأكد 
قيصر أنه أصبح بمأمن من أي هجوم مفاجئ يقوم به فرسن جتريكس» 
كانت خطته هي انتظار وصول بقية مقاتلي القبائل الغالية. وْضِعَت 
الموانع» التي تمتد على طول قاعدة الجبل لمسافة عشرة أميال» في أقل 
من أسبوع. وبهذا تمّ القضاء على أي أمل للسكان بترك الحصونء وما 


-305- 


لم تتم إغاثتهم قريباً» فسيحكم على الحامية الموجودة فيها بالموت 
البطيء جراء العطش والجوع. 

بالنسبة لمواقع الرماية في السورين» صمم قيصر نظاماً معقداً وفعالاً 
لا من الاقاعات 2 قزر لسر لان وصشرين 9107ا 
وهي أبراج خشبية مزودة برماة. أسفل الأسوار مباشرة» كانت هناك خمسة 
صفوف من الأغصان الشوكية (مثل الأسلاك الشائكة) مغروزة بعمق في 
الجدران الطينية الرطبة؛ وعلى طريق قليل الانحدار بعرض ستين قدماًء 
وهي المساحة ما بين السور والخندق المائيء تم نقل الألاف من (السيبس 
أطمه)» وهي مسامير خشبية تمّ تصليبها بالنار© إلى الأرض. تم استخدام 
سراف يا ا كانت المنطقة مليئة بما يسمى 
(ليلياس 111135)» وهي فتحات بعمق خمسة أقدام مخبأة تحت أغصان 
الأشجار لتتعثر بها الخيول وتتكسر أرجلها. في مقدمة الطريق كان هناك 
خندقان يبلغ عمقهما 20 قدماً تم ملؤهما بالمياه ان 
خدمت ا مسير قوات المشاة مما 
ا تعرض ا الرماة مق الأبراع» وتخويل لدف لحن 
لف نكري كاقل ا وا ن طلا على 
السهل» بأدوات كانت تمثل مدفعية قوات قيصر» وتشمل السكوربيون 
835 (وهي أقواس ضخمة مثبتة على حامل ثلاثي الأرجل وتطلق 
حزما من المسامير المعدنية) والأوناجرس 00286155 (منجنيقات عملاقة 
تقذف كتلاً من الحجارة كأنها قنابل عنقودية). وفي النهاية» قام رجال 
قيصر وأولئك الذين كانوا مع لابينوس معاونه في القيادة» والذي كان 
يتراوح عددهم من ثلاثين إلى خمسة وثلاثين من جنود الفيلق بالإضافة 
إلى وحدات الإمدادء بنصب خيامهم بين السّورين. 


8- ل الوه 
9- يمكن رؤية كلا أدوات الحصار هذه في عمود تراجان في روما. 


-306- 





في هذه الأثناء» كان فرسن جتريكس قد وضع رجاله البالغ عددهم 80 
ألف رجل على طول الجهة الشرقية من الجبل وليس على قمة الحصن 
(ا4أمم0)» لقد كان هذا خطأ تكتيكياً جسيماً كونه أعطى قيصر دلالة قوية 


-307- 


على المكان الذي سينطلق منه الهجوم الرئيس» ولذلك قام بنقل قواته وفقاً 
لذلك. لقد كان يعلم أنه لا يملك من الوقت لا أشهراً ولا حتى أسابيع بل 
ليس أمامه في أفضل الأحوال سوى أيام للانتهاء من نصب دفاعاته. فقام 
بالتودد لآلاف من الرجال الذين يعملون مثل النمل عراة الصدور والضغط 
عليهم لحفر الخنادق وتشييد الجدار ياردة بعد أخرى. لقد كان على 
صواب؛ فقد صنعت أربعة أيام فرقاً. تسببت أربعة أيام قصيرة في إعادة كتابة 
التاريخ. أدى التأخير الناجم عن هطول الأمطار الغزيرة وتردد قيادة جيش 
قبائل الغال إلى إبطاء مسيره بما فيه الكفاية لمنعه من اللحاق بجحافل قيصر 
التي كانت غير مستعدة عند سهل مفتوح على مصراعيه. هكذا وقف الحظ 
إلى جانب قيصر. ‏ 27 

وصل جيش الإنقاذ الغالي بجميع أفراده» البالغ عددهم مائتان وثمانية 
وأربعون لف مقاتل» من الشمال الغربي. لم يكونوا يتحركون كأفراد جيش 
ولكن أشبه بقطيع من أفراد عاديين هائل الحجم؛ كانت الخيول تصهل؛ 
والسيوف تصلصل والأسلحة تقعقع» وامتلأت الأجواء بالنكات البذيئة. 
كان المحاربون مليئين بالثقة. كان الجو أشبه بكرنفال أكثر منه مهمة 
عسكرية خطيرة ولا عجب فهم لم يروا الرومان منذ شهر. توجهت وحداتهم 
المتقدمة بخيولها نحو قمة جبل ريا. ارتفعت أمامهم على بعد بضعة أميال 
عبر المرج المسطح» المنحدرات الشاهقة لمدينة أليسيا. حدّقوا فى الدخان 
الذي كان يتصاعد من خيم إخوانهم» وهو يرتفع في السماء من صخور 
أليسياء لكنهم رأوا شيئأ آخر عند أسفل المنحدرات: كان هناك سياج 
مزدوج من الأسوار والأبراج! وبين هذين الجدارين» كان هناك المزيد من 
النيران؛ على شكل دائرة كاملة. وهذا منع قادة جيوش الغال من التواصل 
مع فرسن جتريكس الموجود في الحصن”". في ذلك المساء عقد قادة 
الغال اجتماعاً. حضره زعماء القبائل الرئيسة الثلاث» كوفرس رط ا 
0- كان لدى الرومان نظام موحد للوشارات لمسافات طويلة باستخدام المرايا أو الدخان؛ 

أما جيوش الغال؛ كونها تجمع مختلف القبائل» فلم يكن لديها شيء من هذا القبيل. 

-308- 





الأتريباتس» وفيركاسيفيلون زعيم قبيلة الأفيرني» وإیبوریدوریکس زعيم 
قبيلة الأيدويين» بالإضافة إلى زعماء القبائل الأصغر . كان الاجتماع 
عاصفاً حيث أراد كل واحد منهم الدفاع عن استراتيجيته. «مهمتنا هي 
إطلاق سراح فرسن جتريكس». وقد وافق معظمهم على ذلك عندما ارتفع 
أحد الأصوات وأوقف هذيانات الآراء المعارضة. «لا! نحن لسنا هنا 
لتحرير إخواننا. نحن هنا لإبادة قيصر وجيشه» ويجب ألا نتوقف قبل أن 
يموت آخر روماني!». كان هذا الصوت هو الأكثر إثارة للدهشة لأنه كان 
صوت في ركاسيفيلون زعيم قبيلة الأفيرني وهو ابن عم فرسن جتريكس» 
بالنسبة له أصبحت القضية مسألة شرف وحماية مجد عشيرته. كان تحرير 
فرسن ریک أمراً ثانوياً مقارنة بكراهيته الشخصية لأي شيء روماني 
مهما كان بعيداء وهي كراهية عمياء لا تؤدي إلى التفكير بالتخطيط السليم 
لاستراتيجية قتالية. «نعم» اقتلوا كل روماني!»» الأمر يتطلب بالتأكيد شن 
هجوم, لکن أين؟ لم يفكر أحد في هذه المشكلة. لقد هزمت الجيوشس 
لأنها لم تكن لديها أدنى فكرة عن التضاريس التي تقاتل فيها. كانت هذه 
أرض بلاد الغال» لكن جيش الغال الذي تم جمعه على وقع الطبول لم 
يكن من منطقة بورغوندي؛ وبسبب تفوقها العددي الهائلء لم تفعل تلك 
الجيوش شيئاً لاستكشاف المنطقة والتعرف على دفاعات قيصر. 

سخر قيصر بازدراء من غفلة هذه الجيوشء التي تصبّ في مصلحته؛ 
لكن مع ذلك. كان انتشار قواته بالكاد مطمئناً. لم يقتصر الأمر على 
مواجهته عدداً كبيراً من قوات المشاة» فقد كانت قواته تضمٌ سلاح الفرسان 
الأكثر إرعاباً منذ أيام سلاح الفرسان النومينيدي بقيادة هنيبعل. كان قدامى 
محاربي قيصر متفوقين في الانضباط والتكتيكات والخبرة القتالية» لكنه 
يض تحمل خزد مدركا ريا مركن ااام الاتصار ب 
کان هدفه هو أن يثبت لجيوش أعدائه أن محاولة عبور أسواره المحصنة 
ستكون باهظة التكلفة وبالتالي إقناعها بالعودة إلى أراضي قبائلهاء وبعد 
ذلك سيغادر هو إلى الأقاليم الرومانية. 


-309- 


في صباح اليوم التالي» ساد الصمت في أرجاء السهل بشكل يثير 
الفضول. فقد كانت تُسمع فيه على مدى أسابيع أصوات المطارق وهي 
تطوّع الحديد لتصنع منه رؤوساً للسهام والرماح. الآن باتت المطارق 
صامتة» ولم تكن هناك أصوات صيحات أو لعنات تصدر من المئات من 
الضباط أو المهندسين. انتهى وقت البناء واقترب وقت القتال الجدي. 
وبينما کان على حصانه يطل على جحافله من ارتفاع شاهق» كان صوت 
القائد نائب القنصل مقنعاً: «يا جنود روماء أصحاب التقاليد التي تبعث 
على الفخرء لقد شهدتم حالات صعبة عديدة من قبل» وكانت دائماً 
شجاعة جحافلنا تحقق النصر. فلتكن هذه المرة مثل سابقاتها. هناك عدو 
أمامنا وآخر وراءنا. ليس لدينا خيار سوى القتال من أجل البقاء. اتخذوا 
مواضعكم في شرفات السورين وقاتلوا حتى لو كلفكم ذلك حياتكم. 
ويجب أن يتذكر كل واحد منكم مقولة: أنا مواطن روماني». 

كان أمراً جيداً أنهم وثقوا به وصدقوه. 

شنت جيوش قبائل الغال ول هجوم لها دون استعدادات» ومن دون 
خطة أو قيادة شاملة. كانت قد وصلت للتو. تدفق الآلاف والآلاف من 
المقاتلين من التلال (التي تعرف اليوم باسم موسيه لافوس) نحو سهل 
لوميه 65تتناة.آ 065 66زة21. وسرعان ما امتلأ السهل بأكمله بالمقاتلين 
الخيالة وقد دخلوا في قتال عنيف. من قمة جبل أوكسوا كان المشهد 
رائعاًء وكان رجال فرسن جتريكس فرحين كثيراً. خاض الخيالة في مياه 
نهر برين» تبعهم عن قرب رجال يسيرون على الأقدام وهم مصممون 
على ملاقاة الرومان. قام قيصر بجعل فيلقين من فيالقه وهما الفيلق 
العاشر بقيادة الليغات!) كينينوس ريبيلوس» والحادي عشر بقيادة 
الليغات أنتيستوس ريجينوس يصطفان سوية2" أمام الأسوار لوقف ذلك 
1- رتبة ضابط في الجيش الروماني. المترجم. 


الصمود. 





-310- 


التدفق» وقف الجدار الروماني من الدروع والرماح صامداً بثبات لساعات 
ينم ای الا ن عور ا زرحت الترخئ رغم الانهم عبر 
البوابة بسرعة وبأعداد كبيرة بحيث لم يكن بالإمكان صدّهم ذ فى الوقت 
المناسب. كانت تنتشر في حرارة الصيف» الإصابات بالغرغرينا. 

بسرعة» مات الكثير نتيجة فقدانهم الدم. كانت جثثهم مكدسة قبالة 
سياج من أوتاد خشبية في جدار الصد. وعندما لم تكن هناك مساحة 
إضافية لتكدسهم» كان يتم إلقاء الجثث فوق الجدران» مما زاد من رعب 
المشهد. ظلت نتيجة القتال تتأرجح بين الطرفين حتى حلول الظلام 
عندما أصبح الضغط شديداً لدرجة اضطرت جحافل الرومان إلى التراجع 
خلف جدرانها الواقية» تازكة مئات الجرحى والقتلى خارج الأسوار. في 
اليوم الأول عانى كلا الجانبين من خسائر فادحة؛ لكن بينما كان بإمكان 
جيوش قبائل الغال تحملهاء لم يستطع الرومان ذلك. إذ لم تكن لديهم 
قوات احتياطية. 

كان اليوم الأول من القتال قد كشف لقوات قبائل الغال عن القخاخ 
الكثيرة المدفونة في خطوط الدفاع المحصنةء وقد أمضوا يوماً كاملاً في 
إعداد المواد اللازمة للتغلب على العقبات التي واجهتهم: : كانت اللأرض 
مليئة بالخنادق والجحور التي تتسبب في كسر السيقان» والسلالم 
وخطافات التثبيت التي تستخدم في تسلق المتاريس. خلال الليلة التالية» 
زحف الآلاف من مقاتلى الغال نحو الخندق الأول للسور الدفاعي. 
امتلأت معاطفهم بالتراب وهم يجتازون الممرات عبر الخندق. فشل 
المدافعون في السور في اكتشاف المدى الهائل لهذا النشاط المحموم. 
لسبب واحد» كان الرومان مرهقين للغاية بعد يومين من القتال ليكونوا 
متيفظين بشكل كافي. ولم يرتفع أي صوت إنذار حتى صارت القوة 
الهجومية على بعد أمتار قليلة من هدفها النهائي. فجأة» نهضت حشود 
من المقاتلين من الأرض وسط صخب مخيف» وهرعت لتشنّ الهجوم. 
ثم صبّت وابلاً غزيراً من السهام نحو الجزء العلوي من السورين. 

-311- 


كانت الضجة التى بدأت تنبعث من السهل أول إشارة إلى أن فرسن ٠‏ 
جتريكس عاود الهجوم على الجدار الأول من التحصينات التي شيّدها 
الرومان. ومن ثم ألهب حماس مقاتليه وقادهم إلى شن هجوم على 
الجدار الثاني. سارع الرومان لإمداد مواقعهم بالرجال. وباستخدام 
أكداس من الذخائر المجهزة مسبقاء قاموا بهجوم مضاد بإطلاق وابل 
من الحجارة بواسطة منجنيقاتهم المخصصة لفرض الحصار» لكنهم 
لم يستطيعوا فعل الكثير لتعزيز الزوايا الضعيفة في دفاعات الجدار. من 
حسن حظهم أن مقاتلي الغال هاجموا في كل مكان في الوقت نفسه» 
بدلاً من تركيز جهودهم على نقطة محددة من الحاجز. سرعان ما انحشر 
الكثيرون فى المنطقة الضيقة المنحدرة قليلاً الواقعة بين الخندقين 
المائيين والحاجزء وعلى الرغم من الظلام» وجد الرومان أهدافاً سهلة 
لهم وتكبد مقاتلو الغال خسائر فادحة. هذا ما أنقذ جحافل قيصر في 
تلك الليلة. بالإضافة إلى الشجاعة والقيادة المذهلة لاثنين من الضباط 
(برتبة الليغات)» هما غايوس تريبونيوس وماركوس أنطونيوس (الذي 
سيصبح فيما بعد أحد الرجال الثلاثة الذين يحكمون روما وفق النظام 
الثلاثي وعشيق كليوباترا). فقد ألهموا رجالهم في الدفاعات بالأمثلة 
التي قدموها. وطالما بقي مقاتلو الخال خارج «الأرض الملخومة»» وهي 
المنطقة المحصورة بين الخنادق المملوءة بالماء والحاجز» فقد احتفظ 
الرومان بميزة التفوق» فبمجرد عبورهم الخندق الأول» تكون حرية 
تنقلهم مقيدة إلى حد كبير بسبب ضيق المساحة والفخاخ المنصوبة. 
ويعود سبب تكبدهم تلك الخسائر بشكل رئيس إلى اندفاعهم الهائل 
إلى الأمام مما جعل المسامير المغروزة في الأسوار تخترق أجسادهم. 
أمر قيصر الضابط (الليغات) تيتوس لابينوس بشن هجوم مضلل بواسطة 
فيلقين كاملين خارج منطقة التحصينات لتخفيف الضغط على مقاتليه. 
تمّ الهجوم على فيلقي لابينوس على الفور من قبل موجات من مقاتلي 
قبائل الغال وهم يصرخون بأعلى أصواتهم في الميدان المفتوح وكانت 

-312- 


أجسادهم تتدافع باتجاه المعسكر. زادت حمى القتال على الأرض إلى 
مستويات عالية. كان معظم مقاتلي الغال قد عبروا الآن الخندق ووجدوا 
أنفسهم محشورين بين الماء من جانب والحصن وجحافل الرومان 
المتوجهة نحوهم من الجانب الآخر. لم يتمكنوا من تسلق الجدران 
ولا من العودة عبر الخندق المملوء بالماء. وبما أن الضغط أصبح 
مسلطاً عليهم من كل الجهات» فقد أصبحوا هدفا مثاليا لقذائف القوات 
الرومانية. التي أمطرتهم بوابل من الحجارة فيما كان يسمع صوت السهام 
وهي تتطاير في الهواءء محدثة بعده صوتاً مكتوماً وهي تضرب أجساد 
الرجال وتخترقها وتجعل خيولهم في حالة من الهيجان. بدأت العديد من 
الخيول تطرح راكبيها أرضاً وتنتصب على قائمتيها الخلفيتين ليخترقها 
رمح آخر عند الجزء السفلي الناعم من جسمها. بدأ مقاتلو بلاد الغال 
يترنحون واندفعت الجحافل المنضبطة للأمام على شكل كتائب مشاة 
مدربة جيداً واخترقت موجات المهاجمين. حسم هجوم الفيلقين أمر 
الهجوم الليلي. لقد ترك مقاتلو قبائل الغال الآلاف من القتلى وراءهم» 
وقد سقطوا في الفخاخ أو طافوا في ماء الخندق. بمجرد توقف القتال 
حول سور التحصینات» لم يتبق أمام فرسن جيتركس أي خيار سوى 
التراجع والعودة إلى حصنه الجبلي. للمرة الثانية» فشل هجوم كبير له. 
كان قيصر على بيّنة من أنه لن يكون هناك هجومان فقط بل سيعقبهما 
هجوم ثالث» لذلك استعد للهجوم الأخير. 

القد اتضح أخيراً لمقاتلي قبائل الغال أن «قتل الرومان» يتطلب 
أمرأ أكثر من الشجاعة. انتخبوا قائداً جديداً لهم. وقع اختيارهم على 
فب ركاسيفيلاون. أخبرته قبيلة المندوبيين التى كانت تسكن في تلك 
المنطقة عن وجود طريق يمر من حول المعسكرات الرومانية» واكتشف 
جنود استطلاعه وجود بقعة متهاوية في الجدار الروماني. كان معسكر 
القائد لابينوس يمتد على شريط من أرض مستوية بدون مصائد مما منح 
إمكانية الوصول إلى بوابة جدار التحصيئات. بعد وقت قصير من منتتصف 

-313- 


الليل في يوم 15 أيلول سنة 52 ق.م» اصطحب فيركاسيفيلااون ستين الفا 

من أفضل مقاتليه» وكان أغلبهم من سلاح فرسان القبائل الغالية» نحو 
منعطف حول جبل ريا حتى لا يثير الشكوك عند الحراس الرومانين. قبل 
بزوغ الضياء الأولء كانت قوته قد أخذت موقعاً لها عند قمة الجبل. . ورأی 
مقاتلوها أسفلهم حلقة النيران التي أشعلها الرومان كإجراء وقائي ضد 
أي هجوم ليلي مفاجئ آخر. . سمح في ركاسيفيلاون لرجاله بأخذ قسط من 
الراحة حتى الظهر. عندما بلغت الشمس أوجُهاء أعطى الإشارة للتقدم. 

بالنسبة إلى الرومان المتواجدين في الأسوارء كان لا بذ أن يكون هذا 
مشهداً مخيفاًء فموجات ضخمة من المقاتلين كانت تتدفق من التلال 
المحيطة بهم» وسيوفهم تضرب بشدة دروعهم البيضاوية وهم يرددون 
ترانيم القتال التي تنشدها القبائل السلتية بأعلى أصواتهم. اقتحم سلاح 
فرسان القبائل الغالية غابة جبل ريا ونزل المنحدر الطويل؛ خاضت 
خيولهم في المياه وهي تعبر نهر أوسي. كان هناك الكثير من حشود 
المقاتلين بحيث اصطدم بعضهم بالبعض الآخر. توجهوا مباشرة إلى 
معسكر القائد تيتوس لابينوسء الذي يقيم فيه الفيلق 30» بدعم وثيق من 
الفيلقين 31 و36. قبل الوصول إلى الخندق» قام فرسان قبائل الغال بإمالة 
النصف العلوي من أجسامهم» وسحبوا أوتار أقواسهم» وانحنوا إلى 
الوراء وهم على سروج خيولهم وأطلقوا وابلاً من السهام على الرومان 
المتواجدين في الجدار ومجموعات المقاتلين المصطفة خلفه مباشرة. 
تبع هؤلاء الفرسان حشود من مشاة القبائل الغالية. في هذه المرة كان قد 
تمّ تحذير في ركاسيفيلاون مسبقاً من الهجوم القادم بإشارة ارتفع وميضها 
من درع مصقول» فنزل حينها بسرعة من جبل أوكسوا مع جميع محاربيه 
المتبقين لمهاجمة قوات قيصر من الداخل. 

لم يعد الخندق يشكل عقبة حيث ‏ تم ملؤه خلال الهجومين السابقين؛ 
في كل مرة كان الرومان يحاولون تفريغه» كان يتم إبادة فرق العمل 
الخاصة بهم بواسطة السهام ذات الريش. من برج المراقبة الخاص به 

-314- 


شاهد قيصر بدايات المعركة التي كان يعرف أنها ستكون حاسمة. كانت 
المجازفة هائلة؛ هلاك جحافله أو احتلال بلاد الغال. كان تركيز قيصر 
ينصبٌ على إطلاق نيران هائلة من الأسوار والأبراج. أدى القذف المطرد 
الصادر من المنجنيقات إلى إطلاق آلاف الحجارة والكرات الحديدية 
وباتت تدور في الهواء. عانى الرومان من ذلك بشدة. ملأت السهام أرض 
المعركة وتساقط الرجال بأعداد كبيرة على الأرض. ما كان يخشاه حدث 
الآنء فقد تمّت محاصرة رجاله وهم بين جدرانهم. مرة أخرى» كان قيصر 
محظوظاً. لم يتم التنسيق بين هجومي القائدين في ركاسيفيلاون وفرسن 
جيتركس أبدأء وبدلاً من إطلاق جهد منسق في المكان نفسه» هاجمت 
تواتهم أجزاء منفصلة من الجدران الخارجية والداخلية. كانت لحظة 
الحسم قريبة؛ سيخسر مقاتلو الغال إذا فشلوا في تحطيم المتاريس الترابية 
الرومانية» وكان الرومان يعلمون أنهم سيخسرون إذا تمكن مقاتلو الغال 
من عبور الأسوار. في المكان الذي تعرض للهجوم من قبل مقاتلي القائد 
فيركاسيفيلاون كانت هناك فرصة جدية لتحقيق انفراج في الوضع. لأول 
مرة يهاجم محاربوه بانسجام تام. تناثر الرماة على الجدران وزحف الجنود 
المشاة باطراد نحو الجدار تحت حماية «غطاء واق» من الدروع المرفوعة 
فوق رؤوسهم لدرء ما يقذفه الرومان عليهم. وبينما كان فيركاسيفيلاون 
يرسل المزيد والمزيد من القوات النشطة إلى أرض المعركة» كان على 
الرومان التمسك بالأرض التي لديهم؛ أي شخص كان لا يزال بإمكانه 
الصمود, سواء كان جريحاً أو لاء تمّ إشراكه في القتال. بين الجدران كان 
هناك الكثير من الارتباك. فالأوامر المتضاربة دفعت الجئود إلى الركض 
في جميع الاتجاهات» وغلق الثغرات أو حمل ما استطاعوا من السهام. 
رفع قيصر رأسه ليمعن النظر من فوق الجدار. لقد رأى عدداً كبيراً 
من مقاتلي الغال في طريقهم نحو بوابة لابينوس. «أحكموا سيطرتكم 
على البوابة!»» صاح على عجل لإضافة دعم للمقاتلين من خلال وجوده 
الشخصي. كانت لديه قوات احتياطية واحدة فقطء هي سلاح الفرسان 


-315- 


الجرماني الثمين» والذي كان قد أبقاه بعيداً عن أنظار جيش الغال. كان 
هؤلاء الألمان البالغ عددهم خمسة آلاف شخص يمثلون ذخره القوي» 
وكان سيستخدمه فى الوقت المناسب من المعركة. استغرق الأمر 
انضباطاً كبيراً للقيام بذلك» لكن قيصر كان رجلاً لديه إرادة حديدية. 
بخلاف الخمسة آلاف فارس» كان إجمالي عدد القوى البشرية المتاحة 
لديه لوقف الانهيار قد انخفض إلى ستة أفواج أو ثلاثة آلاف رجل؛ وكان 
ما يحتاجه لوقف أي هجوم جديد حوالي مئة آلف رجل! 

في هذه الأثناء» هاجم فرسن جتريكس بقوة جانب الجدار الذي يقع 
على نهر أوسي» حيث عهد قيصر إلى الشاب ديسيموس بروتوس مسؤولية 
الدفاع عنه. كان أحد الأجزاء الأكثر عرضة للهجوم يقع بين البرجين» وكان 
يدافع عنه صف فيه عدد قليل من المقاتلين الرومان المرهقين من الفيلق 
الثلاثين. بالنسبة لهمء بدا القتال وكأنه مسرحية سريالية» تتم مشاهدتها من 
خلال الغشاوة التي أحاطت بهم بسبب الإرهاق والدخان الناتج عن نيران 
القوات الإغريقية. كان الرماة في الأبراج يصطادون المقاتلين الغاليين بدقة 
قدر استطاعتهم وبأقصى سرعة يتمكنون بها من تثبيت السهام على أوتار 
أقواسهم. لا شيء على ما يبدو كان يستطيع وقف حماس الغاليين. كانوا 
يجيفون: مراراً وتكرارأء زرافات ووحذاناء ومع ذلك فشلوا في الوصول 
إلى أعلى الأسوار. أدى مهندسو قيصر المسؤولين عن كل ما يتعلق 
بوسائل فرض الحصار عملهم بشكل جيد؛ تحصيناتهم كانت معدة جيداً 
ومرصوفة بشكل عميق. استمر الهجوم على مدار الساعة. كان يمكن 
حساب المكاسب على الأرض بالياردات. قام فرسن جتريكس بإجراء 
مناوبة بين قواته كل نصف ساعة:؛ لكن الرومان لم يكن لديهم مثل هذه 
الإمكانية في مناوبة قواتهم» لقد تابعوا القتال. بدأ مقاتلو الخال يشعرون 
بالضغط؛ كانت الوحدات التي دخلت أرض المعركة تتمتع بحيويتها 
فهي لم تدخل في معارك بعد وبدأت تفقد الأرض التي استولى عليها 
المحاربون القدامى» لذلك كان عليهم العودة ومواصلة القتال. بعد 

-316- 


ساعات من الارتباك وخمس محاولات غير مجدية» نقل فرسن جتريكس 
رجاله إلى أسفل الجدار لمهاجمة چ آخر من التحصينات. وبينما كان 
حشد من مقاتلي الغال يسيرون جنباً إلى جنب في الخارج» على مرأى 
ومسمع من المدافعين» - جمع الرومان قواتهم بعيداً عن الأنظار وتحركوا 
إلى جانبهم» وبالتالي تركوا أجزاء كبيرة من الجدار من دون وجود مدافعين 
عنها تقريباً. ومرة أخرىء ابتسم الحظ لقيصر: هذه المرة لم يعد لدى قوات 
الغال الاحتياطيات اللازمة للهجوم في كل مكان في وقت واحدء أو ربما 
لم يفكروا في الأمر وسط حمى القتال. . حيث أصبحت الأسوار الآن غير 
محصنة فعلياً» وكان بإمكانهم تسلق الأسوار دون أن يواجهوا مقاومة تذكر. 

عند بوابة لابينوس» كانت الأمور ميؤوساً منها. كان مقاتلو قبائل الغال 
يتجمعون على بعد أقدام قليلة من الجزء العلوي من الأسوار. أرسل 
قيصر آخر ستة أفواج لديه تحت قيادة غايوس فابيوس ماكسيموس عندما 
اا ا و ا لابينوس سوى بضع 
قائق للصمود وبعدها ستنهار قواته أمام الهجوم القادم. سرعان ما حول 
ا الستة من بروتوس إلى لابينوس» الذي بات يتولى الآن 
قبادة تسعة وثلاثين فوجأء أي نصف مجموعة قيصر الفعالة؛ وفي محاولة 
أخيرة» - جمعهم داخل البوابة» التي كانت على وشك أن تنهار تحت وابل 
ان المستمرة: وفجاة تنايلت الأبواب وانفتحت واندفع متها 
خمسة عشر ألفاً من مقاتلي الرومان في هجمة جريئة. واجه الرومان على 
الفور جحافل من الشياطين ذوي الوجوه الحمر وهم يزعقون؛ : 0 
بعضهم على بعض» وهم يصرخون مثل نسوة تنوح ويخبطون بأذرعهم 
يي البشرية» يعضون» وينهشون ويغرزوت 
أظافرهم في خياد i‏ ضهم البعض. يلكمون بعضهم وهم ثملونء 
ليعزفون شعر وعيون بعضهم البعض. بعض من ماتوا كانوا واقفين إلى 
جانب الجدار تييجة الضغط ”ا من كلا الجانبين. ولكن كان هناك الكثير من 
مونى مقاتلي الغال مقارنة بالرومان. 


-317- 


أغَاد ارس تشكيل قطعاته المنهارة. أولئك الذين كان يعتقد 
المقاتلون الغاليون أنهم انهزموا كانوا يقفون في تشكيل مثالي؛ فاجأهم 
هذا للغاية إلى حدّ أن القتال توقف لبضع لحظات. خرج لابينوس 
ليتمشى من عاف خط القتال» درعه على ذراعه الأيسر» ومعه حارسان 
فقط. أعطى الإشارة فتقدم الخط القتالي قليل العدد وافراده يحملون 
رماحاً بالارتفاع نفسه. لم يكن هناك شيء يدعو للإسراع في تقدمهم. 
استمر فيلقه في التقدم بانتظام وثبات يرتدون درو المعددة الزماديه 
اللون وستراتهم الجلدية البنية. بعد إشارة أخرى تراجعت الأفواج رويدا 
لتتوقف» واصطفت سوية» هادئة بلاحراك. حدث ذلك عندما هدرت 
حناجر مقاتلي الخال بصرخات القتال الشرسة وانقضوا عليهم. 

وبينما كانت هذه المعركة محتدمة» كانت تحدث حالة طوارئ أخرى 
عند أجنحة قوات قيصر. كان بإمكانه أن یری حشوداً من مقاتلي سلاح 
فرسان القبائل الغالية وهي تغادر مواقعها على يمينه ليلتفوا حول جحافل 
لابينوس» وهم يتنقلون بمهارة تمهيداً لشن هجومهم. 

كانت ذروة المعركة على وشك الحدوث. حتى تلك اللحظة» كان 
بإمكان فرسن جتريكس شن هجوم مضاد مكثف. لو استطاع فقط إعادة 
تنظيم رجاله بسرعة ليتحين الفرصة لاحتمال حدوث منعطف» لكان قد 
نجح بالتأكيد. لكنه أراد القيام به بعد فوات الأوان» وكانت الفرصة قد 

منح الهجوم الذي شنه لابينوس بعض الوقت الثمين لقيصر بينما قام 
بسحب كل رجل موجود من الأجزاء الآمنة من كلا السورين. هذا الأمر 
أدى إلى تشكيل أربعة أفواج إضافيةء ألفا رجل في كل فوج. تولى قيصر 
بنفسه زمام القيادة. ظهر قيصر ممتطياً جواده» وفى هيئة ملفتة للنظرء 
يرتدي رداع فضفاضاً «(paludamentum)‏ مع الوشاح الأرجواني للقائد 
العسكري الروماني. مشهد قائدهم هذا أشعل الحماس في صدور مقاتلي 
الجحافل؛ ارتفعت صيحات عالية من شرفات الأبراج وانقض الرومان 

-318- 


بقوة متجددة على مقاتلي بلاد الغال. فيما أطلق الضابط (برتبة السنتوري) 
والسيف في يده» صيحة عالية. كان أعلى صوت أطلقه على الإطلاق. 
وعند رأس قوته كان يحيط به الموتى والمحتضرون والمصابون. فوجئ 
مقاتلو الغال بالهجمة الجديدة. جمد البعض ثم استداروا بسرعة. أغلق 
محارب عملاق من قبائل الغال -كان لديه لحية تغطى وجهه بأكمله. 
وطويل القامة- الطريق على الزومان. تصادم أحدهما بالآخر وسط بريق 
الشفرات الرنانة؛ تعثر القاتد (السنتوري) في مشيته» وسقطء واخترقه 
سيف العملاق. قفز اثنان من المقاتلين الرومان نحو المحارب طويل 
القامة. حينها سقط هو أيضاً وبدأ المقاتلون الغاليين بالتراجع... ثم بدؤوا 
بركضون» هاربين كما هي عادة البرابرة دائماً قبل أي هجوم روماني قوي. 

كانت تلك هي اللحظة الحاسمة التي كان ينتظرها قيصر. إذا استطاع أن 
يهزم مقاتلي بلاد الغال ويجعلهم يهربون» فستحدث فوضى. لقد حانت 
اللحظة المناسبة لفرسانه الجرمان. قرر قيصر أخيرا الاستعانة بسلاح 
فرسان المرتزقة الثمين. أصدر أمراً كمحاولة أخيرة: على سلاح الفرسان 
أن يلتف من حول التحصينات ويشتبك مع العدوء أصبح الآن منخرطا 
بشدة في القتال من الخلف إلى جانب جحافل لابينوس. لقد كانت مقامرة 
يائسة لكنه كان مضطراً للقيام بها وإلا ضاعت روما وقيصر معاً. 

مع ارتفاع صوت الأبواق» تجمع سلاح فرسان المرتزقة بشكل كتلتين 
كبيرتين. ما إن ارتفع صوت إشارة أخرى من الأبواق حتى انطلق مقاتلو 
سلاح الفرسان الجرماني من مواقعهم» وتسارعوا في انطلاقهم بشدة» 
دخيولهم ترغي وتزبّد. كان لكل فارس سيفه الطويل الذي يمر عبر سرجه 
فيما كان يقبض بكلتا يديه بسرج الحصان. اصطدمت السيوف بالسيوف» 
والأجساد بالأجساد. انقض الألمان القادمون لتوّهم إلى أرض المعركة 
على مقاتلي بلاد الغال. وأعقب تلك الموجة الأولى من الفرسان موجة 
انية» كانت قادمة من حول تلة أليسيا من الاتجاه المعاكس واشتبكت 
مع جيش الغاليين من الخلف. اجتاح الفرسان الألمان حشود خصومهم 


-319- 


مثل عاصفة هوجاء. حارب مقاتلو الغال مثل الوحوش البرية. انقسمت 
دروع الأجساد تحت الضربات القاصمة للسيوف التي يمسكها كل مقاتل 
بكلتا يديه» سقط وابل من المسامير على الرجال والخيول. جلس ضابط 
روماني (برتبة تربيون) على الأرض» ممسكاً بطنه حيث أصيب بضربة من 
رمح. انسكب الدم من فمه قبل أن يسقط على وجهه. 

في النهاية» بدأ الفرسان الألمان القادمون من خلف الجبل بمهاجمة 
أي تجمع للأعداء يجدونه أمامهم . يدفعون بهم على طول الطريق المؤدي 
إلى النهر حيث اتخذ زعماء قبائل الغال موضعاً لهم مع قوات مشاتهم» 
وارتكبوا بحقهم مذبحة مروعة3". 

ارتقى قيصر أعلى تل صغير حيث يستطيع من هناك رؤية ساحة المعركة 
بأكملهاء وحدث ذلك في الوقت المناسب ليشاهد فرسانه وهم يغيرون 
على مقاتلى بلاد الغال من الجوانب ومن الخلف. كان جيش بلاد الغال 
ينهار أمام عينيه. تشتتت مجاميعه في كل مكان وبدأت بالهروب» كان 
المقاتلون يتخلصون من أشلحتهم ليسرعوأ في هروبهمء انقض مرتزقته 
الجرمان؛ الذين لم يعودوا يواجهون أية عقوي تقريباء على الحشود 
الهاربة» وسيوفهم الطويلة تصعد وتنزل. فيل العديد من محاربي قبائل 
الغال» ولم يؤسر أي واحد منهم. تكدست جبال من جثث المذبوحين 
أمام المتراس» وأولتك الذين لم يموتوا تماماً سرعان ما اختتقوا تحت 
كل الجنث التي كانت نشتيك و ثم استمر القتال على طول السور 
الحصين» وأصبح اشتباكاً بالأيدي. قاتل محاربو القبائل الغالية بشكل 
جيد طوال فترة ما بعد الظهر» لكن التعب بدأ ينال منهم بشكل متزايد» بعد 
أن استخدموا كل قوتهم في محاولة عقيمة لاقتحام السور الدفاعي في 
وقت مبكر من اليوم. أعاق جبل الجثث تراجعهم. أمسك الرومان بالكثير 
منهم وقاموا بذبحهم. 

كان فرسن جتريكس متواجداً طوال اليوم في الخط الأمامي للمعركة. 
3- عن كتاب يوليوس قيصر: الحروب الغالية. 


-320- 





تمزقت ملابسه في أماكن متعددة من أثر طعنات السيوف والتصقت بها 
بقع من الدم المجفف الذي يعود لأعدائه. لم يكن لديه وقت لتنظيفها إلا 
بعد أن يرسم خططه لليوم التالي. كان الحقل الأخضر أسفل جبل أوكسوا 
قد تلوث بسبب الجثث المكدسة؛ وعلى امتداد السهل» كانت قوة الإغاثة 
تتراجع مثل سيل خفيف» متجهة إلى مناطق آمنة عند التلال البعيدة. كان 
رجاله يتراجعون ويجتازونه دون أن ينظروا إليه. كان مثل جزيرة وسط 
تيار من المنسحبين. ذهب العديد من رجاله إلى حتفهم وهم واقفون قبالة 
الجدار الذي شيّده قيصر تحت أشعة الشمس الساطعة لظهيرة حارقة. 
وقد أخبره صوت في داخله ليس فيه أثر لعاطفة ولم يتأثر بالغضب الذي 
أحرقه» أنه لا يمكن الاستيلاء على ذلك السور الملعون. لقد انتهى الأمر؛ 
إلى جانب رعب الخسارةء استولى عليه التعب والغضب اليائس. مات 
رجاله من أجل لا شيء وأرسلهم إلى حتفهم. في أسفل الوادي» من وسط 
دخان العديد من الحرائق» ظهرت ملامح شخص راكبا حصانه ويرتدي 
عباءة قرمزية. كان وجهه قاسياً شاحباًء وعيناه ساطعتين وساختتين بينما 
كان يحدّق عبر فراغ الموت إلى حيث يقف فرسن جتريكس وحيداً. 
استدار زعيم مقاتلي الغال. مكتفياً بما رآه. مشى أعلى التل» في نسيم 
المساء. أدرك فجأة الدموع وهي تترقرق في عينيه. تجمع قادة قواته من 
حوله» واقفين بلا حراك وقد استوعبوا المعلومة التي بدأت تنتقل بينهم 
دون كلام بأن الأمر قد انتهى. بدأت الشمس تغيب» وكانت حمراء مثل 
الدم» ومعها جاء الظلام بطيئاً وقد خيّم فوق الحقل وحتى فوق السور 
الملعون, يغطي الموتى والمحتضرين مثل ظلال أجنحة طير عملاق. لقد 
1 ه el‏ : 5 00 5 2 : 
لخر عبان ال العال التجزان وتر إلى رة رة تركت عظام 
ف لتتحول إلى غبار في حقول بورغوندي. 

انحنى فرسن جتريكس على مقبض سيفه. كانت شفرته الطويلة تندلی 
حتى كاحله مع وجود نتوء منحوت على الشزيط الممتد حول كتفه لكي 
بجعله في متناول اليد. ما الفائدة من السيف في مواجهة آلام الجوع؟ 


-321- 


كان رجاله منهكين يقتلهم الجوع» وإذا حاول الهجوم مرة أخرى غداً 
فسيخسر نصفهم؛ كانوا مرهقين بشكل يتجاوز القدرة على التحمل» وقد 
أصبحت ألسنتهم غليظة من العطش وحلوقهم شديدة الجفاف لا تستطيع 
مضغ الطعام. لكنهم كانوا مضطرين إلى الخروج؛ وسيسمح لهم بكل ما 
يحتاجون إليه من فترات راحة بعد أن يقتحموا هذا السور الملعون. كان عليه 
أن يقودهم إلى الخارج من جديد حتى قبل أن يكونوا مستعدين» لأنهم» إن 
لم يفعلواء سيموتوا من العطش والجوع. كان هناك غضب يشتعل في رأسه 
كالمقاتل الذي سقط وقام من جديد بحثا عن مخرج. . كان غضباً صامتاً. .مع 
حلول الليل ارتفع صوت عويل النساء» وهن يرثين أزواجهن وأبناءهن. 
نظر فرسن جتريكس إلى أبناء قومه الذين يعانون قائلاً: اليس أمامنا سوي 
أن نموت. ماذا يمكن أن نفعل أيضاً؟ لا أرى أن هناك أي خيار». 

لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك. ظل فرسن جتريكس يمانع 
أسبوعين آخرين قبل أن يشرع في الترتيبات لعقد اجتماع مع قيصرء لتأمين 
حرية الخروج الآمن من الحصون للنساء والأطفال الذين يعانون بشدة, 
بقي القائد الروماني قاسياً 0 
قوياً في يده لإجبار قائد قوات الغال على الركوع. وتوسل إليه 
جتريكس: (أن يشفق على النساء والأطفال». 

لم يفعل قبصر سوى أن ينظر إلى ذلك المحارب قائلاً. «الشفقة كلمة 
لا أعرفها». 

عندما عاد فرسن جتريكس إلى التل» كان يعلم أن كل شيء قد ضاع. 

من المؤك د أن فرسن جتريكس حصن نفسه» إلى جانب 50 ألف رجل؛ 
داخل قلعة أليسياء والتي في حدٌّ ذاتها لم تكن كبيرة جداً. عندما أرسل 
سلاح الفرسان للقتال» لماذا لم يرسل معه ستين ألفاً من قوات المشاة؟ 
كان ع 0 رجل لتعزيز حامية أليسياء الواقعة على منطقة 

نضم بالفعل عدداً كبيراً من غير المقاتلين. لم تكن لديه مؤونة 
ا لين يوماً . كانت أليسيا معقلاً قوياً ليس لديها ما تخشاه 
-322- 


عشرين ألف شخصء» كان سيحصل على طعام لمدة 0 يوماء ولكان 
التي نألف محارب المتبقون قد جابوا الريف وهاجموا قوات قيص رالتي 
تقوم بمحاصرتهم. بدلا من ذلك» استغرق الأمر 50 يوما لتجميع جيش 
جديد من قبائل الغال» وبحلول ذلك الوقت كان قد نفد الطعام الذي 
يملكه جيش فرسن جتريكس المحتجز. 

في خطوة يائسة لإنقاذ جيشه من الموت المؤلم» قام فرسن جتريكس 
يإجبار جميع الأشخاص غير المقاتلين على الخروج من الحصن. فهاموا 
على وجوههم بين المنحدر والسور والجدار بحثاً عن لقمة طعام وشربة 
ماء في انتظار الموت. 

وصف أحد الناجين تلك اللحظات قائلاً: «في تلك الأيام من الحصار 
وقبل أن يتوجه فرسن جتريكس نحو الموت ويصبح طي النسيان» قضينا 
وقتنا نمعن النظر إلى طعامنا المتضائل» والبحث عن الدخان في الأفق 
والاستماع إلى صوت البوق في الليل الذي لم يأت أبداً وإلى الشائعات 
خلال النهار» التي كانت تقول إن قوة ستأتي من مكان ما لإغائتنا وتغير 
مجرى الحصار. لكن الضوء كان يتلاشى بسرعة والظلام الدامس يقترب 
بخطوات عملاقة»). 

كان كل ما يهم قيصر هو الانتصار الشخصي. ولا شيء غيره. لقد 
تحول القتال على السهل إلى عملية حصار بسبب العطش. كان كل ما على 
قبصر فعله هو الجلوس عند قاع التل والانتظار. كان الخريف حاراً للغاية 
وسرعان ما جفت أحواض المياه في مديئة أليسيا. بعد أن هلك الكثير من 
رجاله بسبب العطش والجوع» استسلم قائد قوات قبائل الغال في النهاية. 

لقد كانت كارثة كبيرة أن يموت الآلاف من شباب قبائل الغال بلا 
ل. حاول فرسن جتريكس تحسين حياة شعبه. لكنه كان يقامر» والآن 
"تت البلاد كلها في حالة حداد. كان قد اجتنب عدوه الروماني في معركة 
كبرغوفيا وبات يعرف أنه سيقتله الآن. 0 


-323- 


في اليوم العشرين» صرخ الحراس الرومانيون عند البوابة وأشاروا إلى 

رجل جالس على حصان يقف أمامهم كما لو كان منحوتاً فن الح 
وخوذته مربوطة إلى ذقنه» ودرعه المزرد كان باهتاً ومنبعجاً ومليئاً بالتقوب 
من أثر القتال. لقد دخل فرسن جتريكس» ملك بلاد الغال بشخصه والذي 
سيمثل رمز النصر المجيد الذي حققته روماء وهو يمتطي حصانه الذي قاتل 
به من خلال البوابة مرتدياً أكثر دروعه روعة» جال بحصانه في دائرة من حول 
قيصرء الذي كان يجلس على منصة» وقفز من حصانه ورمى سيفه عند أقدام 
قيصر: «(خذ هذاء المحارب الأكثر شجاعة» انتصر على المحارب الشجاع». 

تصلّبٍ فم قيصر وهو يقول. «تعال واركع على ركبتيك؟) 

ظل المحارب من بلاد الغال راكعاً على ركبتيه حتى سلمه قيصر إلى 
الحراس تعبيراً عن ذروة انتصاره04. 

كان حلم زعيم بلاد الغال التخلص من نير الاحتلال الروماني في 
متناول اليد؛ انتهى هذا الحلم في أحد أيام شهر أيلول سئة 52 ق.م. وكان 
يوليوس قيصرء المخطط البارع لعملية الحصار شاهدأعليه» شارف كتاب 
(تعليقات على الحرب الغالية). على نهايته97» مع حلول العام الرهيب 
عاش شعب الغال «في ليل طويل من الظلام» دامت هيمنة روما على بلاد 
الغال 500 عام09. 

تم تأليه قيصر إلى درجة العبادة. عاد إلى الوطن للاحتفال بالانتصارء 


4- عن المؤرخ فلوطرخس. 

5]- - يمكن العثور على أفضل وأدق المعلومات عن كل هذه الأحداث في هذا الكتاب 
الذي ألفه قيصر. كتبه بعد فترة وجيزة من الأحداث التي وقعت أثناء قضائه فصل 
الشتاء في مديئة بيبراكتي بين عامي 51-52 ق.م جميع المذكورين فيه بمن فيهم فرسن 
جتريكس السجين كانوا بالقرب منه وبالطبع هو يعبر عن وجهة نظر كاتبه يوليوس 
قيصر المنتصر كل الكتب التي تناولت تلك الأحداث والتي ألفها المؤرخون تيتوس 
ليفيوس؛ وأسينيوس بوليونوس» وفلوروس» وفلوطرخس وديو كاسيوس بعد 150 
سئة استقت معلوماتها بالتأكيد من الكتاب. 

16- - عندما تم «تحرير؟ بلاد الغال في النهاية من قبل الفرنجة رأوا في الملك الفرنجي 
خليفة لفرسن جتريكس. 


-324- 


لأنه جعل السلام يحل في البلد العظيم الواقع شمال جبال الألب. كما 
جاء في مرسوم مجلس الشيوخ. مرت العديد من العربات الحربية»؛ وقد 
تكدست فيها غنائم الحرب» وسارت في موكب النصر من أمام معبد الإله 
ساتورن. كان يجلس في إحداها فرسن جتريكس» وقد وضعت سلسلة 
حول عنقه» يتبعه رتل من الأسرى وقد رُبطوا بالسلاسل جميعاً. هتفت 
الحشود بحياة قيصر معتبرينه بطلهم. ولكن سرعان ما بدأت المؤامرات 
تُحاك ضده ويتضاءل نفوذه السياسي. كان لا يزال يفتقر إلى القدرة على 
مواجهة كل من مجلس الشيوخ المعادي له وبومبي منافسه. عاد إلى يلاد 
الغال للانضمام إلى جحافل المؤمنين به. على مدى العامين التاليين (51- 
0ق.م) حوّل قيصر بلاد الخال إلى مقاطعة رومانية» وظلت على هذا 
النحو جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية الرومانية على مدى الخمسمائة عام 
التالية. كان عظم إنجازات قيصرء كما كتب هو نفسه» هو احتلال بلاد 
الغال. خلال عشر سنوات كان قد غزا ثمانين مدينة كبرى وأخضع لسلطانه 
ثلاثمائة قبيلة. وأصبح مليون فرنسي عبيداً يخدمون أسيادهم الرومان. 
عندما ينظر المرء إلى أحداث العام الرهيب» فإن الانطباع العام الذي 
يتكؤن لديه هو الانعكاس المذهل في نتيجة الحرب. في البداية» كان قد 
حكم على جحافل قيصر بالفشل» خصوصاً بعد انتكاستها في معركة 
غيرغوفيا وانشقاق أكبر قبائل بلاد الغال» الأيدويين. مع دخول الدولة في 
تمرد مفتوح» وقطع طرقها الرئيسة وحرمان جيشه من الإمدادات يسبيب 
سياسة الأرض المحروقة التى اعتمدها فرسن جتريكس» هرب قيصر بلا 
تردد نحو القلاع الرومانية المحصنة في منطقة بروفنس؛ وحين وجد أن 
طريقه مغلق» وقف وقاتل» ثم قلب الوضع!7'. هل كان فرسن جتريكس 





7- حدث شيء ممائل في معركة أجينكور في عام 1415. عندما حاول الملك هنري 
الخامس بقوة متواضعة؛ الوصول إلى حصنه في كاليه» وأوقفٌ من قبل الفرنسيين ثم 
حفق انتصاراً مذهلاً. وكذلك فعل الفرنسيون في معركة ديان بيان فو في عام 1954ء 
محاولين إغراء الفيتناميين للوقوع في الفخ وتطويقهم ثم إيادتهم من الخارج» وكانت 
النتيجة إبادتهم للفرنسيين. 


-325- 


استراتيجياً سيئاً؟ استخدم ثلاث مرات «استراتيجية مأزق ترسيخ القوات 
في مكان واحد)» والتي كانت تتمثل في إغراء عدوه للدخول إلى موقع 
حصار ثابت حول حصن مركزي في مدينة صديقة (بورجيسء غيرغوفياء 
أليسيا)» ثم جمع أكبر عدد من القوات الصديقة حول العدو لإبادته 
بواسطة عمل متضافر من الخارج. في معركة بورجيس» لم يكن لدى 
قوات قبائل الغال حينها القوات اللازمة واستولى قيصر على القلعة؛ 
وفي معركة غيرغوفياء اعتمد فرسن جتريكس على القبائل لوضع الرومان 
بين فكي كماشةء ولكن قيصر أدرك الخطر وانسّل من فخ الإغلاق؛ وفي 
معركة أليسياء كان لدى فرسن جتريكس أخيراً كل ما يلزم لتحقيق النصر. 
كان جيش الإغاثة هو العنصر الرئيس في إبادة الجحافل» وسحقهم داخل 
أسوارهم الخاصة. ولكن في مواجهة حالة «النصر أو الموت»» أثبتت 
الجحافل الرومانية الأسطورية أنها منضبطة بشكل أفضل وحماسها 
آكبر» وقد قاومت. ولم يتمكن تدخل قوة الإغاثة» مهما كان حجمه» من 
ن يحقق النصر لجيش بلاد الغال. أدرك قيصر الإمكانات الغنية الكامنة 
لنجاحه. لم يكن وراءها بلاد الغال» بل روما. 

كان فرسن جتريكس»ء قبل كل شيء» رجلاً من لحم ودم. وقد قطع 
الطريق على الضغائن بين القبائل وتجاوز التناقضات بين الرجال ذوي 
قصر النظر والأقل قدرة منه. ربما كان انتهازياًء لكنه كان قائداً غالياً بطريقة 
توحي بأنه من سلالة لها تقاليد راسخة في الإيثار والشرف. كان يمثل 
صورة المحارب الشجاع والحازم الذي يمتلك مشاعر قوية. لكن فى 
النهاية» تغلب عليه السيد البارع صاحب المهارات الدبلوماسية المتفوقة 
والقرارات السريعة. بانتصار قيصر في معركة أليسياء فقدت قبائل الغال 
هويتها السلتية. وأصبحت لغتها هي اللاتينية (ولا تزال) وأصبحت 
عاداتها الشعبية لاتينية أيضاً. 

تمكن قيصر لمدة ست سنوات مؤلمة من جعل فرسن جتريكس يعاني 
من كل ما يمكن أن يعانيه من يأتيه الموت. . فحبس زعيم قبيلة الأرفيرني 

-326- 


في زنزانة في سجن توليانوم”" لا تصلها أشعة الشمس والهواء النقي قد 
يكون الألم الذي عانى منه جسده على أيدي السجانين أقل من الألم الذي 
تحملته روحه. في أواخر عام 46 ق.م؛ وفي ذروة مجده» أمر قيصر بشنق 
السجين. ربما كان موت الزعيم الغالي النبيل هو بمثابة الخلاص له. ذلك 
النسر المقيّد الذي تمٌّ إطلاق سراح رو حه9". أما بالنسبة للقيصر العظيم» 
فقد نجا من لعنة أسيره لمدة ستة عشر شهرا فقط. بحلول إديس مارس 69 
تحققت لعنة بلاد الغال. 

ماذا كان سيحدث لو حقق فرسن جتريكس النصر في تلك الأيام 
الخريفية الرطبة من سنة 52 ق.م؟ من غير المرجح أن يتغير مسار التاريخ. 
كانت المصالح الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية لروما هي التي 
ستحدد ذلك. كانت لدى بلاد الغال حدود مباشرة مع روما ولكانت 
جحافل روما قد أعادت الكرّة بعناد كبير» ولوجدت بلاد الغال نفسها لا 
محالة مندمجة في الإمبراطورية الرومانية. 

أصبح المجد الذي حققه قيصر أسطورة يتغنى بها الناس. سرعان ما 
تمّ نسيان فرسن جتريكس» ومع ذلك كان هو الذي جسّد الشكل الحقيقي 
للوطنية. كانت رحلته ملهمة لمقاتلى الساموراي وكذلك شعاره «الشرف 
والوطن». كان لا بدّ أن تمر سبعة عشر قرناً حتى يظهر اسمه في إشارة 
مختصرة فى كتاب جاك دي كاسان عن ملوك الغال القدامى”. في 
عام 3 أصبح لدی باریس شارع باسم فرسن جتريكس» وفي الأيام 





8- يعرف اليوم بسجن مامرتين. المترجم. 

9- كشفت التنقيبات التي جرت في مدينة أليسيا بأمر من نابليون الثالث عن قطعة برونزية 
صغيرة يظهر فيها محارت عن باذ الغال مستلقياً على الأرض وسلاحه يغطي وجهه. 
وهي قطعة رومائية في الاصل وتعرف باسم محارب الغال الميت. 

0- هو يوم في التقويم الروماني يتوافق مع 15 آذار. تميز بالعديد من الاحتفالات الدينية؛ 
وكان معروفاً بالنسبة للرومان كموعد نهائي لتسوية الديون» وهو يوم اغتيال يوليوس 
قيصر. المترجم. 

J. de Cassan, Traité des anciens rois des Gaulois et des راجع:‎ -21 


depuis le déluge, Paris, 1621. 


-327- 


المظلمة التى سبقت الحرب العالمبة الثانية استعان شارل ديغول بمثال 
محارب الغال لتحذير الفرنسيين من تهديد هتلر المتزايد: «عندما ألقى 
فرسن جتريكس بسلاحه عند أقدام قيصرء ربما كان يعتزم أن يكون تكريمه 
اليائس درساً خالداً لأبناء عرقه». بعد هزيمة فرنسا في عام 1940ء استذكر 
الكتاب إشارة زعيم قبيلة الأفيرني في المنشورات السرية» واعتبره مثالاً 
على «(أول مقاتلي المقاومة) في تاريخ فرنسا». 

وإذا حكمنا عليهما كرجال. فقد كان كلاهما شجاعاً وحازماً 
يح ركهما تعطشهما للسلطة وتوقهما للتميز؛ أظهر كلاهما عواطف جياشة 
وكانا ل كر شيء واحد مؤكد؛ كان فرسن 
جتريكس وقيصر يستحق كل منهما الآخرء في المجد كما في الهزيمة. 
اعترف قيصر بصراحة في كتابه تعليقات على الحرب الغالية بأن انتصاره 
الحاسم على فرسن جتريكس كان معلقاً بخيط رفيع. 

و فشل هجوم قبائل الغال المشكلة الأبدية المتمثلة في وجود 
قوة أقوى يقودها عدد كبير جداً من القادة في مواجهة قوة أضعف يوجهها 
رجل واحد. لم يتم حسم الجدال أبداً حول الفرص التي ضاعت في 
معركة أليسيا وتم حجبها وسط ضبابية من الرومانسية. 

كان العامل الحاسم في معركة أليسيا هو دهاء قيصر في انتظار اللحظة 
المناسبة لكي يتلقى العدو ضربات فرسانه الجرمان الشرسين 

بعد مرور ستين عاماًء سيكتب أحفاد المساعدين الألمان نفسهم الذين 
جعلوا روما تهيمن على بلاد الغال سطور نهاية حكم روما لبلاد ما وراء 
نهر الراين. في مواجهة حاسمة في معركة غابة تويتوبورغ” حين حطموا 
جحافل روما وغيّروا إلى الأبد مصير أوروبا الوسطى. 


2- وصفها المؤلف في كتابه (عامل المناخ) الصادر عام 1999 وحدثت معركة غابة 
تيوتوبورغ بين جحافل فاروس وقائد القبائل الجرمائية أرمينيوس. 


-328- 


الفصل الثاني عشر 
س الشف العذل 
عبور نهر روبيكون 

1 كانون الثاني 49 ق.م 


ر 5 معو a‏ 
E ERE‏ 
٠‏ غايوس يوليوس قيصرء 
1 كانون الثانى سنة 49 ق.م. 


أثناء عيور نهر روييكون 


... في أوقات الحرب تصمت القوانين»2. تبعاً لهذا القول فعل 
قيصر ما لم يتجرأ أي قائد روماني على فعله من قبل» لم يعر اهتماماً 
لقوانين روماء وقاد جيشه وعبر به نهر روبيكون. وبهذه الخطوة» كان قد 
وصل نقطة اللاعودة. 

كانت روما مثل اليونان» مهد الديمقراطية» يحكمها عدد قليل من 
العائلات الحاكمة» أو الآباء «patres‏ أي الأسر الأرستقراطية التي لها 
مقاعد في مجلس الشيوخ (السينات 56086)» وتعني الكلمة مجموعة ‏ 
من الأعضاء كبار السن» مشتقة من كلمة (5686 سينيكس) اللاتينية 
دتعي كبيراً في السن. أما من ينتمي إلى طبقة 1أهاءاممم البروليتاريا 


5 هذه المقولة ذكرها المؤرخ سويتونيوس في كتابه هنائانال هنالا121, 
- قائل هذه العبارة الخطيب الشهير شيشرون (43-106 ق.م) أمام مجلس الشيوخ. 


-329- 


(ومعناها باللاتينية المعدمين الذين لا يملكون أرضاً) وو166م البلييس 
(عامة الناس من سكان المدن)» الذين يجب أن يتبعوا أسيادهمء 
فلم تكن لديهم مقاعد في المجلس. . استغرق الأمر 250 عاماً قبل أن 
يحصل هولاء الناس على من يمثلهم في المجلس ليحقق مطالبهم. 
وحين اندلعت الثورات في نهاية الونات 2 لأسو الحاكمة» كانت 
دامية ووحشية» حيث لم يكن لدی الناس انموذج يسترشدون به 
لحل مشاكلهم من خلال الحوار. كان عدد قليل من الرومان يملكون 
الملايين بينما كان الملايين فقراء. . تطلب الأمر أن يشتعل السخط لدى 
اثنين من الأخوة الأرستقراطبين لكي يوقظا المعدمين من سباتهم؛ قام 
الضابط (برتبة تربيون) سامبرونيوس غراكوس وشقيقه الأصغر غايوس 
بتشكيل لجان في الأحياء تابعة للحزب الشعبي؛ وعندما حاولوا منح 
الأرض للمحرومين منهاء قام الأرستقراطيون بقتلهم» مع مئات من 
أتباعهم. خرج عامة الناس إلى الشوارع. اندلعت حرب أهلية فظيعة بين 
القنصل الشعبوي غايوس ماريوس وبطل معركة أكوي سيكستيا ونظيره 
المتعطش للدماء مثله» الأرستقراطي لوسيوس كورنيليوس سولاء 
الذي كان أول من أطاح بصراحة بسلطة مجلس الشيوخ وقام بمسيرة 
مع جحافله نحو روما (88 ق.م). بعر الع ا 
ماريوس شر انتقام: ااتعفنت الجثث التي بلا رؤوس في الشوارع» لقد 
تركها هناك لجعل كل الذين وقفوا ضد حكمه يرتجفون خوفاً» . صوت 
أعضاء مجلس الشيومٍ المرتعدين خوفاً على تنصيب سولا ديكتاتوراً. 
لكن هذا لم يضع حداً للصراع بين الأشقاء الذي مزق البلد. بحلول 
الوقت الذي توفي فيه هذان الرجلان القاسيان في فراشهماء كانا قد 
تمكنا من القضاء على سكان روما©. سيسجل التاريخ أنهما من حفرا 
قبر الجمهورية الرومانية. 

كان هناك جنرالان» يعرفان الكثير عن شؤون القتال ولكنهما لا 





. Plutarch, Vies: Marius, Paris, 971 راجع:‎ -3 


-330- 


يعرفان أي شيء عن كيفية إحلال السلام. كانت الجمهورية تترنح. رأى 
القنصل ماركوس توليوس شيشرون» الخطيب اللامع الذي كانت أعظم 
إنجازاته تغيير ولاءاته بانتظام والسير وراء الطرف المنتصرء إن الساسة 
يجب أن يتجاهلوا دائماً قرارات العسكر وكان يقول: ادع السلاح يفسح 
الطريق إلى التوجة 85 لالرداء المدني] وإكليل الغار إلى أناشيد الشكر 
والتسبيح). في في الواقع» إن الحرب قضية خطيرة ة للغاية بحيث لا يمكن 
ترك مصيرها بيد الجنرالات. حصل شیشرون» بعد أن زعم أنه اكتشف 
مؤامرة ضد مجلس الشيوخ الموقرء على سلطات استثنائية» استخدمها 
بعد ذلك للقضاء على مؤيدي عدوه» شريف روما لوسيوس سي رجيوس 
كاتيلينا (63 ق.م). خلال أربع من خطبه الشهيرة كرر هذه العبارة: «يا 
لهذا الزمان يا لأساليب البشر» على كاتيلينا حتى مماته (62 ق.م). بعد 
خمس سنوات وبمجرد انتهاء الخطر الظاهرء تمّت إدانة شيشرون نفسه. 
(في عام 43 ق.م» بعد تغييره و مرة أخرىء تم قتل شيشرون بأمر من 
ماركوس أنطونيوس). 

أصبح الوقت ناضجاً لظهور «الرجل القوي» . الرجل الذي كان على 
وشك الظهور لم يكن جنرالاً فقط» بل كان سياسياً ذكياً. ما إن كادت 
الحرب الأهلية تنتهي بمشقةء ولم تزل روما غير مستقرة» حتى ظهر تحدٌ 
جديد في شخص ابن شقيق القنصل ماريوس» وهو الوحيد الذي فشل 
سولا في القضاء عليه خلال سورة غضبه. . کان اسمه غايوس يوليوس 
قيصر. كان هذا العضو الشاب اللامع في الحركة الشعبية (البوبيلارس 
مم شخصاً طموحاً ومتعطشاً للسلطة. كان توقيت ظهوره مثالياً. 
ينما قاتل العديد من الرجال من أجل السيطرة على السلطة مثلما تتقاتل 
الكلاب على عظم ي يُرمى لهاء ظهر ثلاثة منتصرين وشكلوا اثتلافاًء أو 
حکما ثلائي (60 ق.م). الجنرال بومبي» والمصرفي كراسوسء ويوليوس 
فيصر . .كانت القوة الدافعة وراءه هو يوليوس قيصرء الذي أغرى مجلس 
الشبوخ لجعله القنصل من خلال الحيلة البسيطة المتمثلة في اعتقال 


-331- 


ل الك عد كر رمعا 
العا رن الف ارو ازا ا ا 
الأهم لنفسه. م ترشيحه نولي اقيدة بمفرده على إقليمي بلاد الغال. 
| لمتمرسة بالقتال» وكان بمثابة روما مصغرة. نال هذا المنصب بجانب 
سلسلة من الانتصارات الرائعة على القبائل الجرمانية والغالية. بحلول 
عام 52 ق.م» أصبح يوليوس قيصر يمتلك قوة لا يستهان بهاء وبدا الشعب 
يعبذه وکرمه مجلس الشيوخ بأكاليل الغار. 

في عام 52 ق.م» بينما كان يوليوس قيصر يقاتل ضد قبيلة أفيرني 
في بلاد الغال» وضد أي قانون يحكم الدولة الرومانية» تمكن منافسه 
كانت إحدى خطواته الاولى هي إصدار أمر إلى يوليوس قيصر بتسريح 
مساعديه» والتخلي عن قيادة جحافله المنتتصرة والعودة إلى روما؛ أو 
مواجهة عواقب اعتباره خائناً وستتم ملاحقته بهذه التهمة. وللحيلولة 
دون تحقيق الطموحات المعادية للقائد العسكري المهووس بالسلطة» 
منع القانون الروماني أي جنرال من دخول إيطاليا برفقة جحافله من 
بصي اندي اا اوو للمثوله أمام جن یو لا پاك أيه ا 
ذلك الشتخصن الذي يتلقق الأوامر من منافس غيوز. كان معسكر يوليوسن 
قيصر مليئا بالضباط الذين أظهروا طاعة عمياء لقائدهم الأعلى» ومن 
خلال مناداة جنوده بتعبير (رفاقي» أقنعهم بالقتال من أجله حتى بدون 
كان بالتأكيد أفضل قوة قتالية في روما على الإطلاق- سار من مدينة رافينا 

-332- 


ووصل إلى الحدود التي تفصل ما بين بلاد الغال وروماء والتي تتميز 
بوجود نهر صغير يصبٌ في البحر الأدرياتيكي» هو نهر روبيكون. 

في الوقت نفسه» وبينما كان القائد كراسوس يشتبك مع القبائل في 
آسيا الصغرى» وقع في كمين نصبه المقاتلون البارثيون مما تسبب في قتله 
(53 ق.م). وقد أدى هذا الحادث» بالإضافة إلى الخوف من تزايد شعبية 
قيصر» إلى وجوب أن يتخذ منافسه بومبي خطوة ما. أصبحت المواجهة 
بين الشريكين المتعطشين للسلطة حتمية الآن. وبينما لم يفكر بومبي أبداً 
باستخدام جحافله للإطاحة بالنظام» لم يكن قيصر يعاني من مثل هذه 
المشاكل. لكنه تردد قبل غزو إيطالياء ليس بسبب المخاوف من شرعية مثل 
هذه الخطوة ولكن بسبب الشكوك حول فرصه في الاستيلاء على السلطة. 

في 11 كانون الثاني سنة 49 ق.م» عبر يوليوس قيصر نهر روبيكون. 
بدأ شيشرون» الذي التقى به لغرض تقديم فروض الطاعة للشخص الذي 
سيمسك قريباً بالسلطة» بتوجيه عبارات الإطراء: «عندما أرى شعره 
الذي قام بتمشيطه بعناية ونظرة عينيه المخلصة» لا أستطيع أن أتخيل أن 
يوليوس قيصر يحمل في داخله فكرة شريرة مثل تدمير النظام الروماني». 
ولکن» كما كان قيصر قد أعلن بوضوح: ...1acta 2163 est»‏ لقد سبق 
السيف العذل» فقد جرت الأمور على هذا النحو. وبتلك الخطوة بدأت 
الحرب الأهلية الكبرى. 

حدثت المواجهة الأولى مع بومبي. في مدينة درشيوم» هاجم يوليوس 
فبصر معسكر بومبي المحصن وتمكّن من هزيمته. مرت بضعة أشهر قبل 
أن يجتمعوا مرة أخرى. في 9 آب سنة 48 ق.م في بلدة فارسالوس على 
شاطئ نهر إينيبيوس» واجه قيصر مرة أخرى بومبي في معركة أخرى. قاد 
E‏ التي لم تكن بكامل رجالهاء كانوا ثلاثين 

ألف رجل على الأكثرء وعدد مقاتلي سلاح الفرسان كان قليلاً للغايةء 
في حين أن بومبي كان بإمكانه أ أن يجهز جيش روما بأكثر من ستين ألف 
دجل وسبعة آلاف فارس. لكن قيصر لن يواجه عدواً وجميع أوراقه 


-333- 


مأل أ ال ببس قات امش بتي وفيا 
ال ل كن ل فيو E‏ 
في مكان يقع وراء إحدى التلال» وكانت ذات موقع استراتيجي يقع بين 
ا ا ا 
E‏ 
من ألفي رجل من جحافله التي سبق وأن استنزفها القتال ووضعهم 
كاحتياطي في مكان خلف التلال. ثم باعد ما بين خطيه القتاليين ليتمكن 
من تغطية خط قتال قوات بومبي بالكامل. ترك هذا الأمر ثغرات كبيرة في 
الوسط. لم يكن قيصرء أحد أكثر جنرالات التاريخ إقداماًء ينتظر إلى أن 
تقع عليه الضربات بسبب ثقل القوة المناوئة بل أمر عازف البوق بإصدار 
إشارة بدء الهجوم. تقدمت جحافله» وبدأ مقاتلوها بتصويب رماحهم» 
لتي ما لبشت أن تحطمت على جدار رماح قوات بومبي. كان هؤلاء قدامى 
محاربي قيصر الذين شاركوا حروب الغال» في مواجهة قوة تم تجنيدها 
على عجل. وبدؤوا برمي رماحهم بسرعة شديدة لكي تصل إلى مدى 
السيوف. واجه بومبي اختراقهم من خلال دفع المزيد من احتياطيات 
قواته ر ٤‏ اال اا 0 يي يميل 
0 ور وكان يرا الجديع e‏ 

صبح الموقف حرجاً. . لكن مقاتلو الفيلق في الوسط صمدواء على الرغم 
eS‏ حاول 
بعض من قدامى المحاربين الانسحاب من أجل إعادة تجميع وحماية 
4- عن الأنيادة للكاتب فيرجيل (9-70! ق.م). 


-334- 


مهم الأيمن» لأنه كان يتواجد فيه الثقل الأكبر للعدو ومقاتلوه الذين 
سا ألف من فرسان قيصر. 
ينما كان بومبي يراقب هزيمة سلاح الفرسان بقيادة قيصر عند أحد 
لأجيدة, كان يتردد في أخذ زمام المبادرة» توجه قيصر إلى الأمام على 
رأ ست مجموعات من المقاتلين» كانوا من ضمن النخبة المتقدمة من 
اتل الجتخاقل, وأخدوا سلاح الفرسان بقيادة بوي على حين غرة 
وسوا في إحداث فوضى كبيرة. قام جنوده بتكسير أرجل الخيول مما 
جعل سلاح الفرسان بأكمله يعيش في حالة من الفوضى؛ ؛ فهرب مقاتلوه 
نحو مؤخرة تشكيلات بومبي» فطاردتهم مجموعات قيصر الست. .لو كان 
بومبي قد أخذ زمام المبادرة حينهاء وأشرك جميع احتياطياته المتبقية» 
وأربعة جحافل أخرىء لكان مصير قيصر هو الهزيمة بسبب ظهور فجوة 
بين مجموعاته الست المتقدمة وسلاح الفرسان ومركزه. لكن بومبي» 
الجنرال الذي كان يتفاعل دائماً مع الأحداث بسرعة #وججاعة اصح 
منشغلاً جداً بمحنة سلاح الفرسان الثمين مما جعله يفشل في القيام بأي رذ 
فعل . كان ذلك الحادث مقدمة للمزيد من الكوارث» لأن قيصر أمر حينها 
احتياطي خطه القتالي الثالث بالتقدم عبر الثغرات الموجودة في خطي 
قتاله الأماميين. ركز على جناح جيش بومبي وجعله في مرمى قذائفه ثم 
أخذ يقصفه بشكل مستمر. كان الهجوم الذي قامت به قوة جديدة ونشطةء 
إلى جانب المفاجأة التي أوجدتها المجموعات الست» ناجحاً بامتياز 
وحسم نتيجة المعركة. انهارت صفوف قوات بومبي الخلفية» وأصيب 
مقاتلوها بالدوار نتيجة الهجوم المفاجى. وما كان يمثل خطاً قتالياً أمامياً 
قبل دقائق SS‏ 
غير المنضبطين يتراكضون لينفذوا بجلودهم. لم يسمح لهم مقاتلو فيلق 
قيصر بأحذ فترة راحة بل بدؤوا يطاردون حشود الهاربين. كان نمط القتال 
الذي أمر به قيصر مثالياً» فتحت طائلة التعرض لعقوبة الإعدام لم يسمح» 
بأي عملية نهب لمعسكر بومبي قبل أن يتمٌّ إبادة جيش العدو بالكامل 


-335- 


فسماحه لأفراد جيش العدو بالفرار وتجميع أنفسهم بعيداً في المواضع 
اا ل بيس المع إلا ليح د جربا جين برسي وليل و 
عشر ألفاً من مقاتليه فيما لم يفقد قيصر سوى 230 مقاتلاً. 

... عاش الإمبراطور قيصر! هكذا أعلنت المقاطعات الرومانية 

جميعاً ولاءها لقيصر. هرب بومبي إلى مصرء حيث طلب اللجوء من 
الملك بطليموس الثاني عشر وكليوباترا شقيقته وشريكته في العرش. 
مع إقصائه : نهائياً للرجل الوحيد الذي كان ما يزال يقف حائلاً بينه وبين 
القوة المطلقة التي لا يتقاسمها مع أحد والتي كانت تستولي على تفكيره» 
انطلق قيصر مع أربعة آلاف رجل ليطارد بومبى إلى الإسكندرية. لدى 
وصوله إلى مصرء استقبله ثيودوتوس مساعد الملك بطليموس» بعبارة: 
«الموتى لا يلدغون!» وقدم له رأس بومبي. في الإسكندرية» سقط قيصر 
تحت سحر كليوباترا الجميلة. كان دخولها حياة قيصر من خلال مشهد 
كان مذهلا بقدر ما كان فريداً من نوعه: دخل خادمها أبولودوروس إلى 
غرفة نوم قيصرء > وكان يحمل سجادة ثمينة على كتفه «هذه هدية لك» 
يا قيصر العظيم!» ثم قام بنشر السجادة» وكانت المفاجأة» لقد ظهرت 
الملكة المصرية الجميلة يلة وكانت ملفوفة في داخلهاء وربما كانت لا تزال 
عذراء في ذلك الوقت» لأن شقيقها” الملك بطليموس» كان عمره عشر 
سنوات فقط. في تلك الليلة» أصبحت كليوباترا عشيقة القاكد الروماني 
وأنتجبت له لاحقا صنبياً. . ولحقت بقيصر إلى روماء حيث أسكنها في أحد 
قصوره حيث كان يمضي لياليه معها؛ ولأسباب سياسية بحتة» ظل مقر 
إقامته الرسمي هو القصر الذي تسكن فيه زوجته كالبورنيا. 

أما بالنسبة لفكرة أن يوليوس قيصر كان ببساطة قد ألهمته الرغبة في 
المجد الشخصي أو من خلال الشعور الأسبر طي ©) بالواجب البطولى» 
فقد كان من من المؤكد حقاً أن روما كانت معجبة بالبطولات وتمجدها ولم 


5- ر ا اي او اااي : المترجم. 
نسبة إلى أسبرطة. المترجم. 





-336- 


تعر دائماً أن التعقل هو الجزء الأفضل من الشجاعة. تمكن قيصر من 
نهم النصيحة التي قدمها أعظم قائدين عسكريين في العصور القديمة 
رهما الإسكندر وهنيبعل» بأن الاختبار الأضمن للقائد العظيم في المعركة 
هو معرفة متى يتراجع. وقد شعر بالقلق والغضب عدة مرات عندما قاوم 
«مقاتلى بلاد الغال المتمردين»» أو غيرهم من المساعدين الكسولين 
الذين يعملون تحت إمرته» محاولاته لفرض انضباط الجحافل الرومانية 
عليهم. لم يحاول قط فهم رعاياه الأجانب ودائماً ما كان يعاملهم وفق 
المعايير الرومانية. 

برع قيصرء وقد كان خير من طبق مفهوم تحشيد القوات والمرونة» في 
تطبيق التقنيات العسكرية لعمه ماريوس» والتي كانت في الأساس صالحة 
لكل زمان ولا تتأثر بالتطور التكنولوجي. لقد فهم فعالية الضرب في 
محور قوة خصمه. بمجرد هزيمة جيش العدو الرئيس» واحتلال مراكزه 
الاقتصادية» فإن كل شىء آخر سيتحقق لاحقاً. لقد أدرك أن أضمن الوسائل 
لتحقيق أهدافه كانت خخلق قوة كبيرة وجعلها تركز على الأهداف الأساسية. 
عكست هذه القوة العسكرية» بالاقتران مع الواقع السياسي» حاجة قيصر 
النفسية إلى الفتوحات والهيمنة المطلقة. أمدّت المشاعر القومية التي 
تفجرت بالكامل في زمن قيصر حشود المقاتلين الهائلة الجديدة في جيوش 
روما بقوة تحفيزية يمكن الاعتماد عليهاء لم يعرفها الإسكندر أو هنيعل إلا 
بشكلها الأولي. . وكان مزاج قيصر يميل إلى تحقيق المجد الشخصي من 
خلال الإجماع الشعبي عليه. الم تصنع روما أبداً رجلاً مثل قيصرء ولو 
0 بالالتزام بالدوافع والمبادئ نفسها في سياسته في المستقبل» لكان 
أمرً حتمياً أنه سيتمكن من السيطرة ة على العالم». 

لم تكن انتصارات قيصر أقل شأناً من تلك التي حققها الإسكندر في 
اليونان, ولم تكن مبادئه الاستراتيجية أقل تقليدية من تلك التي تبناها 
#تبعل. لكن جيشه وأسلحته وأدوات الحصار التي استخدمها قد تغيرت 
رة أضبخ من المبعب التعرق عليها: لم يكن يفتقر إلى الشجاعة 


-337- 


الجسديةء ولم يكن أبداً مهووساً بسلامته الشخصية. . وقد أثبت ذلك مراراً 
وتكراراً عندما قاد رجاله في الجبهة. كان قيصر بعيداً عن الكمال؛ لقد 
تعامل بوحشية مع الأشخاص الذين غزاهم» لا سيما في بلاد الغال. .كانت 
تلك الأفعال تجعل القلب حجراً وثقيلاً كالرصاص. ولكن لولاها لما 
كان قيصر الذي نعرفه. 

vidi, viei«‏ ,نمع7...97 أتيت» رأيت» انتصرت»)©. قيصر الفاتح» 
الديكتاتور قيصرء الإمبراطور قيصر. قام قيصر بتنمية السمات الشخصية 
التي تتناسب مع كل لقب من هذه الألقاب. كانت هناك هالة من العظمة» 
والبطولة حوله» لم تتشكل نتيجة لانتصاراته المذهلة فقط. كان يحيط به 
شىء غامض يصعب تفسيره ولا يمكن إدراكه وحتى من دون إنجازاته 
العسكرية كان بإمكانه أن يحجز لنفسه مقعداً في مدفن العظماء. 

لم يكن قيصر يمتلك نبل الإسكندر ولا فطنة هنيبعل العسكرية. لكنه 
كان بالتأكيد رجل دولة ذكي» يعقد الصفقات التي تتيح له أن يحكم روما 
وبمفرده. تحقيقاً لهذه الغاية» كان يجزل العطايا على مجلس الشيو 
والناس» ليثبت أنه يتمتع بالفطنة وكرم الروح التي تؤهله للقيادة بحكمة 
وإتقان. لم يكن أعداؤه واثقين من حسن نيته. «(يجب على الرجل الذي 
يكون في حضرة قيصر أن يتصرف بحذر إذا كان يهتم بإبقاء رأسه على 
كتفيه». في عام 46 ق.م» وكان حينها في الرابعة والخمسين من العمرء 
أوكل شعب روما لقيصر منصب (0۲1۳ ec0۲‏ عaام)°‏ ومعناه 
الديكتاتور خاي الأخلاق» مما سمح له أن يجعل العملات المعدنية 
تحمل رسماً له. كانت هناك عبادة فرد حقيقية تحيط بشخصيته. ومثل 
الآلهة أطلق اسمه على أحد أشهر السنة» ومثل الآلهة كان يتمّ تبجيله في 
7- باللاتينية في الأصل. المترجم. 
8- هذه العبارة الشهيرة أرسلها قيصر إلى روما بعد انتصاره على الجيش البنطسي في 

معركة زيلا (2 آب سنة 47 ق.م). ل 
9- باللاتينية في الأصل. المترجم. 


-338- 


الاحتفالات الدينية. «لقد أصبح هذا الرجل الآن إلها)29. وقد أطلق عليه 
لقب «الإمبراطور مدى الحياة» أعلى قاض في زمن السلم وأمير الحرب 
الأعلى في زمن الحرب. ضفن له دما هالا من خلال تة الحق 
لمقاطعات بأكملها في إطلاق تسمية المواطنين الرومانيين على سكانها. 
قام بتأسيس جيش عظيم» وزاد من مرتبات أفراد جحافله واستبدل كل 
موظف حكومي مهم بواحد من ضباطه. . كان قيصر هو المنتصر دائماء 
وحملته الحشود على أكتافها نحو مقر الحكم للاستيلاء على السلطة. كان 
لايزال هناك ضباط من رتبة التربيون والسنتوري”“ وأعضاء في مجلس 
الشبوخ وكويستوريون2» وقناصل» لکن بالاسم فقط. كان غايوس 
يوليوس قيصر دكتاتور روماء ودكتاتور العالم القديم أيضاً. 

كان سحر شخصيته قد طغى على كل شیء؛ عشقه جنوده ولم تتمكن 
أي امرأة من مقاومة سحره. . أحبته هود الاي وكان يستمتع بكل 
دقيقة من تملق الناس له؛ أينما كان يذهب» كان يسمع هتافات الحشود: 
اقيصر... قيصر... قيصر...) والأهم من ذلك کله كان قيصر رجلا 
طموحا ومتعجرفاً وذا شهوة لا تحدّها حدود للسلطة المطلقة. ات 
عملية غزو بلاد الغال هى القاطرة التى كانت مهمتها جعله يهيمن على 
كل شيء. كان هدفه الوحيد هو أن يكون سيد روماء وحاك المؤامرات 
لتدمير كل خصومه السياسيين. قتل بومبي في مصر. وتعرض أبن بومبي 
للضرب في إسبانيا؛ ذهب كاتو ا 
ا كاي وعد مشا EG‏ مع 
طموحات قيصر إنه شيشرون. بمجرد أن اع تر إمبراطوراه لم 
عد بإمكان أي او مود إيقافه» ولم يعد بإمكان أي 
شخص أن يعرف ماذا ستكون خطوته التالية. ومع ذلك» كان هناك من 
لاني اياي اه I‏ لت 

۹ شكسبيره مسرحية يوليوس قيصر. 


“١‏ زتعسكرية عالية. المترجم 
ا“ موظفون مهمون في حكومة روما : المترتجم 


-339- 


شعر أنه يجب وقف هذا المغتصب للعرش عند حدّه. وقد اتخذ أكثر من 
رجل هذا القرار. 

كان يوليوس قيصر كاتباً موهوبا ا وغزير الإنتاج كتب تاريخ حياته؛ 
وكتب عنه الآخرون» الذين كانوا يعبدونه» تعبيرات تحمل أكثر عبارات 
التملق إذلالاً. أولئك الذين استنكروا أفعاله البغيضة وتجرؤوا على قول 
الحقيقة عن المغتصب الذي سار على الجئث من أجل أن يحوز على 
السلطة المطلقة» تمّ إسكات أصواتهم. كان قيصر داهية كبيرا. وببراعة 
غير عادية» غيّر أذهان الحشود المبتهجة به لإعدادهم لأن «يكونوا عبيداً 
تحت أقدام إمبراطور طاغية» وكان عليهم تحمله لقرون. 

وبالفعل» في عام 62 ق.م» حاول شيشرون أن يحذر أهالي روما: «أينما 
كنتم» تذكروا أنكم تحملون القدر نفسه من قوة الفاتح يوليوس قيصر). 
عندما واجهه أصدقاؤه بسؤاله عما جعله يغيّر رأيه فجأة عن قيصرء أجابهم 
شيشرون ساخراً. .. كل إنسان يمكن أن يخطى؛ فقط الأحمق من يبقى 
مصراً على الخطأ. لقد أثبت صعود قيصر السريع مئل الشهاب أنه كان 
على صواب. اقتربت الساعة التي يكشف فيها «إله النصر» أمام مجلس 
الشيوخ وشعب روماء عن أن قيصر هو كبير كهنته. 

قاد «مجمع الإله» قيصر إلى الاعتقاد حقاً بأنه قد تمّ اختياره من الآلهة؛ 
كان سياسياً لا يتورع عن ارتكاب الجراء ئم» ولكنه كان أيضاً رجلاً يمتلك 
عواطف وأحلاماً وكان على وشك ا المطلقة: إشباع 
٠‏ تعطشه للسلطة الذي لم يستطع السيطرة عليه 


-340- 


الفصل الثالث عشر 
شريف روما 


مسرح بومبي» روما 
بوم إديس مارس» سنة 44 ق.م 


«الم يكن ماركوس بروتوس» الذي كان يحمل 
نزعة للخير» ماري له فى الأمانة ونقاء الهدف». 
المؤرخ فلوطرخس 


تأسبدت وق عل ين شض باه إلى العائلة ها جر 
يحمل كلا الرجلين اسم بروتوس: لوسيوس جونيوس برونوس 
وفاركوس و نرس برو تومي :وتضل بيخ هذين الحدثين خمسة قروه. 
روما. كان أول عمل له هو قتل كل أولئك الذين ساندوا سلفه بما في ذلك 
لابن الاكبر لعائلة جونيا. بعد إجباره على مشاهدة تنفيذ حكم الإعدام علنا 
بأخيه خطط الشاب الأصغر لاثأر. كان بحاجة إلى انتظار اللحظة المناسبة» 
وفي الوقت نفسه تظاهر بأنه أبله. لقد أنقذ حياته ولكن ابن عشيرة جونيا 
للحظة أصبح معروفا باسم لوسيوس جونيوس بروتوسء الابله. 

عندما أرسل الملك تاركينيوس أيتاءه لاستشارة عرّافة معبد دلفي» 


-341- 


أخذوا طوال الوقت يهزؤون بابن عمهم الأبله» لوسيوس جونيوس 
بروتوس قالت لهم العرافة نبوءة غريبة: من يقبّل والدته قبل الآخرين 
سيحصل على أعلى سلطة على روما». كان الإخوة الملكيون» الأكثر 
کا على أن يكونوا أول من يقبل أمهم؛ وكانوا متحمسين للعودة 
إلى روما. أثناء انتظار سفينتهم» قام أحدهم بمد ساقيه لإيقاع ابن عمه 
بروتوس فسقط على الأرض. وبالتالي كان لوسيوس جونيوس بروتوس 
أول من قام بتقبيل والدته؛ الأرض الأم. 

انتظر لوسيوس جونيوس بصبر لسنوات فرصة الانتقام وتخليص 
المملكة من ذلك المغتصب. في سنة 510 ق.م حانت الفرصة لبروتوس. 
كان من الممكن أن يتم التغاضي عن حوادث القتل التي تحدث في أوساط 
الطبقات العليا في المجتمع» خاصة عندما يرتكبها أحد أفراد العائلة المالكة 
أما حوادث الزنا والاغتصاب فكان من المستحيل تجاهلها. 

وقع الأمير» سكستوس تاركينيوس الذي تجري في عروقه الدماء 
الملكية» في غرام زوجة ابن عمه» السناتور الشاب لوسيوس تاركينيوس 
كولاتينوس. كان اسمها لوكريسيا كولاتينوس» وكانت تتمتع بجمال أخاذ 
وتحوز على تقدير الجميع كامرأة فاضلة لا تشوبها شائبة. في إحدى 
الليالي» اقتحم الأمير سكستوس منزل زوجها وتسلل إلى الغرفة التي 
كانت تستلقي فيها لوكريسيا الجميلة. «لوكريسيا»» غمغم الأمير» ووضع 
يده على صدرها العاري» لا تصدري صوتاً. انا سكستوس تاركينيوس 
وأنا مسلح. لا تصدري صوتاً والا سأقتلك بلا تردد. ١حدّقت‏ به لوكريسيا 
بعيون مرتعبة؛ فهي لا تأمل أن تحصل على نجدة حيث إن زوجها قد 
أرسله الملك لقضاء مأمورية له. اعترف سكستوس برغبته بها وطالبها 
بأن تمنحه نفسهاء ولكن دون جدوى؛ فحتى الموت لن يجعلها ترتكب 
مثل هذا الفعل المشين. فاغتصبها عنوة'. 


1- عن كتاب تيتوس ليفايوس () طا طلم) وقد كتب هذا العمل بعد مرور 
ستمالة عام على ذلك الحدث. 





-342- 


فى صباح اليوم التالي» نادت لوكريسيا المحطمة زوجها العائدء 
واعترفت له بقصة العار الذي لحق بهاء وطالبته بالانتقام لها. . عندها دئعت 
خنجراً إلى قلبها وماتت عند أقدام زوجها. E‏ 
زوجته ونادى الصديق الوحيد الذي يمكن أن يثق به لوسيوس جونيوس. 
فى الوقت الذي رثى فيه الزوج وفاة زوجته الحبيبة» قام بروتوس بسحب 
ا ملو لرک وا يا وعرم إلى عقر ا 
سبقته القصة وتجمع حشد كبير. . وبدأ يحت الحشد هو يلوح بالخنجر 
قائلاً: «قسماً بدم لوكريسياء الأكثر عفة من أي شيء والذي جدّله العار 
واحد من ذرية الطاغية» أقسم بهذا الخنجر والنار وكل شيء آخر يعطي 
فوة لذراعي» بأن أقتفي أثر تاركينيوس سوبيربوس وألقي القبض عليه 
هو وزوجته الشريرة» ونسله اللعين» ولن أسمح له بدا ولا لأحفاده» ولا 
لأي شخص آخر بأن يسود مرة أخرى على روما»09. لقد أدى استشهاد 
لوكريسيا إلى تأسيس أعظم جمهورية في العصور القديمة. 
ربما هناك رواية أكثر صدقاً. من هذه القضة المشرفة بالتاكدك: 
بحلول القرن السادس ق.م» بدأت تعاليم مؤسس الجمهورية» سولون 
لأثني (590 ق.م)» تتسلل إلى المجتمع الروماني. عندما أصبح 
طفيان تاركينيوس سوبي ربوس لا يطاق» تحولت العائلات الرومانية إلى 
بروتوس» الذي كان يمتلك كل الصفات المطلوبة لقيادة التمرد؛ الصدق 
الشعور الوطني والحنكة السياسية. لقد خرج لأجل الانتقام بالتأكيده 
لكنه في الوقت نفسه كان خارجاً أيضاً لإنقاذ روما. لقي مسعاه الدعم 
الكامل من الأسر الأرستقراطية والشعبية . تبعه أهل روماء وكذلك الجيش 
الذي أقنعه لوسيوس جونيوس بروتوس بواسطة الذهب الأرستقراطي 
مير ولائه)» ونجح في طرد الملك وذريته. بمجرد أن : تحقق ذلك» وتم 
تحربر روما من ملكهاء فعل لوسيوس جونيوس بروتوس شيئأ غير متوقع 
ية. فبسبب عدم رغبته في أن يصبح مغتصباً آخر للعرش» وأن يكون 
E‏ سود لاه 


4إدي. عبار . 
عن كتاب تيتوس ليفايوس (0020108 .(Ab Urbe‏ 


-343- 


بدلاً من ذلك الشخص الذي يفي بوعوده ونزاهته» فقد رفض التاج الذي 
كان من حقه. لقد استطاع أن يتنبأ بتهديد الحرب الأهلية في حالة عدم 
السماح للشعب بالحصول على ما يريده مقابل دعمه المتواصل له بينما 
يهدئ في الوقت نفسه من قلق طبقته الأرستقراطية. 

وجاء التحدي الأكبر له من داخل عائلته. تآمر ولدا١‏ لإعادة تأسيس 
الملكية. تم اكتشاف المؤامرة» واعتقل المتآمرون. لقد ترك الأمر لبروتوس 
ليقرر الحكم. لم يتردد ذلك الوطني الكبير في أن يضع مصالح الجمهورية 
فوق مصالح أسرته. ولكي يقدم مثالا للأجيال القادمة» وللتأكد من أن لا 
يحدث أي تمرد ضد (55018)» وهي عبارة لاتينية تعني أعضاء مجلس 
الشيوخ والشعب في روماء فإن الأب المؤسس لجمهورية روما قام بإعدام 
أبنائه علنا بتهمة الخيانة (وأصبح... لقب بروتوسء الآول» شريف روما». 

وبحكمة سياسية» واصل لوسيوس جونيوس بروتوس بناء روما على 
بمثابة القنصل. وبهذه الطريقة فإنه وزع قوتهم وقضى على مخاطر طغيان 
أحدهما. لقد سار هذا النظام ينجاح وأصبح رائداً لنظام الحزبين في 
أسلوب الحكم المعاصر. كان إيمان الرومان بدستورهم ثابتأء وفي الواقع 
وعلى مدى الخمسين عاماً التالية» كان يعمل بطريقة تقترب من الكمال. 

استمرت روما في الهيمئة على إيطالياء فقد نجت من الحروب 
الأجنبية والغزوات الهمجية والكوارث الطبيعية والاضطرابات الداخلية. 
ونجت من هنيبعل وقبائل الهلفيت. لكن روما واجهت فجأة تحدياً يمكن 
أن يودي بالجمهورية ومبادئها. 

وكان هذا هو المنعطف الذي ظهر فيه بروتوس آخر في مشهد 
الأحداث. قضى ماركوس جونيوس بروتوس» الذي قاد المؤامرة 
0 لقيصرء شبابه في قراءة أعمال الفلاسفة اليونانيين الذين ثقلوا 
إليه أفكارهم بشأن تأسيس جمهورية منيعة غير قابلة للتجزئة. ومع ذلك؛ 
على الرغم من تمسكه التام بالجمهوريةء كان بروتوس الثاني يساهم بقدر 


-344- 


بر في استعادة الملكية كما كان سلفه الأكبر مسؤولاً عن تدميرها. بعد 
إن شهد وفاة قيصر؛ الذي كان صديقه» وربما كان يمثل له شخصية الأب 
لزي رعاه؛ كان عليه أن يعيش طويلاً بما يكفي ليلاحظ أن وفاة قيصر لم 
بب سوى في تأخير حدوث الأمر الذي لا مفرٌ منه. 

أصيب ماركوس جونيوس بروتوس» أول حاكم مخلص لبلاد الغالء 
بالصدمة من حجم الفساد السياسي الذي اكتشفه عند عودته إلى روما 
حي الدع لتولي أعلى منصب في المدينة» وهو منصب البريتور 09 
كان يبلغ من العمر ستة وثلاثين عام وكان مثقفاً ومتحضّراً مثل الرجل 
الذي كان معجباً به كثيرا يوليوس قيصره وكان متشبعاً بالروح نفسهاء 
وفجأة واجه احتمال الاضطرار إلى التغاضي عن عدم شرعية بعض 
الأعمال التي كان يقوم بها جميع أولئك الذين كانوا يقومون بتطويع 
القانون لأغراضهم الخاصة تحت عباءة الشرعية. احتفظ بروتوس بحب 
حقيقي ليوليوس قيصر لا يمكن إنكاره؛ ومع ذلك» فقد بدأ يقلق عندما 
تغيرت تصرفات وأساليب معبوده. كان قيصر بالتأكيد الشخصية الأكثر 
إغراء لجميع الطغاة. فقد كان يأمر بقتل قبيلة بأكملها دون أن يشعر 
بتأنيب الضمير» وفي الوقت نفسه؛ يسامح عدوه الشخصي. أكسبته قدرته 
على صنع القرار وصموده عند الشدائد سمعة العسكري العبقري؛ على 
المستوى السياسي كان لا يمكن مقارنته بأحد. وبتوليه منصب الرقيب29, 
استطاع قيصر التلاعب في مجلس الشيوخ وفقاً لإرادته. والأسوأ من 
. ذلك؛ أن مجلس الشيوخ ومن أجل.تكريمه منحه لقب» أبو الأمة» على 
الرغم من أنه كان يفضل لقب الإمبراطور. من الناحية القانونية» جعل 
هذا جميع الناس في روما يخضعون لقيصر. وباعتباره الحبر الأعظم 
نهم »مق نووم), كان بإمكانه التلاعب في التعاليم الدينية لتخدم 
5- هو لقب يعني الحاكم. المترجم 
6 - متس في زوم القدية یری ابه الإشراف على إحصاءات السكا في للق 

اضافة إلى تولي عدد من الشؤون المالية . المترجم. 


-345- 


أهدافه السياسية» وباعتباره الرقيب والحاكم (praefectura morum)‏ 
استخدم لقبه هذا لتمرير أي قانون يرضيه. . من خلال طرافته اللاذعة: علق 
شيشرون عن الطريقة التي أساء فيها قيصر استغلال منصبه السياسي: : في 
الساعة الأولى» أعلن قيصر انتخاب قنصل ليكون في منصبه حتى الأول 
من كانون الثاني؛ الذي كان يصادف صباح اليوم التالي. لذلك يمكنني أن 
أبلغكم أنه في يوم انتخاب كونينوس قنصلاً » لم يتناول أي شخص الغداء. 
ل ا ا لا نا 
كان يقظاً طوال فترة عمله؛ فلم يغمض له جفن! 
وبينما أصبح قيصر باعتباره إمبراطوراً معبود الناس العاديين ومحط 
إعجابهم» بدأ ينمو داخل الطبقات الحاكمة شعور بالاستياء منه والتوجه 
لخيانته. ومن كان المنقذء أصبح «العدو الداخلي» للآخرين. شعروا 
بالحاجة المتزايدة لإيقاف الشيطان الذي كان يدمر كل القيم الديمقراطية 
التي كانوا يعتزون بها. كانوا يتهامسون فيما بينهم أنه لوّث أفكار الحرية 
والإنصاف والعدالة» وأنهم كانوا على استعداد لفعل أي شيء لمنعه. حاول 
ماركوس جونيوس بروتوس أن يحذّر قيصر من أن تسلقه الفظ أعلى مراتب 
الديكتاتورية كان يتناقض مع مبادئ الجمهورية الرومانية» لكن الديكتاتور 
رفض تحذيره بازدراء. لم يكن ماركوس بروتوس يشكل بحد ذاته خطراً 
على قيصرء لكن بعض أصدقائه سوف يجعلونه كذلك قريباً. 
باتت العلامات التي تشير إلى إصابة قيصر بجنون العظمة تتزايد. خلال 
الألعاب الرومانية التي جرت عام 45 ق.م» رَُفِمَ تمثال يصوره في الساحة 
في المقدمة أمام التماثيل التي كانت تمثل الآلهة. كان هذا تجديفاء وأزعج 
الأرستقراطيين. كانت المؤامرة لإسقاطه تتشكل» لكنها كانت لا تزال بلا 
قائد ذي شخصية قوية. كان بروتوس مترددا» حتى جاء اليوم الذي وصلته 
دعوة من قبل عشيقة قيصرء الملكة كليوباتراء مع عشرين ألفاً من الرومان» 
لحضور حفل عشاء فاخر. تم تنظيم هذه المناسبة لاستكشاف رد فعل 
الناس على إعادة الملكية إلى روما. بعد العشاء» سمع بروتوس العديد 
-346- 


شيو ف المدعوين الذين تحدثوا إلى قيصر باحترام باعتباره ملك 
روما .(Rex)‏ على الرغم من حبه وإعجابه بقيصره الكبير» اتخذ بروتوس 
أخيرا قراراً بالانضمام إلى المتآمر لونجينوس كاسيوس. مع هذه الخطوة» 
أمبح ماركوس جونيوس بروتوسن القائد الواضح للمؤامرة» «الذي لم 
يحمل معه من الأسلحة إلا الجرأة وسمعة رجل نزيه مثل بروتوس 
ليؤكد من خلال وجوده تطبيق العدالة من البداية إلى النهاية»”". كان 
زی بروتوس حاكم روماء الذي كان يسيطر على الجهاز الاستبدادي 
في العاصمة بأكمله» فرصة لإيقاع ضربة قاتلة. لكن «بروتوس كان رجلا 
شريفاً قضى أسابيع في ألم ولوعة ممزقاً ما بين تأنيب الضمير والانسياق 
وراء تحقيق هدفه. وأخيراً أصبح الرجل الأخير في تاريخ روما الذي 
اختار الإخلاص للدستور على الولاء لمن رعاه واعتنى به. وجد نفسه 
يؤدي دوراً لا يناسبه» بسبب تحوله من الاهتمام بشؤون الجمهورية إلى 
انضمامه إلى حلقة من المتآمرين الذين لم يكن يَكُنَ لهم سوى الازدراء. 
في شباط عام 44 ق.م» قام مجلس الشيوخ» الذي زاد قيصر عدد 
أعضائه بشكل كبير ليتسع لمقربيه حتى وصل إلى تسعمائة عضوء بتسميتة 
دكتاتوراً دائمياً (وناتطوجرهم 5دطدنه1). وبجعله ديكتاتو را مدى الحياة 
فهذا يعني أن روما قد عادت فعلياً الآن إلى السيطرة المطلقة من قبل رجل 
واحد. وأصبح قيصر النقطة المحورية لكل مشاعر الكراهية التي تحملها 
الطبقة الحاكمة الرومانية. في وقت لاحق من الشهر نفسه» أعلن قيصر 
أنه سيغادر روما لشن حملة عسكرية في إسبانيا. وحدد موعداً لذلك يوم 
اشامن عشر من آذار. انتشر الذعر بين المتامرين سيب ضرورة اتخاذهم 
رار عاجلاً. فلا يمكن السماح له بالحصول على مزيد من الدعم الشعبي 
7 تحقيقه انتصاراً آخرٌ. في الواقع» لو كان قيصر والجاتوون 
0 على مناقشة مشكلتهم في جو رصين» وخالٍ من العداء المرير 
ي تولده الحرب الأهلية» لوجدوا أرضية مشتركة واسعة. كان قلب كل 
0 


کنا ا 
ن تتاب المؤرخ فلوطرخحس» سيرة حياة بروتوس. 


-347- 


منهما على مصالح روماء وبطرقهم المختلفة» كان يتمنون رؤية روما وقد 
عادت إلى الاستقرار» تحت حكم ديكتاتور أو قنصلين. كان وجود قيصر 
بحدّ ذاته باعثاً لصراع مستمر بين المثالية الفطرية التي دفعته إلى السعي 
لإقامة مملكة عظيمة في روما والانضباط الحديدي لرجل الفتوحات 
الدكتاتوري. 

كان من بين الأسباب الرئيسة للدراما التي وقعت في يوم (إديس 
مارس) في عام 04 «قضية التيجان». لقد حدث ذلك خلال 
(مهرجان اللوبركاليا أو مهرجان الخصب)'» عندما قدم قائد 
الفرسان إلى قيصر الرقيب والحاكم (:هودعه) والإمبراطور چا أمام 
جمهور كبير من الحاضرين. كرر مارك أنتوني مشهد التتويج هذا أمام 
حشد هائل من الأشخاص في المنتدى”2. عندما رفض قيصر التاج 
بخجل مصطنعء هتف الحشد له. لذلك طلب منهم قيصر أن يحملوا 
تيجان الغار إلى معبد الكابيتول. في الأيام الأولى من شهر آذار سنة 
4ق.م» وضع أحد أعضاء مجلس الشيوخ المناصرين للديكتاتور 
(ربما كان مارك آ"وني نفسه) تاجين صغيرين متشابهين على اثنين من 
تماثيل قيصر عند المدخل ثم دعا إلى تنصيب قيصر - كملك لروما. 
أزعج هذا الأمر الأرستقراطيين في مجلس الشيوخ إلى درجة أن اثنين 
من رتبة التربيون وهماء مارولوس وفلافيوسء. انتزعا التيجان التي 
فوق التماثيل وطردا أولئك الذين هتفوا لقيصر ملكا لهم بقوة السلاح. 
أظهرت إيماءاتهم أن مجلس الشيوخ وشعب روما أحبوا قيصرء لكنهم 
لم يهتموا كثيراً بالملوك. واستبد الغضب بيوليوس قيصرء وخلع 
الضابطين من منصبيهما. بالنسبة للمتامرين» فقد حان الوقت لوضع 


18- - وهو مهرجان سنوي كان الرومان يقيمونه في الخامس عشر من شهر شباط تكريماً 
ل«لوبركوس» إله الحقول والقطعان» وذلك بغية ضمان «الخصب» للناس والقطعان 
والحقول. المترجم. 

9- مكان عام في قلب المدينة الرومانية. كانت تقام فيه الاحتفالات والمناقشات 
السياسية. المترجم. 


-348- 


خططهم موضع التنفيذ. لم يجرؤوا على مواجهته علناً في مجلس 
زدیوخ» ولكن كان يجب وقف القيصر. من كان يبتسم له الحظ لم يعد 
وزلك. لقد تبدل مسار الحظ20. 
«إذا كانت السماء لها عيون» فلن يعيش طويلاً بما يكفي» هكذا تكلم 
كاسكاء أحد قادة المؤامرة. قطب بروتوس حاجبيه» لكن عينيه كانتا 
تحملان نظرة شخص مستغرق في التفكير ويتأمل. فقد استطاع أن يدرك 
الخطر الكامن. سفك الدماء لن يؤدي إلا إلى خلق رجل شهيد. اختاروا 
تاريخ 15 آذار» لأن كاسيوس علم أن مؤيدي الإمبراطور في مجلس 
الشيوخ سيعلنونه ملكاً في صباح اليوم التالي. 
في الليلة التي سبقت يوم (إديس مارس)» شارك قيصر في وليمة باذخة 
في منزل صديقه ليبيدوس والتهم الكثير من الطعام وأسرف في الشراب. 
في صباح اليوم التالي» عندما وصل إلى مسرح بومبي» كان لا يزال تحت 
تأثير النبيذ الكثير الذي تناوله ولم يكن قادراً على مواجهة أي خطر أو 
إنهاء أي تمرد بكلمات حاسمة. كان بروتوس» محاطاً بالمتآمرين» يننظر 
الإمبراطور على درجات المسرح. كانت مبادثهم نبيلة. وكل شيء عداها 
كان أقل مجداً. كان المشهد. الذي حدث أمام تمثال بومبي» تحديا 
لاستقامة بروتوس المحترم . وكما لوكان مشهداً للقتل في مسرحية تعرض 
في المكان. قفز ثلاثة وعشرون شخصً يرتدون ملابس الأرستقراطيين 
نحو قيصر وحينها سقط طموحه ضحية لطعنات خناجرهم. 
...قا م تيليوس سيمبر» بسحب رداء قيصر بكلتا يديه من رقبته» 
نحو الأسفل» وكان ذلك إشارة لبدء الهجوم عليه. سلّد كاسكا 
إليه أول ضربة له في الرقبة» لم تكن مميتة ولا خطيرة؛ حيث 
كانت صادرة من شيخ ص كان في بداية مثل هذا العمل الجريء 
مضطرباً جداً؛ استدار قيصر على الفور» ووضع يده على الخنجر 
وأمسك به. وصاح الاثنان في الوقت نفسهء الذي تلقى الضربة» 


20- ع . 
: عن المؤرخ كورنيليوس نيبو س(24-99 ق.م). 


-349- 


قال باللاتينية :موه ماا۷» ماذا يعني هذا؟» والذي سددهاء قال 
باللغة اليونانية لأحيه: «يا أخي» النجدة!) 
منذ بداية الخطوة الأولىء أصابت الدهشة أولئك الذين لم 
يكونوا مطلعين على الخطة» وكان رعبهم وذهولهم لما رأوه 
كبيراً لدرجة أنهم لم يفرواء ولم يساعدوا قيصرء ولم ينطقوا 
بكلمة واحدة. لكن أولئك الذين كانوا مستعدين للعمل» قاموا 
بتطويقه من كل جانب» يحملون خناجرهم العارية في أيديهم. 
في أي جهة يلتفت قيصر إليها كان يتلقى الضربات» وكان يرى 
سيوفهم منجهة نحو وجهه وعينيه» وكان مطوقاًء مثل وحش بري 
وقع في الشرك» م نكل جانب. لأنه قد تم الاتفاق على أنه يجب 
على كل واحد منهم أن يندفع نحوه» ويمسح جسده بدمه؛ لهذا 
السبب سدّد بروتوس له أيضاً طعنة فى الفخذ. يقول البعض إنه 
تقل باورا رسيم e‏ سيره عاد اراك رطان 
المساعدة» ولكنه عندما رأى بروتوس قد استل سيفه» غطى وجهه 
بردائه واستسلمء ووقع حينهاء ولا أحد يعرف إن كان ذلك بسبب 
المصادفة» أ وأنه تم دفعه في هذا الاتجاه من قبل قتلته» عند قاعدة 
النصب الذي يقف عليه تمثال بومبى» وكان مخضياً بدمائه. وبدا 
أن بومبي نفسه يشر ناه كنا اراد هال عيبل النان من خصمه الذي 
يستلقي عند قدميه» ونفث أنفاسه من خلال العديد من الجروح: 
لأنه يقال إنه تلقى ثلاث وعشرين طعنة. 
بعد قتل قيصرء وقف بروتوس ليشرح سبب ما فعلوه(!©. 
كان من بين مجموعة القتلة نسيب قيصر وقائد البحرية» ديسيموس 
بروتوس- يجب عدم الخلط بينه وبين زعيم المؤامرة» ماركوس 





1- سرد المؤرخ فلوطرخس تفاصيل عملية القتل في كتابه The lives of the Noble)‏ 
Grecians and Romans published byEncyclopaedia Britannica, Chicago,‏ 
2 عاش المؤرخ فلوطرخس للفترة من 102-46 م ويمكن اعتبار روايته الوصف 
الأقرب للأحداث الحقيقية. 


-350- 


واص» س 


جونيوس بروتوس» بل هو «بروتوس الأصغر سناًا» نجل عشيقة قيصر 
السابقة سيرفيلياء الذي هزم قبيلة الفينيتي في البحر. وكان هو من قال 
له قيصر جملته الشهيرة بصوت مختنق: «حتى أنت يا بروتوس؟» 
عندما كانت عملية القتل قد تمّت لتوهاء كانت تتعالى صيحات مفاجئة 
لأشخاص يهرعون تجوب أنحاء المدينة» مما زاد في الحقيقة من الخوف 
رالاضطراب» كما ذكر المؤرخ فلوطرخس. عندما أصبح المكان خاليا 
وهرب جميع أعضاء مجلس الشيوخ من أعداء قيصر من القاعة» اعتقد 
بروتوس أن من مصلحته أن يشق طريقه ويتوجه إلى البيت ولكن حينها 
بدأ الناس يصلون وسط الكثير من الصراخ. كانت الأخبار تنتشر في 
المدينة وتجمّع حشد كبير أمام المسرح ليقدموا لقيصر القتيل آخر تحايا 
الاحترام. أدرك بروتوس أنه لا يمكن أن يصبح الزعيم الجديد لمجلس 
الشيوخ دون أن يثير ذلك الفتنة وزبما حرباً أهلية تجري في المدينة. سارع 
أحد المتآمرين» وهو الجمهوري لوسيوس» إلى تبرير جريمة القتل كقربان 
ضروري: «يا أهل روماء لاحظوا ملامح هذا الشخص الذي حرّركم من 
الديكتاتور وقدروا روحه العالية. لا تخونوا حريتكم» أو المدافع عنها». 
ومع ذلك» ظل الرأي السائد هو أن ما حدث كان اغتيالا وحشيا لرجل 
عظيم؛ لا سيما بعد تأثرهم بعبارة التأبين النارية التي قالها مارك أنتوني 
الذي كان يقف فوق جثة القتيل... «وبروتوس رجل شريف...706. 

كان خوف بروتوس الأعظم مبرراً. فبموته» أصبح قيصر شهيدأء وما 
فعله المتآمرون بكل جهدهم لإيقافه قد بدأ يحدث الآن دون أن يكون 
هناك أمل في أن يتوقف. كان سكان روما ذوو العواطف المتقلبة يشعرون 
بالحزن على إمبراطورهم كحال جميع الرعايا الطيبين الذين سيحزنون 
على ملكهم. دفعت حادثة قتل قيصر إلى دخول روما في حرب أهلية 
أخرى. في السنوات اللاحقة» مات الكثير من الجنود الرومان على أيدي 
بعضهم البعض أكثر من الذين قتلوا خلال حرب قيصر ضد بلاد الغال. 
GE‏ و لوو A‏ 
(2- استقى شكسبير هله العبارة من المؤرخ فلوطرخس. 


-351- 


ل ينته الصراع بين الملكيين والجمهوريين. انضم مارك أنتوني» 
الجنرال المخضرم» إلى ابن شقيق قيصر أوكتافيانوس» السياسي الداهية 
مزاع قنك کی رن كسمو ربز ا . واشتبك مارك أنتوني 
على رأس قوة رومائيةء مع جحافل الجمهوريين في منطقة للمستنقعات 
بالقرب من مدينة فيليبي. 

عشية المعركة» استدار بروتوس نحو صديقه كاسيوس قائلاً: «إذا لم 
تقتنع العناية الآلهية بما نقوم به الآن وفقاً لرغباتناء فقد عقدت العزم على 
عدم إبداء المزيد من الآمال أو القيام باستعدادات حربية من أجل إقناعهاء 
بل سأموت كما كتب قدري لي. لأني قد تخليت عن حياتي من أجل بلدي 
في يوم إديس مارس وعشت منذ ذلك الحين حياة ة ثانية من أجلهاء بكل 
حرية وشرف! 

في صباح يوم 3 تشرين الأول سنة 42 ق.م بدأت المعركة الأولى. 
أصاب النجاح خط القتال الذي قاده بروتوس بشكل كامل» ولكن 
كاسيوسء الذي قاد الجناح الأيمن لم يحالفه النجاح. شنّ بروتوس 
هجوماً وسرعان ما دفع القوات المشتركة لأوكتافيانوس وأنتوني إلى 
الوراء. ولكن بقيامه بالهجوم أمام كاسيوس الذي كان مستعداً للهجوم» 
فقد خلق فجوة في تشكيلاتهم القتالية وبات يفصله عن كاسيوس خندق 
قتالي» حفره جنود مارك أنتوني. وقد خلق هذا الأمر ثغرة قاتلة. في غضون 
ذلك» تقدم بروتوسء الذي لم يكن على دراية تامة بالخطر» وفي حركة 
مفاجئة من حول جناح أوكتافيانوس» دخل معسكر عدوه. ظنّ بروتوس 
أن المعركة حسمت لصالحهه لكنه لم يتلق أبداً رسالة من كاسيوس يطلب 
منه أن يهرع إلى نجدته. بينما كان كل شيء يسير على ما يرام بالنسبة 
لبروتوس» الذي واجه أوكتافيانوس المتردد» تمّ دفع كاسيوس إلى 
المستنقع من قبل القيادة القديرة لمارك أنتوني وجحافله. كانت تلك هي 
اللحظة الحاسمة في المعركة. كيف كان التاريخ سيتغير لو أن بروتوس 
أرسل حتى فيلقاً واحداً. اعتقد كاسيوس» الذي ترك بدون قوة إغاثئة» أن 


-352- 


روتوس كان يفقد السيطرة في القتال. وعندما اندفعت جحافله إلى أبعد 
نقطة فى المستنقعات المميتة» وهوجمت بشدة» وبعد أن رأى كاسيوس» 
أن كل شيء ضاع» دخل خيمته» وسحب عباءته من فوق رأسه وكشف 
رفته. ثم طلب من صديقه بينداروس أن يوجّه له الضربة القاتلة. 

قبل أن يمنحهم فرصة لنهب معسكر كاسيوس» حشد مارك أنتوني 
جنوده لتحويل قوته الكاملة ضد بروتوس. وحينها توقع دعماً قوياً من 
جنود أوكتافيانوس حتى يتمكنوا من اللحاق بخصمهم في الحال. لم يكن 
بروتوس على دراية بالخطر الشديد المتمثل في كونه أصبح تحت رحمة 
قوتين. وبينما كانت المعركة لا تزال تسير في صالحه» كونه قد تحول على 
الفور للهجوم على مارك أنتوني وجحافله؛ وقع حينها حادث غير النتيجة 
مرة أخرى. في الليلة التي سبقت المعركة» تمّ إخبار أوكتافيانوس عن 
حلم رآه صديقه أرتوريوسء الذي رأى أوكتافيانوس يحمل من المخيم 
على حمالة» وقد اخترقت جسمه العديد من السهام وكان يتعذب حتى 
الموت. لقد أرعب هذا الأمر أوكتافيانوس للغاية لدرجة أنه عندما دخل 
إروتوس معسكره وقتل من فيه من المرتزقة اليونانيين البالغ عددهم 
ألفين, أصيب أوكتافيانوس بالذعر وهرب. وعندما دخل بروتوس خيمته: 
دجدها فارغة» على الرغم من أن بعض جنوده عرضوا عليه سيوفهم 
الملطخة بالدم وأخبروه أنهم قتلوا أوكتافيانوس. من خلال هروبه» سرق 
أوكتافيانوس من مارك أنتوني اشارا مخققاء وترك المعركة من دود 
”م٠‏ مما جعل من المحتم خوض معركة أخرى. 

خلال العشرين يوماً التالية» كان جيشا مارك أنتوني وبروتوس 
#سكران على مرأى من بعضهما البعض. في 23 تشرين الأول سنة 
ف وفي خطوة مفاجئة مشابهة لما كان يفعله هنيبعل» ترك مارك 
أتوني القائد أوكتافيانوس ممسكاً بالجبهة بينما كان يقود جزءاً من جيشه 
بر المستنقع واستطاع مهاجمة جحافل بروتوس من الخلف. وللمرة 
"يةه لم تحسم نتائج المعركة, لأن أوكتافيانوس فشل في متابعة نجاح 


-353- 


مارك أنتوني مع الجحافل التي تحت قيادته. كان السياسي» الذي سيصبح 
قريباً|إمبراطورأًء غير قادر ببساطة على حسم المعارك عسكريأء ومع ذلك 
فإن هذه المعركة بدت كل الآمال في استعادة الجمهورية. كان ابروتوس 
الشريف» يائساً من إمكانية أن ينهض شعب روما ويقدم الدعم له. لقد 
عمتهم وعود أوكتافيانوس الفارغة بإبقاء الجمهورية على قيد الحياة» 
وهو تعهدٌ لن يفي به أوكتافيانوس الطموح. كانت الجمهورية ميتة. 
كان بروتوس يواجه نهايته. لم يكن هناك شيء يمكن أن يفعله لإيقاف 
العملية. لقد قرر الإله الأعظم» إله الجمهورية وإلهه. أن يحكم بالموت 
على الرجل الوحيد الذي كان يمكن أن يعارض بروحه الجمهورية القوة 
المطلقة للملك؛ أو من يسمى في هذه الحالة بالإمبراطور. 


- 


كان ماركوس جونيوس بروتوس مسؤولاً بقدر كبير عن إعادة تثبيت 
النظام الملكي كما أسقطه جده الشهير لوسيوس جونيوس بروتوس. جعلته 
هذه الفكرة يائساً لدرجة أنه ألقى بنفسه على سيفه. «أنا لا أبكي على سوء 
حظي» لكن من أجل أرض الآباء والاجداد»؛ كانت تلك كلماته الوداعية©. 
عثر مارك أنتوني على جثته» وقام بتغطيتها بعباءته الغالية الثمن ذات اللون 
الأرجوانيء وعندما حاول لص سرقة الوشاح قتله على الفور. أحرقت جئة 
بروتوس النبيل بمراسم شرف كبيرة وأرسل رماده إلى والدته سيرفيليا. 

أراد بروتوس أن يموت» وأراد أن يدفع ثمن خطايا جمهورية مترنحة 
كان يؤمن بهاء ثم حاول الحفاظ عليها. مع موته ماتت الجمهورية» لتحل 
محلها الإمبراطورية الرومانية .Imperium romanuım‏ 

كان الأمر أشبه بدائرة مغلقة. تنازلت الملكية عن سلطتها للطاغية 
وتنازل الطاغية عن سلطته لأجل تأسيس جمهورية أرستقراطية. بعد 





3- من الممكن أيضا أن يكون بروتوس قد طلب من ستراتو» صدیقه» أن يطلعه على 
الأمر, لان ستراتو تم إحضاره للمثول أمام مارك أنتوني من قبل أحد ضباط بروتوس 
(رتبة تريبيون) الذي علق قائلا: "إن هذا الرجل يا قيصر هو من قام بآخر عمل ودي 
مع محبوبي بروتوس!. 


-354- 


ذلك استسلم الأرستقراطيون لجمهورية أكثر ديمقراطية» حتى أطاحت 
. ملكية أخرى بالقيم القديمة وأعادت طغيان الملك المطلق. 

الاختلافات بين قرننا والعالم القديم عميقة» ولكنها ليست كافية 
لجعل المقارنة سطحية. إن تجربة الجمهورية الرومانية التي تبلغ مدتها 
خمس مائة عام تعد ثمينة للغاية ولا يمكن تجاهلها. لقد حدث الكثير 
في هذه القرون الخمسة: الفتوحات العظيمة -لكل من إيطالياء وقرطاج» 
واليونان» وبلاد الغال؛ وظهور القادة أمثال كاتو وسكيبيو وريغولوس» 
وسينسيناتوس» والكفاح من أجل إقرار واحنٍ من أفضل الدساتير صياغة 
في التاريخ الجمهوري. ش 

مع حدث اغتياله الأكثر شهرة في العالم» فإن الرجل الذي كان يتفنن 
في أداء المظاهر الاحتفالية والبراقة» وصاحب الرؤية الواثق من نفسه. 
والبارع في استخدام السلاح» والذي يتلاعب بالقضايا النبيلة أو الفاشلة 
قد وقع ضحية لطموحه. كان جايوس يوليوس قيصر أحد تلك الظواهر 
التي لا يمكن تفسيرهاء والتي ظهرت في فترات نادرة في تاريخ البشرية. 
لقد أبهر شعب الأمة الرومانية بشكل يندر أن حدث قبله أو بعده. 

قرع ”يوم إديس مارس» ناقوس الموت للجمهورية الرومانية» التي 
أرست على مدار خمسة قرون الأساس لبناء مجتمع روماني عادل» ولهذا 
فقد أصبح شعار الدولة منذ سقوط النظام الملكي» هو: الحكم لمجلس 


الشيوخ وشعب روما. 
كانت تكفى حادثة اغتيال واحدة لإحداث تغيير هائل خلال الخمسة 
قرون التالية. 


-355- 


الجزء الخامس 
الأباطرة 
من 27 ق.م -81 ب.م 
من أغسطس إلى تيتوس 


أو قت لآ و توفي بشكل مفاجى». 
ترا م نكتاب للصلاة 


-357- 


الفصل الرابع عشر 


مواسم القتل 
دوموس أوراء روما 
9 حزيران عام 68 م 


القوانين بلا أخلاق لا نفع فيها 
٠‏ هوراس(65 ق.م - 8ب.م) 


قائمة بأول عشرة أباطرة رومان. اثنان منهم فقط ماتا بشكل طبيعي: 
أغسطس (29 ق.م - 14ب.م) قام بقتل قيصرون ابن قيصر 


تيبيريوس (37-14 ب.م) تم اغتياله 1 
كاليغولا (41-37ب.م) مات مقتولا 
كلوديوس (54-41 ب.م) مات بالسم 
نیرون (68-54 ب.م) انتحر ٍ 
غالبا (69-68 ب.م) مات مقتولا 
أوثو ١‏ (69ب.م) نتحر ار 
فيتليوس (69 ب.م) مات مقتولا 
فيسبازيان (79-69 ب.م) مات بشكل طبيعي 
تیتوس (81-79 ب.م) مات مقتولا 
دوميتيان (96-81ب.م) مات مقتولا 


-359- 


مسكين شعب ومجلس شیوخ روما (58018) فقدتم تفكيك جمهوريته. 
وما تلا ذلك هو تربع سلسلة من الحكام القتلة الوحشيين على العرش. 
كان هناك العديد من الطرق التي أعادت بها السلطات الإمبراطورية إنتاج 
نفسها: عن طريق الانتخاب والعنف والاغتصاب والميراث الطبيعى. 
كانت أفضل طريقة للاستيلاء على الوشاح الأرجواني”" هو قتل أخيك» 
ثم عائلتك بأكملها. لم يتوقف القتل في الأسر الإمبراطورية أبدا. 

حل فسادهم وقمعهم العسكري محل القانون الليبرالي حول صون 
كرامة الطبيعة البشرية. وكانت النتيجة النهائية هي الانحطاط الأخلاقي 
والميل إلى الانغماس في جميع أنواع الشهوات المتاحة» وكانوا يفضلون 
الجنسية منها. لقد تنعم الأباطرة بالثروات التي سرقوها من شعبهم» وقد 
أخفوا عمليات القتل متسترين بشكليات إقامة العدل» منتهكين الحقوق 
الأساسية لشعبهم بينما كانوا يتسترون خلف كلمات الوطنية. 

أصبح الإمبراطور بمثابة إله. كان ابن شقيق قيصرء الذي سيصبح أول 
إمبراطور يدعى أغسطس.ء أول من مهد لذلك الطريق. توجه أوكتافيان 
(أوكتافيانوس اسم آخر لأغسطس) بالسؤال إلى أحد العرّافين: «أنت 
تجرؤ على مناداتي بالمتصوف؟»؛ حدث ذلك في مكان ذبح أحد القرابين 
والذي تحداه قائلاً له: «ألا تؤمن بالآله؟» 

اليس لدي شيء ضد هذا الإله أو ذاك على وجه الخصوص. بالطبع؛ 
الإله هو فرضية عقلية» لكن يجب أن أعترف أن الإله حيوي للاستقرار» 
رو ل ل اي 
أن نخترع إلهاً...٠‏ 

هكذا وبعبارة واحدة حدد مسار روما الإمبراطورية للأربعة قرون 
القادمة. سيكون هناك إله» هو أغسطسء «إله يصعد إلى السماء». 

الهوس الديني هو نتيجة الغرور المتعاظم» وهم السلطة التي لا تحذّها 
1 - وشاح الملوك وهو رمز السلطة. المترجم 


-360- 


1 


حدود» والتصرف الأول تجاه جنون العظمة. عندما سيطرت إرادتهم 
بالكامل على البشرء أعلن الأباطرة الرومان أنفسهم آلهة. سادت أجواء 
الخوف والذعر في أغلب فترات حكمهم» وكانت تنتهي بعمليات الغدر 
والقتل؟ ما فائدة القوانين من دون أخلاق؟2. 

لم يخاطر ابن شقيق قيصر بالانتقام من «الفعل الشائن» الذي ارتكب 
بحق قيصر؛ التي تم على يد مارك أنتوني في مدينة فيليبي. كانت نتيجة 
الصراع أن يتقاسم أنتوني المنتصر السلطة مع أوكتافيان. تم إتمام الصفقة 
عندما تزوج أنتوني من أوكتافيا شقيقة أوكتافيان. لم يحسب الجميع 
حساب كليوباترا الجميلة. التي أسرتها روح الدعابة لدى قيصر بطريقة لم 
يستطع فعلها الرجال الأكثر عاطفة. مع أنتوني كان الأمر مختلفاً. كان حباً 
خالدأء إذا لم يكن أحمقٌ» سريع الاحتراق وسط نوبات من الندم. ومن 
أجل حب ملكة مصرية» هجر أنتوني زوجته أوكتافياء مما جعله يتغرض 
للغضب الشديد علناً من شقيق زوجته المهجورة: الذي تمكن من تحويل 
عشيقة عمه قيصر السابقة التي كان مفتوناً بها كثيراً إلى زانية ومنبوذة. 
في الواقع» بالنسبة لأوكتافيان» كانت القضية ذريعة أرسلتها السماء 
لينتزع السلطة من مارك أنتونى ويحوز على السلطة الديكتاتورية» مثل 
عمه المقتول. وبحماس وعناد» شجّع بشكل علني القيام بأعمال عنف 
ضد مؤيدي خصمه. كان مارك أنتونى قد انحدر إلى يأس تام. الشخص 
الذي وعد صديقه قيصر بأنه دائماًء والشخص الذي كان قد 
ساعده بمهارة كبيرة للوصول إلى قمة السلطة» وهو أوكتافيان» المتشائم 
من العالم الذي تخلص من الروح النقية للجمهورية قد خرج ليصلبه 
حتى الموت. اشتبك أسطولاهما المكون من أربعمائة سفيئة في البحر 
المفتوح بالقرب من منطقة أكتيوم (2 أيلول 31 ق.م). اشترى أوكتافيان 
بالذهب ولاء عدد من قباطنة أنتونى» الذين قامواء بعد وقت قصير من 
ية المعركة» بتسليم سفنهم لأغريبا جنرال أوكتافيان. هربت كليوباترا 
2 


- من كتاب أوديس للشاعر هوراس. 


-361- 


وأنتونى إلى مصرء وطاردهما أوكتافيان بحماس. عندما حرج أنتوني 
للتحقق من تقدم أوكتافيان في الإسكندرية» تم | إبلاغه (بشكل خاطىئ) 
أن عشيقته كليوباترا قتلت نفسها؛ وفي وسط مشاعر اليأس التام جراء 
خسار ادر ا ل 
لد ي الكت اكير لقره أتوني» رفضت أن تتعرض 
لمثل هذه العار. وانتحرت بلدغة أفعى سامة. 

في عام 29 ق.م» عاد أوكتافيان منتصراً إلى روما ونال لقب الإمبراطور. 
وأضاف إليه لقباً آخر: المواطن الأول فى الجمهورية. بعد ذلك بعامينء 
في عام 27 ق.م اتخذ مجلس الشيوخ الخطوة المتوقعة برفعه إلى مصاف 
الإله الأارضى. مع هذاء تم إلغاء الجمهورية. غير أوكتافيان اسمه إلى 
قيصر أوغسطسء أو «الشخص الذي ارتفع إلى السماء». لا تكمن 
إنجازاته في القيام بعمليات غزو للأراضي الإقليمية المجاورة» كما 
فعل أسلافه» ولكن في وقف الحرب الأهلية وضمان أمن الدولة. وكان 
الضامن لهذا وجود قوة دفاع قوية. لقد قام بإصلاح الجيش وخلق منه 
وحشا؛ أصبحت القرارات السياسية التى يتخذها أي إمبراطور تعتمد 
بشكل كامل من تلك اللحظة فصاعداً على حسن نوايا الجيوش. كان 
الجيش» وليس الدولة أو الإمبراطور» هو الذي يقرر وبذلك حافظ على 
فترة ما عرف ب «باكس رومانا»وهي فترة طويلة من السلام والاستقرار 
النسبيين شهدتها الإمبراطورية الرومانية. 

مع وفاته في 14 م. اندلعت حروب خلفاء الإسكندر”" بين خلفائه. 
لم تساهم الفترة التي أعقبت وفاة الإمبراطور أوغسطس بأي شيء 
لتحسين مجد الإمبراطورية. وعلى الأغلب فإنه من غير الضروري تعداد 
الحكام غير الجديرين بخلافة أوغسطس. مثل تيبيريوس المتصلب 
3- سلسلة من الحروب والصدامات المسلحة خاضها بعض القادة الذين ادعوا أحقيتهم 

بحكم إمبراطورية الإسكندر الأكبر. 

-362- 


التلالم» وكاليغولا الذي لا يرحم» وكلوديوس الضعيفء ونيرون الفاجر 
والقاسي» وفيتيليوس المتوحش» ودوميتيان الخجول الذي لا يحمل 
مشاعر إنسانية والذي تم وصمه بالعار الأبدي. كانت روما تئن تحت 
طفيانهم المتواصل» الذي أهلك العائلات القديمة في الجمهورية وكان 
فاتلاً لكل فضيلة وموهبة نشأت في تلك الفترة التعيسة9. 

كان الأباطرة راضين عن الحفاظ على هيمنتهم في مأمن من الغارات 
التي يقوم بها الفرئيون واليهود في آسيا الصغرى» والقبائل البربرية شمال 
نهر الدانوب وما وراء نهر الراين. لقد كشف هؤلاء المحاربون التوتونيون 
الأقوياء عن الثمن الذي كان على الإمبراطور الروماني أن يدفعه مقابل 
طموحاته الإقليمية عندما حاولت جحافله و ا . في عام )9 1 
أهلكت القبائل الجرمانية الموحدة تحت قيادة أرمينيوس» وهو أمير 
من قبيلة شيروسكي وضابط ومواطن روماني فخري» الجحافل الثلاثة 
لفاروس في غابة تيوتوبورغ©. خلال هجوم شرس حسمته بالصدفة 
عوامل الطقسء ' حين هبّت عاصفة رعدية مفاجئة نصب أرمينيوس 
كميناً لفاروس وجحافله في غابة مظلمةء وذبح مقاتلي جحافله وغل 

من أسرهم على الأشجار. وضعت هذه الخاركة التي حلت بالرومان» 
والتي كانت إحدى معارك التاريخ الحافيمة خا لجميع خطط التوسع 
الإقليمي الروماني خارج حدود نهر الراين ونهر الدانوب. . وأصبح النهران 
يمثلان الحدود النهائية للإمبراطورية (31ومضة نمنصم1)» وهي له 
التي فرضتها عليها الطبيعة. بعد هذه الهزيمة الرهيبة» لم يعد للإمبراطور 
أوغسطس أي مزاج للقتال. في آسيا الصغرى» من أجل استعادة سور 
الجحافل المفقودة للقائد الروماني كراسوس» فضل دفع فدية للفرئيين 
دا من مواجهة فرسانهم المتوحشين في معركة مفتوحة. عندما توفي 
ستو كيو سجاه 


G.M. Low, Gibbon’s Decline and Fall of the Roman Empire, راجع:‎ 27 
London, 1960. 


3- راجع كتاب المؤلف (عامل المناخ). 


-363- 


أوغسطسء تمّت قراءة وصيته عند چات منتدى روما. وحدد 
فيهاء حدود الإمبراطورية الأوغسطينية» استناداً إلى الحواجز الطبيعية 
مثل الأنهار والصحارى: نهر الراين والدانوب من الشمالء والمحيط 
الأطلسي من الغرب» والفرات من الشرق والشريط العريض من صحراء 
شمال أفريقيا من الجنوب. وقد بقيت تمثل حدود الإمبراطورية الرومانية 
على مدى الأربعمائة سنة التالية. 

تم تعريف المصالح الإمبراطورية لروما بضرورة ة حماية دماء أبناء 
الإمبراطورية وتربتها. وهذا هو السبب وراء وضع جميع الجيوش 
بشکل استراتيجي عند حدودها الواسعة وإبقائها في الب ا في 
كثير من الأحيان کان : تتمر كز الجحافل من دون جنرال» لأن أوغسطس 
كان لا يحافظ على الجنرال الذي يحصل على قدر أكبر من الاحترام من 
فيلقه يفوق ما يحصل عليه الإمبراطور. لم يتم تشجيع مبادرات القادة 
العسكريين على الإطلاق» وقد أدى ذلك مرة أخرى إلى انخفاض كفاءة 
الجيوش وانضباطها. أصبحت الجحافلء المدافعة الأبدية عن روماء 
أقل فاعلية. لم تعد صفوفها تحمل ذلك الشعور برفقة السلاح والمشاعر 
الوطنية الشديدة التى ساعدت روما على النجاة من العواصف الرهيبة 
وقادتها إلى العظمة. سمحت الحرب للإمبراطور بالاستفادة من رغيات 
الرجال المحظورة بطريقة أو أخرى بسبب ارتكابهم لأنواع كثيرة من 
الجرائم ؛ لقد انضموا فقط لاستعادة حريتهم من خلال القانون (قانون 
الإمبراطور) حيث تم منح نح العفو لأي شخص يرغب في القتال. أدى هذا 
إلى أن يتضخم داخل صفوف الجيش عدد أولئك الذين لولا السماح لهم 
بالانضمام للجيش لكانوا مذنبين لارتكابهم أفعالاً سيئة» والذين أصبحوا 
يشتركون في القتال لا لسبب سوى كونه أفضل وسيلة للهروب من 
العقوبة. توافد الفقراء إلى مخيمات الجيش لضمان وجبة يومية لبطونهم 
التي تتضور جوعاً في مقاصف الجيش. انضم آخرون إلى الجيش للبحث 
عن الثروة. كان الأرستقراطيون الشباب» من أبناء الضباط» والذين 

-364- 


ل تكن تهمهم الثروة ولا الغنائم» قد خرجوا للقتال بحثاً عن المجد 
رخمي - أو لمجرد التسلية. ففي الحرب» يمكنهم القتل والاغتصاب» 
ر ذلك يجري بشرعية تامة. كان الملل في الحاميات العسكرية تكسره 
نوبات محمومة من القتال وأعمال النهب. وكانت الحياة في المخيمات 
يل فترة الاننظار الطويلة التي تفصل بين نوبات القتال. كان المقاتل 
بنضي أغلب وقته في الاسترخاء. أو يقوم بإجراء القليل من أعمال 
الحفر الظاهرية ويترك عدة العمل لتتآكل. ويقضي بقية اليوم في معاشرة 
البغايا والنوم والتفاخر والأكل والشرب. كانت هناك أيضا مشكلة حاجز 
اللغة بين العديد من العناصر العرقية داخل الفيلق الواحد. فكانت تندلع 
المشاجرات وتتم تسوية الحسابات بالأسلحة التي كان من المفترض أن 
يستخدموها ضد عدو إمبراطوريتهم. 

وقد أت مرابطة المقاتلين عند الحدود إلى ترك قلب الإمبراطورية 
عرضة للخطر. كان عدد قليل من الجحافل مكلفة بقمع المشاكل 
الداخلية. تم تسليم حماية الإمبراطور والمدينة بالكامل بأيدي عشرة 
لاف رجل تمّ اختيارهم من الحرس الإمبراطوري. ثبت فيما بعد أن 
هذه كانت خطوة خطيرة. وفي حين أن الجيش منع المواطنين والعبيد 
من خلق المتاعب» أبقى حرس الإمبراطور الشخصي الجيش تحت 
سيطرته» وقضى أوغسطس وقته قلقاً حول كيفية السيطرة على أفراد 
الحرس الشخصي. لأن مهمتهم لم تعد تقتصر على الحماية الشخصية 
للإمبراطور؛ بل سرعان ما بدؤوا في تقرير من ينبغي أن يكون الإمبراطور 
نعلا وبالتالي تعيين الأباطرة بأنفسهم؛ الأمر الذي أدى في كثير من 
الأحيان إلى قيامهم بتنحيتهم أو اغتيالهم. 

أما بالنسبة للناس العاديين» فقد جرد الأباطرة حياة رعاياهم من الآلية 
ل جتماعية التي عملت بشكل جيد في ظل الجمهورية. وحولواالبلاد إلى لة 
يرنفسها بنفسها وبشكل عديم الرحمة» مما خلق أوضاعاً تناسبهم بشكل 
ضل. وكلما تمردت الجماهير العظيمةء يمنحها الأباطرة الخبز والطرائد 


-365- 


ويرسلون عدا قليلاً من المسيحيين المزعجين إلى الأسود لكي تلتهمهم. 
شكّل الدين الجديد (المسيحي) تحدياً لسلطة الإمبراطور. وعاجلاً أم آجلاً 
سيكون هناك عصيان» أو ما هو أسوأ من ذلك وسيقوم الإمبراطور بحظر 
جميع تعليمات الديانة المسيحية. وهذا لم يؤد إلا | إلى جعل الأمور أسوأ؛ 
أصبحت الدعوة للمسيحية سرية واستمرت في الانتشار والتوسع. أصبحت 
روما مثل عش الأفعى يفرخ المكائد وأعمال القتل. وهكذا تبين أن الأباطرة 
كانوا أكثر اهتماماً بضمان بقائهم على قيد الحياة من خلال القضاء على أي 
معارضة بدلاً من اهتمامهم بإدارة شؤون الإمبراطورية. 
كانت جيوش من العبيد تقوم بجميع الأعمال الوضيعة؛ وكانوا بمئات 
الآلاف من جميع أنحاء الإمبراطورية. لم يجرؤ العبيد على التمرد» وإذا 
E vg‏ 
حشية قصوى. فبينما كان يتم تم شنق الرومان خلف جدران السجنء كان 
لعي ُصلبون علا على أحد طرق الرئيسة الؤدية م روما ثم توكو 
معلقين هناك حتى تنهشهم الغربان. كانت أفضل طريقة لحصول العبد 
eT‏ في الحصول على کرم سیده. 
للأسف لم يتوقف الجشع الروماني عند حدود معقولة. كان العبد عبداء 
وإنساناً بلا وطن وعاملاً رخيصاً. 
كان مجلس الشيوخ أداة بلا سلطة يتحكم بها الطاغية. كانت اجتماعاته 
قصيرة ولا تفعل أكثر من التصديق على قرار للإمبراطور والتصويت على 
منح وسام أو رتبة جديدة لسيده الأوغسطس. لم يكن للروماني العادي 
أي دور في الحكومةء وعلى عكس أسلافه» لم يكن يرغب في شيء. 
كان المواطنون العاديون سعداء للذهاب إلى الكولسيوم لمشاهدة 


المصارعين وهم يصارعون د بعضهم البعض حتى الموت. ويهتفون 
«عاش الإمبراطور حيث كان ا الذاهبون إلى الموت يؤدون التحية 
العسكرية» .«...morituri te salutant‏ 





6- حلبة المصارعة الرومانية. المترجم. 


-366- 


شرت المكائد في كل مكان» وباتت أعمال القتل تحدث بسرعة» 
عن طريق السم أو الخنجر. لم يعد بإمكان أي من الأباطرة الرومان أو 
المطالبين بالعرش إنهاء يومهم بنوم هادئ. توترت علاقة الإمبراطور 
وروي نه را رن المطالب بالتاج الإمبراطوري. وتم نفي 
جيرمانيكوس بتعيينه قائداً للقوات الموجودة في الشرق» حيث سقط ميت 
بعد تناوله إحدى الوجبات التي قدمها له أحد عبيد تيبيريوس. من خلفه 
كإمبراطور جعل اسمه رمزاً للوحشية المطلقة. حفيد تيبيريوس» الذي كان 
قد خئق الإمبراطور أثناء نومه من أجل اغتصاب التاج (16 آذار سنة 34). 
کان غايوس قيصرء المعروف باسم كاليغولاء» وهو ابن جيرمانيكوس 
سادياً شريرأًء مقتنعاً أن حياته كانت ترشدها القوى الكونية؛ لم يكن يستمع 
إلى أي أصوات أخرى غير أصوات السماء التى كانت تردد صدى أفكاره 
الخاصة. ومهما كانت المكاسب التى حصل عليها على حساب رجال 
حاشيته التافهين من خلال أعمال قتلهم التي لم تتوقف عند حدّه فإنه لم 
بسيطر أبداً على رجال الحرس الإمبراطوري (البريتوري) الذين لا يمكن 
السيطرة عليهم؛ والذين من دون رضاهم لا يستطيع التمسك بالعرش. 
تسبب له اعتقاده الراسخ في مهمته كمخلص بالجنون. واستمر في 
مواصلة عمليات القتل» والتخلص من المنافسين المشتبه بهم» وبالدرجة 
فسهاء التخلص من أقرب مؤيديه. وأخيراً فقد السيطرة على الأمور 
داغتيل على أيدي ضباط من الحرس الإمبراطوري. خلفه في الحكم 
كلوديرس» وهو رجل عفيف نسبياً قياساً بالأباطرة الرومان. كان متزوجاً 
من ميسالينا التي كان جمالها الرائع أسطورياً مثل عربدتها الجنسية. كان 
زوجها مهتماً بالكتابات التاريخية أكثر من اهتمامه بقضاء وقته في أداء 
ناجباته الزوجية. وبحثاً عمّن يطفئ نيران شهوتهاء انخرطت ميسالين 
في أعمال أدّت إلى تدميرها ذاتيً» وعادت إلى طريقة الحياة الطائشة 
المليئة بالعربدة الجنسية والتي أكسبتها السمعة السيئة قبل زواجها من 
كلاوس. أصبحت حفلاتها حديث روما والني كانت تنتهي دائماًبحالة 


-367- 


فوضى صاخبة. وفي كل صباح كانت تنحي جانباً عشيقهاء وهي تعاني 
من الصداع والغثيان والمزيد من الشهوة. ونقلت طريقة عيشها هذه إلى 
نارين الما حت وفيت جاه اشرات اعاب دي 
وكانت تبحث عن سلوتها في زنزانات السجون. فتشبع رغباتها مع جميع 
المحكوم عليهم بالموت» وفي صباح اليوم التالي تبدأ بوقاحة في استدعاء 
حراس الإمبراطور إلى فراشهاء أمر كلوديوس أخيراً بقتلها وحدث ذلك 
على يد أحد عشاقها السابقين بينما كانت في أحضان رجل آخر. 


م صو مم 


تصرف كلوديوس بسذاجة شديدة عندما ع 
المجنون كاليغولا زوجة له. كانت أغريبينا امرأة أكثر فتكاً بكثير من 
زوجته السابقة؛ كانت طموحة» وخلال فترة قصيرة استحوذت على 
زمام السلطة. وهذا الأمر أزعج الرومان» لذلك غيّرت خططها. لم 
يكن ماضى أغريبينا مثالاً على المرأة العفيفة. لقد أتيحت لها فرصة 
كبيرة التذوق الثمرة المحرمة» مع سلسلة من العشاق» من الجنرالات 
إلى الجنود العاديين فى المخيمات» وتركت لها تلك العلاقات ابناء 
كم كانت تتذكر صراخها من العذاب أثناء ولادة الطفل. كان الناس 
يتهامسون أنها لعنة الإله جوبيتر» أنجبت أخت كاليغولا الشرير 
بذرة لأفعى خبيئة. وأجبرت حينها زوجها الإمبراطور الرعديد على 
تبني ابنها الوغد» الذي مُنح اسم نيرون كلاوديوس قيصر دروسوس 
جيرمانيكوس. هذه الخطوة وضعت الوحش على السلم المؤدي إلى 
العرش. ولكن لكي ينجح» سيكون من الضروري القضاء على جميع 
الموجودين في السلم قبله. 

طوال حياته» ظل نيرون مسكوناً بحمام الدم الذي أوصله إلى السلطة. 
ما إن تبناه الإمبراطور كلوديوس وأسبغ عليه صفة الابن الشرعي» حتى 1 
توجب أن يموت الإمبراطور قبل أن يصل بريتانيكوس -ابن كلوديوس 
من زوجته ميسالينا- السن الذي يستطيع فيها الحكم. تمّ ت كشف E‏ 
كانت قوتها الدافعة هي أغريبينا aT‏ فقا دوسا 

-368- 


نى 13 تشرين الأول سنة 54ء أعدت الإمبراطورة أغريبينا وليمة كبيرة من 
زع حاص» وطلبت من قائد حرس الإمبراطور كلاوديوس أن يبلغه: : إن 
السيدة النبيلة تتمنى حضورك). 

عندما دخلت الملكة. قالت له: «إنك تتهرب مني» زوجي العزيز». 

فأجابها: «إن شؤون الإمبراطورية تجعلني مشغولا». 

اليس الليلة» يا حبيبي». ثم صفقت بيديها ودخل أحد عبيدها بكأسين 
فم الك ل ا ا 
الإمبراطور. كانت تعرف أنها في مأمن من السم. انت لاق بى 
ضحكت وأفرغت كوبها. جعلها النبيذ تشعر بالدوار. e‏ 
بجب أن تتحلى بالصبر وتنتظره حتى يشرب كأسه. وقد فعل» وسقط 
على الأرض» يئن ويشهق» وقد التوى وجههء قبل أن يغلق عينيه إلى 
الأبد. في طريقها للخروج من غرفتهاء نظرت أغريبينا إلى الحراس 
المسترخين والكؤوس المنسكبة من النبيذ المسموم. مع إزاحة كلوديوس 

من الطريق» لم يعد هناك سوى بريتانيكوس الابن الشقي لميسالينا والذي 
يجب التعامل مهه عد أريعة أشهر من وا روالد سقط ضرعا بعد أن 
تناول طبقاً متبلاً» وأصبح نيرون وريثاً بلا منازع لإمبراطورية ضخمة وهو 
في سن السابعة عشرة. وواصل تقليد والدته في القضاء ء على جميع أفراد 
عائلته المزعجين. في السنوات التالية» قام بقتل زوجتين بالإضافة إلى 
والدته المشاكسة؛ لأن أغريبينا ارتكبت خطأ لا يمكن التغاضي عنه بأن 
استولت بنفسها على مقاليد الحكم في الإمبراطورية. 

أصبح الإمبراطور عبداً للرجال الذين كرهوه واحتقروه. ربما تكون 
لتجاوزات الهمجية التي ارتكبها أفراد حرسه الشخصي قد أزعجته لكنه 
كان سعیدا بأي عذرمقبول لتبرير تردده. كان يقضي كل صباح في مهامه 
المعتادة» بما في ذلك الموافقة على الدفعة التالية من عمليات الإعدام. 
تكونت لديه انطباعات خاطية من أثر التقارير الإيجابية التي كانت تصله 
من رجاله» الذين كانوا يخبرون إمبراطورهم بما يريد أن يسمع» واصل 


-369- 


نيرون أسلوب حياته الفاجر. كانت حوادث العربدة والقتل تتتابع الواحدة 
تلو الأخرى. كان يجب أن يكون أعمى كي يتغاضى عن الغضب المتنامي. 

كان مهووساً بانعدام الثقة وما يصاحب ذلك من عصاب. وتعزز فساده 
في السلطة بسبب الخوف من الخيانة. لمنع نفسه من الانهيار تحت وطأة 
هذه الحياة» اعتمد نيرون بشدة على تناول المخدرات. تمكن عرّافوه 
من التستر على حالة الإنهاك التي أصابت إمبراطورهم عن طريق إمداده 
بالمنشطات» وهو نهج دمّر نيرون بالكامل. كان من شأن امتلاكه بنية 
جسمية قوية أن تمنعه من الانهيار البدني والعقلي المبكرء ولكن سرعان 
ما أصبحت التغييرات في حالته الجسدية واضحة للعيان واتخذت نوبات 
الغضب المستمرة شكل الجنون المستفحل. بات يعاني بشكل متزايد من 
تقلصات في المعدة. كان كهنته وعرّافوه» هم الذين زودوه بوصفاتهم 
السامة المهدئةء وكانوا يتغامزون فيما بينهم على الاحتفالات الدينية -التي 
باتت عتيقة- التي كان يحتفلون بها بشكل مهيب بحضور الإمبراطور, ثم 
يقدمون له بعدها مزيداً من المخدرات لتهدئته ل 
المتآمرين في كل مكان؛ فقد اضطر العديد من رجال حاشيته» وأعضاء 
مجلس الشيوخ البارزين» وحتى أفراد عائلته» إلى دفع حياتهم ثمناً لإصابته 
بجنون العظمة. . تم اتهامهم بالخيانة ونفذ بهم حكم الإعدام. وإذا فشلت 
ثهمة الخيانة» فإنهم يقتلوق ببساطة. .كان القصر الإمبراطوري الذي يسكن 
فيه نیرون يعم بالمحظيات المسرفات في زينتهن. كان يتسلى معهن 
بقراءات من شعره» وبعدها يستمعن إلى موسيقاه» ثم يقمن بأعمال القوادة 
فيجلبن له من يحب معاشرتهم» الذين يكونون في أكثر الأحيان من أبنائهن 
وبناتهن . كان بلاطه مزدحماً بالطفيليين. . كان متملقوه الذين يتغنون بعطره 
يساعدونه في تقرير سياسة الدولة. (من سخريات القدر السيئة أن الذين 
كانوا مهرجين في القرى بالأمس» هم من يفصلون بين الحياة والموث 
اليوم» وسيكونون في الغد حراساً في المراحيض العامة)7. 


7- الشاعرالروماني جوفينال. 





-370- 


متأثراً بالإنجازات الكبيرة التي حققها قيصرء أطلق نيرون جيشه في 
رحلة استكشافية إلى مملكة بارثيا. تم تسليم قيادة الجحافل إلى جنرال 
منمكن هو غانيوس دوميتيوس كوربولوء الذي تسلم مهام جيش أضعفته 
نوات من التقاعس عن العمل وحوله إلى أداة قتال فعالة. وبناء على 
نوجيهات كوربولو الفعالة» سرعان ما اتخذ الجيش تشكيله المناسب 
وحدّد غايته» وبدأ في تحدي هيمنة المتملقين الأذلاء فى بلاط نيرون. 
أخاف هذا الأ الام اطؤر لمرن للغاية تدرك أنه« اتدل كوريولق 
بشخصية عسكرية غاية في الغباء لم يكن بإمكانه أن يمثل تحدياً؛ وهو 
كيسينيوس بيتوس. الذي جاء» ورأى» وتم سحقه في معركة الريحانية 
)62 م( من قبل القوات الفرئية-الأرمنية المشتركة بقيادة الملك 
تيريدياتيس. وحقيقة أن الخيالة الفرثيين كانوا يحاصرونهم باستمرار» 
بحومون حولهم مثل الذباب مبتعدين عنهم مسافات معينة» قل فسره بيتوس 
على أنه علامة على الخوفء واعتبر أن قواته تمتلك ما يكفي من القوة 
تجعلها تستغني عن طليعة جيشه. حتى إنه همل إرسال جنود استطلاعه 
إلى الأمام. أما جحافله» التي سقطت مرة أخرى في وهدة روتينها الذي 
يبعث على الكسل بعد إقالة الجنرال كزررور لو تقل رات وببساطة 
مواصلة مسيرتها قبل أن تحصل على استراحة لغرض تناول الغداء على 
الرغم من أن معلومة وصلت من أحد الخدم المرافقين لقطعات الجيش 
تفيد بأنه رأى ثلاثة حشود كبيرة من الرجال والخيول» تلمع وسطها 
الرماح والدروع. توقف بيتوس» وكان رجاله يتكئون بتكاسل حول مواقد 
اهي حينما ضربت رشقة من السهام أجزاء من المخيم. قبل لحظة من 
ذلك الحدث. لم يكن بإمكانهم رؤية رجل واحد» وفجأة أصبح يقف 
الأن ألف من الرماة وراء الشجيرات والتلال المنخفضة» بعد أن نهضوا 
على ما يبدو من الأرض. أشعلوا حلقة من النار التي سرعان ما انتشرت 
في العشب الجاف» كانت ألسنة اللهب تنطلق عالياً في الهواء. هبت ريح 
أوية وهيّجت النيران» حتى بدا الوادي وكأنه حفرة من الجحيم» يتشابك 


-371- 


فيه الدخان مع فرقعة اللهب. تمّت محاصرة ما تبقى من الرومان داخل 
المرجل. وكانت تصل عبر النيران رشقات متتالية من السهام» للوصول 
إلى المنطقة الآمنة التي تقع أمامهم كان على الرومان المرور من وسط 
رماة الأسهم وقاذفات المنجنيق» لكن أولئك الذين حاولوا الوصول إليها 
ماتوا وسط ألسنة اللهب أو أطلق عليهم الرماة الأرمن سهامهم من مسافة 
قريبة. بسبب الفوضى والهجوم المستمر من السهام» كان كل رجل يهتم 
بنفسه. تم دفن جحافل من المقاتلين تحت وابل من السهام. انطلقت 
رماح بطول ذراع رجل طويل القامة» وقد شحذت رؤوسها بالنان من 
الأقواس التى يسحبها الرجال الذين كانوا قد تعودوا على استخدامها 
وهم في سن الطفولة لصيد الحيوانات. الآن كانوا يصطادون بها أعظم 
حيوان على الإطلاق» كانت تلاحق الرجال. ارتفع صراخ المقاتلين 
من الألم وارتفعت أصوات ضباطهم بغضب. كانت المذبحة عظيمة. 
السهام اخترقت الخيول والسروج. سقط بعض الرجال» وترنح آخرون 
فوق الخيول التي سقطت. 1 
كل مكان الجثث والرماح والسيوف والخيول الميتة. تمكنت مجموعة 
واحدة من سلاح الفرسان من ارتقاء صهوة خيولها وقادتها عبر التيران. 
واشتبكت على الفور مع حشد كبير من الخيالة الفرثيين» وأوقعوهم عن 
سروج خيولهم. كان بيتيوس المسكين الأحمق واحداً من بين آخر من 
ماتوا. تم أسره وقتله بعد ذلك. لم يكن لدى الفرثيين والأرمن وقت لأخذ 
أسرى. بعد المذبحة التي حدثت في بلدة الريحانية» أعاد الإمبراطور 
نیرون القائد كوربولو | ل 
زو ارفا وإحلال النظام الروماني فيها 

منذ عهد الإمبراطور أوغسطس فصاعدا أصبح جميع الحكام جوهر 
العبادات الدينية» وارتقوا إلى مرتبة الألوهية. لكن قوة أغسطس كانت 
هشة» حيث بنيت بالكامل على ولاءات حرسه الإمبراطوري» والجيش» 
وعلى طائفة واسعة من الشعب الرومانيء فإذا لم يرتق الإمبراطور إلى 

00 


نو تطلعاتهم» ولأنه شخصية إلهية فلا يمكن التصويت على طرده من 
منصبه» كانت هناك طريقة عملية واحدة للتخلص منه؛ وهي تصفيته. كان 
هذا المصير قد طال الجميع قبل نيرون» وخاصة شقيق والدته» كاليغولا 
الشرير» والآن أصبح لدى النبلاء الطيبين سبب وجيه للتخلص من نيرون. 
كان مهتماً بالحضور إلى مضمار سباق الخيل أكثر من اهتمامه بالتواجد 
فى ميدان القتال. كان يترد دائماً على مواخير الشرب وأوكار البغايا من 
أ فحتوى؛ ويرتدى :ؤائماً ملايش العبيد» ليلتقط عاهرات الشوارع 
اللواني يصادفهن. أصبحت حوادث عربدته الجنسية حديث روما. كانت 
العذارى من أصل نبيل يضاجعن الحيوانات؛ وكان الإمبراطور: يقوم 
ارتداء ملابس النساء» ويقوم بأداء دور تمثيلي يصور فيه اغتصابه علناً من 
قبل مقاتلي الجحافل الأشداء. لكن الشيء الذي تخصص به كان ممارسة 
اللواط مع الأولاد الصغار» وخنقهم بحبل من الحرير عند وصوله مرحلة 
الجنون النهائي. في إحدى المرات» نظم حفل زفاف حيث كان هو 
العروس وعشيقه المفضل هو العريس. كان من المفترض أن يؤدي ذلك 
إلى غضب شعبي» خحاصة بعد أن أجبر المواطنين البارزين» حتى أعضاء 
مجلس الشيوخ» على الانضمام إليه» حيث عرضوا زوجاتهم وبناتهم 
على سلسلة من الرجال ذوي العضلات الذين تمّ اختيارهم خصيصا وهم 
يرتدون أقنعة بشعة. 

أفت ملسلة من الأحذاك المظلمة إلى سقوط نيرون. في سنة 64 م 
حلت بروما كارثة خطيرة اندلع حريق في مستودع كبير. لم يثبت مطلقا 
كيف بدأ الحريق» عن طريق الصدفة أو عمداً. أصبح بسرعة خارج نطاق 
السيطرة واجتاحت نيرانه جزءاً كبيراً من المدينةء وخاصة القسم الأكثر 
هرا الذي كانت مساكنه مبنية من الخشب. أصاب الدمار الكثير من 
زاء روما. لم تنج من النيران سوى أبنية الأرستقراطيين العظيمة المبنية 
ان الحجر والرخام؛ وكانت رمزاً لإثارة التوتر الشديد الذي كان سائدا 
ي المجتمع الروماني» والفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء. انتشرت 


-373- 


شائعات في جميع أنحاء القسم الأكثر فقراً في المدينة مفادها أن نيرون 
هو من أشعل النار لاستخلاص إلهام فني لقطعة موسيقية ليهديها لإحدى 
عشيقاته. سواء كان هذا صحيحاً أم لاء بدأ الناس يؤمنون بهذه القصص 
لأنهم أرادوا الإيمان بها. بدأت عصابات من الأشرار تجوب الشوارع» 
وقاموا بضرب مؤيدي الإمبراطور (لغرض سلبهم أكثر من إلحاق 
الضرر بهم)ء في حين اتخذ أفراد الحرس الإمبراطوري موقف المتفرج 
والمراقب» على آمل أن يؤسسوا مراكز القوة الخاصة بهم وسط الفوضى 
العامة. . هرب الأرستقراطيون خوفاً ولجؤوا إلى أراضيهم في الريف» بينما 
تجاهل نيرون مشاعر الناس وسخطهم. لكنه ارتكب خطأ قاتلاً عندما أمر 
ببناء قصر جديد له» (دوموس أورا)©» ليتم بناؤه فوق الرماد الذي كان لا 
يزال مشتعلء وعلى ممتلكات تملكها بعض الأسر الرومانية الأكثر ثراءً. 
ولتغطية التكاليف المهولة لهذا القصر المذهل» قام ببساطة بمصادرة 
الممتلكات الخاصة وزيادة الضرائب العامة. وهذا جعله يدخل في 
صراع أخير مع الأرستقراطيين. لقد تحمّلوا بصمت أعمال العربدة التي 
قام بها وجرائم قتل أفراد عائلته. . ولكن بمجرد أن مس سلوكه ثرواتهم 
الشخصيةء فقد أصبح الأمر يهمّ الجميع. ونظراً لأنهم لم يجرؤوا على 
معارضة الشخص الإلهي للومبراطور بشكل صريح» فقد بدؤوا بحملات 
التشهير به. وقد حققوا النتيجة المرجوة» فسرعان ما ضاقت الجماهير 
الواسعة ذرعاً بتجاوزاته. 

لم يكن الجنرال كوربولو جندياً بارعاً فحسبء بل تم تدريبه على 
أعظم التقاليد العسكرية في العالم القديم» وبالتالي كان مخلصاً لقائده 
الأعلىء الإمبراطور. . في عام 67 م» عندما ازدادت الدلائل التي تشير إلى 
وجود تهديدات لشخص الإمبراطور الموقرء ظل كوربولو يدعم المزاج 
التعسفي للطاغية الذي أفسده إفراطه في السلطة. ولأجل حماية نيرون» 
اقترح وضع جحافله الموالية من حول روما من أجل منع أي مغامرة 


- فتح أبوابه مؤخراً للجمهور وهو مكان يستحق الزيارة. ويقع عبر مدرج الكولسيوم. 
-374- 


يخطط لها جزء من الأرستقراطيين أو الشعب أو أي من أفراد الحرس 
الإمبراطوري المتقلبين. ولكن حتى أثناء قيامه بواجبه» كان يعرف ما 
فض النظر عما أفعله». وقد حدث ذلك فعلاً. لقد وصل جنون العظمة 
نيرون إلى درجة من الهيجان لدرجة أنه لم يعد يرى سوى الخيانة. 
وقد اعتبرعرض كوربولو نشر القوات الذي قدمه بحسن نية كمحاولة 
للاستيلاء على التاج. فاستشاط نيرون غضبا منه وصاح قائلا: «خائن»» 
وأهان كوربولو علانية لدرجة أنه أجبره على الانتحار (67 م). ويموت 
كوربولوء كان نيرون قد حفر قبره بيديه. 

حتى في أسابيعه الأخيرة» عندما تلاشت قدرته على فرض إرادته أو 
تقديم العطاياء ظن نيرون أنه لا يزال بإمكانه الحكم بإصدار المراسيم. 
وقد وقع شهادة وفاته عندما حاول إقالة مجلس الشيوخ. تجرأ مجلس 
الشيوخ الذي كان بلا سلطة على إطلاق شرارة من الشجاعة عتدما 
رشى الحرس الإمبراطوري في روما بأكياس من القضة ممدودة على 
ظهور الحمير وأرسلها إلى معسكرهم وأعلن نيرون «عدو شعب روما» 
(69 م). اندلعت أعمال شغب. فقتل الكثير من أفراد الحرس وسط حالة 
من الهياج بعدما نفد صبر السكان تحت وطأة الاضطهاد الإمبراطوري. 
0 الرجال الأثرياء للدفع من قبل حشد من المشاغبين الذين 
نوا يصرخون: « !» والذ ¿ دائماً 
28 يصرخون أيها العبيدء عودوا إلى عملكم!» والذي كان دائما 
وجه إليهم في السابق» وبدؤوا يضربون أسيادهم. مات الكثير من 
اناس . | e‏ 
إلى ثم ارتفع يه صوت عميق: «وانتم» ايها الأموات» عودوا 
ظ جحيمكم!» حل مجلس الشيوخ استجابة لمطالبات الجماهير. 
0 الحرس الإمبراطوري المتقلب لصوت الشعب (×۷0 
اأنام0 جام * اء E‏ 5 
اراي تعرز وي لعريرا من جوتي الدادلة من 
0 لتي كان يوزعها الإمبراطور؛ تحول ولاؤهم وبدؤوا يطاردون 
٠2‏ في بادرة يأس أخيرة» دعا الإمبراطور مقاتلي جحافله لمساندته» 


-375- 


نجدته؛ من حقق النصر في أرمينياء غانيوس كوربولو. 

كانت تصله من خارج قصره الرائع» دوموس أورياء أصوات الغوغاء 
وهم يصرخون مطالبين بموته. اشير الإمبراطور خدمه عندما دخل 
غرفته في 9 حزيران سنة 68. «لا أريد أن يزعجني أحد)». استلقى نيرون» 
الوحش» على سريره» وقد أصبح وجهه مظلما بسبب المحنة وكان يتقلب 
ويتلوى فى فراشه. حدق فى السقف ورأى مشاهد الخيانة وأعمال القتل 
المقرفة والإعدامات التى أمر بها. همست فى أذنه أصوات هؤلاء القتلى. 
لقد دفن وجهه بيدين مرتجفتين» وبدأ يقضم أظافره وينتحب مفجوعا. 
لقد بدا أن صلواته» والهبات التي منحها لحراسه الشخصيين» وقرابين 
البشر التي لا نهاية لها؛ أصبحت بلا جدوى ولا معنى لها الآن. ومع 
ذلك» حتى مع سماعه خطى جلاديه التي كانت تضرب بقوة سلالم 
القصرء كان نيرون ما يزال يجد الوقت لترتيب مشهد لنهاية مشؤومة. 
كان يرتدي الجلباب الفضفاض كما لو كان يؤدي آخر مشهد من مأساة 
يونانية» ثم أمر عبده الشخصي أن يناوله خنجره الذهبي. وبينما هرع أفراد 
الحرس الإمبراطوريء وقد استخرجوا السيوف من أغمادهاء نحو غرفته» 
المقتحمون لغرفته على لمسه. متأثرين بهيبة قربهم من الإمبراطور» وبداً 
يتلوى ويئن من ألم جرحه. وفقط عندما لم يعد باستطاعته الوقوف» قاموا 
بإمساك يده الهامدة ونزعوا منها خواتمه» ونزعوا كذلك القلادة الذهبية 
والأساور من عنقه وذراعيه. هتف الحشد الذي في الخارج: «لقد مات 
الوغد. لقد تم إنقاذ روما». كان هؤلاء هم الأشخاص أنفسهم الذين 
فرحوا واستمتعوا بمنظره المهيب في الساحةء إنه حشد روما المتقلب في 
مواقفه. وهو الذي خلق صورة دائمة للإمبراطور الرومانى المجنون» مما 
جعله يغرق في ملذاته. كان هناك قياصرة» وحكام جیدون» 2 | الثروة 

-376- 


وجلبوا الازدهار لمواطنيهم. لكن لم يكن لأي منهم تلك السمعة السيئة 
الت تميز بها نيرول . 

بموت نيرون انتهت سلالة أوغسطين. لم يكن مفاجتاً أنه بعد 
التراجع الحاد في الأخلاق وسنوات من الانحراف والعربدة» التي 
رعتها شخصيات من أمثال ميسالينا وأغريبينا وكاليغولا ونيرون» انقلب 
الرجال المحبطون والساخطون ضد بعضهم البعض» واندلعت صراعات 
مريرة» وانقلب الرومان على بعضهم البعض وسط غضبهم الجريح. مع 
موت نيرون» اندلعت الحرب الأهلية بين كبار الجنرالات وصغار القادة 
(الليغات)» الذين تقاتلوا من أجل التاج مثلما تتقاتل الكلاب على العظام. 
شهدت سنة (69 م) أكبر حالة ارتباك» عندما ادعى ما لا يقل عن أربعة من 
القادة العسكريين في المقاطعات الرومانية الحق في أن يصبح كل واحد 
منهم الإمبراطور. 

كان لكل من غالبا وأوثو وفيتليوس وفيسبازيان» منذ البداية؛ 
مفهوم مختلف عن أفضل السبل للوصول إلى السلطة. كان سيرفيوس 
سولبيسيوس غالبا هو الأسرع في الشروع بالسباق نحو السلطة. لقد 
ارتقى بنفسه وحصل على رتبة فخمة في جيوشه الإسبانية واعترف 
ه أفراد الحرس الإمبراطوري في روما. لكنه تعامل معهم بشكل سیئ 
لدرجة أنهم حوّلوا ولاءهم لماركوس سالفوس أوئوء الذي أخذ قرضا 
كيرا من أحد المصرفيين ليدفع لهم الأموال. دفع أوثو مبالغ إلى ضباط 
في الحرس الإمبراطوري ليقوموا بقتل غالبا أثناء نقله إلى المنتدى لتقديم 
الفرابين إلى الإله جوبيتر. قام فابيوس فابولوسء وهو مقاتل بسيط» بقطع 
راس غالبا وقدمها لجنراله» مار کوس أوثو. بعدها هاج رجال أوثو وقتلوا 
”ع رجال غالبا. تمّت عملية القتل» ولبس أوثو الرداء الأرجواني. في 
ون ذلك, طالب ضابط كبير آخر برتبة ليغات كان يمسك الحدود مع 
امنيا وهو أولوس فيتيليوس بحقه فى عرش روماء وسار بجحافله نحو 
لما التقى به الإمبراطور أوثو الجديد الذي لم يمر على توليه العرش 


775 


ِل ثلاثين يوماً فقط» في معركة بيدرياكم الأولى (في مدينة كريموناء 
نيسان 69 م). انهزم جيش أوثو وقبض عليه وسمح له بقتل نفسه بيده. 
ثم قال قبل أن يسقط على سيفه: يمكنني أن أموت بشرف أكثر مما لو 
كنت أحكم. وسأحقق بموتي السلام والإجماع وأنقذ إيطاليا من يوم آخر 
غير سعيد». وبانتصاره هذا أصبح أولوس فيتيليوس الإمبراطور الفعلي. 
ولكن - التاريخ ممتلئ بالاعتراضات - في حامية نهر الدانوب في منطقة 
بانونيا (المجر) كان هناك قائد (برتبة ليغات) آخر لم يعترف بأولوس 
فيتبليوس. كان اسمه أنطونيوس بریموس» لکن ہما أنه كان رجلاً يعمل 
من وراء الكواليس» فقد دعا صديقه القائد العام في الجيش ويدعى 
فيسبازيان» ليصبح إمبراطوراً. ونظراً لأن فيسبازيان كان لا يزال منشغلاً 
بحرب ضد اليهود في الشرق الأوسطء قاد أنطونيوس بريموس جحافله 
وتوجه بهم لمقاتلة مغتصب العرش فيتيليوس. في معركة بدرياكوم الثانية 
(تشرين الأول 69 م) تمكن أنطونيوس من هزيمة فيتيليوس» الذي تمكن 
من الهرب ولكن قتل بعد ذلك بفترة وجيزة على أيدي حشد غاضب 
من أبناء الشوارع. وحيث لم يبق أحد في قائمة المرشحين» تمّ تنصيب 
الجنرال تيتوس فلافيوس فيسبازيانوس (فيسبازيان)» الذي تميّز حكمه 
بغزو بريتانيا ومقاطعة يهوداء إمبراطوراً من قبل مجلس الشيوخ في روما. 
كان أول عمل له هو حل أربعة جحافل كانت غير مخلصة له. وقام بإرسال 
جانيوس أغريكولا إلى بريتانيا لتوسيع حكم الرومان ليشمل اسكتلندا 
وويلز (84-77 م). 

عندما نفد المال من فيسبازيان لدفع رواتب مقاتلي جحافله» فرض 
ضريبة على دورات المياه العامة.عاتبه تيتوس ابنه: كيف يمكنك فعل 
ذلك يا أبي؟» 

حمل الإمبراطور قطعة معدنية بيده وأجابه: «لأنها ليست لها رائحة»... 

بعد وفاة الإمبراطور فيسبازيان المفاجئة (79 م)» أصبح ابنه تيتوس 
فلافيوس سابينوس فيسبازيانوس (تیتوس)» الذي كان قد تولى منصب 

-378- 


والنه على رأس جحافل روما في الشرق الأوسط هو الشخص المؤهل 
پیکل واضح ليتولى التاج الذي كان يرغب فيه. عاد إلى روما ونظم أتباعه 
ورا بجنفاليً وكان الموكب الأكثر عظمة والذي لم تشهد له روما ري ر 
ر اوفك مشئ. في الواقع كان لذية شي وجي ااا د ن 
هذا الرجل هو من فتح مدينة القدس المقدسة. 

شهد القرن الأول من عصر الإمبراطورية الرومانية ظهور عشرة 
أباطرة» قتلوا جميعا باستثناء اثنين. يبدو من غير المعقول أن هؤلاء 
الحكام المهووسين بالسلطة كانوا يعتقدون أن النجوم ستحمي صورتهم 
الإلهية» أو أن أعمالهم الوحشية مثل القتل العنيف لعائلاتهم يمكن أن 
بقذهم. من الواضح أنهم لم يفهموا أبداً حتمية نهايتهم. بقتل أمله الوحيد 
في النجاة وهو الجنرال المخلص له» فإن نيرون كان قل ختم مصيره بيديه. 


-379- 


الفصل الخامس عشر 
وسيقعون بفم السيف 
8 أيلول 70م 


«... هو التي تَروْنَهَاء ستأتي ايام 
سے ست 20 مار 2 8 01 . 2 ص 
حجر على حجر لا ينتقض. وَمَتى رينم ورشلیم 
مُحَاطةٌ جوش فَجِيئهذٍ اعَلَمُوا أنه قَدِ اقرب 
ا ص و گے سوه هم 6 wef‏ اس ل 
خرابها. والناس یغشی عليهم من خوفي وانتظار 
T2 2 2‏ 520 ر ب ا E‏ ص 5 

م يانى على المسكوئة وَيَمَعون يهم السَيقي» 
مر 2 5-4 ع 3 
وَيَسْبَوْنَ إلى جويع الآمَم). 

(24-6 21( إنجيل لوقا‎ ٠. 


لقد تمٌ بالفعل تقرير مصير إسرائيل في عام 63 ق.م عندما سار بومبي 
إلى يهودا ودخل القدس بعد حصار دام ثلاثة أشهر. وهكذا أصبحت 
بهودا مقاطعة رومانية وكان استقلال مملكة إسرائيل قد انتهى. في 
أعقاب استبدال بومبى للقضاة اليهود بالموظفين الرومان» ومحاولاته 
لفرض آلهته الوثنية باعتبارها صورة «الرب الواحد» نشأت «الزيلوت» 
كطائفة تضم اليهود الذين جمعوا بين الاحترام الشديد للقانون اليهودي 
مع المعارضة المسلحة للحكم الروماني. لهذا لم يتورعوا عن استخدام 
السلاح. ظهرت طائفة الزيلوت أولاً في شكل منظم عندما قاوم أفرادها 
حملية تعداد سكان مدينة الجليل التي أمر بإجرائها سيرينيوس الحاكم 


-381- 


الروماني لسوريا عام (6 م)» فدعوا لإعلان عصيان مفتوح» مستعدين 
للتضحية بحياتهم من أجل الاستقلال عن السيطرة الرومانية. 

كان هيرودوس الأول (4-62 ق.م)» رجلا اعتقد الرومان أنه بإمكانهم 
الوثوق به وجعلوه يتولى حكم المقاطعة اليهودية. حاول هيرودوس تهدئة 
حماسة المتعصبين الدينيين من خلال إعادة الهيكل الثاني الذي شيّد عام 
0 ق.م إلى روعته السابقة» ولكن بخلاف ذلك فإن الشيء الوحيد الذي 
صنعه هو القسوة الشديدة التي نمّت لدى الناس مشاعر الكراهية لنظامه. 
لم يكن ملكاًء بل الطاغية الأكثر قسوة بين جميع من تسلقوا العرش على 
الإطلاق. فقد قتل عدداً كبيراً من الناس» وعاش الكثير ممن تركهم أحياء 
حياة بائسة لدرجة أن الموتى قد يحسبون أنفسهم محظوظين قياساً بهم©. 
«القد حكم لمدة ستة وثلاثين عام وأصبح عهده مشهوراً بحقيقة أنه لا 
يمرٌ يوم واحد دون أن يقوم بالحكم على شخص ما بالموت» بما في ذلك 
زوجته ماريان (والذي أطلق اسمها على أحد الأبراج في قصره)» وأبناؤه 
الإسكندر وأريستوبولوس وأنتيباتر. ترك الملك» «الذي حكم كوحش 
بڙي»» واحدة فقط من أقاربه على قيد الحياة وهي فتاة عي ر 
تسعة عشر عاماًء هي ابنته سالومي الجميلةء التي رقصت طبقاً لما جاء في 
الكتاب المقدس أمام ابنه هيرودوس أنتيباس طلباً لرأس يوحنا المعمدان. 
قد يكون أكثر فعل سيئ قام به هو قتله جميع الصبيان الأبرياء من سكان 
مدينة بيت لحم كما يذكر إنجيل متى» الجزء 2» السطر 17. 

تم تجاوز كراهية الشعب لعائلة هيرودوس المستبدة من قبل 
كراهية أقوى لقوات الاحتلال في إسرائيل» والتي كان يمثلها بيلاطس 
البنطي الحاكم الروماني الفاسد للغاية» الذي كان يمتلك بمفرده 
1- هو هيكل يهودي أقيم على أنقاض هيكل سليمان بعد السبي البابلي. المترجم. 
2- عن المؤرخ يوسيفوس فلافيوس. 


3- بعد وفاة هيرودوس الكبير نخلفه ابنه هير ودوس أنتيباس» ملك الجليل (4 ق.م- 
0 م)» وجاء بعده هیر ودوس أغريباس الثاني ملك يهودا (14 -37م). 


-382- 


ولاحية | إصدار الحكم بالإعدام. عندما تم اقتياد يسوع» أو خريستو 
(وهي كلمة يونانية تعني «الممسوح ا وهي ترجمة للكلمة 
العبرية «المسيح»)» الذي أعلن بشارته (معناها بالإغريقية: (إعلان ار 
مارة؟)» أمام الحاكم بيلاطس البنطي» أعلن الأخير: | «إ ني لا أجد علة في 
االات (إنخيل لؤقاة 33 4 في الواقع: لم يكن الروطات مهتين 
بشكل كبير بالخلافات الدينية بين اليهود. لكن من كان يحرض جماعة 
لفريسيين» هو كاهنهم الكبير» قيافاء والذي كان يخشى كثي را على منصبه 
لنبع وما تمثله الاتتفاضة الدينية من تح له لذلك لم يقفوا معه». . قال 
َه يَسُوعٌ: «أنَا هُوَ الطَّرِيقٌ وَالْحَقٌّ وَالْحََاة. لَيْسَ أَحد يأتي إلى الآب إلا 
بي (إنجيل يوحنا 14 6). وقد استشهد بقوله هذا كمثال على الكفرء 
وبدأ قيافا واليهود يطلقون على يسوع الجليل لقب المسيح الكاذب» 
وأنه على استعداد لاغتصاب تاج قيصرء وبالتالي طالبوا بقتله. ٠‏ «وَلكِنَ 
او نوا يصْرحونَكَائِِينَ: (إِنْ أَطْلَفْتَ هدا قَلَسْتَّ مُحبا لِمَيِصَرٌ. ی 
نيجل َفْسَهُ ملكا يُقَاوِمُ َبْصَرَ) (إنجيل يوحنا 219 12). كان بيلاطس 
لبنطي يعرف أن خيانة إمبراطوره الروماني كانت عقويتها الإعدام» وما 
ع «قَلَمَا ب سمح لطس هذا القَولَ 
اخ تشوع» وَس عَلَى كريس اللاب في مَوْضِع يمال له البلآطً' 
لیران «جباتًا.. ٠‏ فحیتیل ا يهم لِيُصْلَبَ» انل يوحتا 19» 
316-3) (وَكَانَتِ السَاعة الل فا( ى ل 
ل اين د وا و ل 
نه في العصور الرومانية» كان يُعتبر الصلب عقاباً للجناة الذين ارتكبوا 
جرائم ضد الدولة الرومانية. وكان الإعدام الجماعي للعبيد أثناء ثورة 
سبارتاكوس أكبر مثال على ذلك. 

لقي وو تو و E‏ 


71 راجم:‎ -4 
.J. Landay, Silent Cities, Sacred Stones, New York, 1971 e 


-383- 


في صيف عام 1968ء بيئما كانت أعمال البناء جارية في تل يُعرف 
باس جفعات هاميفتار» فتحت إحدى الجرافات دون قصد موقعاً قديماً 
للدفن يحتوي على العديد من الرفات البشرية. كان يعتقد أن أحد الهياكل 
العظمية» تعود ليوهان بن هاغلغول» وكانت جمجمته مهشمة. لكن قد 
يتخيل المرء الصدمة الأولية لمشغل الجرافة عندما وجد أن أقدام الضحية 
مقطوعة عن الجسم حيث تم تثبيت مسامير فيها وكانت لا تزال مثبتة 
على أجزاء من ألواح خشبية. عندما تمّ إبلاغ السلطات الإسرائيلية بما 
تم الكشف عنه» أدركت عواقب ذلك وما قد يثيره هذا الأمر من جدل» 
فأرسلت خبيرين مستقلين بارزين هماء عالم الآثار فاسيليوس تزافيريس 
وخبير علم الأمراض نيكو هاس» لفحص الرفات. اكتشفوا علامات 
مماثلة لعمليات اختراق جرت بواسطة المسامير» لم تخترق باطن اليد 
ولكن دقت على سواعد الرجل» بالقرب من الرسغين. وخلصوا إلى أن 
وزن الجسم كان من شأنه أن يتسبب في تمزق الأنسجة لوتمٌ دفع المسامير 
إلى باطن اليد. ووجدوا إصابة أخرى شنيعة يتعذر تفسيرها: فقد وجدوا 
عظام الساق الأكبر للضحية مهشمة. وخلص العلماء إلى أن هذا ريما لم 
يكن تعذيبا إضافياء لكنه بمثابة إطلاق رصاصة الرحمةء وكان يهدف إلى 
إحداث صدمة لونهاء حياة المصلوب بسرعة أكبر. وأثار احتمال وجود 
طريقة «لتسريع الموت» سلسلة من المناقشات الساخنة والتهم المضادة 
من قبل الكنيسة عن الطريقة التي تمٌ فيها صلب المسيح. 

خلال عهد الإمبراطور كلوديوس (54-41 م) اندلعت المزيد من 
المشاكل الدينية. لقد كانت حقيقة مؤسفة للعديد من الأجيال القادمة 
من اليهود أن المتعصبين سعوا لتصدير ثورتهم إلى كل ركن من أركان 
الإمبراطورية الرومانية. لو كانت الثورة قد توقفت عند الكلمات 





5- يمكن تفسير هذه الظاهرة بسبب المستوى العالي للأملاح في البحر الميت؛ والتى 
تجعل جسم الإنسان يطفوء والتفسير الأكثر منطقية هو أن تيتوس أراد الإبقاء على 
قائد اليهود ليستعرض به في شوارع روما. 


-384- 


الخطابية» ربما كان بإمكان الإمبراطور أن يغضٌ الطرف عنها. ولكن 
ره أن وصلت إلى روما نفسهاء كان لا بد من القيام بشيء ما. لم 
يكن بالإمكان التسامح مع المعارضين الذين كانوا يجتذبون الانتباى 
وقد أخرج الإمبراطور كلوديوس اليهود من روما. هرب الناجون من هذه 
المذبحة الأولى إلى إسرائيل» وانتشرت المشكلة بسرعة في جميع أنحاء 
الجليل» حيث طالب المتعصبون الحمقى بإزالة كل شيء روماني من 
وطنهم. اشتعلت شرارة الاحتجاجات في أيار عام 66 م. 

كان السبب الذي مهّد لذلك بسيطاًء لكن النتيجة لم تكن كذلك. 
والقضية تتعلق بواحد من العديد من الحكام الرومانيين غير الكفوئين» 
ويدعى فلوروسء والذي لم يكن أفضل من الحاكم الفاسد بيلاطس 
البوني» حيث طالب بأن تدفع له سبع عشرة قطعة طالين (وحدة وزن 
أو نقد قديمة) من خزانة الهيكل اليهودي. قوبل طلبه بالرفض. أرسل 
فلوروس عشرات الجنود الرومان لجمع الضريبة بالقوة. وبذلك ارتكبوا 
جريمة لا تغتفر وهي اقتحام معبد اليهود الأكثر قداسة» وبالتالي أثاروا 
غضبا عارماً بين اليهود» تبعه تمرد اندلع بسرعة في جميع أنحاء مقاطعة 
يهودا. انتشر الإرهاب فى المدن بقيادة المتعصبين الزيلوت. واندلعت 
أعمال شغب عنيفة في مدينتي قيسارية والقدس» حيث قتل الكثير من 
أنصار روما. شن اليهود وبدهاء ومهارة -كان سادتهم الرومان يذكرون 
دائما أنهم لا يمتلكونها- حرب عصابات ببراعة لافتة للنظر. ومن خلال 
سلسلة من عمليات الك والفٌّ أحرقوا الفيلات الرومانية ونصبوا كمائن 
للدوريات الرومانية. وبتشجيع من نجاحاتهم الأولى هذه توافد اا 
من اليهود للانضمام إلى ضفوف الؤيلوك المتعصبين. في نوين الارك 
سنة 66 م» حلت كارثة كبيرة بالحامية الرومانية في حي بيزيتا ني ان 
عندما تم اجتياح معسكرها وقتل معظم سكانه الستة آلاف. قبل أن يسح 
2 

استطلاعية رومانية كبرى من سوريا لقمع ني 


-385- 


الرجل المسؤول عن إخماد التمرد هو الحاكم الروماني لسورياء نائب 
القنصل سيستيوس غالوسء الذي هرع مع فيلق واحد بالإضافة إلى عدد 
من القوات المساندة لإنقاذ الحاكم الروماني» المحاصر داخل القدس. 
في الوقت الذي كانت فيه قواته أمام القدس» كانت المدينة قد سقطت بيد 
تحالف غير مستقر بين المعتدلين اليهود والمتعصبين الزيلوت. ومن هنا 
بدأت «الحرب اليهودية» (73-66 م). 

تم تعيين جوزيف بن ماتياس» الفيلسوف والمؤرخ العبري» المعروف 
باسمه الروماني باسم فلافيوس جوزيفوس (وقد أكرمه الإمبراطور 
فيسيازيان» بأن جعله فيما بعد مواطناً رومانياً)» قائداً عاماً لقوات المقاومة 
اليهودية في الجليل. وأسس دفاعاته حول بلدة يوتاباتا. 

ناشد الأثرياء الرومان في جميع أنحاء الشرق الأوسط إمبراطورهم»خوفً ' 
من انتشار الثورة في جميع أنحاء المنطقة» طالبين منه إرسال قائد كفء. لم 
يب الإمبراطور نيرون قلقاً كبيراً بشأن الأحداث في مقاطعاته البعيدة في آسيا 
الصغرى» ومع ذلك استقطع وقتا كافياً من طقوس عربداته لتعيين جنرال 
كفوءٍ مثل فيسبازيان «لإحلال النظام في آسيا الصغرى». تصرف فيسبازيان 
بأقصى سرعة وأعلى همة. أصبحت المنطقة التي بشّر يسوع قبل بضع 
سنوات فقط بأن السلام سيحل فيها بين جميع البشرء المشهد الافتتاحي 
لأنشطة واسعة من أعمال القتل (تشرين الأول 67 م). كان يحكم بالإعدام 
أي يهودي يتم إلقاء القبض عليه لقيامه بسلوك غير عادي» حتى لو كان قد 
اختلس نظرة | إلى مقاتل روماني» دون منحه فرصة للدفاع عن نفسه . بحلول 
شهر كانون الأول من ذلك العام؛ كانت دفاعات يوتاباتاء التي صمدت لمدة 
سبعة وأربعين يوماء قد سقطت على يد قوات فيسبازيان البالغ عددها ستين 
ألفاً وت أسر فلايفوس جوزيفوس. لقد كان أحد اليهود القلائل الذين نجوا 
من الصلبء وبالتالي كان بإمكانه أن يترك للتاريخ سرداً للأحداث في عمله 
الضخم «حرب اليهودا . ربما ڌ تم إنقاذ حياته بسبب ظروف غريبة. فقد أمر 
تيتوس الجنرال في الجيش» وابن فيسبازيان والشخص الثاني في القيادة» 


-386- 


رمي عدد من الأسرى من جبل موآب | إلى البحر الميت. ولكن وبشكل 
لا يصدقه العقل» كان أغلب من تم إلقاؤهم من المنحدرات إلى الماء» قد 
انجرفوا عائدين نحو الشاطئ. أدهش هذا القائد الروماني» الذي آمن أن 
ذلك من عمل الشيطان اليهودي» لذلك أوقف إعدام بقية أسرى الحرب©. 
كانت الأخبار القادمة من روما مثيرة للقلق. مع وفاة نيرون وحيث كانت 
بوادر اندلاع حرب أهلية وحشية تلوح في الأفق» رفع الجنود فيسبازيان 
على أكتافهم وهم يهتفون بقوة: «عاش القيصر). غادر فيسبازيان إلى 
الإسكندرية لتنظيم حملة غزو إيطالياء وترك ابنه تيتوس» الشاب الماهر 
yS‏ 
كان تيتوس رجلاً طويل القامة ممتلئ الجسم يتصرف مثل شخص 
صارم وذي عزم» وصرامته جاءت من كونه مخضا عاش إلى جانب 
والده وأمضى حياته في ساحات القتال. كان مظهره الخارجي 0 
بشكل مخادع» ولكن عندما يعطي الأوامر فإنه يفعل ذلك بصرامة المقاتل 
المحترف. كانت روما مليئة بالقصص الرومانسية عن مآثره الناجحة. 
وكان قد اكتسب سمعة تميزه بقسوة شديدة والتي خلقت حتى لوالده 
بعض الصعوبات. كانت مهمته الحالية هى استعادة السلطة الرومانية في 
مقاطعتي إسرائيل ويهودا. ١‏ 
في ربيع عام 70 م؛ ظهر تيتوس أمام أسوار القدس وهو يقود قوة مؤلفة 
من 80 ألفاً من الرجال مع 340 منجنيقاء وبعبارة أخرى كان الأمر أشبه 
بمطرقة ثقيلة معدة لسحق ذبابة. صادف حينها أحد الأوقات المقدسة من 
السئة. فقد تجمهر الآلاف من المؤمنين للاحتفال بعيد الفصح عند اليهود 
دكانت المدينة مزدحمة بما يتجاوز سعتها بالحجاج من جميع أنحاء 
الشرق الأوسط. طوّق رجال تيتوس المدينة وعزلوها عن الريف المحيط 
کن ےی ای بي ری راان الأ في اا تی واي 
تجعل جسم الإنسان يطفوء والتفسير الأكثر منطقية هو أن تيتوس س أراد الإبقاء على 
قائد اليهود ليستعرض به في شوارع روما. 


-387- 


بها . تم الرد على دعوته لاستسلام المدينة بتوجيه الإهانات لشخص والده 
المهيب. شرعت المقاليع والمنجنيقات في عملهاء وبدأت ترمي الأحجار 
الضخمة باتجاه التحصينات. بدأت مطارق المنجنيقات تدك الأسسء فى 
حين كانت فصائل | لمتعصبب: داخل المدينة المحاصرة قد دخلت في قتال 
مع فصائل المعتدلين للسيطرة عليها. وفقط عندما بدأت تظهر في الجدران 
فجوات صنعتها الأحجار المتساقطة» توقفوا عن القتال فيما بينهم. اتفق 
قائدا الفصيلين المتنافسين» سايمون بار غيورا زعيم المعتدلين وجون 
غيشالا زعيم المتعصبين» على تعليق مؤقت لمشاكلهم الداخلية -حتى 
تتم مواجهة العدو- وأقاموا قيادة مشتركة للدفاع عن الأسوار.. وفي ظل 
تضخم عدد سكان المدينة بسبب توافد الحجاج من العديد من قبائل 
المحاربين في إسرائيل» أصبح بإمكان الزعيمين الاعتماد على رجال أكثر 
من العدد الكافي من المدافعين عن الجدران والأبراج. وتركوا البقية في يد 
الرب» الذين» واظب كهنتهم على طمأنتهم» أن الرب لن يتخلى عن أبنائه 
وعما هو أكثر قداسة لديه الخيمة” في المعبد. 

في بداية شهر يار من عام 70 م» حاصرت أربعة جحافل البلدة من 
جميع الجهات وبدأت هجومها. تحركت موجة بشرية من مقاتلي الفيلق 
الخامس والعاشر والثاني عشر والخامس عشر نحو الأسوار. وشقوا 
طريقهم من فوق التلال المليئة بالصخور وبدؤوا بإصدار صرخات 
مسعورة عند اقترابهم من الأسوار العالية. وتوقف البعض للاحتماء من 
وابل الحجارة التي كانت تتساقط عليهم مثل المطر بينما كان يصرخ 
ضباطهم بهم ليواصلوا المسير. كلما اقتربوا من الجدارء كانوا يعانون 
أكثر من الصخور المتساقطة وأنواع أخرى من السهام وقذائف المنجنيق» 
وأثبت نوع واحد من الدفاعات كفاءة خاصة؛ نظراً لأن اليهود كانوا بحاجة 
إلى إمدادات المياه المتناقصة الخاصة بهم لأغراض الشرب» ولا يمكنهم 





57 هو المسكن الأرضي المحمول للرب الذي استخدمه بنو | إسرائيل من الخروج حتى 
غزو كنعان. . المترجم. 


-388- 


إمدارها عن طريق غليها ليم صبّها على المهاجمين؛ فقد توصلوا إلى حل 
متكر: استخدام الرمال» وكان لديهم الكثير منها . كانوا يقومون بتسخینها 
في غلايات برونزية ثم يصبون ما يتصفى منها على المهاجمين لحرقهم؛ 
ذتلتصق بجلودهم وتشوي عدداً كبيراً منهم مثل شوي الدجاج ذ في الفرن. 

متتّج المحاولات الرومانية الأولى لعبور الأسوار بالنجاحء وفي إحدى 
المرات تم بناء أبراج لحصار المدينة بلغ طولها 120 قدما من الأخشاب 
الصلبة» ومغطاة بجلود الحمير الرطبة للتغلب على تأثير السهام المشتعلة 
وتم دفعها لتصبح داخل نطاق الرماح للحفاظ على رؤوس المدافعين في , 
الأسفل» وحتى تتمكن الجحافل من وضع المدكات الحديدية في موضعها. 
لکن مشاكلهم استمرت؛ قام المدافعون بقطع الحبال الموجودة في بندول 
المدكات بمناجل مربوطة بأعمدة طويلة. بدا أن عملية الحصار تتجه للدخول 
في مأزق» خاصة وأن اليهود تمكنوا من إمداد المدينة بالمواد الغذائية المهربة 
من خلال الثغرات الموجودة بين مختلف معسكرات الرومان. . بدأ الرومان 
يتساءلون: ما نوع هؤلاء الجنود الذين استطاعوا القتال بضراوة شديدة على 
الرغم من الصعوبات الهائلة التي تواجههم؟ 

أصدر تيتوس أوامره فى محاولة لإنقاذ أكبر قدر ممكن من أجزاء 
المدينة -ليس بسبب الاعتبارات الإنسانية ولكن لغرض نهبهاء علاوة 
على الحفاظ على جدرانها سليمة لاستخدامها كحصن روماني- بتنظيم 
استعراض عسكري مثير للإعجاب وبحجم لم يسبق أن حدث له مثيل 
خارج روما. كان القصد من تنظيم هذا العرض الضخم هو استخدامه 
كسلاح في الحرب النفسية لتخويف اليهود وجعلهم يعلنون الاستسا). 
لمدة أربعة أيام طويلة» استمرت وحدة تلو الأخرى من القوات الرومانية 
وقد تم طلاء دروعها بشكل قارب حدّ الكمال ونسور فياقلها (التي تمثل 
شعارها) مرتفعة إلى الأعلى- تمڙ من أمام تيتوس وهي تستعرض قوت 
أمام الجدار الشمالي للقدس. لكن تيتوس شعر بخيبة أمل؛ فقد فشل 
استعراض القوة العسكرية لروما فشلاً ذريعاً في تحقيق التأثير المنشود. 


-389- 


Jerusalem 
86 September AD 70 





1. Aack On Tomer 


Tl wall 





-390- 


شعر اليهود المتواجدون في شرفات الأسوار والمجهزون جيداً 
إلمؤن» أن بإمكانهم الصمود لأشهرء دون أن يأخذوا في الحسبان تواجد 
لآلاف من الحجاج الذي زاد من عدد الأفراد المتواجدين في المدينة 
وبالتالي زاد من استهلاك المؤن الغذائية. 
قبل هبوب العاصفة الهوجاء» غالباً ما تأتي فترة تكون فيها السماء 
ياه كماما كان يوم السبت المقدسء وكان معظم السكان اليهود. 
الذين لم يحرسوا الأسوار» يذهبون إلى المعابد لسماع كلمة الرب. 
قام المتشددون بتعبئة الحشود بشعارات التحدي. وعلى الرغم من أن 
المعتدلين اليهود حاولوا أن يجعلوا أبناء جلدتهم يصغون إلى صوت 
العقل» واقترحوا أن يصلوا إلى تسوية مع روماء والتي كانت لا تزال 
ممكنة» فقد أخرس المتطرفون أصواتهم التصالحية» وأثاروا مشاعر 
الجماهير لكي تتبعهم نحو المأساة والكوارث؛ كما هو حال المتطرفين 
في جميع المواقف والأزمان. 
ٍ ارتكب أفراد من عامة الناس وقد استولى عليهم الحماس خطيئة لا 
تُفتفره كلفتهم غالياً. اصطف الآلاف من اليهود المتحمسين عند الأسوار 
وسطوح المباني ليتفوهوا بأعلى أصواتهم بعبارات مهينة ويسخرود من 
دع الرومان المصقول» واصفينه بأنه «مثل ثوب امرأة جميل» ولكن 
تنقصها الشجاعة». ولكى يثيروا سخط تيتوس ومقاتليه» بدؤوا يببصقود 
على الرومان الذين 2100 فى الموكب الاستعراضي ويرمون عليهم 
الغايات. وهكذا فإن رجال الفيلق العاشر بقيادة فرينتيسيان» وهم من 
فدامى المحاربين الأشداء من صقلية الذين نالهم الشرف في ذلك اليوم» 
بسبروا في الموكب قد تحملوا لبعض الوقت تلك الإهانة» ولكن بعد 
ذلك جاء قائدهم يحمل نسر الفيلق. وبينما كانت المجموعة الحاملة 
للعلم تمر بالقرب من جزء من الأسوار» كان يصطف عنده مجموعة 
ا المتشددين» وقاموا بقذف شارة الفيلق بنفايات قذرة. 
تحقق ما كان يقصده المتعصبون» لكن النتيجة النهائية لم تكن مثلما 


-391- 


كانوا يتمنون. كان الرومان قد قبلوا صاغرين بكل الإهانات التي وجهت 
لهم خلال فترات مسير موكبهم السابقة» لكن هذه كانت إهانة لم يكن 
من الممكن أن يغفرها لا المقاتلون ولا قيصرهم» تيتوس*. وجد تيتوس 
نفسه فاغراً فمه ثم أطبق بعدها شفتيه. وأقسم حينها بالإله جوبيتر! كانت 
فكرة وحيدة واضحة لديه؛ وكانت باقي الأفكار مشوشة بسبب الغضب 
الذي اعتمل في صدره وإدراكه لوجود الآلاف ممن كانوا شهوداً على هذا 
العان: وأثارت الإهانة حنق تيتوس ومقاتلي جحافله بحيث أوصلتهم إلى 
حدود الهيجانء مما زرع لديهم الرغبة في قتل كل فرد يهودي بشع جع 
أفراد الفيلق بالغضب الشخصيء وهذا أعطى نكهة جديدة كناف لما كان 
من قبل مجرد عملية حصار روتينية. أدى هذا الحدثء الذي كان مؤسفاً 
بكل الأحوال» إلى واحدة من نقاط التحول المثيرة في التاريخ. 
قام تيتوس على الفور بإلغاء العرض العسكري وبدأ يعد بدلاً من 
ذلك لشنّ هجوم على اليهود. كان بحاجة لخرق الأسوار المحيطة 
بالقطاع الشمالي. باشر مهندسو الفيالق بالعمل؛ خلال أسابيع من العمل 
الشاق» تمكنوا من تقويض أسس الأسوار من خلال حفر عدد من الأنفاق 
التى قاموا بتدعيمها بالخشب. بمجرد أن أشعلوا النيران فى الدعامات 
الخشبية» أدى هذا إلى خلق فسحة تحت أسس الجدرانء وأدى ثقل 
المبنى إلى انهيار جزء من الجدار الشمالي. قام الجنود بإدارة آلات 
المدكات (الكبش) وإرسال حمم الموت من أبراج الحصار بينما كانت 
0 من منجنيقاتهم تقوم برمي كتل من الحجارة الثقيلة على المدينة التي 
لا حول لها ولا قوة. حمل مقاتلو الفيالق رماحهم واستعدوا للهجوم. 
وبعد محاولات عدة استغرقت وقتاً طويلاً وباءت جميعها بالفشل ۳ 
يبط الرويات شان الجدرات» أظهر اليهود عناداً كبيراًء وأطلقوا وابلاً 
من السهام من أعلى شرفات أسوارهم : نحو الرومان. كان مقاتلو جحافل 
الرومان يتساقطون إما موتى أو مصابين بجروح شديدة» دون حتى أن 


8- تشير كلمة قيصر إلى رتبته وتعلى تعني أنه يحتل المنصب الثاني بعد أغسطس أي الإمبراطور. 
-392- 


يكون بإمكانهم رؤية من يقتلهم. أصبح المنحدر الحاد المؤدي ودا 
إلى الأسوار ممتلئاً بجثثهم. مع تصاعد الضغط» شن اليهود غارة مفاجئة. 
وأخذوا الرومان على حين غفلة وقام المهاجمون بحرق عدد من الأبراج 
والحصون» لكنهم لم يستطيعوا فعل الكثير حيال الأنفاق التي تحت 
الجدران. أدى التدخل السريع من قبل أحد الأفواج الرومانية إلى تطويق 
الأطراف المهاجمة قبل أن تتمكن من العودة بسلام إلى ما وراء الأسوار. 
صلب أولئك الذين تمّ القبض عليهم دون محاكمة. 
واصل اليهود دفاعهم بشكل جيد وسدوا الثغرات. ولكن جاءت 
لحظة» كما يحدث فى كثير من الأحيان فى حالات الحصارء عندما 
نين اب وال رهاق الماذافسن وشل ون لتو كان ها جره 
من الجدار الشمالي غير خاضع للحراسة» فشقت مجموعة من مقاتلي 
الجحافل طريقها عبر الجدار المهدم جزئياً في الجزء الشمالي من 
المدينة. اندفعت المزيد من مجموعات أخرى من مقاتلي الفيلق العاشرء 
بمساعدة مجموعات من الفيلق الثاني عشرء وعبرت من خلال الثخرة 
بشكل غير منظمء وانتشرت في الدهاليز الضيقة للممرات التي خلفها. 
تسبّبت سلسلة من أعمال القتل التي قاموا بها في إثارة حالة من الذعر 
وانحشر الهاربون في الجزء العلوي من المدينة بأعداد تفوق سعته» وكان 
يحميه الجدار الذي يؤدي من قصر هيرودوس إلى الهيكل. ما جرى جعل 
الوضع ميؤوساً منه بالنسبة للمدافعين الذين كانوا لا يزالون في القطاع 
الشمالي. ولكن تمّ إغلاق البوابات التي أمامهم» والتي تؤدي بهم من 
خلال الجدار الثاني» وتم إلقاء القبض على جميع الذين كانوا خارج 
الجدار الثاني وقام الرومان بتجميعهم وقتلهم. ارتفع النواح من شرفات 
الحصون حيث كان المقاتلون اليهود ينظرون إلى الأسفل ليشهدوا النهاية 
الشنيعة لرفاقهم. حينها تمّ تقليص أعداد المتعصبين في القدس إلى 
حد كبير وتمركزوا داخل السور الأوسط أو سور المعبد» وفي الاسوار 
الجنوبية. تم جلب معدات الحصار الضخمة لتكون قريبة من الجدران 
-393- 


وأطلقت أطناناً من الكتل الحجرية على المدينة» مما أسفر عن مقتل 
أعداد كبيرة من المتواجدين فيها 

نم على الفور تلمس دلائل فقدان القسم الشمالي» حين تهب جميع 
متاجر المدافعين الغذائية الثمينة. اقتربت المجاعة بخطوات سريعة. 
لتيب الطعام الا والهواء الملوث بسبب انتشار العديد من الجثث 
المتعفنة بانتشار الأوبئة» التي حصدت من أرواح المدافعين أعداداً أكبر 
من تلك التي حصدتها الكرات الحجرية التي كانت ترميها منجنيقات 
الرومان. أمر تيتوس بعد ذلك ببئاء السور المراوغ (ه1860!تستعمنه)ء 
وهو جدار مأهول بالجنود ليل نهار» والذي أثبت نجاحه الكبير عندما 
استخدمه يوليوس قيصر العظيم في معركة أليسيا . هدم الرومان عدداً كبيرا 
من المنازل وبنوا من أنقاضها ستاراً ترابياً يحيط بالمدينة تماماً ويقطع عنها 
وصول كل المساعدات المحتملة. تمّ حينها الحكم على سكان مدينة 
ل درت لزي ا لسار عل عون رياد 
لقوة إغاثة من بعض القبائل الجبلية إلى أن يبذل اليهود جهودهم الأخيرة» 
كان كل رجل يقاتل كما لو كان مصير القدس يعتمد عليه وحده. ولكن 
عندما فشلت هذه القوة فى الظهور وتحول الأمر إلى مجرد شائعة انتشرت 
بسبب اليأسء انهارت آمال الناس وتلاشى حماسهم لمزيد من القتال. 

بعد أن أصبح الوضع ميؤوساً منه بالنسبة لليهود» ولم تصلهم مساعدة 
من الخارج أو من إله المتعصبين» حاول تيتوس لآخر مرة التفاوض معهم 
لإقناعهم. خلال معركة يوتاباتا» أسرت جحافله فلافيوس جوزيفوس» 
الزعيم اليهودي لمنطقة الجليل. لم يكن تيتوس يؤمن بالخرافات حول 
عودة أجساد اليهود إلى الشاطى فحسب» وهو الأمر الذي أدى إلى إنقاذ 
حياة الباقين» بل إنه أبقى فلافيوس جوزيفوس أيضاً على قيد الحياة حتى 
تكن ابتخدايه كدري E‏ اليهود. قام أولاً بجولة 
في أرجاء المدينة (105]عاوجه), والتي أت أن لا محدوع لمزيد مق 


9- باللاتينية في الأصل. المترجم. 
-394- 





رناومة. كانت جولته مدعومة» من أجل سلامته» بقصف متواصل من 
آلة العقرب (وندهمم29)5 وهي آله تشبه المدفع تتميز بسرعة إطلاقها 
إإؤذائف» بعدها قام تيتوس بإرسال فلافيوس جوزيفوس كمبعوث منه 
إلى المقاتلين اليهود عند أسوار المدينة» مخاطباً إياهم: «أوهء أيها الرجال 
الفساة» تخلصوا من أسلحتكم وأشفقوا على بلدكم الذي يقف على حافة 
الهاوية!)0. توسل إليهم» وأشار إلى مدى حراجة موقفهم» لكنهم لم 
يستمعوا إلى مستشاره الحكيم. 

كان برج أنطونيا يقع بجوار مبنى المعبد» كان شرقعا مخضا بطر 
عليه أنصار قائد المتعصبين جون جيسكالا. كان يطل من الأعلى على 
منطقة معزولة من الهيكل المقدس» والتي تشكل مفتاح الدخول إلى 

مجمع الهيكل. تحت الأسطح الخشبية الواقية» كان الرومان ينقلون 

7 من الكباش الثقيلة بسرعة ليتمكنوا من قصف الجدار الأوسط. 
استمر القصف ليلاً ونهارأء وفي نهاية المطاف بدأت تظهر الشقوق في 
الجدار. كانت القذائف تسقط على المدينة المزدحمة من معدات الحصار 
ا ا 
نتكت بالآلاف من الحجاج والمحاربين ٠‏ 

أدى القصف المستمر للمنجنيقات والاهتزاز الاجم عن تأير قذائفها 
إلى تبلد مشاعر وأحاسيس من طالهم القصف. لقداسبق وقضفت مدينة 
القدس المقدسة في العصر الحجري. لكن العمل العسكري لم يكن 
بشكل شيئاً مقارنة بمعاناة السكان؛ فقد كان يموت الآلاف جوعاً في 
كل يوم. مما جعل البعض يقتل أشخاصاً آخرين ليتناولوا لحمهم. كانت 
حرارة منتصف الصيف قد جففت ما تبقى من إمدادات المياه وشرب 
انان ولمم ا أذى إل ارت تقلصات مؤلمة لديهم» ومن ثم 


0 
ا“ باللاتينية في الأصل. المترجم‎ 1 
.W, Keller, The Bible as 0 London, 1965 راجع:‎ -!١ 


-395- 


كانت المجاعة الرهيبة التي زادت من الفزع اليومي قد أهلكت 
أسراً بأكملها. كانت المدرجات مليئة بالنساء والأطفال الذين 
انهاروا من الجوع» تكدست في الأزقة جف لكبار السن. وكان 
الأطفال والشباب» الذين تورمت أجسادهم بسبب نقص الغذاء» 
يدورون حول أنفسهم مثل الأشباح حتى يسقطوا موتى. لق دكانوا 
متعبين للغاية لدرجة أنهم لم يعد بإمكانهم دفن أي شخصء وإذا 
فعلوا فإنهم يسقطون ميتين فوق الجثث التي كانوا يدفنونها. كان 
البؤس لا يوصف. لأنه بمجرد ظهور ظل أي شيء يمكن أكله 
فى أي مكانء يبدأ التقاتل حوله» وكان أفضل الأصدقاء يمزقون 
يعضهع البعفل من أجل اتنه الأقبياء. لا بد كات يصدق أن من 
كان يحتضر لا يملك أشياء مفيدة. كان اللصوص ينقضون على 
أولئك الذين كانوا في أنفاسهم الأخيرة ويفتشون ملابسهم. كان 
جوعهم لا يطاق لدرجة أنه مأجبروا على مضغ أي شيء وابتلاع 
كل شيء. لقد وضعوا أيديهم على أشياء تتعفف أحقر الحيوانات 
عن لمسهاء دع عنك أكلها. 


يصرخ فلافيوس جوزيفوس برعب في السطر الأخير من روايته: 


«ولكن هل يجب أن أصف العار والإهانة التى تسببت بها المجاعة 


للرجال» وجعلتهم يأكلون مثل هذه الأشياء غير الطبيعية؟)02. 
ذكر جوزيفوسء الذي استند في وصفه للأحداث المأساوية على 


تجارب شهود العيان الذين قابلهم» وكتبه بعد خمس سنوات فقط من 
وقوع الحدث (79-75 م)» أن مجموعة من المتعصبين المتواجدين 
في الجدار الأوسط كانوا ضعيفين للغاية بسبب الجوع بحيث لم يعد 
بمقدورهم رفع الأحجار الثقيلة ليقذفو بها أعداءهم. كانوا يبحثون عن 
الطعام عندما اشتموا فجأة رائحة لحم مشويء اقتحموا منزل عائلة بيت 
عزوب الثرية ووجدوا الزوجين العجوزين متمددين على الأرض ميتين. 


٠‏ 12- فلافيوس جوزيفوسء كتاب حرب اليهود. 


-396- 


لکن ابنتهما ماريا كانت ما تزال على قيد الحياة» حيث كانت متكورة في 
ادى زاويا المنزل» وهي جامدة ومرعوبة. عندما هددوا القتاةة سلمتهم 
اللحم المشوي. كانت جثة طفل قد أكلت نصفها؛ لقد كان طفلها. 
داخل المدينةء بدت الأرض ذاتها مسمومة ومتعفنة بسبب رائحة 
الموت والمرض والبراز. امتلأت الممرات الضيقة بالرائحة النتنة للبشر 
المزدحمين بينما كان الهواء يع بصدى عويل الآلام. وكانت تأتي الأخبار 
الكئية على شكل أسراب من النسور تحوم حول المدينة لتتغذى على 
الآلاف من الجثث المتعفنة. ولمنع انتشار الأوبئة» كان يتم إلقاء جثث 
الموتى قرب الأسوار بشكل فظ مثلما تُرمى النفايات» مما زاد من الرعب 
العام بسبب رائحتها الكريهة. حاولت الهياكل العظمية الشبحية الفرار 
من المدينة عن طريق النزول ليلاً من الأسوار. كل من تم القبض عليه . 
كان مصيره أن يقف مسمراً على الصليب. قطع الرومان بساتين الزيتون 
والتين الجميلة لاستخدام جذوعها في صنع الصلبان. لقد احتاجوا إلى 
الكثير؛ ففي يوم واحد تمّ قتل خمسمائة شخص بهذه الطريقة الرهيبة: 
حتى طوقت غابة من الصلبان المدينة. «لقد حولت الحرب جمال كل 
هذا البلد إلى صحراء»» بهذه الكلمات عبر فلافيوس جوزيفوس عن 
أسفه لحال المدينة في روايته لأيام الحصار. وبالنسبة لأولئك الذين لا 
يموتون من الجوع أو من المسامير في الصلبان فعند القبض عليهم كانت 
تنتظرهم نهاية مروعة مشابهة. انتشرت شائعات مفادها أن اليهود الهاربين 
كانوا يبتلعون جواهرهم لمنع اكتشافها أثناء التفتيش. في ليلة واحدة 
فقط» قام المقاتلون الرومان الجشعون بشق بطون ألفي يهودي بحثاً 
عن المجوهرات. عندما سمع تيتوس بهذه الفضيحة» أمر بقتل كل فرد 
من أفراد تلك الوحدة العسكرية الجشعين؛ بعد ذلك استمر ذبح اليهودء 
ولكن بصمت. أصبح هناك المزيد من أكوام الأجساد العارية متكدسة 
أمام الأسوارء أو كانت تتعفن وهي تتلوى من الموت» أو تترك تتدلى 
من الصلبان مثل أعلام رثة بائسة. ومن المفارقات أن الموت كان بح 


-397- 


ذاته يمل القوة التي تمد المتعصبين بالحياة وبات من أكثر الأسباب التي 
تجعلهم يصمدون. 
في أواخر شهر تموز» أعذ تيتوس الهجوم النهائي. . صعدت قوته إلى 
التلال ووصلت إلى القمة قبل أن تتحطم الأسوار. اخترقت الجحافل 
الجدار الأوسط واقتحمت قلعة أنطونيا. كان الرومان يربتون على ظهور 
بعضهم البعض فرحين بانتصارهم. انتشر الخبر من رجل لآخر: لقد تم 
اير اق الجدار الثاني. صدرت الأوامر للمقاتلين الرومان بالتفرق والتقدم 
إلى الأمام والتأكد من أن الممرات المتعرجة لم تكن تأوي مقاتلين من 
اليهود المتعصبين. كل ما وجدوه كان نساء ملطخات بالدماء يبكين» 
ويصلين» ويضممن أطفالهن الذين يعولون بالبكاء إلى صدورهن. لم 
يتبق في أيدي اليهود سوى سور المدينة الثالث القصير والجدران القوية 
7 تحيط بالهيكل. في تلك الأثناء» كان وضع المدافعين ا منه 
مأ لكنهم لم يستسلموا. كانت الغاية من زرع غابة من الصلبان حول 
0 الخوف الشديد في قلوب آخر المدافعين. الأمر الذي 
أوضح بشكل جلي كيف يمكن أن يكون للحرب النفسية تأثير معاكس 
للهدف المقصود منها. لم يتم منح المدافعين خياراً وكانوا يعلمون أن 
الموت فقط هو الذي ينتظرهم» سواء على المتاريس أو في ساحات 
الإعدام. لذلك استمر سفك الدماء من دون أن يمنح أحد عفواً أو يتوقعه. 
كان اخر المدافعين مختبئين خلف جدران المعبد» بالقرب مما كان يمثل 
لهم قدس الأقداس. ومع المتاهة التي كان يحتويها من الأنفاق والممرات 
والفناءات» ثبت أنه متراس هائل. وربما من أجل إرضاء آلهته أصدر 
تيتوس أوامر صارمة للحفاظ على الضريح المقدس ومنع أي ضرر يلحق 
بالمعبد. أو ربما كان يدرك أن آلاته (كباشه) ستثبت عجزها أمام الألواح 
الصخرية الضخمة التي بنى بها هير ودوس الهيكل. وللمرة الأخيرة» حاول 
فلافيوس جوزيفوس أن يجعل المتعصبين يستسلمون. ولكنه لم ينجح 
في 7 أيلول سنة 70 م» شتت جحافل الرومانء بقيادة الفيلق العاشر» 


-398- 


هجومها الأخير بناءً على الأوامر التي أصدرها تيتوس في ذلك اليوم: 
«استولوا على القلعة. وحافظوا على المقدسات». لم تصل قذائف 
المقاليع الرهيبة إلى الحرم الداخلي للمعبد نفسه» ولكن سلسلة من 
المسامير المعدنية» التي أطلقت من المنجنيقات المتواجدة في أعلى 
قلعة أنطونياء اخترقت أجسام المئات من المدافعين داخل فناء المعبد. 
لقد تج تركهم مستلقين على الرصيف المصقول في فناء المعبد الواسع» 
وانتشرت دماؤهم على الرصيف والذي عادة ما يكون مخصصاً لإقامة 
طقوس الصلاة الحماسية من قبل الآلاف من الحجاج. لم يعد المعبد 
مكاناً للملاذ الآمن والتقوی» بل بات مكاناً للموت واليأس03. 
نظراًلجدرانه المنيعة» أمر تيتوس بإشعال النار في بوابة المعبد الخشبية 
الضخمة. تحت حماية «السلحفاة»)» وهو 57 مصنوع من الدروع 
ومثبت فوق رؤوس المهندسين» أشعلوا رزماً من القش والزيت باتجاه 
الباب المصنوع من البلوط والبرونز. لقد استغرق الأمر يوماً كاملاً قبل 
أن تتلف النار الباب لأجل أن يدخل الرومان منه. عندما أصبحت الفجوة 
واسعة بما فيه الكفاية» لم يتعين على ضباط الفيلق العاشر إصدار الأوامر 
بالتقدم؛ فقد تدفق المقاتلون من خلالها مثل تدفق المياه من خلال ثقب 
في سد. اعتقد قائد الفيلق أن المدافعين كانوا أقل استعداداً للهجوم مما 
كانوا عليه بالفعل. لكنه واجه جداراً من المتعصبين الذين قاتلوا من أجل 
كل شبر في الأرض المقدّسة؛ ومن أجل كل جدار» وكل فتحة» كما لو 
كان الشيطان نفسه يمتلكها. قتل على الفور قائد أحد الأفواج الذي كان 
أول من تسلق البوابة التى كانت لا تزال تحترق» لكن الذين جاؤوا في 
أعقابه قفزوا فوق جسده المنبطح على الأرض ودخلوا من خلال الباب 
الذي لا يزال مشتعلاً. واجههم بعض المقاومين» ولكن كانت مقاومتهم 
13- تم طمس تتابع الأحداث التي قادت أخيراًإلى تدمير المعبد في ظلمات كتب التاريخ» 


كان فلافيوس جوزيفوس هو الشاهد الوحيد المعاصر الذي سجل في كتابه حرب 
اليهود تلك الأحداث الدراماتيكية؛ ولكن لكونه يهودياً لا يمكن اعتبار سرده محايدا. 


-399- 


بلا جدوى. قام الرومان بقتلهم وتقدموا نحو الفناء الأول» واستولوا 
عليه. وأعقبت المجموعة الأولى من المقاتلين مجموعة ثانية» ثم ثالثة» 
وقد ترنح مقاتلوها عبر الحجارة المصقولة في الفناء الكبير التي كانت 
زلقة بسبب دماء الكثير من القت . كانت الصفوف الأمامية تتقدم بكامل 
ا 2 1 | أ الطاعنة ذ 
قوتها نحو جدار المدافعين» مما أدى إلى تزاحم ر عنه في 
صدور وبطون المدافعين» وبينما كانوا يدكون آخر متراس اقيم امام درج 
شديد الانحدار يؤدي إلى ممر مرتفع على الحائط. قام قائد أحد الأفواج 
الذين حل مقاتلوه محل زملائهم الذين سقطوا صرعى بالصعود معهم 
نحو الأعلى» مدفوعين بغضبهم» والمرارة التي كانوا يشعرون بها بسبب 
وفاة الكثير من رفاقهم» وحين كانوا يمسكون بأي مدافع عند الجدارء 
كانوا يسحقونه حتى الموت ويرمون به في وادي كدرون الذي يبعد مئات 
الأقدام في الأسفل. كان هناك جدار واحد فقط حول المعبد المقدس 
يفصل الرومان عن قدس أقداس الهيكل أي المحراب» كانت المذبحة 
من حول هذا الجدار الأخير أكثر رعباً. كان كل رجل يقاتل لوحده في 
عالم من الفوضى يصِمّ الآذان. بدا أن الأرض تتحرك تحتهم. اشتبك 
اليهود مع الرومان وسقطواء أحدهما فوق الآخر» حتى مات معظمهم 
أو باتوا يحتضرون» وقد انحشروا عند المدخل. وسط الاضطراب الذي 
حصل في الهجوم النهائي حدث ما لا يمكن تصوره. ش 

«استولى أحد الجنود» ومن دون انتظار الأوامر ودون أي شعور برعب 
الفعل الذي قام به على الشعلة الملتهبة» ورفعها على أكتاف أحد رفاقه» 
ورماها عبر النافذة الذهبية التي كانت مفتوحة على الغرف التي تقع إلى 
جات محرات قدس الأقداس... مهما كان رعبهم مما حرمهم قيصر 0# 
من فعله كبيراء كانت كراهيتهم لليهود وتوقهم لقتالهم شديدين بالقدر 


ولام مس 


نفسه. وهكذا تم حرق المكان المقدس من دون موافقة رص 000 


4- يطلق لقب قيصر على تيتوس؛ لأنه كان قيصر أثناء حكم الأوغسطس فيسباسيان. 
5- من كتاب فلافيوس جوزيفوسء حرب اليهود. 


-400- 


في الواقع» فإن تيتوس كان قد أصدر أوامر صارمة لتجنب الحرم 
المقدس. جاء إليه ليبراليوس قائد أحد الأفواج مهرولاًء وهو يشير بيده 
وهو يصرخ: «النيران تشتعل في المعبد!» جمع تيتوس بسرعة عدداً كبيراً 
من الجنود وهرع من خلال البوابة المحترقة» وعبر الفناء المليء بالجثث» 
لإخماد النيران» التي لم تكن قد وصلت بعد إلى الغرف التي تحتوي على 
المحراب. ولكن الأوان كان قد فات كثيراً. على الرغم من أن الجنود 
هاجموا الأخشاب المحترقة بالعصي» لم يعد بإمكان أي شيء إنقاذ 
الغرف ذات الألواح الخشبية. فحينهاء كانت النار قد وصلت إلى الداخل 
ووصلت إلى الجرار الكبيرة المليئة بالزيت المقدس والتى انفجرت 
امثل النجوم المفرقعة». أشعل لهيبها الومّاج جحيماً لم يجرؤ أحد على 
الاقتراب منه» من داخل وسط المبنى» ومن خلال الفتحة المحطمة التى 
لم تعد تحمي قدس الأقداس من عيون التجسس» خرجت شعلة مخفية» 
كان سطوعها أكثر من ألف شمس مشرقة» تلاه هدير يصم الآذان مثل 
صرخات مؤلمة لحشد من الغاضبين. 

تجمد الرومان في أماكنهم عندما رأوا أحد المتعصبين يتسلق الدرج 
المنهار» متجهاً بشكل مباشر نحو النيران. وفي اللحظة الأخيرةء أدار 
الرجل وجهه. وعيناه مملوءتان بالكراهية وفمه مفتوح وهو يصرخ. كان 
ينادي بشيء لکن صوته ضاع وسط هدير النيران» وكان يشير بإصبع الاتهام 
مباشرة إلى قيصر الرومان؛ ثم اختفى وراء ستارة من ألسئة اللهب. أراد 
تبتوس أن يتجنب نظرته» لكن شيئاً ما أجبر عينيه على التحديق في اتجاه 
ستارة النار التي كان توهجها يسبّب العمى والتي التهمت لتوها كائناً بشرياً. 

في الوقت الذي استمر فيه القتال من أجل السيطرة على جدران المعبدء 
نمكن جون غيشالا وعشرات من أتباعه من الفرار عبر نفق سري وبدؤوا 
بالترتيب لأعمال المقاومة الأخيرة -رغم أنها كانت يائسة- ليقوموا بها 
فب الأبراج الثلاثة المتبقية من قصر هير ودوس. مما اضطر تيتوس إلى نشر 
معداته الخاصة بالحصارء والتي حوّلت مكان إقامة هيرودوس الملكي 


-401- 


الرائع إلى مجرد أنقاض» قبل أن يلقي المدافعون أسلحتهم وتنتهي أشهر 
من د والمعاناة. تمّ تجميع آخر المتعصبين الذين أصابهم الهزال 
وتقييدهم والتحفظ عليهم لعرضهم في موكب النصر. 

لم يستطع أحد بعد ذلك أن يقول بشيء من اليقين كم عد الذين ماتوا 
أثناء القتال من بين الستمائة ألف فرد الذين كانوا في المدينة في بداية 
الحصارء وعدد الذين جاعوا حتى الموت وعدد الذين تم ذبحهم أثناء 
نهب واغتصاب المدينة من قبل جحافل تيتوس. 

مع استمرار تصاعد الدخان من الرماد» قامت الجحافل بنصب 
نسورها الذهبية في فناء المحراب قدس الأقداس» الذي تم تنظيفه حينها 
من مخلفات القتال» وقدمت القرابين لإله الحرب» مارس. وكعقاب 
لموقف التحدي لقوة روما وإهانة شرفهاء أمر تيتوس بهدم مدينة القدس 
وتسويتها بالأرض. 

دمروا كل شيء! لا تتركوا حجراً على حجر. هدوا المباني إلى 
الأرض. سنقوم بمسح كل أثر لليهود. سنسوي هذه المديئة بالأرض»؛ 
ولن تقوم لها قائمة مرة أخرى. «أصاب الجنود الرومان الجنون وهم 
يفكرون في احتمالات الثروة التي يتوقعون العثور عليها في المنازل. 
والمطارق والأزاميل» التي كانت تُستخدم لصنع الأشياء الجميلة 
باتت تكسر بلا رحمة المزهريات والحلي» وتجعلها أجزاءً مهشمة من 
الحجر والجص. كانت الفؤوس تسقط على جدران تم تزيينها بدقة» مما 
جعلها تتفتت مثيرة الغبار» لأنهم اعتقدوا أن وراء كل جدار» كنزاً مخفياً. 
تصاعدت غيوم من الغبار المتناثر في السماء الزرقاء. أثار الجنود الفوضى 
في بقايا المعابد» وقاموا بخدش الطبقات الذهبية في الجدران. أولئك 
الذين توسلوا إلى الجنود المسعورين لوقف تدمير مزاراتهم المقدسة 
تعرضوا للضرب المبرح وتمددوا على الأرض ينزفون» بجانب العديد 
من الجشث المنتفخة؛ وقد اختلطت رائحتهم مع رائحة الموت وغطاهم 
الذباب. «ألا ندفنهم؟»» سأل جندي من الفيلق العاشر. أجابه قائده (دعهم 

-402- 


ممددين)» اليسوا لائقين للدفن». لقد كانوا جميعاً يعتقدون أنهم قادرون 
على الوقوف بوجهنا. . فليكونوا طعاماً لأبناء آوى والنسور). 

أصبحت مدينة النبي داود» التي كانت ذات يوم أمثولة لجمال رائى 
نرقد تحت الأنقاض. لم تتبق سوى أبراج مريمني وفيزيل وهيبيكوس» 
التي تحصن قصر هيرودوسء وكان الغرض من إبقائها توفير مكان لخزن 
المعدات الحربية لجيش روما وكأماكن استراحة لضباط الفيالق. كان 
خدمهم هم اليهود نفسهم الذين استمتعوا في الأيام التي سبقت الحصار 
بكرم الملوك» مثل هيرودوس الكبيرء وفي هذه الغرف بالذات كان عليهم 
أن يتحملوا أن يكونوا شهوداً صامتين بينما كانت بناتهم تُجبر على توفير 
الراحة الجنسية للمقاتلين وتلد منهم نسلا من أبناء الزنا نتيجة لعمليات 
الاغتصاب التي لم تتوقف. 

اقتيد قادة التمرد في القدس الذين لقي القبض عليهم للمثول أمام 
تيتوس. كانت ملابس جون غيشالا ممزقة» ولحيته طويلة» رمزاً لمقاومته 
الرومانسية. عكس وجهه المنهك وعيناه الغائرتان مدى تعبه وجوعه. 
بعد بضعة أيام» عثر بعض مقاتلي الفيلق على سيمون بارغيورا مختبئاً 
في كهف. كان كل من جون غيشالا وسيمون بارغيورا رجلين صاحبي 
مبادئ وكان أتباعهما متعصبين لهما بجنون . بخلاف ذلك لم يكن هناك 
اا ا . على الرغم من أن كليهما كانا ظاهرياً متعصبين قوميين 
على حدٌ سواء» وكان كلاهما يدعي أنه يتبنى هدف تحرير إسر إسرائيل ويهودا 

من الرومان. إلا أن غاياتهما كانت مختلفة تماماً. فكلاهما قد فشل. لقد 
تجرآ على المقامرة بالوقوف ضد قوة روماء مما تسبّب في ضياعهما. دوق 
لفنهما قيصر الذي لا ير حم درساً في عاقبة العبث مع روما. 

ارتفعت الغيوم السوداء من جبل الهيكل. كان الدخان ينبثق من القاب 
الصخري للأرض . حملت الغيوم رسالة إلى جميع بني إسرائيل عن نهاية 
لدي 0 لقد تحمل اليهود المصاعب والجوع؛ وحتى الموت؛ ولكن 
ال A‏ ينه 


3 أصبح استرجاع المعبد يمثل القضية الأساسية لليهود. 


-403- 


كان كثيراً عليهم تحمل تدمير معبدهم. بالنسبة لهم كان هذا مؤشراً على 
النهاية» وجعل الصمت المطبق من أثر الصدمة يجتاح أرض يهوداء وخيّم 
صمت الموت. كانت المجزرة التي حصدت الأرواح البشرية فظيعة: فقد 
مات مليون ومئة ألف شخص خلال سنوات الحرب» سقط خمسمائة 
وثمانين ألفاً منهم في ساحات المعارك. أما الباقون فقد ماتوا جوعاً. تم 
بيع ثلاثمائة ألف ممن بقوا على قيد الحياة كعبيد . ومنذ ذلك الحين» بدأ 
نزوح اليهود إلى شتى بقاع الأرض 

تم تنظيم موكب نصر ضخم لتيتوس في روماء حيث قام باستعراض 
أسراه وهم مقيدون بالسلاسل. لكن لا شيء يمكن أن يقارن بالغنيمة 
التي حصل عليهاء وهي عبارة عن شمعدان ذهبي ذي سبعة فروع. لا 
يزال من الممكن مشاهدة رسم طبق الأصل له» محفور في الحجرء في 
قوس النصر الموجود في روما. لا يعرف شيء عن مصير هذا الشمعدان. 
من المحتمل أن يكون هذا الأثر التذكاري للمحرقة التى دمرت المعبد 
المقدس وأرسلت مريديه إلى حتفهم قد تعرض للسرقة أثناء طرد البرابرة 
من روما وتم صهره للحصول على الذهب الذي يحتويه. 

استمرت مجموعات المقاومة تقاتل لمدة ثلاث سنوات أخرى 
ووصلت إلى نهايتها عند قمة جبل مسعدة المطل على البحر الميت حين 
فرضت جحافل تيتوس حصاراً عليها. لعدة أشهر؛ صمد القائد أليعازار بن 
يائير مع بضع مئات من المقاتلين» حتى بنى الرومان سلماً للوصول إلى 
المرتفع؛ فقام المدافعون عنه البالغ عددهم تسعمائة وأسرهم - وبدلاً من 
الوقوع في أيدي الرومان- بقتل أنفسهم. كان هذا هو الحدث الأخير في 
حرب اليهود» والذي أسدل الستار على قصة أرض الميعاد (73 م). 

تحت وطأة عقوبة الإعدام؛ َ. منع الرومان اليهود من المشي مرة أخرى 
في ای المديية التي ته رعا آمو" المي و هاور زان ب ديه 
جديدة على أنقاضهاء وباستخدام مواد من مبائيها الأصلية» وبإشراف من 
المهندسين المعماريين اليونانيين وكانت العمالة من العبيد اليهو د» أطلقوا 

-404- 


وها تسمية أيليا كابيتوليا. وحيث كان المعبد المقدس موجوداً وضعوا 
نينالا للإله جوبيتر. ار رن الح ردير 
رسماً يمثل إلهة الحب» فينوس 

أضرم مقاتلو الفيلق العاشر الذي اخترق أسوار المدينة» النار في 
الك المقدس وهدوا جبل مسعدة ليبقى رمزاً لقوة احتلال مقاطعة 
بهودا لمدة ستين عاماً. تركوا تذكاراتهم منحوتة في الحجرء بينما لم 
بنرك اليهود شيئاً. على ر من قرون من الحفريات الأثرية والكثير من 
الأبحاث» لم يتم اكتشاف أي دليل حة حقيقي على وجود إسرائيل في أعقاب 
نهب مدينة القدس في عام 70 م. لوي العتور سان مقر بور دوا 
نقوش بالعبرية» ولا شواهد قبور. كان الأمر كما لو أن الرب قد قرر أن 
يمحو كل أثر لأبنائه . تكفل القدر» وقوة روما الجبارة» بما تبقى» ولم يتركا 
شيئاً. تم سحق الحضارة اليهودية القديمة تحت الأحذية الثقيلة لمقاتلي 
الجحافل الرومانية. ورغم أن معابدهم لم تعد سوى رما فقد كان هناك 
دين جديد يتجذر. شرع بحيام بودي بن الخليل كان رفظ ر 
والمحبة. وعلى الرغم من أنه دخل أرض إسرائيل بدون سيف. إلا أن 
رسالته ستستمر بالبقاء أكثر من النسر الروماني لآلاف السنين. 

خلف تيتوس والده فيسبازيان على العرش . أصبح الضحية التالية 
للعنة الأباطرة الرومان. أثناء الاستحمام» تل على أيدي رجال موالين 
لأخيه تيتوس فلافيوس دوميتيان» الذي قل بعد اغتصابه العرش على 
بد عشيق زوجته. 

أما بالنسبة لأبناء قبائل إسرائيل» «. .. فسوف يِمَعُونَ بِمَمٍ السّيفِه 
يسْبْونَ إلى > جُويع الأمَم. ..» كما هو مذكور في (إنجيل لوقا 21 24). . كان 
ل الود الاتار لي عام ل أن تحتق وة رتیل :وولح الأض 
8 به عوضا عَنْ كوًِْا خر به أمَامَ عَيئَيْ ل عابر فيَقُولُونَ: 0 
مارت كج ی ایر ایی وا 1 
الکن حتى يومنا هذاء لا لا يزال السلام بعيد المنال في تلك الأرض. 


-405- 


نِد القرار بتدمير القدس خلال عرض عسكري للفيالق تحت 
أسوار المدينة المحاصرة. ومع أن تيتوس أبدى علامات على أنه يرغب 
فى الحفاظ على القدس» فإن إهانة نسر فيلقه من قبل اليهود المتعصبين 
كانت إهانة شديدة جداً» وكان اعتداءً ووصمة عار لم يكن بمقدور قيصر 
الرومان أن يتسامح معها أبداً. وفي لحظة غضب. قرر معاقبة اليهود بتدمير 
مدينة القدس. وقد فعل. 


-406- 


الجزء السادس 


البرابرة 


1 410-75 


من فريتيغيرن إلى ألاريك 


-407- 


الفصل السادس عشر 

لوشتى :في الإثبرأطورية 
معركة أدريانوبل 

التاسع من آب عام 318 م 


« حل الليل وغطى الأرض بأجنحته الداكنة». 


٠.‏ الشاعر الرومانى فرجيل؛ 70 - 19 ق-م. 


سادت الفوضى في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. التي كان 
عمرها آنذاك قد اقترب من نحو مائتى سنة» قتل العديد من المطالبين بلقب 
أغسطس بعضهم البعض. وكل إمبراطور يتبع الآخر؛ في بعض الأحيان كان 
هناك حتى اثنان أو ثلاثة من المتنافسين في الوقت نفسه. انتخبت جحافل 
الرومان في الشمال ماكسيمينيوس إمبراطوراً؛ فيما اختار مجلس الشيوخ 
بالبينوس وبوبينوس» واختارت القوات الموجودة في أفريقيا غورديانوس 
“الغ من العمر ثمانين عاماً كإمبراطور لها . انتحر غورديانوس عندما سمع 
أن ابنه فتل على يد ماكسيميئيوس؛ وقتل ماكسيمينيوس على يد قواته. 
وقتل الإمبراطوران اللذان اختارهما مجلس الشيوخ على يد حرسهما 
الإمبراطوري؛ وتسلق حفيد غورديانوس العرش ليقتله حارسه الشخصي. 
وأعقب تلك المجزرة «عصر الثلاثين طاغية» -كانوا في الواقع تسع عشرة 
فقط- وقد ماتوا جميعاً بوسائل عنيفة. 

بدأت قوة أخرى في التعبير عن نفسهاء وهي الكئيسة المسيحية؛ 

-409- 


والتي اكتسبت أهمية عظيمة. وكان عليها فعل الكثير لهذا الاضطراب 
في البلاط الإمبراطوري والتهتك في أخلاق أبنائه. سرعان ما بدت 
عبادة يسوع تحل محل عبادة الآلهة القديمة؛ وبعضهم خلق من 
الإمبراطور إلهاً. وتفشى نوع من الهوس الديني» كان نتيجة الغرور 
الجامح من جانب سلسلة من الأباطرة» الذين أوهمتهم السلطة بلا 
حدود» وساد لديهم الميل إلى جنون العظمة. . وعندما فرضوا إرادتهم 
بالكامل على البشرء أعلن الأباطرة الرومان أنهم الرب. بدأ النظام 
الصارم -الذي أوصل روما إلى العظمة وأصبح العقيدة الحاكمة 
للمجتمع الروماني- بالانهيار. أما الإمبراطورات فكان سلوكهن غير 
مقيد وكن يقضين أوقاتهن٬بلا‏ خجل مع سلسلة من العشاق. اقتدت 
زوجات المواطنين بهن وأظهرن رخصا جنسيا مماثلا. مع خرق مدونة 
الأخلاق» انغمر الجميع في مشاهد من الفجورء تتابعت على المجتمع 
الرذائل الأخرى. اجتاح الانغماس المفرط في عواطف الروح أبناء 
الأمة مثل الطاعون. 

منذ زمن بعيد» توقف المواطئون الرومان عن الخدمة كجنود عاديين 
من أجل جمع ثروات هائلة من الأراضي التي غزتها جحافلهم الشجاعة. 
ونظراً لأن العبيد كانوا غير مؤهلين للخدمة العسكرية» فقد كان يتم استقدام 
المجندين من الأراضي التي ما زالت غير محتلة شمال نهر الدانوب» من 
إليريا وإسبانيا. وكان يتميز بينهم أبناء قبائل القوط الرهيبين. الذين ارتحلوا 
من مناطق البلطيق واستقروا في ولايات دلتا الدانوب وأوكرانيا. خدمهم 
مكرهم ومهاراتهم بشكل كبير ليكونوا صيادين ومحاربين محترفين» 
مع قدرة بديهية ممتازة لنصب الفخاخ وإقامة الكمائن. كان المحاربون 
القوطيون هم المورد البشري المثالي لإشباع شهية روما النهمة لتزويد 
جحافلها المساندة بالمقاتلين. لقد كانوا فرساناً ومقاتلين ممتازين» ومن 
بينهم تشكل عدد كبير من جحافل المرتزقة التي تدفقت للقتال تحت 
راية النهب المشروع. في جميع المعارك الرومانية في تلك الفترة» نال 

-410- 


لقو طيون الحصة الأكبر من الأوسمةء ولكن أيضاً من الخطر. ولكن هذا 
أى_بهم خبرة عظيمة في إدارة شؤون القتال. 

كانت القاعدة السياسية في عهد الإمبراطور أوغسطس تعتمد في 
الأساس على سياسة عسكرية دفاعية. ولأجل حماية حدود الإمبراطورية» 
قام بتأسيس خمسة وعشرين فيلقاًء وهذا يعني مئة وخمسين ألف رجل 
جاهزين للقتال. ولدعم قوة هذا الفيلق الروماني» دعا إلى أن يكون هناك 
عدد متساو من القوات المساندة» والتي زاد عددها في نهاية المطاف 
إلى حوالي أربعمائة ألف فرد» كانوا يخدمون لمدة خمس وعشرين سنة 
ويحصلون على أجر أقل بكثير مما يحصل عليه الجندي الإمبراطوري. 
لكن الأجر لم يكن المشكلة الرئيسة» بل تدريب روما لعدوها المحتمل 
على فنون القتال. قام الأباطرة اللاحقون بإجراء تغييرات طفيفة على 
التشكيلات العسكرية» بصرف النظر عن استقدامهم لعدد أكبر من 
المساعدين» كان يطلق عليهم الفيديراتي (5606:2)» حتى أصبح البرايرة 
يشكلون العنصر الرئيس في الفيالق الرومانية. تم استخدام ألمع العقول 
العسكرية لتعليم البرابرة كيفية القتال. وقد أثبتوا أنهم تلاميذ أذكياء 
ومتحمسون» وعند انتهائهم من أداء الخدمة العسكرية» كانوا ينقلون 
كل ما تعلموه إلى قبائلهم. وبهذه الطريقة» ساهمت روما إلى حدّ كبير 
بالإطاحة النهائية بالإمبراطورية الرومانية («تناههدم: «تنافعمم5ذ). يجب 
أن لا تغيب عن البال الإشادة بمهارة روما السياسية التي جعلت هذا 
الوضع يستلزم أربعة قرون من الزمن حتى ينشأ. 

كان لدى معظم الأباطرة فكرة عقيمة عن تقديرهم لشخوصهم. كانوا 
بع يتنعمون بالثروة والسلطة» ويتصر فون كأباطرة؛ لكنهم سرعان ما 
0 الحقيقة المرة بسقوط مظاهرهم الكاذبة ولم يمتلكوا أية وسيلة 
ال الانحدار السريع نحو الكارثة. حتى جثوا على ركبهم يتوسلون 
٠8“ 0‏ وكان من يطلبون منهم المساعدة ينظرون إليهم بسخرية» 
E‏ شيئاء سواء للإمبراطور أو لإمبراطوريته. ومن هنا تكمن 

-411- 


المفارقة في أن البرابرة هم الذين امتلكوا القدرة على التغبير. لقد أصبحوا 
الفاعلين الرئيسين الذين يتابعون العمل وفق مفهومهم عن مصالحهم 
القبلية الخاصة؛ مثل توسيع الأراضي لقطعانهم» أو في كثير من الأحيان 
الحصول على الغنائم السهلة. 

وكان انضباط الجحافل» الذي بقى بمفرده» بعد انقراض كل الفضائل 
الأخرى» هو من دعم عظمة الدولة» ولكن أفسده الطموح» أو تلاشت 
قوته بسبب ضعف الأباطرة. تمّ تقويض قوة الحدود» التي كانت تتألف 
دائماً من الأسلحة بدلاً من التحصينات؛ وثركت أفضل المقاطعات 
نهباً لفظاظة أو طموح البرابرة» الذين سرعان ما اكتشفوا تراجع قوة 
الإمبراطورية الرومانية2"7. 

وهكذاء أصبحت قوة خارجية هى التى تحدد وتيرة الاضطرابات 
الفاغ تبت او البرايرة ال غل .نكو ال را رواد يعارل 
بداية القرن الرابع» بات النظام الروماني في أزمة هيكلية. لم يعد الأباطرة 
هم الموجهون الوحيدون للنظام الإمبراطوري. كانت لدى قبائل 
القوطيين والفاندال» التي ترود الجيوش بمعظم قواتها البشرية» أجنداتها 
الخاصة وصممتها لتناسب احتياجاتها. كانت العواقب وخيمة. إلى 
جانب الاضطراب الناشئ عن الاستبداد العسكري المتزايد باستمرار 
وضعف الأباطرة الرومان» الذين باتوا ليس أكثر من مجرد دمى يتلاعب 
بها المرتزقة البرابرة» فقد ظهر تهديد جديد للإمبراطورية: وهو عمليات 
التنقل التي تقوم بها الأمم والسكان الأصليين للسهول الكبرى التي 
تمتد شرقاً من أنهر الألب والدانوب والدون» أو من أقصى الشمال 
على طول مياه بحر البلطيق الداكنة والمليئة بالصخور. لقد كانوا سكان 
الأراضي المقفرة الشاسعة والغامضة التي تحوي البحيرات والغابات 
والمستنقعات» والذين يتكلمون لغتهم الغريبة ويعبدون آلهتهم الوثنية. 
وكانت أكبر قبيلة بينهم على الإطلاق هي القوط. 
7- راجم: 1953 „E. Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, New York,‏ 


-412- 


لم تكن الكفاءة العسكرية للقوط هي السبب الرئيس للكارثة التى 
كانت تلوح في الأفق. فقد كانت جحافل الرومان أفضل تسليحاً من 
البرابرة. وتم إنجاز خطوات تقنية كبيرة في عملية صهر الحديد الذي 
يُصِنع منه الأسلحة» وكان يمكن لكل مائة رجل الاعتماد على الدعم من 
المنجنيق أو المقلاع. لكن الحماسة الوطنية التي أَدّت إلى سيطرة روما 
على العالم لم تعد موجودة الآن. لم يعد تأمين الحماية للإمبراطورية يتمٌ 
من قبل الرومان بل من قبل الليميتيني (comitatenses) y “™(limitanei)‏ 
الكوميتائيئنس (ميليشيا محلية). مع هذا التجنيد المتزايد للمحاربين من 
القبائل» خاصة في سلك الضباط» سرعان ما أصبح البرابرة يمتلكون 
وهل بقي هناك نسر*" على كل حال؟ لقد رضع مقاتلو جحافل سكيبيو 
وقيصر الرومانية مع حليبهم حب الوطن الأم روماء وبعد ذلك قدموا 
حياتهم بكل سرور فداءً لحماية بلادهم وعائلاتهم» أو لغزو أراضي الغير 
ليصنعوا مجد روما. لا يمكن قول الشىء نفسه عن أبناء القبائل الإيليريين 
أو التراقيين أو القوط. فكانوا بالكاد يلبون النداء «لحماية روما»» المدينة 
التي لم يكن أكثرهم يعرف أين توجد حتى على الخريطة. منذ تلك 
اللحظة وعلى مدى قرون» كان كل القتال الذي دار في روما يديره مقاتلو 
قوات القبائل المساندة» من قبائل الرايتي أو الخال أو الألاني أو القوط 
أو الفاندال» الذين كانوا فى بعض الأحيان غير راغبين في القتال ضد 
إخوانهم في القبيلة. 

المرة الأخيرة» التي عادت فيها الإمبراطورية الرومانية إلى سابق مجدهاء 
كانت في عهد الإمبراطور قسطنطين. تمّ تحدي حكمه من قبل القنصل 
ماكسينتيوس, الذي أعلن نفسه إمبراطورا. قرر قسطنطين أن ماكسينتيوس 
کان عدوا خطيراً جداً بحيث لا ر له بالعيش» خاصة منذ أن استولى 
لو ES BR‏ روحت 
*- الجنود في المناطق الحدودية. المترجم. 
-١'‏ شعار الجيش الروماني. المترجم. 

-413- 


على روماء وتوجه إلى ميدان القتال. قبل حدوث المواجهة بينهما على 
ضفاف نهر التيبر عند جسر ميلفيان (312م) رأى الإمبراطور قسطنطين 
صليباً في السماء وسمع صوتاً يقول له: «مع هذه الإشارة» ستنتصر». حينها 
وعد بأنه سيعتنق الدين المسيحي إذا جعله إله المسيح ينتصر. 


Germanic Invasions and the Destruction of Rome 
AD 975 - 455 
2 






-414- 


اصطفت قوات الجانبين عند طرفي الجسر الخشبي. قاد قسطنطين 
نوانه في هجوم قوي عبر الجسر. سقط الرجال من كلا الجانبين» ونظراً 
لضيق الجسرء كان القتال جسدا لجسد وسيفا بسيف. كانت المذبحة 
هائلة. اندفع الرجال إلى الأمام وليس في رؤوسهم سوى فكرة العبور. في 
ذروة القتال» تمّ رمي ماكسينتيوس من الجسر ونزل إلى قاع النهر بسبب 
. ثقل الدروع التي كان يرتديها. سار قسطنطين إلى روما باعتباره المنتصر 
وحافظ على وعده؛ كان يدرك أنه استطاع في خطوة واحدة ماكرة توحيد 
جزء كبير من روما خلف راية الرب ورايته الخاصة. في عام (325م) 
دعا إلى عقد أول مجلس للكنائس المسيحية. جرى هذا الحدث الكبير 
في مكان في مدينة نيقية (تسمى حالياً إزنيق وتقع في تركيا). أصبحت 
المسبحية دين الدولة الرسمي في روما وتم تعميد الناس. مع وفاة 
فسنطين (337م) بدأت شمعة الإمبراطورية تخبو» في انتظار العاصفة 
التي ستخمدها. 

وبينما كان القياصرة مشغولين بقتل بعضهم بعضاًء بدأ البرابرة 
المتواجدون في الشمال في الاستفادة من هذا الوضع. كانت حدود 
روما تتعرض باستمرار إلى غارات تشتها قبائل الهيروليين والكوادي 
بالسكسون (والأخيرة جاءت في الغالب عن طريق البحر لتتوجه 
لى بريطانيا». ومع ذلك فإن الخطر الرئيس الذي كان يهدد وجود 
لإمبراطورية الرومانية قد جاء من ثلاث قبائل توتونية كبيرة: هي فرانكس 
الباق وأكر قبيلة فم جیه القوط. ومع ذلك كانت لا تزال هناك 
حاجة إلى شيء ما كي تشتعل الشرارة. 

0 هذا الشيء على ظهور الخيل من السهول الداخلية الجرداء 
نفوليا. في عام 372 م ظهر حشد من الخيالة يمتطون مهوراً صغيرة 
جل في روسيا البيضاء» موطن قبائل الألانيا والقوط الشرقيين. لقد كانوا 
أن ثبيلة شيونغنوء وهي كلمة لم يستطع القوط نطقهاء لذلك أطلقوا عليهم 
بسامة اسم «الهون». لم يقف شيء في وجههم. وباندفاعهم اكتسحوا 

-415- 


قبائل الألانيا فى معركة نهر التانايس (372 م)» ومن هناك واصلوا اندفاعهم؛ 
مهددين قبائل القوط الشرقية. أثناء محاولته منع الهون من عبور نهر الدنيبرء 
َل زعيم القوط الغربي إرماناريك. قام مليون فرد من القوط الشرقيين 
بقيادة اثنين من أمرائهم وهما ألاثيوس وسافراكس بالتدفق نحو الحدود 
مع إخوانهم القوط الغربيين» ناشد زعيمهم أثاناريك؛ الإمبراطور الروماني 
الجديد فالنس التدخل لمنع جموع القوط الشرقيين من أن تجتاح أراضي 
القوط الغربيين. تردد القيصر فالدس» في ذلك الوقت كان القوط الغربيون 
يتجمعون قبالة نهر الدانوب. وافق الإمبراطور الروماني بعد ذلك على 
السماح للقوط الغربيين بالعبور إلى إمبراطوريته» طالما سلموا أسلحتهم 
وجميع الشباب الذين في سن الخدمة العسكرية. بينما كانت المحادثات 
جارية» وكانت تعد بأن تكون طويلة» قام اثنان من الأمراء الصغار من القوط 
الغربيين وهما ألافيوس وفريتيغيرن» بإثارة مشاعر شعبهم بعدم الرضوخ 
للمطالب الرومانية المبالغ فيها. استجاب لدعوتهم مليون من القوط 
الغربيين. وقام مائتا آلف من المحاربين المدججين بالسلاح والمدريين 
بترك الرومان» وشقوا طريقهم إلى منطقة تراقيا. 

بينما كان الرومان مشغولين في إقليم تراقياء وصل حشد من القوط 
الشرقيين إلى نهر الدانوب في منتصف فصل الشتاء (376 م)؛ وقد تراكمت 
كتل الجليد في النهر لتمنع تدفق مياهه فيما يعرف بسدود الجليد. على 
الشاطئ المقابل» كان يسيطر على الحامية الرومانية في حصن كارنتونوم» . 
فيلق واحد. انتظر أمير القوط الشرقيين» الأمير سافراكس» حتى استعد 
الجميع» ورفع سيفه. حلّق سهم ملتهب عالياً وانطلق مائة ألف رمح في 
الهواء. رفع الأمير صوته بصرخة الحرب القبلية وجاءته الإجابة بصيحات 
فرح» ارتطم الحديد بالحديد والخشب بالخشب. واخترقت الضجة هواء 
الشتاء البارد وتوجهت نحو الفيلق الروماني الذي كان يحرس الشاطئ 
المقابل. لم بحدث من قبل أن كان هناك مثل هذا الحشد الكبير من الناس 
-من الأمم والقبائل والمحاربين- يستعد لغزو الإمبراطورية الرومانية 

-416- 


ووربية. بدأ حشد المقاتلين الهائل بالتحرك مصطحبين معهم زوجاتهم 
وأطفالهم من جميع الأعمار والحيوانات الأليفة والخيول وآلاف 
إلعربات» نزلوا إلى شاطئ النهر ثم عبروا الجليد. 

كان من الواضح أن هذين الحشدين الكبيرين من القوطيين -كانوا 
أساساً من الدم نفسه رغم أنهما ينتميان إلى شقيقين استمرت عداوتهما 
على مدى أجيال- كان من المحتم أن يحدث اصطدام بينهماء وسينتج عن 
ذلك على الأرجح أنهار من الدماء. كان هذا ما كان يعوّل عليه الإمبراطور 
الروماني. لكنهما لم يصطدماء على الأقل ليس بسيوفهم. التقى زعيما 
القوط الشرقبين ألاثيوس وسافراكس مع زعيمي القوط الغربيين ألافيوس 
وفريتيغيرن وشكلوا تحالفاً دمج القبيلتين في أمة واحدة؛ وباتحادهم فقط 
يمكن أن ينشئا جبهة مشتركة ضد الجحافل الرومانية. وجد الإمبراطور 
النس نفسه قد وقع في فخ مع اثنين من الجيوش المقاتلة الضخمة وهي 
تنقض على القسطنطينية. حاول التغلب عليهماء لكن كانت التتائج كارئية. 

بدأت الحرب بين القوط والرومان خلال المفاوضات التي جرت 
بين الإمبراطور فالنس وقادة القوط الغربيين. فبحجة الرغبة في الدخول 
في محادثات سلام» قام فالنس بإغراء الأمراء للدخول إلى معسكره. 
رأثناء جلوسهم في حفل العشاء الترحيبي» اقتحم رجال الإمبراطور 
فاعة الاحتفال. قتلوا ألافيوس أمير القوط الغربيين» لكنهم فشلوا في 
فتل فريتيغيرن. خاض حراس أميري القوط الغربيين قتالاً ماتوا فيه حتى 
أخر رجل؛ ولكن في وسط ذلك القتال الصاخب تمكن فريتيغيرن من 
الفرار عبر باب لم يكن فيه حراس» وقفز على حصانه واندفع يعدو به 
رسط ظلام الليل. قام بتحشيد القبائل. وقبل أن يدمج بين قواته من القوط 
الغربيين مع قوات القوط الشرقيين» خاض مواجهة مع قوة رومانية في 
منطفة ماريانابوليس (تضمّ حالياً مديئة شومن في بلغارياء التي بُنيت عام 
37م وانتصر بسهولة, لأن طريقة القتال القوطية كانت تعتمد على 
لمرونة وفوة سلاح الفرسان. بعد المعركة» انضم القوط الغربيون إلى 

-417- 


القوط الشرقيين ثم قاما بتمرد في جميع أنحاء إقليم تراقيا الواقع شرق 
الإإمبراطورية الرومانية. 

حذر ألاثيوس أحد قادة القوط الشرقيين فريتيغيرن قائد القوط 
الغربيين: «إذا أزعجنا الرومان بشكل كبيرء فإنهم سيوجهون جيشهم 
ضدنا. الإمبراطورية وحش عملاق من الأفضل عدم إيقاظه. هل تريد 
محاربتهم؟) 

أجاب فريتيغيرن» «نعم» سنهزمهم في المعركة». 

ثم قال سافراكس» الزعيم الثاني للقوط الشرقيين: «في الواقع» لقد 
اشتبكنا معهم عند النهر وفي الممرات الجبلية؛ لكن لم يقم أي أحد متا 
بالاشتباك مع الجحافل الرومانية في السهول. لا يمكنني حتى أن أتذكر 
آخر مرة حاول فيها أحد القيام بذلك». 

زه تريييغيرة الذي كان ار یس هي الانتكام له فقط وليس السعي 
وراء الغنائم: «لقد استطعنا أن نحشد الكثير من الرجال للوقوف بوجه 
الإمبراطورية» وسيبقى شعبنا يتغنى ببطولاتهم لمدة آلف عام». 

االن تستجيب جميع القبائل لدعوتك». 

ااسيستجيبون إذا وعدناهم بثروات القسطنطينية!» 

خيّم صمت صادم. الذهاب إلى القسطنطينية! لا بد أن فريتيغيرن 
شخص مجنون! لكنه كان يعرف ما الذي كان يتحدث عنه. فمقاتلو 
الجحافل الذين يسيرون على الأقدام لا يمكنهم أبداً مواجهة الفرسان. 
وبينما كان لدى جيش الإمبراطورية جنود مشاة» فقد كان لدى القوط 
مقاتلون من الفرسان. 

«بإمكان قوة من الفرسان مدربة بشكل جيد التغلب على جحافل 
الرومان!» وهكذا أقنع الآخرين رويداً رويداً بوجهة نظره. وهكذا حيسم 
الأمر. 

في النهاية» تم إجبار الإمبراطور فالنس الضعيف والمتردد إلى وجوب 
القيام بردّء فاستدعى جيشه وتحرك معه إلى تراقيا لمنع القوط من تدمير 

-418- 


المقاطعة بأكملها. بينما كان يسير عبر القسطنطينية إلى أدريانوبوليس» 
حيث كانت قواته تتمركز في الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية» 
وقع حدث على طول الحد الفاصل ما بين نهري الراين-الدانوب والذي 
كان فريداً من نوعه للغاية في ذلك الوقت. وسواء تم تصميم الأمر من 
قبل المحاربين القوط أو حدث بشكل عفوي» فقد أدى ذلك إلى أن 
يشتعل الغعضب في كل قبيلة جرمانية وبدأت تطالب بالانتقام» ووصل 
الضغط على الحاميات النائية لروما المتواجدة على نهر الدانوب إلى 
أقصى حدوده. طلب فالنس المساعدة من شريكه في الحكم» ابن أخيه 
غراتيان» الذي هرع بقواته إلى نهر الراين» حيث كانت قبائل الألامينيين 
قد عبرت إلى بلاد الغال. تمكن غراتيان من هزيمة البرابرة في مدينة 
أرجينتاريا (كولمار حالياً)؛ دفع أربعين ألف مقاتل من قبائل الألامينيين» 
ومن ضمنهم ملكهم بريانوس حياتهم ثمناً لذلك الغزو» وبينما كان 
غراتيان متتصرأء لم تكن الأمور تسير على ما يرام بالنسبة للإمبراطور 
فالنس في تراقيا البعيدة» خاصة بعد انضمام قوة مشتركة من حوالي 
لاثمائة لف مقاتل قوطى إلى مجموعة من أفراد قوات الإسناد القوطية 
المدربين تدريباً عالياًء والذين كان من المفترض أن يقاتلوا من أجل 
روماء لكنهم قتلوا ضباطهم الرومان قبل أن يتركوا جيش الإمبراطور. 
لقد أحضروا معهم أسلحتهم» لكن الأهم من ذلك أنهم كشفوا عن خطة 
الإمبراطور القتالية. 

وبهذاء تغيّرت نغمة الحرب. فالضابط (التريبيون) سيباستيانوس» 
الذي كان يمسك .بخط الدفاع الاخير للإمبراطورية؛ تم إخباره من قبل 
جنود الاستطلاع المتواجدين في المقدمة أنه قد يكون هناك مجموعة 
كبيرة من البرابرة ستصل بسرعة من وراء ستار مقاتلي سلاح الفرسان. 
حاول جنود الاستطلاع اختراق المكان» لكن تمّ صِدّهم وتعرضوا لخسائر 
كبيرة. كان مثل هذا التقدم السريع غير عادي. فهؤلاء البرابرة تدفقوا مثل 
الفيضان, ونهبوا كل ما يمكنهم نهبه» ثم استراحوا للاستمتاع بغنائمهم: 

-419- 


أرسل سيباستيانوس المزيد من دوريات الفرسان لتتبع تحركات العدوء 
وفي الوقت نفسه؛ أرسل رسولاً لتحذير الإمبراطور. 

كان جنود استطلاع القائد سيباستيانوس على حق. لم يتوقف 
القوط ولا للحظة عن مسعاهم لنهب مناطق الريف. كانوا يتوجهون 
إلى أدريانوبوليس مباشرة. تنهد القائد (التريبيون) سيباستيانوس قائلاً: 
«بحلول الليل سوف يصلون [ إلى معاقلنا الأمامية» . قبل اثنتي عشرة سنةء 
كانت لديه ثلاث جحافل للقيام بهذه المهمة» لكن عشر سنوات من 
المشاحنات والنزاعات الداخلية نجعلته يخسر نصف هذا العدد. كذلك» 
فإن الأباطرة لم يكونوا يهتمون في ذلك الوقت بتوسيع حجم الجيوش 
ا لخر داش لادلا روفي غرف 
المقاتلين وانتخابهم لإمبراطور خاص بهم والانقلاب على إمبراطورهم 
الحقيقي . كان على سيباستيانوس بذل كل جهد ممكن لوقف تقدم القوط 
قبل وصولهم إلى أدريانوبوليس. لن يغفر الإمبراطور أبداً للقائد الذي 
يسمح للبرابرة أن ينهبوا مدينة رومانية. . كان عليه أن يؤخر تقدم العدو أملاً 
في وصول قوة الإغاثة في الوقت المناسب . كان الإمبراطور فالنس قادماً 
من القسطنطينية» لكن إذا لم يصل في الوقت المناسب فسوف يتم سحق 
رجال سامت ارين تبجع رار حول التوطيين: 

في الأيام الأولى من شهر آب عام 378 م» توقفت مسيرة القوطبين 
فجأة» وأقاموا مخيماً لهم» عند سلسلة من التلال المتدحرجة والوديان 
الواسعة كانت تبعد عشرة أميال فقط عن مدينة أدريانوبوليس. 

كان التصميم الروماني لتحقيق أقصى استفادة من نظام الطرق الرائع 
لديهم هو مفتاح نجاح استراتيجيتهم. من خلال الاستفادة الكاملة من 
الطرق العسكرية المرصوفة بالحصىء يمكنهم أن يدفعوا بالجيوش على 
بعد مئات الكيلومترات لمواجهة قوات العدو الأكثر شراسة» التى لا 
يُستهان بها على الأقل بسبب أعدادها الهائلة. كان جنرالات روما دائماً 
قادرين على تحشيد قوة كبيرة بما يكفي لإلحاق هزيمة فورية ومنكرة 

-420- 


إعدائهم. كان أكثر من تبنيا هذه الاستراتيجية هما القائد الروماني 
ايوس وبوليوس قیصر. لکن ذلك كان قبل خمسماتة عام ولم يكن 
الامبراطور فالنس مثل يوليوس قيصر. 

تم تغبير مستقبل الإمبراطورية بسبب نوبة من الغيرة المجنونة. 
إجتاحت مشاعر الحسد فالنس بسبب النجاحات التي حققها ابن أخته 
غراتيان على القبائل الألامانيةء وكذلك تلك التي حققها مرؤوسه. 
الضابط (برتبة تريبيون) سيباستيانوس» الذي نجح» مع قوة بسيطة نسبيا 
فى تأخير زحف القوط في سلسلة من الغارات الجريئة. وبصحبة خمسين 
ألف جندي» وصل الإمبراطور إلى أدريانوبوليس عشية الثامن من آب عام 
38 م. وهناك تمّ إبلاغه بأنه سيواجه القوط الغربيين فقط» ورأى بذلك . 
فرصة جيدة لتصحيح الأمور. في الواقع لقد ذهب القوط الشرقيين للقيام 
بغارة. لم يكن الإمبراطور فالنس يرغب بأن يشاركه أي شخص آخر في 
النصر الذي من شأنه أن يرفعه إلى قمة هرم أمجاد روما. لقد اتخذ قرارا 
متهورا بعدم انتظار وصول الجيش الروماني الثاني تحت قيادة شريكه في 
الحكم غراتيان» الذي كان قادماً بسرعة نحو أدريانوبوليس من الشمال. 
لم يأخذ غراتيان استراحة سوى ثلاثة أيام فقط» ومع وجود خمسين 
ألفا إضافياً من مقاتلي الجحافل المدربين والمدججين بالسلاح مع 
مقاليعهم ومنجنيقاتهم» فإن الإمبراطور فالنس لن يتمتع بتفوق عددي 
ساحق فحسب» بل كان سيحاصر القوط الغربيين بين فكي كماشة. لكن 
ماهو الثمن؟ كان عليه أن يقبل أن يشاركه انتصاره ابن أخيه المغرور. 
سار فالنس بجيشه من دون السماح لرجاله بالراحة مباشرة نحو معسكر 
القوطيين. «أريد أن أمحوهم عن وجه الأرض» وليس مجرد إلحاق 
الهزيمة بهم. أريد أن أقتل الكثيرين منهم لدرجة تجعلهم يرتعشون حينما 
يسمعون اسم الإمبراطور أوغسطس فالنس». 

لكن حادثة واحدة حسمت القضية. قبل خمسة أيام من ظهور فالنس 
مع جحافله» التقى فابيوس توليوسء مبعوث القائد سيباستيانوس» مع 


-421- 


زعيم القوط الغربيين فريتيغيرن. كانت مهمته ذات شقين: محاولة وقف 
تقدم القبائل القوطية من خلال تقديم تنازلات لهم والأهم من ذلك؛ أن 
يجلب له معلومات عن حجم قواتهم ومواضعها. بينما كان في طريقه 
إلى خيمة زعيم القوطيين» كان فابيوس توليوس يلقي نظرة سريعة حول 
معسكر عربات الخيل. لم يثر اهتمامه ما وقع نظره عليه. بدا معسكره 
وكأنه قافلة لمجموعة من الغجر أكثر من كونه معسكرٌ جيش منظما جيدا. 
تحدث المبعوث قائلاً: «يا أمير القوط. من الأفضل لك حماية 
أراضيك من طاعون قبائل الهون المتجه من الشرق بدلاً من مواجهة 
قوات الإمبراطور). 
نظر فريتيغيرن» الذي كان بصحبة محاربيه الأشداء بصرامة» إلى 
اليرت الووماتيوقال | «يبدو لي أن قائدك يمرّغ وجهه في التراب 
متوسلاً من أجل العضول على ا فن إمتراطووكم وجه ني 
التراب نفسه. استدر وارجع إلى رئيسك. أخبره بأننا نحن الذين يجب 
أن نتتقم من القتل الدنيء لأميرنا من قبل إمبراطوركم». أوماً المحاربون 
برؤوسهم وضربوا الأرض بأقدامهم. وأضاف فريتيغيرن مع ابتسامة: 
«وعلاوة على ذلك» لا يوجد كنز يمكن العثور عليه مع قبائل الهون». 
نظراً لأن فابيوس توليوس لم يلتق سوى بفريتيغيرن زعيم القوطيين 
الغربيين فقط» ولم يشاهد سوى المحاربين القوطيين الغربيين في 
م ا ل لي 
وأن كل ما سيتعين على الجيش الروماني مواجهته هم القوط الغربيون 
فقط ا يا يي ا وهر الذي مها ليوو إن 
إمبراطوره. لقد مثلت تلك الحادئة حالة نموذجية للمعركة التى يشعلها 
ny‏ . لأن 
ما لم يكن يعرفه الرومان هو أن فريتيغيرن قد تمّ اختياره من قبل جميع 
القبائل كقائد عام لهاء وإن كان يشرك في القرارات العسكرية أميري 
القوط الشرقيين ألائيوس وسافراكس» وفي يوم زيارة فابيوس توليوس» 
-422- 


ئان العديد من محاربي القوط الغربيين يبحثون عن اللحم الطازج» فيما 
ذهب القوط الشرقيون للمشاركة في سلسلة من أعمال النهب. 

اعتمد فريتيغيرن على بقاء فالنس في أدريانوبوليس بانتظار وصول 
جيش غراتيان» وفوجئ عندما علم أن الإمبراطور تجتب دخول 
أدريانوبوليس وكان متوجهاً إليه. مباشرة لم يضع فريتيغيرن وقته. أرسل 
السعاة للحاق بركب ألاثيوس وسافراكس واستدعاء مقاتلي القوط 
الشرقيين. احتاج فريتيغيرن من أجل الوقوف بوجه جحافل الإمبراطور» 
والتي كان يعتقد أنه تم تعزيزها بالفعل من قبل رجال غراتيان» إلى مقاتلي 
القوط الشرقيين ليقفوا إلى جانبه في المعركة التي أدرك أن عليه خوضها 
الآن. لقد فات الأوان على تفكيك خيم المعسكر وهجره؛ وبسيب 
الأعداد الغفيرة من النساء والأطفال والماشية فإن القيام بعملية انسحاب 
استراتيجي كان أمراً شبه مستحيل. كان فريتيغيرن يأمل فقط في أن تصل 
رسالته إلى قادة القوط الشرقيين في الوقت المناسب. ٠‏ 

على جميع التلال المحيطة بالمخيم» كانت النيران مشتعلة وتتوهج 
في الصباح الباكر. عندما انتشرت الشائعات الأولية حول وصول طلائع 
قوات الرومان وانتشارهم في المخيم» تجمع حشد هائل أمام خيمة 
فريتيغيرن. الذي كان عليه أن يطمئنهم. 

عندما كانت روما لا تزال دولة لا تقهرء كان الفرق الوحيد بين القادة 
والجنود العاديين هو مجرد شريط على السترة. لكن اليوم» يرتدي 
الأرستقراطيون ثياباً فضفاضة من الحرير وذات لون أرجواني» لم يعودوا 
يركبون الخيول» بل يضعونها أمام عربة مطلية ثم يجلسون على وسائد 
حرير لتنقلهم العربة إلى ممتلكاتهم من الأراضي الشاسعة العظيمة على 
طول الساحل» وكان كل واحد من أباطرتهم يريد أن یری صورته في أعلى 
التماثيل ارتفاعاً وأكثرها إثارة للإعجاب» وقد وضعت في وسط أحياء 
3 ولا يشعرون بالرضى إلا عنذما يزين الناس تماثيلهم الحجرية 
الدهرلن, 


-423- 


لقد استغل فريتيغيرن حقيقة أن القوط» كونهم شعباً من البدو الرحل» 
لم يكونوا بحاجة إلى أي رموز دائمة. هر اراد عفد الاس المع 
رؤوسهم حينما قال لهم. ولا حتى أعظم الملوك لم يفكر أبداً في وجود 
تمثال يقام على شرفه! «لكن هل تعرفون ما هو الأسوأ؟» 

«أخبرناء يا فريتيغيرن». صاح الناس. 

«الأسواً هو أنهم يهينون زوجاتهم ويمارسون متعتهم مع فتيان 
جميلين). 

ارتفع صياح الجماهير اشمئزازاً؛ بالنسبة لهم لم يكن هناك شيء أكثر 
دناءة من الشذوذ الجنسي. 

هناك ذهب وهناك نساء تحت تصرفكم. ويمكنكم أخذ كل شيء. قوة 
الإمبراطورية الرومانية ترجع إلى الحظ. لذلك» يجب التصرف في الوقت 
المناسب. الإرادة والقوة وحدها ليست كافية للتغلب عليها. الشىء نفسه 
ينطبق علينا. ولحظتنا المناسبة هي الآن! ْ 

رفع القوطيون أسلحتهم. «يا ويلكم مناء يها الرومان» يا ويلكم مناء 
إننا القوطيون» نحن الرعب» نحن الشيطان...» 

صعد فريتيغيرن على سرج حصانه. أشرق في وجهه الفخر» ولكن 
الغضب ملأه كذلك. كان الأمر كما لو أنه اكتشف للتو أنه لن يكون هناك 
سلام بين الرومان وقبيلته القوطية. لقد كان محقاً؛ كانوا يعيشون تتحت 
السماء نفسهاء ولكن في عالمين منفصلين. 

انضمت قوة سيباستيانوس إلى قوات الإمبراطور فالنس خارج 
أدريانوبوليس» وبهذه القوة المشتركة تقدم الإمبراطور مباشرة إلى 
معسكر القوطيين. كان لديه ستين ألف رجل مقابل مائتي ألف من القوط 
الغربيين. لكن رجاله كانوا مدربين ومسلحين بشكل أفضل» ومنضبطين. 
قادتهم رحلتهم للسير على طول وادٍ تحدّه التلال؛ لقد اختار الوادي لأنه 
يمثل أفضل ساحة قتال لتشكيلاته؛ التي كانت تتكون في الغالب من قوات 
المشاة. في الليلة التي سبقت المواجهة» كان العديد من رجال سلاح 

-424- 


الفرسان لديه» وهم من الفرسان القوطيين الأشداء الذين كانوا يتقاضون 
أجورهم من روما قد تركوا معسكره وانضموا إلى إخوتهم في الدم. 
كان ذلك موقفا يثير الجنون: فالفرسان الذين يرتدون الزي العسكري 
الروماني ويحملون السيوف الرومانية سيقفون في وجهه. فقرر أنه بمجرد 
أن يكسب المعركة» سيقتلهم جميعاً. لكن كان عليه أن يحقق النصر أولاً. 

في يوم التاسع من آب سنة 378 م. تسلقت الشمس بسرعة الأفق. لن 
برى الكثيرون غروب الشمس. بدأت المعركة باشتباك عشوائي شارك 
فيه الجميع. تان الروفاك ال دون عنظة أو رتاه وقايلهم التوطيوت 
بالمئل» مثل اثنين من السلاحف العملاقة زحفا نحو بعضهم البعض» 
اشتبك مقاتلو القوات المساندة الرومانيين المدججين بالسلاح فجأة 
مع عدد من المحاربين القوط الغربيين. بد القتال بالصراخ والشتائم 
من الجانبين؛ اصطدمت القوات البرية ببعضها البعض. لا أحد يريد أن 
يتزحزح من مكانه. خرجت الأمور عن السيطرة تماماً حين قفز المزيد 
من المحاربين نحو ساحة القتال» حتى اندلعت معركة منتظمة؛ جرى كل 
ذلك دون أدنى تدخل من جانب قادتهم المحترمين» الذين جلسوا على 
خيولهم يغلب عليهم الارتباك كما هو حال مقاتليهم الذين على الأرض. 
لم يكن هناك أدنى احتمال للنصرء بالنسبة لأي من الطرفين؛ لم يكن لدى 
أي أحد استعداد لأن يستل سيفه ويدخل أتون المعركة. كانت الفوضى 
كبيرة لدرجة أنه حتى القادة لم يعد بإمكانهم تمييز الصديق عن العدوء 
خاصة بوجود الزي الرومانى الذي كان يرتديه المقاتلون الذين فروا من 
معسكر الرومان. استمر هذا الصراخ لنحو نصف ساعة حتى استنفد كلا 
الجانبين قواهما لدرجة أنهما بدآ ببطء فى فك الاشتباك. كان الرومانء 
الأكثر انضباطاً وتدريباًء أول من استجاب لذلك. انتظموا في تشكيلات 
قتال ودعموا جنود مشاتهم من الخلف بمعدات الحصار والمقاليع. 
كانت تنطلق زخات من القذائف الفولاذية من المنجنيقات المروعة 
لبدوي صفيرها عبر الهواء» لتنفجر بكاملها في حشود القوط الغربيين 

-425- 


الذي كانوا بلا قيادة. تدحرج العشرات من الرجال على الأرض» وقد 
مزقتهم القذائف الفولاذية. 


ILLYRIA 





-426- 


انطلق فريتيغيرن قائد القوط الغربيين في جميع أنحاء ميدان القتالء 
وهو يصدر الأوامر بصوت عالء في محاولة للحصول ولو على القليل 
من النظام في خطوطه القتالية. كان يدرك أن كل غارة يقوم بها الرومانء 
ستتبعها على الفور تقريباً واحدة أخرى. كل ما كان بإمكانه فعله هو أن 
بنظر ويراقب بينما كان يندفع رعاعه غير المنضبطين للاشتباك مع مقاتلي 
القوات المساندة للجيش الروماني والذين كانوا غير منضبطين أيضاً في 
قتال محموم بالأيدي. لم يساعد ذلك فالنس» الذي لم يستطع المهاجمة 
بجحافله بشكل منسق بسبب حدوث هذا القتال الجانبى» لكن هذا 
القتال منح فريتيغيرن فسحة من الوقت. فأمر بنقل العربات إلى أسفل 
ابل خيث |صبعافت بعتا بجانب البعضن وشكلت خا جرا دفاعيا عبر 
قاع الوادي. الشيء الآخر الذي نجح في فعله هو منع فرسانه من التقدم 
للأمام للانخراط في المذبحة التي لا معنى لها. عندما نظر بعد ذلك عبر 
قاع الوادي» رأى كيف تمكنت وحدات السنتوريين0© من السيطرة على 
مقاتليها. بعد أن استعدت كتائب المشاة الرومانية ورفعت أعلام القتالء 
حينها اقتربت اللحظة الحاسمة بالنسبة للقوطيين. كان فريتيغيرن لا 
يزال ينتظر الأخبار من القوط الشرقيين ما لم يتمكن من جعل محاربيه 
يخرجون من هذه المواجهة غير المجدية وينشى منهم تشكيلاً يمثل خطا 
صلبا أمام العربات» فإن هناك كارثة في انتظاره. 

كان فالنس يعرف أن رجاله كانوا متفوقين إلى حدّ كبير على شلة من 
المحاربين البرابرة الذين يواجهونه. حتى لو تم تشكيله ببطء في صف 
داحدء فإن هذا القطيع من كلاب الصيد يمكنه أن يعض يده لكنه لن يخرج 
منتصرأ. لقد بصقوا على العهود التي وقعوها مع الإمبراطورية الرومانية 
ل 
نها منحتهم القوة. لم يكن فالنس يريد الانتصار في 2 
يريد إبادة القبائل. ومع ذلك» فقد حرص على عدم ارتکاب خطا فادح؛ 


(2- هي وحدات قتالية رومانية مكرّنة من مئة مقاتل. المترجم. 


-427- 


كما فعل شقيقه فالنتيئيان عندما لقي حتفه. على طول حدود الدانوب» قلّل 
فالنتينيان من إرادة القوط وشجاعتهم. لقد كانت أمة قديمة ذات عادات 
ومعتقدات فطرية» وكانت إحدى هذه المعتقدات أنهم أمة لا تُقهر. 

رفع فالنس يده لإيقاف حراسه. لقد أراد أن يقود حصانه بمفرده والنظر 
إلى عيون هذا المقاتل المتغطرس من القوط الغربيين قبل أن يجعله ينحني 
ويضع قدمه على رقبته. كان قد تقدم بالكاد بضع خطوات عندما بدأ يدوي 
صوت بوق القوطيين. التفت وهو على سرج حصانه لمواجهة رجاله 
الذين هتفوا له بقوة. 

حاول سيباستيانوس أن يحذّره من أن «رجالنا بحاجة إلى الراحة يا 
سيدي الإمبراطور». 

فقال فالنس: «اللعنة عليهم» اترك وقتاً للخوف لينمو بين البرايرة». 
لقد كان يأمل أن البرابرة إما أن يهاجموا خطوطه أو ينكسروا عند رؤية 
جحافله المحتشدة ويهربون. لم يفعلوا ذلك أيضاً. رفع الإمبراطور يديه. 
تقدم الآلاف من مقاتلي الجحافل بخطوات متناسقة» من خلف جدار من 
الدروع. لقد كان مشهداً مخيفاًء كان قد أثار الرعب في قلوب أعدائهم على 
مدى قرون عديدة. . وفجأة ترددوا ثم توقفوا. يبدو أنه قد حدث اضطراب 
بين المقاتلين عندما حدقوا في نقطة ما بعيدة جداً فى الأفق» على ضوء 
الكثير من الدروع التي كانت تلمع في ضوء الشمس» وكانت بعيدة جداً فلم 
يستطيعوا التعرف على لون أعلام المعركة المرفوعة. كانت هذه بالتأكيد 
طليعة قوات مساعد الإمبراطور غراتيان» التي تحركت بشكل أسرع من 
المتوقع . شعرت العديد من الوحدات الرومانية بالبهيجة . فقد كانت قواتهم 
الاحتياطية تظهر من خلف العدو. كانوا سيصطادون القوط الملعونين وهم 
واقعون في الفخ وسوف تكون نتيجة معركتهم انتصاراً سهلاً. 

لاحظ فريتيغيرن أيضاً شيئاً غير عادي. تجاهل رجاله» ونظر إلى 
صف مقاتلي الجحافل الرومانية الذين كانوا يتقدمون ببطء مرة أخرى 
عبر المنخفض الأرضي الواسع الذي يفصل ما بين اثنين من التلال 

-428- 


المتموجة. . بالنسبة لفريتيغيرن» فقد حان الوقت لبث العزم في صفوف 
ا . فاندفع على طول صف العربات المتراصفة بإحكام وخاطيهم 
اا «کونوا شجعاناء يا محاربي القوط. | إما أن نقاتل من أجل كل شيء 
أو يجب أن نموت). بعنف ضاخبه» ر فع القوطيون دروعهم وسيوفهم 
ثم اندفعوا من وسط جدار العربات مباشرة نحو الكتائب الرومانية. كان 
فريتيغيرن في المقدمة على ظهر جواده الضخم. يتقدم بسرعة عبر الأرض 
الرطبة» وجواده ينثر الوحل بحوافره. توجه مباشرة نحو قائد تشك 
الستتوريين الروماني الذي كان يحمل ريشة أرجوانية على خوذته» وسار 
بمهل من أمام صف مقاتليه. أمسك زعيم القوط اللجام بيده اليسرى 
وامتشق سيفه البربري الطويل. بضربة واحدة قام بقطع رأس قائد تشكيل 
السنتوريين» كان عملا فذا شاهده برهبة الأرومان والقوط سوية. 

وضع الرومان دروعهم على الأرض وشكلوا منها جداراً صلباً. 
ثم انتظروا تأثير ذلك. ظلت الأجواء من حولهم ساكنة لعدة دقائق. 
استدعى فالنس أفراد سلاح الفرسان الروماني الموجود؛ جاء بضع 
مئات منهم وهو يدورون بخيولهم حول الجناح الأيمن» وتحركوا 
بشكل أسرع وأسرع. أصبح هدير حركتهم يصم الآذان... ثم جاء 
القوطيون واصطدموا بالمئات منهم. تمكنت النار القاتلة الصادرة من 
الأقوا س الرومانية من شل المحاربين. وبسرعة شديدة استدارواء في 
محاولة للهروب من وابل القذائف التى كانت تصبها المقائيع المخيفة 
لقوات الإمبراطور فالنس. الذي أرسل فرسائه إلى الجحافل لتقل 
أدامره بالشروع في شنّ هجوم عام. 

كان الرومان على بعد ثلاثمائة ياردة من معسكر القوطيين عندما 
جاءهم فارس وهو يندفع مسرعاً من أعلى التل وجسده يتمايل فوق سرج 
حصانه. “كا الدميتدفى من خرخ غار في صدر»: . وسط ألم شديدء انزلق 
عن حصانه وتو جه مترنحاً نحو المجموعة المحيطة بإمبراطوره: «سبدي 
الإمبراطورء البرابرة قادمون...». تمكن من الهمس بهذه الكلمات قبل 


-429- 


أن يسقط على الأرض . أي برابرة؟ كان الرجل ميت والموتى لا ينقلون 
أخباراً . أصبح وجه فالنس شاحباً ومنشغلاً بالتفكير. . البرابرة؟ لا يمكن أن 
يكون الأمر صحيحاً. 

عندما كانت طلائع قوات الإمبراطور على بعد مائة خطوة فقط من 
خط العربات» وكانت أبواق حرب الجحافل تطلق صفير الهجوم الأخير» 
كان هناك فجأة ترك على يفوخ التاول ال ا عرو يناج ا 
إنهم البرابرة! وصل الفرسان القوط الشرقيين من الشرق! في الواقع» 
وكما هو الحال عندما كانوا يصطادون الحيوانات البرية» فقد أخفوا عملية 
وصولهم من خلال الدوران حول أنفسهم في دائرة واسعة. لقد تتبعوا 
صوت المعركة» وبمجرد أن أصبح بإمكانهم سماع صليل السيوف» 
انقسموا إلى مجموعتين» واحدة تحت قيادة ألاثيوسء» والثانية بقيادة 
سافراكس. كانت المفاجأة كاملة. بدت حشودهم وكأنها موجة اجتاحت 
قمة التلتين؛ كانت قريبة» وقريبة جدأ بحيث لم تكن الجيوش الرومانية 
المتقدمة وقادتها قادرين على الرد في الوقت المناسب. أمر فالنس 
جحافله بالاستدارة ومواجهة أجنحة سلاح فرسان القوط الشرقيين» 
ولكن الأوان كان قد فات على جعل هذه المناورة فعّالة. نزل الفرسان 
القوطيون من التلال على جانبي الوادي. كان هناك الكثير منهم وكانوا 
قريبين من بعضهم البعض لدرجة أن ركبهم كانت تتلامس. 

قبل اشتباكهم» انتشروا في ترتيب مفتوح وكان المقاتلون الذين 
يقودهم ألاثيوس في الوسط. بعد عشرين خطوة وراءهم كان يأتي خط 
آخر من الفرسان القوطيين. وهكذا فقد انتشروا على مساحة واسعة» 
لكنهم ما زالوا قادرين على الالتفاف من حول الرومان. فى الوقت 
نفسه» وصل جنود مشاة القوط الغربيين إلى صفوف الرومان؛ اصطدمت 
السيوف بالسيوفء والأجساد بالأجساد. مما جعل من المستحيل عملياً 
بالنسبة لجحافل الرومان أن تستدير وتواجه الفرسان. بدأت الأبواق 
الرومانية تصدر نداءات التراجع بشكل متواصلء ولكن بالنسبة للكثيرين 


-430- 


لم تكن هناك إمكانية للتراجع. غطت سحابة كثيفة من الغبارعملية كان 
أفضل وصف لها هو المذبحة الجماعية. 

ألقى فوجان كاملان -بقيادة ضباط رومان ولكن مقاتليهم كانوا 

من القوات الان من إقليمي إيليريا وتراقيا- سيوفهم واستسلموا. 
وتم تجميعهم سريعاً واقتيادهم خلف حاجز العربات بواسطة عدد من 
المحاربين. وهناك كان عليهم أن يواجهوا مجموعة من النساء القوطيات» 
اللواتي يصرخن بهستيريا وع وش لن بأدرات يتوه عن 
و إلى ی ن 0 ات او الع ا اهار 1 
انتهت الحرب وبات مستقبلهم غير مؤكد. فإذا اتتصر الرومان» فت 
إعدامهم بتهمة التخاذل» وإذا انتصر القوط فسيكونون عبيدا لهم. 

أوجد استسلام مقاتلي القوات المساندة للإمبراطور فالنس ثغرة 
كبيرة ف فى الجهة اليمنى للقرات الرومانية. قام فريتيغيرل» بتحشيد 
الفرسان القوط الشرقيين» وجعلهم يصنعون دائرة وراء مسرح المعركة 
واصطدموا بمؤخرة قوات الرومان. وقاموا باجتياح الجحافل الرومانية 
بينما كانت عاصفة رملية تجتاح الصحراء. أما أولئك الرومان الذين 
واجهوا موكب القوط الغربيين فقد أجهدوا أنفسهم ببساطة. سقطت 
الفؤوس على الرؤوسء وانشطرت الدروع الواقية للأبدان تحت ضربات 
السيوف العشوائية ومئات الرماح التي كانت تتقاطر عليهم. وبعد أن 
تخلى عنهم مقاتلو القوات المساندة» وأَغْلِق الطريق عليهم من الأمام 
بواسطة حاجز من العربات وآلاف من قوات مشاة القوط الغربيين» فيما 
كانوا يتلقون الضربات من الجوانب على يد جناحين من سلاح فرسان 
القوط الشرقيين» وهوجموا من الخلف من قبل الخيالة القوط الغربيين» 
استمر الرومان في القتال» وما كان يبدو مثل انتصار مؤكد تحول بسرعة 
إلى سباق مع الموت. أدّت الهجمات الشرسة على جحافلهم إلى تقسيم 
تشكيلات القتال الرومانية 9 أفواج منفصلة» حتى صارت مجموعات 


-431- 


ضغيرة فقط تقاتل وحذها. في هذه اللحظات الوحشية من الاشتباكات 
الأبديه لم تير عمليات تل اقاب بالسيوف يبن الصليق ر ر 
كان عزاؤهم البسيط أنهم لم يكن لديهم أي وسيلة لمعرفة من الذي ذبح 
وبسيف مَنْ. بدأت الجيوش تضعف» وقوتها تُستنزف» فيما قامت الافواج 
بعتم اكرام لف را ا ود الكريت أذ يت المرلى 35 
يضطرهع إلى الاستماع إلى صرخات الجرحى المؤلمةء المحكوم عليهم 
بالموت المؤكد» والذي استنزف إرادة الرومان في القتال. كان تفكيرهم 
الوحيد يتركز في إنقاذ حياتهم عن طريق الهرب. وقد وجدوا كل منفذ 
للخروج مغلقاً من قبل جحافل الخيالة القوط المسعورين» الذين كانوا 
يوجهون الضربات لجميع الهاربين. ولكن لم ينج ولا واحد منهم. 

تلاشى صخب الضوضاء. تناثرت في ميدان القتال أكواعٌ من الجشث: 
حيث وقف الرجال الشجعان في ساعة صمودهم الأخيرة. عندما أصبحت 
الشمس في أوجُهاء بدت أبواق الحرب للقوطيين تصدح بأصوات نهاية 
المعركة التي انتصروا فيها. لقد تركوا جثث موتى العدو وأشباه الموتى 
لينهشها بنات آوى والطيور الجارحة. في المساء بدأت الرياح تهب 
وتغطي ساحة المعركة» وهي تحمل بقايا الجثثء التي شكلت طبقة رقيقة 
من الغبار الناعم. 

في وقت لاحقء وبينما كان الباحثون في النفايات البشرية يقومون 
بتجريد الموتى من الأشياء الثمينة» عثرت دورية لمقاتلين قوطيين على 
الإمبراطور فالنس مصاباً بجروح لكنه لا يزال على قيد الحياة. قاموا باقتياده 
و أمام فريتيغيرن المنتصر» قدم الإمبراطور لزعيم القوط فدية ضخمة 
من أجل الحفاظ على سلامته. رفض الأمير القوطي قبولها؛ أراد أن ينتقم 
من الفعل المخزي الذي ارتكبه الرومان» ولا شيء أقل من ذلك. لا تسرد 
كتب التاريخ كيف تم قتل الإمبراطور الروماني» فهي تذكر فقط أنه وضابطه 
(التربيون) المخلص سيباستيانوس» و جميع الام الرومانيين» قد قتلوا. 

بعد أن حققوا النصر وأصبحت إدريانابوليس في متناول أيديهم؛ 

-432- 


كان القوط على وشك التوجه إلى البلدة عندما وصل جنود الاستطلاع 
إلى المعسكرء وأعلنوا أن جيش غراتيان قد وصل أخيراًء وهذا يعنى أن 
المدينة باتت تدافع عنها قوة ضخمة من جحافل الرومان. ولم يسبق 
لجيش القوطيين» الذي هو في الأساس جيش خيالة سريعى الحركة أن 
نعم أبداً التعامل مع جدران القلاع الضخمةء تحول القوطيون بعيداً 
عن أدريانابوليس وقاموا بتدمير تراقيا. تدميرهم الوحشي هذا لكنوز 
اليونان القدماء الرائعة والمعابد والآثار والكتاب المقدس» جعل التاريخ 
يخلدهم بلقب: «القوط الهمجيون)0©. 

في واحدة من المعارك العديدة التى دارت بين قوات النهب للقوط 
الغربيين والقوات الرومانية التي صمدت بقيادة الضابط (التربيون) 
بروموتوس» قل الأمير فريتيغيرن (383 م). 

من خلال القضاء على «الجيش الرومانى الأخير» بقيادة الإمبراطور 
فالنس؛ أصبحت معركة أدريانوبوليس نقطة تحول في التاريخ. لقد 
جردت الإمبراطورية الرومانية من دفاعاتها وأدت تدريجياً إلى انهيارها. 
وأحدثت ثورة في التاريخ العسكري: حيث تراجعت قوة المشاة أمام 
تشكيلات الفرسان. تمّ تحطيم جحافل روما تحت حوافر خيول الفرسان 
البرابرة. في عدة مناسبات في تاريخهاء عانت روما من عدد من الكوارث 
الماحقةء لكنها لم تكن حاسمة أبداً. أما معركة أدريانابوليس فقد كانت 
صراعاً ملحمياً. فقد هرت الإمبراطورية من أساساتها. وقد فاقت 
التهديد الذي مثّله هنيبعل بعد معركة كاناي» وأثبتت معركة أدريانابوليس 
نها نقطة تحول حاسمة في التاريخ. بعد هزيمة الإمبراطور فالنس» ظلت 
الإمبراطورية الرومانية لمدة خمسمائة عام تواجه الانهيار. 
21- يشير مصطلح القوطية إلى نوع من الكاتدرائيات التي كانت موجودة في العصور 
الوسطى التي تعبّر عن الأسلوب البربري في تشييدهاء ومن عمليات التدمير التي 
قأموا بها في تراقيا. 


.Prof. M. Bang, Cambridge Medieval History (vol. 1) راجع:‎ 4 


-433- 


بدأت فصول الدراما فى أدريانوبوليس عندما أخطأ أحد الجواسيس 
وأسس إمبراطور تحركاته الاستراتيجية على معلومات خاطئة. وقد تفاقم 
الأمر بسبب عدم الالتزام بالمنطق التكتيكي حينما دفع هذا الإمبراطور 
المهووس بالنصر جيشه ضد عدو منقسم» دون أن يستطلع عن مكان 
القوة الرئيسة الأخرى للعدو. وبضربة حظء ومع الظهور المفاجئ وغير 
المتوقع لحشود الفرسان الساحقة» حسمت المعركة. 

جعلت المعركة من القوط قوة كبرى» وتبدد الاعتقاد الروماني بأن 
الجنس البربري أدنى مرتبة منهم. في معركة أدريانابوليس» دمر آخر 
جيش روماني» وبذلك أصبحت نهاية الإمبراطورية الرومانية أمرا لا 
مهر منه. 


-434- 


الزصل السابع عشر 


عندما تنهار روماء سينهار العالم أيضاً 
سقوط روما 
4 آب عام 410 م 


«ظهر الملك ألاريك أمام روما المرعوبة» 
وحاصرهاء ونشر الفوضى واقتحم المدينة». 

« من كتاب المؤرخ أوروسيوس» 

كتب التاريخ السبعة ضد الوثتيين 

عام 414 م 


شعر الحاكم الروماني المسؤول عن منطقة جبال الألب الجوليانية 
بالانزعاج. ظلت حدوده هادئة لعدة سنوات» ومثلما كان يعتمد في عزلته 
على إيرادات عقاراته الغنية الواة قعة بالقرب من هي ركولانيوم وترك شخصاً 
آخر يقلق بشأن المقاطعة الملعونة» فقد استيقظ مذعوراً من أحلام يقظته 
حينما تجرأ فارس على الإعلان عن غزو البرابرة. لم يكتشف جنود 
ل ل ل ل وك 
أحصنتهم, لكنه كان يعتقد أنه قد تكون هناك قوة أكبر تسير خلفهم. 
حينها قال الحاكم يوليوس غايوس ليسينيوسء الذي كان يعلم أنه لم 
لور جد a‏ 


i ام‎ -| 
.Orosius, Historiae adversum Paganos, lransl. Rome, 2 راجم‎ 


-435- 


يكن جنرالاً عظيماً: «علينا أن نذهب إلى التلال لتلقينهم درساً. لقد مز 
وقت طويل منذ أن قمنا برحلة استكشافية. هذه المرة سوف نقوم بتدمير 
هؤلاء البرابرة» ولا نكتفي بهزيمتهم» لكننا سنقتل الكثير منهم حتى لا 
يعودوا أبداً!». لقد شعر أنه مع جحافله المنظمة من القوات المساندة 
من قبائل الإيلاريين» يمكنه التعامل سريعاً مع هذه الغارة. وذلك من 
شأنه أن يعطي هؤلاء المقاتلين القذرين» الكسولين» شيئاً يفعلونه. لكن 
يوليوس غايوس ليسينيوس لم يدرك ولم يحاول أن يعرف ما الذي 
كان ينتظره. بعد عدة أسابيع مات» وكذلك كان حال من تبقى من فيلقه. 
فهم لم يواجهوا قبيلة صغيرة من البرابرة» ولكن المنتصرين في معركة 
أدريانابوليسء القبائل القوطية! 

مع انتقال الوصاية على عرش الإمبراطورية الرومانية الغربية إلى 
الإمبراطور هونوريوسء الذي كان ذا شخصية كريهة وماكرة بشكل 
مفرط سرعان ما انتقلت عدوى المناخ الذي كان يعيش فيه البلاط والذي 

يتسم بالميوعة إلى مقاتلي الجحافل. فلم يعودوا يشتكون من الأجور 

ا فحسب» بل يشكون أيضا من وزن خوذاتهم ودروعهم الواقية. 
انهار الانضباط© وتم التخلي عن التدريب وأصبحت التمارين العسكرية 
مستهجنة» فقد السيف الروماني الرهيب مهابته. منذ وقوع الكارئة في 
أدريانابوليس» حط جيش روما الفاقد كفاءته من قدره أمام أعداته. عندما 
واجههم عدو شجاع» فضلوا عار الهروب على الصمود والإصرار الذي 
قاد أسلافهم | إلى العظمة. ومرة أخرى كانوا في مواجهة مثل هذا العدوء 
أمة محاربة شرسة على استعداد لاستتخدام القوة البدائية والعنف الجامح 
لنهب روما الخالدة. وكان يقودهم أحد المحاربين العظماء ء في عصره» 
وهو ألاريك القوطي. 

انضم ألاريكء أمير القوط الغرببين» إلى جيش الإمبراطور ثيودوسيوس 
كقائد للخيّالة. أثناء خدمته في الجيش الروماني؛ استغل الشاب ألاريك 





2- عن فيجيتيوس الذي كان مؤرخاً عسكرياً معاصراً. 


-436- 


وقته جيداً وتعلم كل ما في وسعه من قضايا الاستراتيجية العسكرية» 
التي كان يخطط لاستخدامها ضد مدربيه العسكريين. في عام 390 م» 
قاد مجموعة من الخيالة القوطيين ليغير بهم عبر نهر الدانوب» وكانت 
تلك هي المرة الأولى التي يختبر فيها هذا العدو المستقبلي دفاعات 
روما. تمكن الإمبراطور يودوسيوس» الذي تحدى سلطة الإمبراطور 
فالنتينيان الثاني ونازعه على التاج واضطر إلى خوض حرب أهلية» من 
إيقاف تقدم ألاريك من خلال عرض إجراء محادثات للسلام معه. في 
غضون ذلك» اغتصب جنرال روماني» هو ماغنوس كليمنز ماكسيموس» 
تاج غراتيان وواجه ثيودوسيوس في إحدى المعارك. بمساعدة جنرال 
من قبائل الفاندال وهو الشاب اللامع» ستيليكوء تمكن ثيودوسيوس من 
هزيمة مكسيموس. بهذا الانتصار» اتحدت الإمبراطورية الرومانية للمرة 
الأخيرة تحت قيادة حاكم واحدء هو ثيودوسيوس» الذي كان يقيم في 
القسطنطينية. أصبح ستيليكو «المحافظ على السلام» بحكم الأمر الواقع. 
بعد وفاة ثيودوسيوسء انقسمت الإمبراطورية بين ولديه غير الْأكْمَاءء 
أركاديوس في الشرق وهونوريوس في الغرب. 

أصبح هونوريوس قيصر الإمبراطورية الغربية الجديدة» لكنه كان 
إمبراطوراً بالاسم فقط؛ كانت كل السلطة تقع بيد ستيليكو» القائد 
العسكري صاحب المهارة والجرأة الكبيرة. كان الإمبراطور هونوريوس 
یکره ستيليكو بسبب نجاحه ونبله وشعبيته» لکنه كان الوحيد القادر على 
إنقاذ الإمبراطورية. أبقت سياسته المتسامحة البرابرة عند حدودهم» 
داستمروا في تزويد جحافل روما بالجنود. أصبح محبوباً جد من قبل 
جحافل القوات المساندة لدرجة أنهم اعتبروه والدهم» وحاربوا من اجل 
ستبليكو مثل بعض أفراد جيشه الخاص. 

في الوقت الذي أبقت فيه الاضطرابات الداخلية الإمبراطوريتين 
الرومانيتين منشغلتين على الدوام» بدأ خطر جديد يلوح في الأفق وينذر 
بالسوء قادماً من الشرق: فقد واجهت قبائل الهون بقيادة الملك أولدين 


-437- 


نفاد أراضي الرعي لقطعان خيولها الهائلة وبدؤوا في الاتجاه غرباً. 
ونتيجة لذلك» قام ألاريك ملك القوط الغربيين المنتخب حديثاً بخرق 
المعاهدة التي كان قد وافق عليها من قبل مع ستيليكو وشْنْ غارة جديدة 
على منطقة تراقيا (395م). وتجول في مناطق الريف كما شاء» وكان 
مقاتلوه القوطيون ينهبون ويقتلون. في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. 
سار ستيليكو مع جحافله لمواجهته» ولكن صدرت له الأوامر بالخروج 
من تراقيا من قبل أركاديوس الإمبراطور الشرقي الروماني» الذي كان 
أكثر اهتماماً بوجود جنرال قبائل الفاندال وجيشه الخاص إلى جانبه من 
اهتمامه بالدمار الذي لحق بأراضيه على يد المهاجمين القوطيين. وكان 
محقاً من إحدى النواحى؛ فقد كان ستيليكو هو رجل الساعة» فليست 
سوى براعته هی من اا الحفاظ على الإمبراطورية الرومانية 
المتداعية من الانهيار التام. لكن الضغوط على المقاطعات النائية اتسعت 
وزاد معها الخطر على قلب الإمبراطورية. : 

في عام (401 م)» وافق ألاريك على أن تدفع له فدية كبيرة من قبل 
مبعوثي الإمبراطور أركاديوس لإخلاء جزء من الإمبراطورية. كان 
ألاريك قد وضع عينه على المدن الإيطالية الغنية في الشمال. كان هذا 
يعني المواجهة مع جحافل الكونت ستيليتو في الإمبراطورية الغربية. قبل 
تمكن الكونت من وضع جحافله» قاجأ ألاريك الخط القتالي الروماني 
الصغير الذي كان واجبه الدفاع عن (ءء«1ا) الليمس© وعبر نهر 
الدانوب» وتدفق جيشه عبر جبال الألب جوليان. سادت حالة من الذعر 
عندما أصبح معروفاً أن الوجهة النهائية للقائد ألاريك كانت روما. هرب 
الإمبراطور هونوريوس من المدينة الخالدة إلى رافيناء وهي قلعة محاطة 
بأسوار عالية وأميال من المستنقعات التي لا يمكن اختراقها. لقد تحصن 
داخل قصره؛ محاطاً بمستشارين خائفين. 


3- كان الليمس هو الجدار الدفاعي الذي أقامه الرومان على طول نهري الدانوب 
ودرافا. 


-438- 


ماح الإمبراطور وهو يرتعش: «إنهم قادمون! لقد أغاروا على 
لإمبراطورية من قبل» ولكن ليس بهذا الحجم أبداً. من أي دين هم؟». 

«بعض البرابرة يسمون أنفسهم مسيحيين» لكن مسيحبي الإمبراطورية 
الشرقية يقولون إنهم ليسوا كذلك». 

«من المؤكد أن أفراد القوات المساندة من البرابرة في جيوشي... 
وف يمنعون هولاء الوثنيين من إيذاء إمبراطورهم المسيحي...٠.‏ لكنهم 
لم يفعلوا ذلك. 

كان تصميم ألاريك يشبه عناد كلب الصيدء وحصل من أولئك الذين 
خدموا تحت إمرته» على ولاءٍ أشبه بالتعصب. كان القتال من أجل الملك 
العظيم هو غاية المنى لكل شاب قوطي. ولأجل» مجموعة الخيالة 
العملاقة التي يقودها قام ألاريك باختيار الأفضل بين محاربيه. بعد أن 
هزم جحافل الحاكم ليسينيوس وعبر سلسلة الجبال التي تفصل وادي 
الدانوب عن البحر الأدرياتيكي» استولى ألاريك على المدينة الأدرياتيكية 
الرئيسية أكويليا ©» وأشعل النيران فيها. أدى حلول فصل الشتاء بشكل 
مبكر على غير العادة إلى توقف مسيرته نحو روما. أقام معسكرات شتائية 
لقواته في وادي بو. ترك الأمر للرومان ليخمنوا ما إذا كان سيقوم عند 
حلول الربيع بالانتقال إلى رافينا أو ميلانو أو روما. 
بريئر والدعوة إلى إقامة اتحاد بين قبيلة ريتيا في أعالي نهر الداتوب. 
تمكن ستيليكو أن يشتري بالذهب الروماني جيشاً يقاتل به» وبحلول 
أوائل الربيع» كان يقود قواته من المجندين عبر ممر القديس غوتهارد 
ويتوجه إلى ميلانو» التى كانت محاصرة من قبل ألاريك. 

۷١‏ تنس أيها الملك ألاريك» أن روما تعتمد على صداقته مع القبائل 





4- تقع بين مدينتي تريستي وفيئيسيا ولا زالت موجودة فيها كاتدرائيتها التي هي في غاية 
الروعة» مع أرضية فسيفسائية مدهشة وينصح أي زائر لفيئيسيا بزيارتها. 


-439- 


الألامانية والريتية». لقد كان هذا صحيحاً؛ فقد كان اسم ستيليكو يخلق 
الثقة والأمان بين العديد من القبائل البربرية. «وقد يأتون لمساعدة 
ستيليكو ويمنعوننا من غزو روما الغربية». 

«لم نأتٍ لغزو البلد. . حروبنا ليست موجهة أبداً نحو الاستيلاء ء على 
الأرض» بل على حمل الغنائم ( إذا طّلب منه التقدم بسرعة كبيرة فقد 
علم أن رجاله سيطيعونه ويتبعونه بدلاً من التوقف على فترات متكررة 
للنهب. لقد كانوا فى عمق مجال العدوء وإذا توقفوا للنهب وفرقوا 
قواتهم» فسیقتلون جميعاً. 

من أعالي الدانوب» وجه ستيليكو الدعوة إلى فيالق حامية روما في 
بلاد الغال وعلى طول نهر الراين للانضمام إليه في ميلانو. عندما سمع 
الملك القوطى بخطط ستيليكوء توجه لملاقاته مما أدى إلى حدوث 
ثلاث مواجهات غير حاسمة. الأولى كانت في آذار عام (402 م) بالقرب 
من مدينة آستا. وانتصر فيها ستيليكوء وبعد ثلاثة أسابيع» في 6 نيسان» 
هاجم ستيليكو بشكل مفاجئ معسكر ألاريك بالقرب من بولینتیاء بینما 
كان القوط منشغلين بالاحتفال بعيد الفصح. سارت بداية المواجهة 
لصالح ستيليكوء حتى جمع ألاريك مقاتلي سلاح الفرسان القوطي معا 
وبعد ذلك ألحق خسائر كبيرة بالرومان ومرتزقتهم» من قبائل الألاني 
وبينما كانت هذه المعركة تدور خارج المخيم» شق ستيليكو ومفرزة 

من الفرسان الرومانيين طريقهم 0 
الس . مرة أخرى» لم يتم حسم أي 
شيء» ودفع هونوريوس فدية لإخراج ألاريك من إيطاليا. في غضون 
عام عاد القوطيون. في حزيران 3 م“ واجه ستيليكو ألاريك بالقرب 
من فيروناء حيث تمكن أخيراً من إيقاف تقدم ألاريك إلى وسط إيطاليا. 
بعد هذه المعركة» التي استنزفت الجانبين» بدأ الزعيمان في العمل بتجارة 
الخيول. تخلى ألاريك عن «ولائه» للإمبراطور الشرقي أركاديوس 
مقابل تعبينه حاكماً عاماً للإمبراطور هونوريوس على إقليم إليريوم. 

-440- 


بهذه الطريقة» استعنوذت روما الغربية على إليريوم من القسطنطينية» لأن 
ألاريك كان حاكمها طوال الوقت» وإن كان قد عيّنه أركاديوس. 

وقع الإمبراطور الغربي على ورقة من البرشمان بختمه على الصفقة. 
ولتجنب أي فرصة لحدوث مزيد من الإساءة إلى القوطيين وملكهم 
امتثل الإمبراطور هونوريوس لجميع نزواتهم ومطالبهم. إذا أظهر هذا 
الأمر ضعفه» فلن يتحمل المسؤولية إلا هو نفسه. على المستوى الشعبىء» 
كان يُنظر إليه على أنه مجرّد شخص منغمس بشهواته» شبيه آخر لنيرون 
الذي كان يسلي نفسه بينما كانت روما تحترق» وبسبب عدم الصدق 
الذي أظهره في أعماله المختلفة المتعلقة بالرشوة والمراوغة» لم يثق به 
القوطيون تماما. بدأ فساد السلطة وإشباع رغبات الإمبراطور باستنزاف 
الاعيراطووية: 

بينما كان ستيليكو يشتبك مع ألاريك» كان هناك جندي روماني سيط 
يخدم في حامية في بريتانياء وهو قسطنطينوسء قد أعلن نفسه إمبراطوراً على 
بريتانيا وبلاد الغال ونصب نفسه من خلال تقاسم السيطرة مع البرابرة الذين 
غايتهم السلب والنهب. أنهى تمرد قسطنطينوس حكم روما على بريطاتياء 
وببقائها بدون حماية من جحافل روماء تركت الجزيرة عرضة للعديد من 
الغزوات من قبل قبائل البيكتس» والاسكتلنديين وقراصنة البحر الساكسون. 

كان ألاريك وستيليكو خصوماً فى ساحة القتال» لكنهما كانا معجبين 
ببعضهما أيضاً كما هو شأن أغلب المحاربين. كان رجال قبيلتي الفاندال 
والقوط» وكلاهما من البرابرة» يتحدئون عن صلابة قادتهم. لقد اتخذا 
قرارات تسوية النزاع دون الإشارة إلى الإمبراطور الذي كان يجلس 
خلف أسوار رافينا. أدى هذا الأمر إلى أن يصاب الملك هونوريوس 
الغيور بجنون بنوبة غضبء واعتقد أنه كان مستبعداً عن شؤون الدولة. 
أدى حبسه لعدة أشهر خلف جدران قصره دون أن تكون لديه أي فكرة 
عما كان يحدث في الخارج» إلى زيادة أعراض الجنون لديه. 


3- ورق نفيس شبيه بالرقوق. المترجم. 


-441- 


تآمر هونوريوس مع ثلاثة من الجنرالات الرومان الأرستقراطيين» وهم 
توربيليوس وفارنيس وفيغيلاتيوس والأخير كان شخصية بغيضة جعل من 
اسمه مرادفاً لوحدات القتل المرعبة فيغيلانتي: تأسوااع1؟؟؛ للتخلص من 
ستيليكو ثم إبعاد جميع قادة الفيلق البربري واستبدالهم برجال موالين 
لهونوريوس فقط. تمّ التخطيط لعملية القتل بعناية حتى يتم القبض على 
أقرب مساعديه في المصيدة نفسها. لم يفكر هولاء اثلاث في حقيقة أن 
جميع الضباط الميدانيين الأكفاء قد جاؤوا من صفوف قوات البرابرة 
المساندة وأن مثل هذا التطهير قد يضعف جحافل روما إلى حد لا شفاء منه. 

أدى اغتيال ستيليكو (408 م) أخيراً إلى نهاية روما. أقام هونوريوس 
وة عل شرك ملكو يتما كان خالا على طاولة إمتراطورزة؛ 
اقتحم الحراس المسلحون القاعة وغرزوا سيوفهم في ستيليكو ورفاقه. 
بعدها قامت وحدات سلاح الفرسان» ووحدات القتل المعروفة باسم 
الفيغيلانتي» بالتجول في جميع أنحاء الجحافل في شمال إيطاليا ويدأت 
بذبح معظم مساعدي ستيليكو. تم القبض على وحدات من القوات 
المساندة من قبائل الريتي» والألاني» وا لإيليريان والغال وهي في وضع 
ئس؛ وكانت عوائلهم» التي استقرت في المدن الإيطالية» قد احتجزت 
كرهائن من قبل قوات الفيغيلانتي لمنع مقاتلي الجحافل من القيام بأي 
رد فعل. في تلك الساعة الحرجةء لجؤوا إلى عدوهم السابق» الزعيم 
القوطي ألاريك. كان ألاريك شخصاً يتتهز الفرص وأدرك أن ذلك هو 
المدخل الذي سيسمح له بتحقيق حلمه؛ الاستيلاء على روما. 

في عام (409 م)» عبر ألاريك» على رأس جيش جرارء جبال الألب 
ودخل البلدة الرئيسة أكويلياء حيث استقبله بترحاب مقاتلو جحافل 
القوات المساندة عند وصوله. وتابع مسيرته إلى الأسفل على طول 
معسكرات المجندين الإيطالية دون مواجهة أية مقاومة تُذكر. هرب 
الإمبراطور هونوريوس» الذي تعرض للخيانة من قبل المتآمرين» ليحتمي 
من جديد وراء جدران رافينا وترك روما تدافع عن نفسها. 

-442- 





في القاعة الكبرى التي كانت فارغة تقريباً. واجه هونوريوس» وهو 
يرتعش أمام النار محاولاً تدفئة نفسه» أحد ضباطه (التربيون) بالقول «قل 
لى بماذا يتسلح هولاء البرابرة؟2). 

«بالرماح والسيوف» جلالة الإمبراطور). 

«اذاً هم فرسان فقط ولا يستطيعون تسلق الجدران». 

انحن نعتقد ذلك» جلالة الإمبراطور». أبهجت الإمبراطور فكرة أن 
سلامته مضمونة. في المرة الأخيرة ترك البرابرة أسوار رافينا العالية ولم 
يحاولوا تسلقهاء وسيفعلون ذلك مرة أخرى» هكذا كان يأمل على الأقل. 
جرد هونوريوس المناطق الريفية المحيطة بمدينة رافينا من إمداداتها 
الغذائية» ودعا جنوده الموالين القلائل إلى التجمع من حوله في حصن 
رافينا؛ وبالتالي استمر في ترك روما تدافع عن نفسها. 

بحلول خريف عام (409 م)ء قام ألاريك بالتخييم حول مدينة روماء 
التي يبلغ عدد سكانها مئة وعشرين ألف نسمة» ومحمية بجدران هائلة 
ويمكن الوصول إليها عبر اثنتى عشرة بوابة. والحقيقة كانت نقطة 
الضعف الوحيدة التي أظهرها البرابرة أنهم كانوا غير مسلحين جيداً 
بحيث يستطيعون الاستيلاء على الأماكن المحصنة من خلال شن هجوم 
عليها. لم يكن لديهم معدات حصار ولا تقنيات لتسلق الأسوار. ولكن 
كانت هناك وسائل أخرى للتغلب على الأسوار. لم يكن يجب على المرء 
أذ يتسلقها لكي يستولي على المدينة. لم يكن ألاريك يملك المقاتلين 
الكافين لاقتحام الجدران, لكن كان لديه الوسائل لمحاصرة البوابات. 
كانت جميع [مدادات المدينة الضرورية تصل عن طريق السفن على نهر 
تيبر من ميناء أوستيا. بقطع خطوط الإمدادات» سيحكم ألاريك على 


دما بالموت جوعاً. لم يمر وقت طويل حتى بدأ الناس يعانون من الجوع. 


اكتشف الأفراد من كلا الجنسين» الذين كانوا معتادين على 
التمتع بالراحة والرفاهية» كم كان شحيحاً توفير متطلبات الطبيعة 


-443- 


الضرورية؛ وأنفقوا بسخاء من كنوزهم الفريدة من الذهب 
والفضة للحصول على الأطعمة الرديئة والمكشوفة للهواء التي 
كانوا يرفضونها في السابق بازدراء. بدؤوا يلتهمون بنهم الطعام 
المكروه والذي كان يجعلهم يشمئزون» أما الغذاء الأكثر ضرراً 
وأذى لجسم الإنسان» فقد كان يتم التنازع عليه بشدة» بسبب ثورة 
الجوع. كان هناك شك غامض في أن بعض المنهكين اليائسين 
يتغذون عم A‏ قرا ويقال إن حت 
الأمهات ذقن لحم أطفالهن المذبوحين©. 


جاء وفد من المواطنين يتوسل إلى ألاريك. الذي رفض النظر في 
قضية ا لقطاعات من السكان بمغادرة المدينة التي خربها الوباء. 
وكان ردّه: "كلما زادت سماكة القش» كلما أصبح تحريكه سهلاً». يمكن 
أن أعيد النظر فقط في حالة إذا قدمتم لي كل الذهب والفضة الموجود في 
مدينتكم. وكل شيء نفيس في حيازتكم وكل إخواني الذين جعلتموهم 
عبيدا لكم». 

صدم الأرستقراطيون بالأمر: «مطالبك كثيرة» أيها الملك العظيم. وما 
الذي تنوي تركه لنا؟». 

ااحياتكم!). 

تمكن عدد قليل من الرومان من الفرار من المديئة. وجلبوا معهم 
إلى رافينا حكايات عن البؤس الذي تعرضوا له وعدم الجدوى عر 
من استمرار المقاومة. قام الإمبراطور بمواساتهم» لكنه لم يفعل شيئا 
آخرء تاركا أ لأبناء روما مسألة الدفاع عن أنفسهم. نوست عار 
إلى المدينة المحاصرة بأن لم يعد بإمكانهم الاعتماد على مساعدة من 


إمبزاطور هة رادذلك بن خافن دحت جج الول والحيوانات» 
وكانت الكللاب والقطط تباع باز عالية. حتى الحشرات افحت 


FL, Gibbon, The Decline and Fall of the Ronun Empire (XXXI), راجع:‎ 6 
New York, 1951. 


-444- 





نادرة. ومع المجاعة جاءت الأمراض. . بينما دمرت الأويئة روما وقلصت 
إرادتها في القتال بسبب المجاعة والحمى» » ترك ألاريك جزءاً من جيشه 
لمواصلة الحصار. وذهب مع البقية إلى معسكراتهم الشتوية في توسكانا. 
عندما حل الربيع» لم يذهب ألاريك إلى روما؛ بل توجه إلى رافينا. 


imperial Rome Surrounded 0 the Aurelian Wall 
24 Augusl 4ه‎ 












PMepubicen Wall‏ وعمهة وده 
uN‏ رو وسيم mons‏ 
IIE Mario's bican foro‏ 






-445- 


اارافينا مدينة منيعة» يا مولاي). 

«أنا أعلمء وسافتقد تعضأ من أفضل المحاربين» فهم يمسكون بروماء 
لکنا سنستولي الآن على رافينا وبعدها نتوجه إلى روما». 

«جلالة الملك» من غير المنطقي أبداً الاهتمام بالمدينتين في وفت 
واحد)» تجرأ أحد مستشاريه على الإشارة إلى هلا الام 

(وفر علي حكمتك. نعم» قد نفقد واحدة إذا حصرنا اهتمامنا 
بالأخرى. ولكن بمجرد أن نستولي على رافينا ونعاقب الخائن» فإن روما 
ستسقط دون قتال). 

كان مستشار ألاريك على حق؛ لم يستطع جيش ألاريك تحمل عبء 
مدينتين عظيمتين في الوقت نفسه. حاول اقتحام رافينا وفشل. كان جزء 
كبير من أسباب ما حدث له علاقة مع غزو بعوض المستنقعات» الذي 
قلّص قوة رجاله» لأنهم سقطوا ضحية للحمى (الملاريا). بعد أسابيع من 
الإحباط» قاد جيشه إلى الجنوب لتعزيز حصار روما. هذه المرة لم يعد 
بحاجة إلى سيوف حادة للتغلب على أسوار المدينة؛ جاءته المساعدة من 
الداخل. في طلعة جريئة» تمكن بعض الرومان من اختراق الدفاعات عن 
طريق التدفق أسفل نهر التيبر. وقدموا لألاريك بعض الأخبار المفرحة. 

حين قابلوه أخبروه قائلين: «أيها الملك ألاريك» سيستولى إخواننا 
على اا الموحودة عند وة اران وجرن لارا ان 
جيشكم). تم التخطيط للانقلاب ليلة 24 آب عام (410 م). تجمع 
E‏ مع القوط في عدة منازل بالقرب من الجدران. . في منتصف 
الليل» شق العشرات من المسلحين المؤيدين للملك القوطي طريقهم 
عبر الأزقة الضيقة باتجاه بوابة سالاريان. بعد اشتباك قصيرء تغلبوا على 
الؤدافيق الدين ي ي ومن ثم قطعوا الحبل الذي يحمل الجسر 
المتحرك والذي بسقوطه أحدث دوياً انتشر صوته في جميع أنحاء العالم 
المسيحي. اقتحمت جحافل الفرسان القوطيين المدينة الخالدة. أول 
ما عرف الرومان عن سقوط بلدتهم كان حين سماعهم أبواق الحرب 

-440- 


القوطية العالية والضجيج الذي تخلفه حوافر خيولهم وهي تعدو على 
الأرصفة. 

ظهر ألاريك أمام روماء وفرض حصاراً ونشر الفوضى واقتحم 
المديئة. حقق ملك البرابرة ما لم يستطيع تحقيقه أحد من قبل» فلم يحدث 
أن دخل الجيش الغازي الأجنبي إلى روما المقدسة؛ ولا حتى هنيبعل 
تمكن من تحقيق ذلك. وهكذا فإن غطرسة ألاريك قد دفعته للاستيلاء 
على العرش الذي استولى عليه أباطرة روما لمدة أربعة قرون. 

لم يأت ألاريك ورجاله لغرض احتلال روماء بل لنهبها. وأعقب 
دخوله المتتصر حملة «لنهب روما» - كانت عبارة عن ستة أيام من 
النهب والحرق والاغتصاب. وبعد شعور بالإحباط لعدة أشهر لوقوفهم 
أمام البوابات المغلقة» أطلق القوطيون العنان الآن لوحشيتهم المكبوتة. 
تعرضت روما للفظائع التي تلت ذلك الحدث عندما اجتمع النصر مع 
الوحشية ومع الفوضى. تم السماح لكل عاطفة شريرة بالظهور دون 
أن يعاقب عليها أحد» سادت حينها أعمال الانتقام والشهوة والجشع. 
روما لم تعد موجودة...» في أكبر عملية نهب شهدها تاريخ البشرية» 
تم نهب روماء مركز الكون وحامية كل كنوزه المسروقة. تم نهب كل 
شيء ولم يتبق شيء. سرقت من المعابد والكنائس جميع الأيقونات 
وكؤوس الشراب المقدس الفضية؛ وتم إفراغ القصور الرائعة من الكنوز. 
أي شيء يمكن حمله كان مكدساً بأكوام عالية في العربات» وما كان لا 
يمكن إزالته تمّ تحطيمه؛ أو تكديسه وحرقه. كان المحاربون القوطيون 
يقودون العربات الرائعة» ويرتدون الملابس الفاخرة. تمّ إفراغ أقبية النبيذ. 
واندلعت المعارك بين اللصوص المخمورين. 

في الأجزاء الأكثر فقراً فى المديئة» حيث عير على الأشياء القليلة 
القيمة» كان القوطيون الذين ينهبون غاضبين لدرجة أنهم أحرقوا المنازل. 
دأججت الرياح القوية النيران وطار الشرر فوق أسطح المنازل» واشتعلت 
نيران في أجزاء كثيرة من المدينة. وبينما كانت الثيران تلتهم أجزاء كاملة 


-447- 


من المدينةء كان الناس يقفون بلامبالاة. سقط قصر سالوست الرائع 
ضحية للحريق الهائل. أخفت سحابة سميكة من دخان الزيت الرعب. 
كانت الرائحة الكريهة للدخان والموت منتشرة في كل مكان. وكما هو 
الحال دائماء كان الأسوأ ينتظر السكان البائسين. جردت النساء النبيلات 
من ملابسهن وأجبرن على السير في الشوارع عاريات ليعانين من آلام 
. الاغتصاب الوحشي على أيدي حشود من السكارى. كانت الفتيات 
الصغيرات يتعرضن للضرب الوحشي أمام أسرهن. كان يتمّ سوق أرفع 
الأرستقراطيين مكانة في المدينة مثل الماشية» ويتمّ صلبهم بالمسامير 
أو لكي يقوموا بجمع العديد من الجثث المشوهة المتعفنة في شمس 
الصيف الحارة؛ وأصابتهم الأمراض بسبب ملامستهم لجثث الموتى 
وباتوا قريبين من الموت بسبب المعاناة الرهيبة. اقتيدت النساء إلى 
خيام المحاربين أو وَضِعن في أقفاص للبيع في أسواق العبيد. أما أولئك 
الذين «لا قيمة لهم»؛ فهم الذين ظلوا يعيشون في ظروف طبيعية فيتركون 
بمفردهم» حتى يتم بيعهم أو ذبحهم. وأولئك الذين نجوا بمعجزة» فلم 
يعودوا يتصرفون مرة أخرى بشكل طبيعي؛ أصبيحت عقولهم مختلة 
بسبب الرعب الذي عانوا منه. 

كان هناك استثناء واحد ملحوظ. لم يكن ألاريك ملحداً تماماًء لأن 
الإلحاد لم يكن من سمات البقاء على قيد الحياة في عالم يضم عدة 
آلاف من الآلهة» ولم يهتم كثيراً بأي من الآلهة. لكن كان هناك نبي واحد 
أطلقوا عليه اسم «كريستوس»» وكان كثيرون يتبعون تعاليمه وكان هو 
يتجاهلها. لقد اعتقد الملك القوطي أنه من الحكمة عدم مواجهة الإله 
المسيحي الوحيد وممثله على الأرض. لذلك أعطى أوامر صارمة» تصل 
عقوبة من يخالفها إلى الموت» لحماية قدسية باسيليقا” القديس بطرس 
والقديس بولس .كان العديد من أصحاب النفوس الضائعة والرهبة» الذين 
كانوا يأملون في أن بقاءهم بالقرب من إلههم من شأنه أن ينقذهمء قد 


7- كنيسة رومانية. المترجم. 





-448- 


اختبؤوا في سرداب الكنيسة وكانوا يرتعدون خوفاً وهم حول المذبح 
عندما اقتحمت المكان مجموعة من القوطيين السكارى. وقف محارب 
عملاق عند مدرجات الكنيسة وكان يلوح بسيفه الطويل وغايته ذبحهم. 
لقد فعل ذلك بهدوء تام» كما لو كان يقطع الخشب. عندما تم إبلاغ 
ألاريك بالحادث» أرسل دورية من الجنود وأمر بإعدام جميع المشاركين 
في تدنيس المكان المقدس فوق مدرجات الكنيسة. ثم أمر بترك جثثهم 
ملقاة وسط ضحاياهم ليكونوا عبرة للآخرين. 

لقد شعر القديس أغسطينوسء أسقف مدينة هيبو أو بونة (مدينة بونة 
في الجزائر تسمى حاليا عنابة)» الذي كان يعيش في عزلة طوعية في زنزانة 
صغيرة للتفكير في أحداث العالم والدين» بالرعب الكافي بسبب ما جرى 
من أعمال نهب في روما جعله يقول في كتابه Retractions)‏ التراجع»: 
تعرضت روماء في ذلك الوقت» إلى غزو من قبل القوطيين تحت حكم 
الكلك ريات وج ابه س ي الب حماسا ليت 
الرب» وأنا مصمم على كتابة بحث عن مدينة الرب. 

لم يكن البقاء في روما شيئاً جيداً بالنسبة لرجال ألاريك. على مدى 
ستة أيام انغمسوا في أعمال المجون واللهو بشكل غير محدود. هددت 
المشاحنات والصراع على الغنائم وتأثير طريقة حياة الرومان القاسدة 
والفاخرة بتدمير روحهم القتالية» ولم تترك أمام الملك ألاريك أي خيار 
سوى إخراجم بالقوة من المدينة الخالدة. لم يكن القوط يشمئزون من 
ممارسة أعمال التعذيب لغرض الحصول على اعترافات بالقوة عن 
مواقع الكنوز الخفية» وأصبح الأمر سيئاً لدرجة أنهم قتلوا بعضهم بعضا 
بسبب حيازة أشياء ثمينة. بعد ستة أيام من أعمال القسوة والانغماس في 
الشهو ات والنهب» أمر ألاريك جحافله بمغادرة المدينة. 

لم يكن هناك على الإطلاق سرد دقيق لعدد الضحايا الذين سقطوا 
خلال نهب المدينة. من المعروف بشكل واسع أن معظم مواطنيها الشرفاء 
انتهى بهم الأمر كعبيد. لكن بما أن البرابرة فضلوا الذهب على العبيد» فقد 

-449- 


تمكن بعضهم من إعادة شراء حريتهم مقابل مبلغ متواضع نسبياً من المال. 
أولئك الذين لا يمكن بيعهم لتجار الرقيق السوريين» أو الذين أثبتوا أنهم 
عديمو الجدوى أو أنهم كبار في السنء تم إعدامهم ببساطة قبل أن ينطلق 
الجيش رار في مسيرنه لبحو كاميانيا. كان ينتظر عاصمتها الجميلة» 
کابوا» مصيراً ممائلاً. هبت المدينة» لكن مواطنيها سلموا. حينها تعلم 
القوطيون الاستمتاع بدفء أشعة الشمس الجنوبية وملذات النبيذ الجيد. 
لقد تم نسيان سنوات المصاعب التي مروا بها على طول جبال الإلب ونهر 
الدانوب. أصبحت قبائل الهون مجرد ذكرى لماض بعيد. 
لم يسمح الوقت للفاتح ألاريك بالاستمتاع بثمار ما نهبه. ريما لسعته 
بعوضة تحمل مرض الملاريا خلال الحصار السابق لرافينا. وبينما كان 
يستعد للعبور إلى صقلية» لزمته حرارة شديدة» واستمرت لعدة أيام» 
جعلته يتقلب في فراشه في المعسكرء وكان يستحم بعرقه ويرتعش من 
البرد. في ساعاته الأخيرة» استدعى أثولف. الذي أورثه مملكته. بعد 
ار وخر زوه توش ف ا ا 
بعد ذلك أنها كانت طريقة الرب لمعاقبة الوثنيين. 
كانت جنازته مذهلة مثل حياته وأظهرت الطابع الشرس للبرابرة. 
اضطر الآلاف من العبيد لبناء سد من أجل تحويل مياه نهر بوسينتوء الذي 
يمر تحت جدران كونستتيا. كان هذا البناء مهمة ضخمة غرق خلالها 
الكثيرون. تم إنزال ا الملكي» المحشو بغنائم روما الذهبية» إلى 
0 النهر الفارغ ثم تمّ استعادة المياه إلى قناتها الطبيعية. للحفاظ على 
وء ملكهم لم أثناء موته» ولإخفاء الموقع عن صيادي الكنوزء 
LEDS‏ شقوا حناجر كل 
واحد من آلاف العبيد الذين عملوا هناك. لم يكتشف أحد على الإطلاق 
السر» وما زال كنز ألاريك في نهر بوسينتو موجوداً في مكان ما ينتظر من 
مع وفاة ألاريك انتهى فصل في التاريخ. تزوج خليفته» أثولف» من 
-450- 


غالا بلاسيديا شقيقة اللإمبراطور هونوريوس» ثم غادر مع رجاله لغزو 
بلاد الغال (فرنسا) وإسبانيا (415 م). بعد سئوات عديدة من التجوال» 
استقر القوط الغربيون أخيراً في منطقة آكيتين (فرنسا)» حيث أسسوا أول 
إمبراطورية بربرية : قتل أثولف» وأصبح والياء الذي حل محلهء أول ملوك 
تولوز (419 م). هناك رة بقى القوط الغربيون. مستقرين بسلام» يحرثون 
حقولهم» حتى اجر خطر جديد على الاستيقاظ من طمأنينتهم 
لمواجهة عدوهم الأكثر فظاعة حتى ذلك الحين في مجال الذبح. في 
عام (451 م)» التقى ثيودوريك ملك القوط الغربيين مع تيلا زعيم قبائل 
الهون©. 

في عام 452» غزا أتيلا زعيم قبائل الهون إيطاليا. التدخل الإلهي الذي 
تمثل في الشخص الذي يمثل الرب على الأرض» وهو البابا ليو الأول - 
وحقيبة الذهب الخاصة به - هو الذي أنقذ روما. ثم» عانت روما في عام 
55 م» من غزو آخر من قبيلة جرمانية» وهي الفاندال تحت قيادة ملكهم» 
ارىك 

جرت الأمور هكذا: 0 فالنتينيان الإمبراطور الذي كان غيوراً بقتل 
خر القادة الرومان» متمثلاً بشخص أيتيوس الذي كان منتصراً على قبائل 
الهون. قام بيترونيوس ماكسيموسء الذي كان تحت وصاية أيتيوس» بقتل 
فالنتينيان واغتصب التاج من خلال إجبار أودوكسياء أرملة الإمبراطور» 
على الزواج منه. فلجأت أودوكسيا إلى غايسيريك ملك الفاندال» فقام 
بقتل الوإمبراطور بترونيوس ماكسيموسء وقام رجاله بنهب روما. وفي 
المشهد الاخير للأحداث. قام غايسيريك بخطف أودوكسيا. 

كان ميراث ألاريك فظيعاً. كانت روما قد نجت من الهجوم الذي شنته 
قبائل الأتروسكي» والقرطاجيين» والكيمبري» والهلفيتس» والغاليين 
دبلجيا. ولكن لم يكن أي منهم مثل القوطيين» الذي تبين أنه العدو الذي 
8- 


راجم كتاب المؤلف (العامل الحاسم دور الصدفة والغباء في التاريخ). صدر عن دار 
المدى, 


-451- 


سدّد أخيراً الضربة القاضية. لم تعد روما الخالدة كما كانت موجودة منذ 
قرون» حيث البلاط الرائع للأباطرة العظماء» والمدرجات والحمامات 
العامة المشيدة من الرخام» والمساكن التي تضم كنوز العالم والمعابد 
البيضاء مع أعمدتها الممشوقة المسروقة من أضرحة الإغريق» لم تعد 
روما موجودة. 

«تم تدئيس المعبد» ونهب الذهب» وعجلة الحظ قد أنجزت 
ثورتهاء وتشرّهت الأرض المقدسة مرة أخرى بالأشواك والعليق. 
كانت تلة الكابيتول تمثل سابقاً رأس الإمبراطورية الرومانية» وقلعة 
على الأرضء وترهب الملوك؛ برهنت على ذلك خطى العديد من 
الانتصارات» عززتها غنائم وإكاليل الغار من العديد من الدول... 
صروح الدولة والأفراد التي تأسست من أجل الخلود بدت مستلقية 
على الأرضء جرداء ومتهشمة» مثل أطراف عملاق عظيم؛ والخراب 
الأكثر وضوحاً كان في الآثار المذهلة التي نجت من جروح الزمن 
والقدر». هذه الكلمات كتبها بعد ألف سنة» في عام 1430ء الكاتب 
بوجيو في كتابه تنوع الثروة .De 721161216 fortunae‏ 

كانت روماء هي القوة الوحيدة التي تجاوزت حدودها الوطنية على 
مدى قرون» والتي حافظت على القانون وبقاء الحضارة الغربية» وها قد 
ياك ومعها مات الأمل في المستقبل القريب في عالم أصبح مجئوناً. 

لم يحدث سقوط روما بسبب قوة الشجاعة ولكن من خلال المؤامرات 
والخيانة. تغلب بضع عشرات من الرجال على الحراس وأسقطوا الجسر 
المتحرك ورفضت جحافل روما من القوات المساندة القتال من أجل 
بقاء الإمبراطورية. 

لم تكن قبائل القوط والفاندال والهون ولانغوباردس هي الوحيدة 
التي هزمت روما. كان زوال القوة العظمى في العصور القديمة أمراً لا 
مفرٌ منه بمجرد حدوث انهيار اخلاقي في مجتمع روما وأباطرتها. 

في اليوم الذي خبا فيه «مجد روما»؛ بدأت العصور المظلمة. 


-452- 


الخاتمة 


«ويل للمهزومين!» 


ياعزيزي غولاكن «لن تكون هناك نهاية 
لمشاكل الدول» أو في الواقع للبشرية نفسهاء 
إلى أن يصبح الفلاسفة ملوكاً لهذا العالم» أو 
حتى يصبح الذين نسميهم الآن الملوك والحكام 
فلاسفة) . 


٠‏ أفلاطون» كتاب الجمهورية (القرن الرابع ق-م) 


كانت المسيرة التي بدأت منذ معركة مجدو حتى سقوط روما مثل 
السير على حافة الجحيم. 

نحن جميعا لدينا نزعة إلى تمجيد الماضي؛ ونسميه بالعصر الذهبي. 
وهكذا نفقد العديد من قطع ألغاز التاريخ الكبيرة. لم يصمد الكثيرون 
أمام ويلات الزمن والهمجية. لقد نجحت الصروح الرائعة» التي تعرضت 
لتقلبات الطبيعة» في النجاة من العواصف والأمطار والزلازل» ولكن لم 
تنج من التدمير الوحشي من قبل الإنسان. أطلال العصور القديمة تنتشر 
في الحقول غير المزروعة. لم يترك البابليون سوى جدار المعبد؛ دمر 


-453- 


الإغريق بيرسبوليس. قام الرومان برش الملح في قرطاجء ثم تمكنوا 
من إضرام النار في العديد من مجلدات الفلسفة الغربية في الإسكندرية؛ 
وجردت الكنيسة الكاثوليكية المدرج الروماني من الرخام. انظر إلى آثار 
روماء صورة عظمتها الأصلية. لا يمكن للزمن ولا البرابرة أن يتباهوا بمزايا 
هذا التدمير الهائل: لقد ارتكبه مواطنوهاء من قبل أبنائها الأكثر شهرة. لقد 
حققوا بواسطة آلة الكبش ما لم يتمكن البطل البوني من تحقيقه بسيفه. 

وترك لنا القدماء أيضاً فكرتهم عن الحضارةء والخير والشر. . لقد كانوا 

عاة للجمال ومظاهر الفضيلة . لكنها كانت هناك أيضاً المتتجات البربرية 
ا ا 1 0 
مارسوا أعمال فسق كانت تنتهك أي قانون دون الخوف من عقاب. وهذا 
أدى إلى انهيار الأخلاق» وسقوط الإمبراطوريات العظيمة. لم يكن هناك 
شيء أبدي. 

لعب الزمن بعض الحيل المثيرة للاهتمام حول تفسيرنا للعصور 
القديمة. نحن ننظر إلى المصريين والإغريق والرومان كممثلين بطوليين 
لبعض الزمن الذي كان نبيلاً بشكل لا يصدق» والحبكة المركزية فى 
دراما سوفوكليسء التي تمثل زسالة توراثية حيث ينتصر الخير على الشر, 
ومع ذلك» في كل هذه القصص القديمة عن الخير والبهاء كان هناك 
عنصر واحد مفقود: العنف» والوحشية» والجهل والقسوة التي هزت 
عالم العصور ا . شنت الحروب بوحشية مطلقة ودُبح المهزومون 
لآخر رجل وامرأة وطفل. الشفقة لم تكن معروفة. دنست دماء الأبرياء 
الأراضي المقدسة والتراب المقدس. 

كان مفتاح العظمة (وكما لا يزال حتى وقتنا الحاضر) هو الغزو. كان 
الدافع للكثير من المعارك الكبيرة في العصور القديمة الحصول على 
المكاسب الإقليمية. . تمّ تحفيز الآخرين عن طريق العاطفة والانتقام. ی 
أكثر الأحيان» كان الدافع لها امتلاك الثروة المنقولة» والذي يتلوه انغماس 


„Francesco Petrarca (Petrarch), 1304-74 : ر اجع‎ -1 


-454- 


مرغوب في الشهوات وأعمال القسوة» كانت صروح القياصرة الرائعة 
تهدم ونّسوّى بالأرض أو يتمّ حرق المبادئ الملهمة للفلاسفة اليو انيين. 
المثال الرئسن: لذلك هو تدمير أعظم معلم في العالم للفكر الحرء مكتبة 
الإسكندرية. فقد شارك الجميع في تدميرها: قيصر. المحاصر داخل 
جدرانه» في محاولة لحماية نفسه وراء ستار من نيران المخطوطات التي 
لايمكن تعويضها؛ والأساقفة المسيحيون. الذين اعتبروا الأفكار الليبرالية 
الفلسفية تدعو إلى الوثنية؛ وأتباع النبي محمدء الذين كان يحركهم جهل 
متعصب. قبل إضرام النار في المكتبة العظيمة» أمر الخليفة عمر أتباعه: «إذا 
كانت كتابات الإغريق هذه تخالف كتاب الله» فهي ضارة ويجب تدميرها». 

كانت تعقب غزو التراب الأجنبى مواجهات قصيرة ومكثفة ونوبات 
قضيزة من القتال المحموم .امتذت تداعياتها إلى ما هو أبعد من الزمان 
والمكان. كانت الفوضى العسكرية التي تتبع دائماً الثورة السياسية 
في «مهد الحضارة»» تغري الآخرين بغزو أو احتلال أو ببساطة تسوية 
الحسابات مع البلدان الجارة الأكبر والأكثر اكتظاظاً بالسكان» كما فعل 
الإسكندر عندما غزا بلاد فارس. احتاج الفرعون تحتمس إلى حماية 
طرقه التجارية ولذلك قام بفتح فلسطين. لم تنتو جميع المعارك دائماً 
بالنضرة كانت هناك إخفاقات كتيرة. شن داريو اوشووشن ‏ ظريقهها 
في بحر إيجه مع جيشيهما العملاقين» فقط لاكتشاف أن الأحاديث عن 
ضعف القوة العسكرية لبلاد اليونان مبالغ فيها إلى حدّ كبير؛ فشل هنيبعل 

في السيطرة على البحر الأبيض المتوسط لأنه تعرض للخيانة من قبل 
أبناء بلده. ويعود الفضل لحملات قيصر البرية الكبرى فى الاستيلاء على 
أراضي أوروبا بأكملها والاحتفاظ بهاء وبالتالي تعزيز سيطرة روما على 
العالم القديم. . ثم فقد الومبراطور فالنس كل شيء عندما كان يتصرف بناءً 
على الذكاء الخاطئ. SS‏ 
الشمال» أكثر وة أو:ظلما مو الاسرطين أو الرومان ‏ ولكن رها 
الأنهم كانوا أجانب أكثر قليلاً». تمّ وصفهم بتلك الأوصاف. 


-455- 


من الغريب أن نجد أن مذبحة قيصر التي ارتكبها بحق القبائل التي غزاها 
والتي لم يكن لها مبرر قد تم منحها المكانة الوطنية نفسها لقتال روما ضد 
هنيبعل من أجل البقاء. كانت الرسالة الغالبة هي: أن جميع الحروب نبيلة؛ 
خاصة إذا لقيت حتفك في واحدة منها . ينجم هذا النقص في التوافق بشكل 
أساس عن الرغبة العميقة في رفع مستوى الموت في الحروب فوق مستوى 
الموت العاديء بحيث يجب منح الجندي الذي مات بضربة سيف أو رمح 
ر رفا آنا . لقد اعتقد بعض الرجال في الواقع أن الموت في معركة ملحمية 
مثل ثيرموبيلاي كان أكثر بطولة من الموت في الفراشء لأن الموت في 
السرير بدا لهم جميعاً شيئاً عادياً زان شتاعريا. في أحسن الأحوال؛ قد 
تكون مثل هذه الرؤية الرومانسية للحرب هراءً صبيانياء لكنها استلت على 
يد أولئك الذين كانوا يحاولون حمل الآخرين على القتال من أجلهم وكانوا 
حريصين على إرسال الشباب إلى المقابر في وقت مبكر. 

لم تستهلك أي فترة من التاريخ عدداً أكبر من الناس بسرعة أكبر 
وأكثر شمولية من العصور القديمة» حين كان الجميع يذبح بعضه البعض 
بلا رحمة. تركت لنا حملاتها العسكرية سلسلة من الدروس العسكرية 
والآثار السياسية؛ إخفاقات في الاستراتيجية ودور التسلح والقدرة القتالية 
للقوات المسلحة. من خلال الخوض في أحداث الماضي ربما نتعلم شيئاً 

ثم (كما هو الحال الآن) هناك أربعة موضوعات رئيسة تمر عبر مواقف 
المعركة التاريخية: 

- المناورة بالمقاتلين. 

- الابتكار الاستراتيجي. 

- غزو العقول. 

- المرونة في تبني خيارات جديدة عندما تفشل الخطط المسبقة في 

تحقيق النتائج. 
لم تتغير المواضيع الأساسية ومبادئ الحرب أبداً. سابقاً والآن» كانت 
-456- 


القيادة الإبداعية و والشجاعة هي الركائز الثلاث للنصر. لقد أدى 
تردد الجبناء دائما إلى حدوث كارثة» كما فعلت شجاعة الحمقى. كان 
على القائد العظيم أن يعلم أن الخطر كان متأصلاً في الحرب» وأن هناك 
فرقاً واضحاً بين المخاطرة المحسوبة والمغامرة المتهورة. كان البعض 
يؤمن بقضية أن الحق معهم؛ وقاوموا الغزاة الأجانب بمشاعر قومية شديدة 
وأظهروا ذلك من خلال استعدادهم للتضحية بحياتهم من أجل الوطن. 
الخطأ المشترك بينهما هو اعتقادهم أنهم كانوا يدافعون عن قضية عادلة 
ويقاتلون من أجل قضية عادلة. البعض اختصر كل شيء في صيغة بسيطة: 
قتل أكبر عدد ممكن من أعدائك سيحطم معنوياته. قاسوا تقدمهم من خلال 
أكوام الجثث المتراكمة التي تركوها وراءهم. . وعندما جعلوا الأرض جرداء 
كانوا يسمون ذلك سلاماً. 

في اللعبة القديمة التي تم خوضها من أجل اكتساب المجد في سجل 
تاريخ العالم» > نجد العديد من الممثلين» الطيبين والأشرار. كان هناك 
الفراعنة والفلاسفة والديكتاتوريون والملوك والبرابرة. كانوا جميعاً من 
أصحاب البصيرة والبطولة والبربرية والإبداع والتدمير. جميعهم كانوا 
طموحين وكلهم بناة إمبراطورية. ارتفعت إمبراطورياتهم وسقطت. كان 
و ا ل E‏ . إن التضحيات التي قدموها 
والانتصارات التي حققوها جعلتهم عظماء تماماً مثل الحدود الواسعة التي 
مارسوا فيها سلطاتهم العسكرية وفرضوا فيها إرادتهم الوحشية. 

كانت الحروب هي التي تحقق قت دائماً الهيمنة الاقتصادية والسياسية 
والثقافية. وقد جرت هذه الحروب بوحشية لا يمكننا حتى تخيلهاء 
وانتهت دائماً بإبادة الأعداء. أظهرت جحافل روما أن القبائل الرحالة 
بحثاً عن أرض تستقر بها لا يمكن أن تتوقع سوى الموت. بمرور الوقت» 
أصبحت الإمبراطورية الرومانية ملعباً للأباطرة الفاسدين وزمرهم 
من مسؤولي البلاط. لقد حل زمان فقد فيه الأباطرة رؤوسهم» أو أنهم 
قتلوا بأنفسهم قادة جحافلهم. كانت الوسيلة التي تمكن الإمبراطور من 

-457- 


التمسك بسلطته هي إشراك المقاتلين الشماليين الأشداء» ونشأ جرّاء ذلك 
طاقم من الجنرالات البرابرة الذين يمكن إبقاؤهم تحت السيطرة بسبب 
تنافسهم الشديد مع بعضهم البعض. 

ليس هناك ما هو أبدي» وصلت العصور القديمة إلى نهايتها بسرعة 
البرق. اندلع صراع عنيف على الجثة التي كانت ذات يوم تمثل مجداً؛ 
تم سحق البقايا المتداعية للإمبراطورية الرومانية من قبل ما خلفته فترة 
ما عرف بالهجرة الكبر ى Vê]kerwanderung؛‏ كانت الأمم تتجول 
بحثاً عن المراعي. كانت النتيجة متوقعة: لم يكن هناك منتصرون» فقط 
خاسرون؛ انفتحت الستائر لمستقبل قاتم ومظلم» العصور الوسطى. 

كان هناك الكثير من الشكوى سواء كان ذلك انحطاط مصر» وصنع 
إسرائيل» والخراب المتعاقب لآشور وبابل» وصعود بلاد فارس» والمجد 
الذي كان يحيط باليونان» وغزو قرطاج» وإخضاع بلاد الغال» أو في 
النهاية» سقوط روماء تشكلت مجتمعاتنا الحالية من قبل شعوب العصور 
القديمة من خلال سلسلة من الكوارث الدامية. 

«ويل للمهزومين!) من خلال هذه الصيغة» التي لم تكن تعرف الشفقة» 
ظهرت إمبراطوريات بنت مجدها على رماد أولئك الذين أحرقوها. 
بالنسبة لناء لم تب سوى أبراجهم الضخمة التي قد نحكم من خلالها على 
عظمتهم» من هرم خوفو العظيم إلى مدرج تيتوس. 

«مادام المدرج شامخاًء فإن روما ستظل شامخة 

عندما يسقط المدرج» تسقط روما. 

وعندما تنهار روماء سينهار العالم»©. 

رحل جميع الأبطال والشجعان العظماءء لكنهم ظلوا في ذاكرتنا. 


2- هي فترة من الهجرة البشرية المكثفة لأوروبا منذ حوالي عام 376 إلى 800 م أثناء فترة 
الانتقال من العصور القديمة المتأخرة إلى فترة العصور الوسطى.المترجم. 

3- ذكر هذه العبارة القديس بيدا المكرم (735-673 م) كما أن الشاعر اللورد بايرون 
ذكرها في كتابه أسفار تشايلد هارو لد .Childe Harold’s Pilgrimage‏ 





-458- 


المحتويات 


تمهيد: بحثاً عن الحقيقة التاريخية OR‏ 
الجزء الأول: ترتيلة LS‏ 
المقدمة: العنف المتوحش SEES EG eS‏ 
الفصل الأول: عند مكان يسمى أرمجدون - مع ر كة مجدو ....27 
الفصل الثاني: سر النفق - القدس Sn‏ 
الجزء الثاني: الأبطال ا وس و O‏ 
الفصل الثالث: صرخة ولادة أوروبا- معركة ماراثون 65 
الفصل الرابع: بوابات الجحيم - ثيرموبيلاي A‏ 
الفصل الخامس: الجدار الخشبى لأثينا - معركة سالاميس.. 111 
الجزء الثالث: العمالقة 1 a‏ 
الفصل السادس: «لن أسرق النصر!» - معركة غوغميلا .... 139 
الفصل السابع: هنيبعل عند الأبواب! - معركة كاناي a‏ 
الفصل الثامن: الجميع سواسية عند الموت - معركة زاما ... 229 
الجزء الرابع: القياصرة ا ا 0 
الفصل التاسع: حامي روما - معركة أكواي سكستيا 2O‏ 
الفصل العاشر: القيصر الغاضب ا 
الفصل الحادي عشر: العام الرهيب - معركة أليسيا 297 


الفصل الثاني عشر: سبق السَيْفٌ العَدَّلّ - عبور نهر روبيكون 329 
-459- 


الفصل الثالث عشر: شريف روما - مسرح بومبي . SAL‏ 
الجزء الخامس: الأباطرة ااا 
الفصل الرابع عشر: مواسم القتل - دوموس أورا ا 1 
الفصل الخامس عشر: وسيقعون بفم السيف ... E‏ ..... 381 
الجزء السادس: البرابرة ا ا ا 


الفصل السادس عشر: فوضى فى الإمبراطورية - معركة أدريانوبل. 409 
الفصل السابع عشر: فتدنا تار روا سينهار العالم أشنا 
سقوط روما SD AES SDE‏ 
الخاتمة: «ويل للمهزومين!» ASRS‏ 


-460- 





«اعتادت آذاننا منذ فجر التاريخ الإصغاء إلى الأكاذيب» وتشبّعت عقولنا على مز العصور 
' بخزين من الافتراضات. جعلنا الحقائق تبدو غريبة وحولنا القصص المزيفة إلى حقائق). 
هذه الكلمات كتبها قبل أربعة آلاف سنة المؤرخ الفينيقي سانشونياثون» ولا تزال تحتفظ 
بحيويتها حتى الیوم: ر 1ْ 
كانت الحرب عاملا ثابتا في الحضارة البشرية. حدئتنا:الكتب عن الاضطرابات العنيفة التي 
هرت العالم منذ آلاف السنين» والتي ساهمت في تغبير مجر ى التاريخ» والتي كان معظمها 
کک 0 0 إلا قلة نادرة من الكتب إلى ١‏ الارتدادات المرعبة لذلك القتال 
:. الذي لا برحمء وإراقة الذماء والدمار اللذين تخلفه] 

ا نحن ننظر إلى الكت لل 2 ع 
ربة e‏ با 

ا ل ل 
e‏ لال فترة محددة» والذين تم 
تہم بمختلف التر حمات و لمي 07 0 














١‏ كانت السلطة الحاكمة س د لال 
ليع أن نخترق العام الذي بار أن يدرف اا الا عن طربقه علد 
ا الم يكن دور المؤرخ إخبارنا كيف كان يتصرف ملكهء ولكن كان 
عليه إقناعنا أن نؤمن با كتبه. اندلعت الحروب للدفاع عن «الخير) ضد «السر»» ولكن 
عندما يتعلق الأمر بأسلوب خوض المعركة كان من امثير للغرابة كم كان يتشابه «احخير» مع 
«الشر). فكلا الجانبين كانا يستخدمان الوسائل نفسها ماما لقتل بعضهم| البعض. وي 
النهاية» يتتصر «الخبر»» لأن كل إله (وكل كتاب تاريخ) کان يقف دائ إلى جاتب «اللكير) 
وهو الطرف المنتصر.